المقدمة
بين تقاطع طرق مدينتنا:
.. قصص حان لأصحابها أن يتذكروها .. وأحداث حان لهم أن يعيشوها
فلنقترب و نرى ما يدور في حياة جيران المدينة !الفصل الأول
في جوف الظلام كانت تلك القداحة فقط ما تظهر وجه عبد الرحيم حين قال بلهجة ساخرة:
"كيف هي حياتك دون وجودي؟"
التفت طاهر بوجل متمنيًا أن يكون ما سمعه محض تهيؤات لكن وجه عبد الرحيم الساخر بعظامه البارزة لم يدع له مجالًا للشك .. فسأل بارتباك:
"كيف علمت مكان إقامتي ؟ وماذا تريد مني؟"
قابل عبد الرحيم سؤاله بضحكة مستهزئة وهو ينفث الدخان من فمه بعبث ثم قال وقد اشتعل الحقد في عينيه :
"أنا الخاسر ...خسرت وحدي ونجوت أنت وخالد رغم كل ما فعلته واستيلائي على المصنع سابقا وإجبار هيثم على العمل معي سنتين كاملتين..برب الكون لقد أفلس المصنع !"
ولم يكن الظلام حائلًا أمام طاهر الذي اندفع نحوه يمسكه من تلابيبه ..يهزه بانفعال حتى سقط السيجار من فمه وصاح به وصوته يقطر أسىً وحسرةً:
"تكفي أعوامًا قضيناها في العمل معًا وحصدت أنت ثمارها وحدك .. يكفي أنك جعلتني أتخلى عن صديقي.. توقف عن تنغيص حياة غيرك..و ركز في عملك الجديد ألست رجل أعمال؟ وقد أصبحت متعاقدًا مع أكبر شركات المدينة؟!"
دهس عبد الرحيم السيجار بحذائه ودفع يدي طاهر بغضب قائلًا:
"أفلست ..صرت مديونًا لتلك الشركة .. لذا جئت إليك لتساعدني .. ألست أنت أيضًا صاحب دين يا طاهر؟! لذا مشاعرنا واحدة"
ارتسم القلق جليًا على وجه طاهر من نبرة الاتهام في صوت عبد الرحيم الذي أضاف بغل :
"عش بخوفك بعض الوقت حتى نلتقي من جديد"
وسرعان ما ابتلعه الظلام تاركًا طاهر في صراع مع مخاوفه!!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أشرقت الشمس وبدأت ترسل أشعتها المبهجة لكل ربوع المعمورة حتى خالت الأرض أنه يومٌ ربيعي مشمس و دافئ بعد شتاء قارص امتد وطال ..حتى حسب الناس أنهم لن يروا بعده صيفًا أو ربيعًا..
لكن ما لبثت السحب أن تقاربت واتحدت وكونت كيانًا ضخمًا رمادي اللون حال بين الشمس والأرض فحجب الدفء والنور عن الجميع وبخاصة تلك السيارة الحمراء التي قادتها نوران ببهجة وتفاؤل في أول أيام شهر إبريل ..
حيث كانت تتجه لعملها والذي يقع في مدينة تبعد ما يقارب ساعة ونصف الساعة عن بلدتها..
وحين بدأت قطرات المطر تنزل بهدوء وتطرق بنعومة زجاج سيارتها.. شغلت نوران الماسحات الخاصة بالزجاج الأمامي وقد بدأ العبوس يرتسم على وجهها المتفائل حتى أحاله إلى آخر حانق حين بدأ المطر يهطل بجنون حتى تخيلت نوران أنه سيخرق سقف السيارة..فقالت :
"اللهم صيبًا نافعًا.. يا إلهي الرحيم! على تلك الوتيرة قد نستغرق ساعتين في الطريق ولن أتخلص من توبيخ السيدة جنات"
وتابعت القيادة وهي حانقة أشد الحنق على الأحوال الجوية وتقلباتها .. وقالت بسخط:
"لماذا اخترتن هذا اليوم أيتها السحب اللطيفة وقررتن التجمع وتفريغ حمولتكن؟ لماذا؟"
ثم نظرت للمقعد المجاور حيث استقرت هالة شقيقتها والتي تتابع أحد المسلسلات على الهاتف المحمول الخاص بها وتضع السماعات في أذنها وكأنها في عالم آخر حيث لا وجود لنوران أو لصواعق البرق والرعد أو الوحل الذي تكون من جراء المطر الغزير والذي بدأ يعيق حركة سيارة نوران ويجعلها أبطأ وأكثر حذرًا..
ولأن هالة لم تبد أي إشارة تدل على وجودها في عالم الأحياء فقد نزعت نوران السماعة بغيظ من أذنها وصاحت بها:
"سيدة هالة رجاءً هلا شاركتنا عالمنا لدقائق وأظهرت بعض التعاطف مع المشكلة التي نعيشها؟!.. إنني أتأخر عن موعد عملي بسبب هذه الأمطار الغير متوقعة بينما تتابعين أنت الحلقة بشغف ..أرجوك أخبريني عن عمرك!.. بت أشعر أنني اصطحبت ابنة أختي الصغيرة في نزهة وليس شقيقتي الكبرى!!"
استعادت هالة سماعتها بلطف من يد نوران وأجابتها بعدم اكتراث:
"ما الأمر يا نوري؟ هل ستحنقين على المطر أيضًا وتتهمينه بتعطيلك عن عملك؟ لو أن موعدك بهذه الأهمية لكنت اﻵن هناك خوفًا من أن تتأخري.. لذا رجاءً لا تزعجيني ودعيني أستمتع بنزهتي"
اغتاظت نوران من عدم اكتراث شقيقتها وقالت باستنكار:
"أي شقيقة كبرى أنت؟! طلبت بعض التعاطف فقط.. لا ينقصك إلا الكعك اللطيف الذي لا يفارقك"
أجابتها هالة بهدوء وهي تسحب كيسًا من حقيبتها:
"تؤ..تؤ.. لم تعرفي شقيقتك أبدًا... طبعًا أحضرته معي.. وإلا لن أكون جديرة بهذا القوام المثالي الذي ترينه"
قالتها هالة بسخرية مشيرة لجسدها الممتلئ والذي طالما شكل عقبة حياتها وأعاقها عن تحقيق الكثير من أحلامها..
وتابعت بهدوء تعرض الكعك على نوران:
"هل ترغبين؟"
فالتقطت نوران واحدة وقضمتها بغيظ وهي تتابع القيادة.. ثم قالت:
"وافقت أمي اليوم تحديدًا أن تسمح لي بقيادة السيارة والذهاب بها إلى العمل بل واصطحابك أيضًا معي.. لا شك أن العاصفة قد وصلتها عند منزلنا وأنها الآن تلوم نفسها على ما فعلت.. ومؤكد أيضًا أنني سأودع سيارتي اليوم فهي لن تسمح لي برؤيتها مجددًا فما بالك بقيادتها؟"
"توقفي عن الشكوى وتحملي المسئولية أم ستلقينها على حجابك الأسود؟"
علقت هالة بسخرية مشيرة لعادة نوران الغريبة في ربط الأحداث بلباسها حتى أنها قد تكره طقمًا معينًا صادف وارتدته في يوم سئ..
فمدت يدها تمسك بطارف سترتها وأجابتها:"بل سترتك الحمراء هي سبب حظي العثر اليوم..ألا تجدينها مبالغة في هذا الصباح كوجبة دسمة تجثم على الأنفاس؟"
هزت هالة رأسها بالنفي ضاحكة:"لديك تشبيهات رائعة! هل تشعرك سترتي الأنيقة بالتخمة يا نوري؟ الأولى أن تكون سيارتك الحمراء هي السبب إذا"
"ربما أظنك محقة..ولكنني لم أستطع مقاومة لوني المفضل واقتنيتها"
وأردفت شقيقتها باستخفاف:"لا بأس إنها بلون أحمر داكن..أي قللت الضرر"
ثم عادت لوضع السماعات والاندماج مع مسلسلها الغالي وهي تتناول الكعك براحة واستمتاع تاركة نوران تتميز غيظًا من سخريتها وتحدث الفراغ..
حيث قالت بغضب وهي تلحظ تلك الشاحنة التي تظهر في مرآة السيارة:
"يا رب اجعل تلك الشاحنة تبتعد عني على اﻷقل ..ليحظى أحدهم ببعض الضمير وإلا فإن حياتي لن تكون يسيرة أبدًا"
كانت نوران قد اقتربت من الملف - مأساة حياتها – حيث تقود باحترافية وتمكن أيًا كان الطريق الذي أمامها لكنها أبدًا لم تستطع أن تتأقلم مع تلك الملفات.. بل وتفكر دائمًا أنه لا داعي لأخذ هذا المنعطف الدائري إن كان سيودي بحياتها يومًا!..
فتنبهت هالة وأبعدت سماعات الأذن ومازحت شقيقتها:"أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله..وصلنا لنقطة ضعفك الأزلية ها أنا أنتظر مصيري المحتوم ..سأغمض عيني حتى لا أشعر بالألم"
لكزتها نوران مغتاظة وأجابتها بحنق:"أنا محترفة في قيادة السيارات يا عزيزتي.. لكن هذه الشاحنة بدأت توترني الآن..."
وثبتت كفها على بوق السيارة تطلقه بلا انقطاع بغية تنبيه السائق المتعجل :
"سأنفجر هنا من الغيظ.. ماذا يفعل هذا ؟!! لقد أعطيت اﻹشارة أنني آخذ الملف القادم وهذا يلحقني بتلك السرعة.. هل يخطط لدهسي أم ماذا؟"
كانت الشاحنة تتقدم بسرعة تجاه سيارة نوران المسكينة.. وقد بدا أن سائقها فقد التحكم بها مع الأرض الزلقة من أثر الأمطار التي لا زالت تهطل حتى اﻵن..
"إنه يشير لي.. ماذا تعني تلك اﻹشارة؟.. هل يقول أنه لا يملك ما يستطيع فعله.. يا ربي!.. أي يوم هذا؟"
أيقنت نوران أنها أبدًا لن تستطيع أن تأخذ هذا الملف في هذه اللحظة وإلا دهستها تلك الشاحنة.. لذا قررت أن تأخذ الجانب الأيمن من الطريق وتفسح المجال للشاحنة الوحش ..بينما تحركت هالة في مقعدها لتتابع حركة الشاحنة التي تلاحقهم بإثارة قائلة:"سلمت أمي التي دفعتني لمرافقتك .. لم أكن أدري أننا سنتعرض لمغامرة في الطريق"
فعلقت نوران بسخرية:"بل قولي حادث في الطريق"
وبدأت ملامحها تتغير للجدية وهي تتشبث بالمقود بغية تغيير اتجاهها لكن
صارت مشكلتها في هذه اللحظة هي تلك السيارة التي تتقدمها والتي تبدو على وشك أخذ الملف أيضًا.. لذا فقد أشارت نوران لسائقها حتى يفهم أنهما في خطر وأن عليه أن يلحق بها إلى اليمين ..
وفعلًا لحق بها مستجيبًا لإشارتها في معجزة هي الأولى من نوعها في هذا اليوم ..فعقبت بتعجب:
"أول شخص عاقل ألتقي به اليوم.. ترى كيف فهم إشارتي تلك؟"
لكن ما حدث مع الشاحنة الوحش صرفها عن تعجبها.. إذ مرت الشاحنة بفارق ثانية واحدة من ابتعاد السيارتين..
ولأن سائقها يجاهد لإيقافها بأي طريقة بعد أن فقد تحكمه بها .. فقد اصطدم بعنف بالحاجز الذي وضع يسارًا جراء السرعة التي كان يقود بها..
أغمضت نوران عينيها غير راغبة في متابعة ما سيحدث لاحقًا و توسلت الله بصمت أن يرفق بسائق الوحش وألا يؤثر الاصطدام عليه بشدة أو يسلبه حياته.
بينما تشبثت هالة بكفها خائفة .. وقد بدأت تبكي قائلة:"لم أحسب أن المطاردة ستنتهي بموت أحدهم.. لا أحب النهايات المأساوية.. نوران ماذا سنفعل؟"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤ على عكس توقع نوران كان الجو صحوًا وأشعة الشمس تنير تلك الغرفة
حيث اجتمع والديها...
"هل أخذت نوران السيارة معها ؟"
سأل طاهر زوجته وهو يمشي بعصبية جيئة وذهابًا في الغرفة ..فأجابته نعمة بقلق :
"نعم .. أخذتها واصطحبت شقيقتها معها أيضًا بناء على توصيتي .. ماذا سنفعل يا طاهر ؟ اتضح أن هذا الرجل محب للاستحواذ على الأملاك وحتى الأشخاص.. لا أدري كيف وثقت به؟"
تنهد طاهر بهم وجلس مجاورًا لها على الأريكة دون حديث..حين قالت فجأة قاطعة صمته:
"ألم تكن تعرف هذا الرجل .. نسيت اسمه.. كان صاحب عقارات في المدينة التي تعمل بها نوران.. اتصل به .. لنؤجر منه شقة أو نشتري أيًا كان ولنغادر هذه البلدة في القريب العاجل"
أمسك طاهر يدها بسعادة وقال بامتنان:
"فكرة رائعة يا نعمتي !! سأتصل حالًا "
فشدت نعمة على يده بمؤازرة..لكنها ما لبثت أن سألت بحيرة:
"هل ستخبر الفتيات ما حدث ؟ وبأي سبب سنتعلل لمغادرتنا؟"
نهض طاهر بفكر مشوش وقال:"فقط دعيني أذهب للمشغل وأصفي ذهني بالعمل"
تقدم خطوتين وسرعان ما التفت لها مجددًا وقال:"نعمة أنا قلق من تركك بمفردك..رافقيني إلى المشغل اليوم"
طاوعته زوجته التي بادلته الشعور نفسه متخوفة مما يدبره عبد الرحيم لهما..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
دخلت أفنان مطعم أخيها بسعادة وكأن الأرض لا تسعها فتود أن تطير وتحلق في السماء الفسيحة كطير حر طليق..
استغرب زيد حالة شقيقته فاستغل قلة عدد رواد المطعم في هذا الوقت وأخذها لغرفته في المطعم بصفته المدير والمالك لهذا المكان.. لابد أن يستجوبها ربما خدعها أحدهم وجعلها تشرب شيئًا غريبًا..
أغلق باب الغرفة بعد أن أدخلها وأخذ يتشممها باحثًا عن رائحة غريبة قد تكون السبب في حالة السعادة المطلقة التي تعيشها .. بينما لم تعبأ هي مطلقًا بما يفعل وراحت تراقصه ضاحكة بجنون.. حتى كاد زيد يجزم أن جنيًا قد سكنها وهو سبب تغير تصرفاتها إلى تلك الدرجة
فسألها باستغراب وهو يسايرها في حركاتها الراقصة:
"ما الأمر يا أفنان ؟ بالأمس أقمت مأتمًا وأغرقت المنزل بدموعك واليوم ترقصين فرحًا.. ثم كيف خرجت من العمل مبكرًا هكذا؟ لا يزال اليوم الدراسي في بدايته"
ضحكت أفنان وأجابته بسعادة:
"أنت لن تدرك مطلقًا مدى سعادتي.. السيدة جنات مديرة المدرسة التي يملكها مازن والتي كان قد سبق ورشحني للعمل بها قررت أن تعطيني عملًا بدوام كامل في المدرسة وبراتب أيضًا"
مطت شفتيها وأكملت بغرور : "راتب مساو لراتب نوران وأصبحت أفضل منها في نظر السيدة جنات كذلك فسمحت لي بالمغادرة باكرًا اليوم بعدما أثنى الموجه على شرحي للطلبة"
: ضحك زيد وقال
"أراهن أن ما جعلك سعيدة لهذا الحد هو انتصارك على نوران فقط .. لا أدري حقًا ما سبب هذه الغيرة تجاهها تحديدًا؟"
ثم ربت على وجهها قائلًا كأنه يحدث طفلة :
"هل نجحت فوفو الصغيرة في الدخول إلى العمل رسميًا؟.. كم هذا رائع! هيا اتبعيني لتساعديني في العمل بما أنك قدمت لهنا فيجب أن أستفيد منك"
قلبت أفنان شفتيها وقالت بحنق:
"ليست هذه التهنئة التي أنتظرها.. لم آتي هنا حتى تستغلني"
كان زيد قد فتح باب الغرفة وقصد المطبخ حين لحقته أفنان بتبرم وقالت قولها .. فأجابها ضاحكًا:
"ماذا تنتظرين مني ؟ لابد أن مازن سيكافئك "
لكن أفنان تذمرت قائلة:
"لابد أن تكافئونني جميعًا.. هل أنت بخيل؟ ألا تستطيع شراء هدية ﻷفنان الصغيرة.. لقد استنجدت بي السيدة جنات لأحل محل نوران الغائبة وأرفع راسها أمام الموجه وقد فعلت"
أجابها زيد قاصدًا إغاظتها:
"انتظري دعك من الهدية .. ماذا سيحل بنوران إذًا؟ حقًا مصائب قوم عند قوم فوائد"
قذفته أفنان بالطاسة التي وجدتها أمامها وقالت بغيظ:
"انتظر المصيبة التي ستحل بك"
فضحك متجنبًا الطاسة وقال بصرامة زائفة:
"أنا أخوك الكبير يا فتاة.. أظهري بعض الاحترام وإلا. . سأعاقبك فورًا حتى لا تكرريها .. تعالي إلى هنا وأحضري الطاسة التي قذفتها وساعديني لنعد هذه الحلوى .. هيا"
تحركت أفنان وغسلت يديها استعدادًا لمساعدته وهي تقول بسخط:
"يومًا ما سأغادر مع حبيبي ولن تعثر علي وستفتقدني "
ضحك زيد بخفة وقال بصوت عال محاولًا إظهار الصرامة:
"لم أسمع ؟! بم تهمس السيدة الصغيرة؟"
أجابته أفنان باستكانة زائفة خشية أن يبالغ في عقوباته التي لن تنتهي:
"أقول ماذا أفعل يا سيدي الشيف؟"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أيقنت نوران أنه لا جدوى من محاولة الهرب من الواقع ففتحت عينيها بتردد والتفتت لشقيقتها الباكية قائلة:"سأتفقد الوضع ربما نجحنا بإنقاذه"
ولم تهتم بقول شقيقتها المتأثر بالدراما التي تتابعها:"لكن ماذا لو كان نذلًا واتهمك بتدبير الحادث له؟"
بل ترجلت من سيارتها و سارت نحو الشاحنة بتردد وقد تركت شقيقتها الباكية في السيارة بعد أن رفضت مرافقتها والتطلع لمشهد السائق المصاب ..
لكنها توقفت في منتصف الطريق حين رأت سائق السيارة التي كانت تتقدمها يترجل من سيارته ويتجه نحوها.. ارتعشت نوران وهي تقف في مكانها ..
يبدو كحارس شخصي أو أحد أفراد الصاعقة بهذه البنية العضلية وتكاد تجزم أن طوله متران وقد شمر عن ساعديه كأنه يستعد لخوض معركة... في هذه اللحظة ندمت نوران على مغادرة منزلها وفكرت بأسى:
(هل السيدة جنات وعملك أهم من حياتك يا نوران؟.. ها أنت لم تموتي في حادث سير ولكنك ستموتين على يد أحد أفراد المافيا..لو أن هالة خرجت معي لخاف من كلينا ولم يكن ليتقدم نحوي بهذا الشر)
تلاحقت أفكار نوران المفزعة فهي جبانة أشد الجبن في هذه المواقف.. فإن كانت تخاف الظلام ألن تخاف شخصًا تظنه أحد أفراد المافيا؟!ولكن على عكس المتوقع كانت دائمًا تجد في نفسها القوة لمقاومة جبنها حيث تلاشت تلك الأفكار تمامًا
حين تقدم منها الرجل وبانت ملامحه الجذابة وقال بلطف يناقض تصورها عنه:
"صباح الخير يا آنسة .. شكرا ﻷنك نبهتني لما يحدث"
تطلع مازن لوجهها المذعور وعينيها اللتين حدقتا به بوجل قبل أن تسترخي في وقفتها المتشنجة..فبادلته التحية وهي تنظر للشاحنة المتضررة خلفه
ليردف بهدوء:
"أرى أنك كنت تتجهين لمساعدة سائق الشاحنة.. إذًا سأتصل بالإسعاف ثم آتي
لتفقده بصحبتك"
تاهت نوران لثوان ولم تستطع إجابته و انشغلت بشحذ عزيمتها للقادم ريثما أنهى مازن اتصاله وقال:"إذًا هيا بنا"
فأومأت بصمت واتجهت معه نحو الشاحنة التي كانت تملك وسيلة ﻹنقاذ قائدها إذ خرجت الوسادة الهوائية المنتفخة ودفعته للخلف فلم يتأذى رأسه لكن أحد قدميه قد علقت بشكل سئ جدًا في مقدمة السيارة المتهشمة جزئيًا..
استجمعت نوران شجاعة تملك منها أقل القليل وحدثت مرافقها:
"لقد حصلت على دورة في اﻹسعافات الأولية وأظنني أستطيع إخراجه من هذا المكان دون أن يتأذى ولكن.. طبعًا سأحتاج مساعدتك وأيضًا نحتاج ناقلة نضعه عليها حتى لا يتأذى أي جزء آخر من جسده"
لم يجبها الرجل لأن شخصًا آخر بدا أنه مرافقه في السيارة وصل لمكان وقوفهما قائلًا بملل وهو ينفض شعره الذي يغطي جبهته:
"مازن لم لا تتصل باﻹسعاف ونكمل نحن طريقنا؟ إنني جائع و..."
توقف عن متابعة حديثه حين رأى نظرات نوران المستهجنة لقوله والتي ناظرته بازدراء حيث بنطاله الممزق عند الركبتين كما تقتضي الموضة وقصة شعره التي جعلته مهملًا لا يتحمل المسئولية في عُرفها..فلم تعطي لنفسها أي فرصة للتفكير بل قالت بدفاعية:
"إذًا هلا غادرت مع السيد وأنا سأتولى الأمر وربما يشفق أحدعابري السبيل على هذا المسكين ويأتي لمساعدتي"
فأجابها مازن بهدوء دون التفات لمرافقه: "لحظة واحدة يا آنسة..نحن هنا لمساعدتك لا داعي للانفعال..لكن لا أدري كيف نتصرف ولا نملك ناقلة نضع المصاب عليها"
لوهلة وقف الثلاثة عاجزين عن التصرف .. ومع حركة السيارات جيئة وذهابًا على جانبي الطريق دون أمل في التوقف لم يدري أحدهم ما الحل ؟!
"لحظة ما هذا؟ "
قالها فادي برعب وهو يتشمم المحيط من حوله كأحد الكلاب البوليسية:
"إنها رائحة بنزين.. هل ستحترق تلك الشاحنة ؟"
في ذات اللحظة كان سائق الشاحنة قد بدأ يفيق شاعرًا بالألم في قدمه .. حاول تحريكها دون جدوى وحين أبصر الثلاثة الواقفين جوار الشاحنة طلب بضعف:
"رجاءً هلا ساعدني أحدكم ؟"
انتبه الثلاثة وناظروه بقلق وكان فادي أسرعهم إذ انطلق عائدًا لسيارة شقيقه دون حديث.. بينما بقيت نوران تجاهد خوفها وتطمئن نفسها حتى قالت بتوتر وحسم:
"سأصعد من الجهة الأخرى للشاحنة وأحاول إخراج قدمه من مقدمة السيارة"
أومأ مازن بقلق فمع صوتها المرتبك بدت له كمن يرغب في الهرب كما فعل شقيقه.. إلا أن صوت السائق المستغيث من جديد دفع نوران لتنفيذ ما قالته دون تفكير..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
كانت وجدان تنظف منزل السيدة ليلى بهدوء فقد ارتضت بأن تعيش هي وزوجها في خدمة العجوز وزوجها دون مقابل أو هكذا كانت نيتها هي..فصلة القرابة بينهم بعيدة لكن قرب منزلها جعلها تفضل مساعدتها خاصة أنها وزوجها مريضان..
توقفت عن التنظيف للحظة وقد شعرت برغبة مباغتة في الاطمئنان على زوجها
فقالت ليلى الراقدة على فراشها حين لاحظت توقفها:
"ماذا حدث يا ابنتي؟ هل أنت بخير؟"
رسمت وجدان ابتسامة باهتة على وجهها وقالت:
"شعرت فجأة بالقلق على عبد الرحيم يا لولو لكن لا وقت للقلق دون سبب سأكمل العمل حتى أساعدك في الحركة قليلًا في أرجاء الشقة؟"
ابتسمت ليلى لتلك الفتاة اللطيفة التي تعدها بمثابة ابنتها وقالت:
"حماك الله لشبابك يا ابنتي .. لا أدري ماذا كنا سنفعل لولا وجودك أنت وزوجك؟ لكن أخبريني مرة أخرى لأني لم أفهم.. لماذا سافر زوجك لتلك المدينة؟"
شرحت وجدان بصبر:"طلبت الشركة التي تبيع منتجات مصنعه طلبية كبيرة هذه المرة ولأن الإنتاج متعسر في المصنع هذه الأيام سيستعين بمصنع لصديق له"
سألت ليلى والحيرة تظلل ملامحها:"ولم يذهب بنفسه لاستلامها أيا كانت ؟ لمَ لمْ يوظف من يقوم بهذه المهمة عنه؟"
ربتت وجدان على كفها بلطف وقالت:
"دعك من تلك الامور المعقدة حتى أنا لم أفهم كيف سيقبل مصنع آخر أن يعطيه منتجاته ليوردها باسم مصنعه .. لكن منذ متى كان ما يتعلق برحيم سلسًا دون تعقيد؟!"
وتابعت بحماس:" أخبريني ماذا تشتهين على الغداء؟"
أجابتها ليلى بسخط:
"تعلمين ما أشتهي لولا ذلك الطبيب الذي يمنع عني كل أصناف الطعام .. ما جدوى الحياة إذًا إن كنا سنحرم أنفسنا من متعتها؟!!"
ضحكت وجدان وقد اعتادت هذه الشكوى المستمرة من السيدة ليلى .. فقد حرمتها صحتها العليلة من تناول الكثير من الأصناف وقد عدته السيدة مبالغة من الطبيب ثم قالت بمحايلة:
"حتى الأصناف التي وصفها لك الطبيب سأعدها لك بطريقة تجعلها شهية وستحبينها لكن دعيني أساعد الحاج فلا شك أنه قد أنهى وضوءه"
طرقت وجدان باب الحمام ونادت بهدوء:
"عمي سعيد هل أنهيت وضوءك؟.. عمي سعيد"
توالى الطرق دون إجابة فانتاب وجدان القلق وفضلت الاستعانة بأحد جيرانها قبل إقلاق السيدة ليلى .. مستغلة سمعها الضعيف استدعت جارهم وحيد الذي كسر الباب ووجد العم سعيد ملقى أرضًا دون حراك..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
قالت نعمة وقد أسندت رأسها على كتف زوجها في السيارة التي تقلهما للمشغل:
"كان من الأولى أن نأخذ هذا القرار قبل مدة يا طاهر.. ألم تؤسس مشغلك هناك؟ حتى عمل نوران في تلك المدينة.. لو أننا غادرنا البلدة منذ ليلة الحريق لما تعرضنا لهذا الموقف الآن"
فأجابها طاهر بأسى :
"كان أبي قد ترك لي منزله قبل وفاته فارتأيت أن نستخدمه كما أجبرتني ظروفنا المادية حينها وتكاليف إنشاء المشغل"
فتنهدت زوجته كأنها تريد التخلص من ذكرى تلك الأيام العصيبة وأردفت برجاء:"بربك يا طاهر لا تذكرني بتلك الأيام.. لقد منَ الله علينا بكرمه وخرجنا منها سالمين رغم الخسائر"
ربت طاهر على كفها برفق وحمد الله الذي أجزل عليهم من عطائه وفضله فصار بوسعه الآن أن يشتري شقة في المدينة دون أن يضطر لبيع منزل والده كما فعل بمنزله سابقًا .. ثم تنبه الزوجان كبقية راكبي السيارة حين تباطئت حركة السير وظهرت بقايا تلك الشاحنة المتفحمة
"يا إلهي !! أتمنى ألا يكون أحدهم قد احترق مع تلك الشاحنة"
قالتها نعمة بأسى وقد انتابتها قشعريرة حين تخيلت نفسها في تلك الشاحنة المحترقة.. لكنها لم تلقى استجابة من زوجها الذي قال بفزع:
"أليست هذه سيارة نوران؟"
انتهى الفصل❤️#فوت
#كومنت
#اكتبولي_كلمة_حلوة❤️#جيران_المدينة
YOU ARE READING
جيران المدينة
Romanceرواية اجتماعي..رومانسي..كوميدي.. تناقش عدة قضايا اجتماعية في إطار عائلي درامي انتظروا فصل جديد يوميًا بإذن الله ❤️