الأمّ تفتح درج الثلّاجة ذات الباب الصدئ وتلقي نظرة:
- لا توجد طماطم یا عفاف؛ اذهبي إلىٰ السوق وهاتي لنا كيلو..
توتّرت عفاف لأنّها لم تعتد شراء أشياء، لكنّها كبرت ومن الواضح أن مسؤوليّة السوق سوف تنتقل إليها بالتدريج..الآن تتلقّىٰ التعليمات: لا بدّ من أن تسألي أكثر من بائع عن ثمن الكيلو، لا تشتري من أوّل السوق، بل توغّلي بالداخل قليلًا؛ لأنّ الأسعار أرخص، لا تأخذي الكلام من فم البائع فلا بدّ من الفصال، سوف يسألك إن كانت الطماطم للطهي أم للسلطة.. اكذبي وقولي إنّها للسلطة وإلّا خدعك وأعطاك كلّ الطماطم التالفة عنده بدعویٰ أنّها تنضج أسرع، لتكن حمراء خالية من الثقوب والتشوّهات، اعرفي السعر جيّدًا...
هكذا غادرت عفاف الشقّة وهي مفعمة بالمسؤوليّة والأسرار، وفي يدها الحقيبة المصنوعة من اللّيف المجدول، وهي تدلّ علىٰ مسؤوليّة عظيمة!
عفاف الصغيرة كانت تجوب السوق بحثًا عن طماطم بسعر أرخص، كانت تتلقّىٰ الدعوات من الجانبين، بينما هي تحاول الابتعاد عن برك الوحل وعن الكلاب الضالّة، وتحرص علىٰ ألّا تدهمها الدرّاجات..
كانت هناك عربة كشري، وقد وقف البائع يقلّب الكشري في أطباق معدنيّة صغيرة، مُصرًّا علىٰ أن يقرع حافّة الطبق بقوّة بالملعقة، يتحرّك بسرعة فائقة ليوحي بالانهماك والاحتراف، بينما وقف بعض الآكلين يلتهمون الكشري بسرعة لا لزوم لها.. بدت لها الرائحة شهيّة فعلًا، لكنّها كانت تدرك المسؤوليّة علىٰ عاتقها، وأنّه ليس بوسعها أن تتباطأ؛ أمّها تنتظر..
كان هناك ذلك الرجل الغليظ البدين المشعر يرتدي جلبابًا متّسخًا، ويقف خلف طاولة عليها أشكال وأحجام من الطماطم، لاحظت أنّ لديه عينًا تالفة، وأنّ هناك جرحًا تحت عينه اليسرىٰ.. هناك كشك من خلفه، ومظلّة عملاقة مثبّتة بالحبال، وكلب يغفو في الظلّ.. باختصار: كلّ لوازم بيع الطماطم.
- تعالي خذي طماطم يا شاطرة.
لم تكن تريد الشراء من هنا بالذات، وكادت تبتعد، لكنّه قال بإصرار:
- تعالي.. أنا أعرف ما تريدين.
حاولت الابتعاد، لكنّه خرج من وراء الطاولة وأمسك بالحقيبة ذات اللّيف المجدول.. يبدو أنّ نظرة الباحثين عن طماطم مميّزة، ويبدو أنّها مرسومة علىٰ وجهها..
- هل تريدينها للطهي أم للسلطة؟
- للسلطة.
- طيّب.
وحمل الحقيبة ودار حول الطاولة ليتّجه إلىٰ الكشك الخشبيّ:
- تعالي لتأخذي ما تریدین.
متوجّسة اتّجهت إلىٰ حيث طلب منها وهي تشعر بأنّ هناك شيئًا خطأ..عصام رأىٰ المشهد حيث وقف علىٰ بعد أمتار، وقد قدّر أنّ شيئًا شنيعًا يحدث، لكنّ خياله لم يبلغ هذه الدرجة، كما أنّه لم يعرف ما يفعله بالضبط..
كان الكشك مظلمًا قذرًا، وثمّة قطّة راقدة تنظر إليها في شكّ.. قبل أن تخرج كان هو قد سدّ الكشك بجسده الضخم، لم تفهم إلّا أنّه قبّلها في شفتيها بنهم حتّىٰ أوشك أن يعضّهما، وشمّت رائحة أنفاسه الكريهة ولعابه، ثمّ شعرت بتلك اليد الغليظة تمتد إلىٰ صدرها الذي ما زال مسطّحًا کالرخام وتعبث هنا وهناك.