الفصل السادس عشر | قـيـودٌ بـلـا مـفـر |

31.1K 1K 93
                                        

{قد يبتلينا الله بفقدٍ أو ضيقٍ أو انكسارٍ، لا ليحزن قلوبنا، بل ليطهّرها من كل ما سواها، فنرجع إليه أنقى وأقرب. فما كان لله دام، وما كان لغيره انقطع وتلاشى.}

{إن مُحمَّدًا لهُ في القلبِ حُبًا، ‏فصلّوا عليه كي يزيد الحُبّ حبًا.}

                             ___________

بعض القيود لا تُقيد الجسد، بل تُقيد الروح… تلك التي تُحكم وثاقها حول القلب، فلا يهرب، ولا يطلب النجاة.

قيودٌ ناعمة، كأصابع ترتجف وهي تلتف حول معصمك، لا تُؤلم، بل تمنحك دفئًا غريبًا، وكأنها تخشى أن تُفلتك أكثر مما تخشى أنتَ الفلتان.

قد يظن الناس أن الحُرية هي الغاية، لكنك حين تقع في أسر عينين تعرفان كيف تُسكنان ضجيجك، أو في قبضة روحٍ تُجيد قراءة صمتك، تدرك أن القيد قد يكون هو الخلاص.

هناك، في المسافة بين أنفاسكما، تُولد أرضٌ جديدة لا يطؤها إلا أنتما، وتزهر الكلمات التي لا تُقال إلا بصوت الصمت. وفي حضرة هذا القيد، لا تعود تقاوم، بل تُسلم نفسك له، كما يسلم الغريق يديه للموج إذا كان الموج هو منقذه.

عجيبٌ كيف أن بعض الأسر يفتح لك أبوابًا لم تظن يومًا أنها وُجدت بداخلك، وكيف أن الخضوع لشخصٍ بعينه قد يكون أشرف انتصار تخوضه على نفسك.

فكيف تهرب من قيدٍ هو أجمل ما عرفت… وكيف تحطم قفلًا صيغ من ملامحه، ومن دفء صوته، ومن نبضه الذي صار موطنك؟

وفي تلك الليلة، تحت ضوءٍ خافتٍ تآمر مع الظلال ليخفي ملامح القلوب المرتبكة، كان كلٌّ منهما يكتشف أن قيوده بدأت تُحاك بصمت… قيودٌ لا تُرى، لكنها تُساقط الحواجز واحدًا تلو الآخر، حتى لم يبقَ سوى قلبين، يقتربان.

استيقظ الصباح هادئًا، يغسل أركان المكان بضياء ذهبي يتسلّل من خلف الستائر، فيما تتراقص ذرات الغبار في الهواء كأنها تحتفل بيوم جديد.

العصافير تتبادل تغريداتها على استحياء، ونسيم عليل يمرّ برفق، يحمل معه رائحة الأرض بعد سكون الليل، ويهمس بأن النهار اليوم يعد بالكثير من الهدوء… وربما ببعض المفاجآت.

خرج رافع من حجرته مرتديًا حلته الكلاسيكية الأنيقة، وقد صفف خصلات شعره بعناية، كمن يتهيأ لمواجهة يوم جديد يحمل في طياته ما لا يدركه بعد. خطا نحو حجرة رِسال وطرق الباب برفق، ثم انتظر بضع دقائق في صمت يترقب صوتها، لكن السكون كان جوابه الوحيد.

عقد حاجبيه في حيرة، ثم هبط الدرج بخطوات متسارعة باحثًا عنها في أرجاء القصر، فلم يجد لها أثرًا. لم يطل بحثه حتى أمره الجد وجيه بالجلوس لتناول الفطور معهم، فامتثل رافع بهدوء، وجلس إلى جوار عاصف.

الــورثــة | قـيـد الـتـعـديـل |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن