يقول الإمام علي (عليه السّلام) في نهج البلاغة: "انظروا إلى النّملة في صغر جثّتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها، وصبت على رزقها".
يقول علماء الحيوان الّذين لهم دراساتهم بهذا الشّأن: إنّ بعض النّمل في بعض الصّحاري لا يرضى في البحث عن رزقه بالحبوب بين بقايا الحقول، بل يجتمع ويستصلح أرضًا يزرعها بالفطريّات، ويتغذّى عليها، والأعجب من ذلك قولهم: إنّ جماعة أخرى من النّمل تروّض بعض الحشرات وتستعبدها كما يروّض الإنسان الخيل والماشية والأغنام ليستفيد من لبنها، فتشرب من عصير حلو تحلبه من هذه الحشرات.
ويستطرد الإمام قائلًا: "تنقل الحبّة إلى حجرها، وتعدّها في مستقرّها، تجمع في حرّها لبردها، وفي وردها لصدرها".
ويعود علماء الحيوان ليقولوا: إنّ طائفة أخرى من النّمل تعيش في حياة اجتماعيّة منظّمة، لكلّ طبقة منها واجباتها، فجماعة العمّال تجلب الحبّ إلى الحجور، وتخزنها لغذاء مجتمع النّمل في الشّتاء، وتضعها في حجرات خاصّة بالطّحن، حيث تقوم جماعة أخرى من النّمل تمتاز بالفكوك القويّة، فتطحن الحبوب وتعدّها لطعام الآخرين.
ونعود إلى نهج البلاغة وإلى قول الإمام (عليه السّلام): "ولو فكّرت في مجاري أكلها، وفي علوّها وسفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها، وفي الرّأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجبا، ولقيت من وصفها تعبا".
لقد قضى مئات العلماء حتّى اليوم أعمارهم في الدّرس والبحث في هذا المضمار، فكتبوا المجلّدات بعد تعب ونصب، وأتونا بأعجب الأخبار، وبالأخصّ فيما يتعلّق بالتّفاهم بين أفراد النّمل، وطرق إدراكها وإحساسها.
وفي القرآن قصّة عجيبة عن تفاهم النّمل، كما جاءت في حكاية سليمان (عليه السّلام) في سورة النّمل: "حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ".
في قول الإمام علي (عليه السّلام): "وما في الرّأس من عينها وأذنها" إشارة إلى أنّ أجهزة بصر هذا الحيوان وسمعه كائنة في رأسه، وقد أيّد اليوم علماء الحيوان أنّ النّمل تستقبل الأخبار وترسلها عن طريق مجسّات في رؤوسها.
وفي ختام كلامه يقول الإمام علي (عليه السّلام): "ولو في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلّتك الدّلالة إلّا على أنّ فاطر النّملة هو فاطر النّخلة، لدقيق تفصيل كلّ شيء، وغامض اختلاف كلّ حيّ، وما الجليل واللّطيف، والثّقيل والخفيف، والقويّ والضّعيف، في خلقه إلّا سواء".