الفصل الخامس عشر
"هذه الشقة صارت ملكي بعقد بيع موقع من ليلى شخصيًا"
"نعم والأدهى أنها أوصتني شخصيًا بإيصال هذه الشقة إلى صاحبها بعد موتها.. أفق يا سيد عبد الرحيم إنك تتعامل مع مازن السفيري.. وقد آليت ألا أذر حقًا يؤكل أمام ناظري وأقف متفرجًا"
"يالها من مشاعر نبيلة لم تمكنك من استعادة حق والدك قبل سنوات.. أقدر هذا كثيرًا والآن كما قلت لوالدك منذ سنوات..استدر واذهب بدليلك إلى قسم الشرطة.. رافقتك السلامة"
وصفع الباب بكل قوته في وجه مازن الذي ركل الحائط بقوة قبل أن يغادر العقار بأكمله ودماؤه تغلي في عروقه ... متمنيًا لو أُتيحت له فرصة ركل عبد الرحيم عوضًا عن الحائط..
وفور أن استقر في سيارته رفع هاتفه يتصل بشقيقه:"أين أنت؟"
""أعالج بعض طاقات الشر داخلي
ابتسم بسخرية وأجابه:"أنا قادم إليك..لا تفرغها كلها قبل أن آتي"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد شراء الأدوات المطلوبة توجه هاشم مع روان لبدء العمل..
" سنقطع الجزء القمي لأنه لن يفيدنا في عملية التطعيم..ونُبقي بقدر اثنتي عشرة بوصة فقط"
أومأت روان متحمسة لهذه المعلومات الجديدة التي ستحرص على حفظها في عقلها فلا تبارحه..
فتابع هاشم:"اشترينا الساق الخضراء كما أخبرتك في السوق.. وسنبدأ بفصل البراعم الآن واحدة بعد الأخرى..انظري إلي وافعلي ما أفعله"
تابعت روان حركات يديه الثابتة بابتسامة متسعة ثم التقطت ساقًا أخرى لتكرر ما فعله..
"أحسنت"
شجعها هاشم قبل أن يقول :"والآن سنشق اللحاء كما ترين..ثم نزلق البرعم بهذا الشكل.. تحتاجين اختيار الطريقة المناسبة في الوقت المناسب كي ينجح عملك فكما ترين سيلان العصارة يساعدها على الانزلاق "
ثم بدأ بلف أشرطة بلاستيكية حول جزء اللحاء المشقوق على هيئة حرف تي حيث أُزلق البرعم قائلًا:"أحكمي اللف حتى تتخلصي من فقاقيع الهواء المحبوسة ..ثم نلف هذا الكيس البلاستيكي لنحافظ على الرطوبة..هيا أريني وانتبهي أثناء شق اللحاء حتى لا تجرحي نفسك"
وبدأ يوجهها أثناء تكرارها عملية التطعيم بنفسها..
"جيد جدًا أحسنت أيتها الصغيرة"
أومأت روان شاكرة قبل أن تناظره بتردد سائلة:"هل أبوح لك بسر؟"
أشار لها هاشم بالجلوس قائلًا:"بالتأكيد يمكنك ائتماني على أي شئ"
أسندت روان ذقنها إلى ركبتيها وأقرت بقلق:"قبل أن يتعرض أبي لهذا الحادث سمعته يخبر أمي عن نيته في بيع منزل العائلة شاكيًا فقر الحال.. غير أن هذا يتنافى مع وصية جدي .. أراد أن يبيعه لحسابه فقط دون اعتبار لغيره من الورثة"
بُهت هاشم من قولها ولزم الصمت بينما تتابع:" دعوت ألا يتم هذا البيع بأي طريقة ولذا أشعر أن مسئولية الحادث تقع على عاتقي..وأنني دعوت على أبي رغم أنني لم أرد إلا صالحه"
"لكن ربما قصد بيعه واقتسامه معنا ..من حق والدك أن يفكر باستغلال إرثه إن احتاج المال..هذا ليس خطأً يا روان"
"بلى.. الخطأ هو رغبته في بيعه دون علمكم..هناك.."
وبدأت البكاء كأنها تستصعب ما تقوله..
ففي حين يحاول هو تبرئة والدها أمامها تظل مصرة على خطأه وتجد غضاضة في الإفصاح عما انكشف أمامها من أسرار..
ربت هاشم على رأسها المحني بشفقة فاستطردت:"تواصل مع رجل يدعى عبد الرحيم القتيل..إنه خبير في تزوير عقود ملكية وبيع أملاك غيره مدعيًا أنها تخصه..كان يملك العقد في يديه أي أنه يفكر في الأمر منذ زمن طويل"
مسحت دموعها تتابع:"ولذا أراد أن يلتقي بالعم سعيد بشدة لأن هذا الرجل قريبه..ويريده أن يكون حلقة الوصل بينهما"
قطب هاشم بينما تتأكد له حقيقة ما تقول ..القتيل هي عائلة والد سعيد والتي حرصت عمته نظيرة أن تبعد سعيد عنها حتى أنها لو ملكت طريقة لمحو لقب القتيل الذي يتذيل اسمه لفعلت بكل سرور..
"اسمعيني يا روان سأتحدث إلى والدك ونرى هذا الأمر..لا تقلقي سأجد طريقة لمنعه عن هذه الطرق الغير قانونية..أما أنت أريدك أن تسترخي وتهتمي بدراستك فقط ويمكنك قضاء وقت فراغك في الاهتمام بالأرض كما سأعلمك..لكن هذه الأمور تفوق عمرك.."
أجابته روان وإحساس الذنب يتملكها:"أنا..فرحت لوقوع هذه الحادثة..أحب أبي! أنا أحبه هذا أمر أكيد لكنني..."
قاطعها هاشم بلطف:"هوني عليك يا صغيرتي..هل أخبرك شيئًا؟ ألم تحفظي القرآن مع شيخ الكُتاب؟"
"نعم.."
" حفظت سورة القلم وتعلمت قصة أصحاب الجنة أليس كذلك؟"
أومأت توافقه والتساؤل يطل من عينيها ليتابع :"ذهبوا لحصاد الجنة في وقت مبكر حتى يحرموا الفقراء من طيباتها فانظري كيف وجدوها..كالصريم .. هذه نتيجة النوايا السيئة يا روان.. الله عليم بذات الصدور..ربما قدر لوالدك أن تُجبر ساقه ويُمنع من الحركة حتى يتراجع عن نواياه.."
راحت روان تقلب ما يقوله في رأسها وارتسمت السكينة على وجهها فأضاف:
"إنها أقدار كُتبت مع مولد كل إنسان.. كما أنها فرصة لتغيير المسار كما ترين لذا تابعي الدعاء لوالدك بالصلاح فقط ودعي الله يُسير حياتنا بمشيئته"
أخيرًا كافئته روان بابتسامة شكر وامتنان وقد هدأت نفسها لهذا التفسير..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
تربعت هالة على الأرض تطلي أظافرها بعناية وهدوء بينما تقول لوالدتها:"لقد تأخر الوقت يا أمي.. عليك ترك الفيلم والالتفات للغداء قبل عودة أبي"
كانت نعمة قد شغلت الحاسب على أحد أفلام المغامرات الدموية كما تسميها هالة..
وفي يدها السكين تقوم بتقشير البطاطس بسرعة وإتقان بينما عيناها لا تفارقان الشاشة التي تعرض كفاح راكبة الأمواج ضد هجمات القرش الذي يقارب على التهامها..
"اصمتي لا تصرفيني عن المشاهدة..أحتاج الأدرينالين حتى أنهي تقشير هذه البطاطس بسرعة"
"وأنا أحتاج الهدوء لإنهاء طلاء أظافري ولن أحتمل رؤية هذا القرش أكثر من ذلك.."
قالتها هالة بينما تلملم أغراضها بغية العودة لغرفتها.. فأوقفتها والدتها:"مكانك يا بنت! أحتاج إلى رفيق مشاهدة"
"أنا لست نوران ولا أشاهد أفلام الرعب هذه"
ورغم اعتراضها الممتعض عادت هالة للجلوس وتخلت عن متابعة طلاء أظافرها تناظر راكبة الأمواج مبهوتة وهي تسبح في دمائها تجاهد لركل القرش والتخلص من أسنانه الدامية المطبقة على فخذها..
شهقت برعب لمجرد التخيل! لتعترف لو أنها مكان هذه الفتاة لاستسلمت لقدرها وأصبحت لقمة سهلة المنال لهذا القرش..
وبالفعل نجحت نانسي في مسعاها وصارت الآن على ظهر قرش آخر بعد أن طافت جيفته على سطح البحر..ثم راحت تصرخ بقائد سيارة على الشاطئ أن يلتفت إليها وينقذها بأي وسيلة لكن صرخاتها لم تصل إليه..فانتاب هالة اليأس كما انتاب نانسي خاصة مع الأمواج الهادئة التي حركت القرش أبعد فأبعد عن الشاطئ واقتراب القرش المفترس المستعد للفتك بها ..
"ماذا سيحدث؟ سأموت لن أحتمل المشاهدة! أمي!"
"ششششش..حسنًا لا أريد رفقتك خذي البطاطس وأنهي تحضير الغداء ريثما أنهي كي ملابس والدك"
أومأت هالة موافقة وسارعت إلى المطبخ معرضة عن مشهد نانسي التي عكفت تخيط جرح فخذها بنفسها بعدما جازفت بالسباحة واستقرت على صخرة مرتفعة في عرض البحر!!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"كمال ..ماذا تفعل هنا؟ ألا زلت تكرر محاولات الهرب؟"
التفت وحيد مجفلًا من الصوت النسائي الرفيع الذي كاد يخرق طبلة أذنه فوجدها معلمة ترتدي نظارات كبيرة تغطي أغلب وجهها الذي بالكاد يظهر من نحافته الشبيهة بنحافة ابنته..
قطب بين حاجبيه وعلق بسخط:"ألا تدرك سيدة كبيرة مثلك أنه من العيب الصراخ بهذه الطريقة؟"
جحظت عينا سميرة تحلل ما يقوله هذا الرجل وارتفع حاجبها باستنكار حين تأكدت من مقصده لتسأله بلهجة خطرة:"ما الذي تعنيه؟ هل تقصد أنني غير محترمة؟"
تفسير أنثوي كلاسيكي!! ماذا توقع؟ هل لكونها تبدو ذات ملامح وقورة سيختلف تفكيرها عن بني جنسها..
وسرعان ما استعادت هدوئها حين رأت ملامحه المستنكرة سؤالها وسألته:"هل أتيت للسؤال عن أحد الطلبة؟"
"نعم أنا والد منة القباني طالبة في الفرقة...."
قاطعته سميرة وقد عادت لغضبها :"لقد طلبتك المديرة قبل ساعة وحضرتك أتيت لتوك! ابنتك في المشفى والمتوقع أن ذراعها قد كُسر في حصة التربية البدنية.. رافقتها إحدى معلمات المدرسة إن كان ينتابك القلق"
حمله صراخها من القلق إلى الغضب ثم بعض الاطمئنان..حتى شعر أنه يحتاج لراحة طويلة بعد هذه التقلبات...
فسارع يطلب منها بهدوء منهيًا هذا الحديث المجهد لشخص مثله..
"عنوان المشفى إذا سمحت"
مطت سميرة شفتيها باشمئزاز حين لمحت البقع الوردية على قميصه ثم أعطته العنوان.. ليشكرها بسرعة مغادرًا المدرسة..
وتحركت هي لغرفتها تتعافى من هذا اللقاء الكارثي..في البداية تعرضت لإحراج كبير حين صرخت بالرجل ظنًا أنه كمال .. فبنيتهما متشابهة خاصة مع طول الرجل المتوسط انفجرت به كغاز سريع الاشتعال وهذا غير جائز!
وفقدت لباقتها تمامًا رغمًا عنها حين ظهر الاشمئزاز على وجهها متأثرة بالبقع على ملابسه..ماذا تفعل؟ لاتطيق رؤية البقع أبدًا!
(بدوت مراهقة متقلبة الانفعالات أمام الرجل!)
(كان علي أن أرشده لغرفة المديرة بصمت)
همست لنفسها بلوم قبل أن تنهض لتقوم بجولة تفقدية أخرى تلهي بها نفسها وتحاول نسيان هذا الموقف المخزي..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أهلًا بك يا كوتش!"
ضحك مازن بينما يتلقى لكمة معاذ المفاجئة والتي أوقعته أرضًا ..
فنهض متأوهًا يتلقى السخرية من رفاقه القدامى وأولهم إياد الذي هتف به:"بئس! وصاحب صالة رياضية أيضًا! ماذا تعلم الرجال هناك؟"
"انتظر حتى أبدل ملابسي وآتي لهزيمتكم واحدًا بعد آخر"
وما إن تقدم خطوتين حتى استدار رافعًا قدمه بغتة يركل معاذ فأوقعه أرضًا يرد إليه لكمته..
"أترى؟ عنصر المفاجأة أحد أسباب الهزيمة"
ضحك إياد بينما يساعد معاذ في النهوض والذي علق متألمًا:"ركلاتك لاتزال بنفس القوة أيها الوغد!"
"أين زيد بالمناسبة؟"
تقدم مؤيد من خلف مازن وأحاط عنقه بذراعه العضلي ضاغطًا بشدة حتى احمر وجه مازن وأوشك على الاختناق:"في عالمه الخاص"
لكمه مازن بمرفقه في معدته فتخلص من قبضته..وقال بينما يتنفس بعمق مستعيدًا أنفاسه:"دعوني ألحق به قبل أن تضعوا خطة التخلص مني إذا"
"صابر.. و وليد قادمان أيضًا!" أردف إياد بحماس..ليبتسم مازن قائلًا:
"يال هذا! من الرائع الاجتماع بكم يا رجال"
و أسرع لغرفة التبديل يرتدي زيًا مناسبًا من الأزياء الاحتياطية ثم بادر للحاق بشقيقه في ركنه الخاص...
كان رفاقه المقربون من أيام الجامعة قد تعاونوا لتجهيز مركز رياضي شامل كهذا..حيث التدريب على السباحة..المصارعة..كمال الأجسام..الرماية وحتى كرة السلة والقدم وغيرها..
لكنه مع حاجته لإنشاء كيانه الخاص اعتذر منهم وقبل بإنشاء صالته الرياضية الخاصة في ملك العم سعيد.. إلا أن الأيام لم تفرقهم أبدًا فهو يزورهم بين الفينة والأخرى ليحظى بتدريب حماسي معهم أو جولة مصارعة مع شقيقه كما ينوي الآن..
فلزيد ركنه الخاص في ساحة الرماية حيث رياضته المفضلة ومنفذ طاقاته السلبية وقت الغضب..
تقدم مازن مبتسمًا يزيح السماعات عن أذن شقيقه برفق:"هل أبقيت لي بعض الطاقة يا كوتش؟"
أجفل زيد من هذا الهمس المفاجئ فحادت طلقته عن الهدف ليلتفت راكلًا سبب تشويشه أيًا كانت هويته..
تراجع مازن للخلف ضاحكًا بعد أن نجح في تفادي ركلة شقيقه:"تعال إلى الأهداف الحية! هيا لنحظى بجولة مصارعة"
"ولكني أحذرك أنا غاضب جدًا ولن أكون متساهلًا"
تقدمه مازن إلى حلبة المصارعة معقبًا:"بل أنا أشد منك غضبًا.."
ثم دفع الحكم جانبًا حتى اصطدم بالحاجز المطاطي قائلًا:"يفضل أن تخرج من الحلبة حتى لا تتعرض للإصابة"
انصاع الرجل بهدوء ودون مقاومة خاصة حين خلع مازن قميصه لتظهر عضلاته القوية وبنيته الحقيقية التي تبخسها ملابسه حقها..
وبادر بركل شقيقه في منتصف معدته مستخدمًا ركبته..ورغم الألم الساحق الذي أحس به زيد إلا أنه لم يفوت على نفسه فرصة كهذه فتشبث بساق شقيقه يجره منها حتى طرحه أرضًا ملقى على بطنه ثم جثم على ظهره بثقل ركبته يضغط رأسه بأرضية الحلبة كأنه ينوي إزهاق أنفاسه..
"كان عليك أن تتركني لتفريغ طاقاتي ..ها أنت ستموت في ريعان شبابك.."
قطع حديثه مضطرًا يقاوم مازن الذي استند على مرفقيه مرتفعًا عن أرضية الحلبة فلم يكن ثقل ركبة زيد بالعائق أمامه ثم أمسك بساق شقيقه و حمله ليلقيه على ظهره..
تدحرج زيد على أرضية الحلبة يتفادى لكمة شقيقه التالية ثم نهض رويدًا رويدًا ليقف مقابلًا له..
"ممنوع توجيه اللكمات للوجه"
فهتف به مازن متهكمًا:"كفى حديثًا يا صاحب الطاقات انشغل بالدفاع عن نفسك قليلًا قبل أن أقضي عليك"
ودخلا صراع من اللكمات والركلات حتى سلم كلاهما بعجزه عن المتابعة وارتميا على أرضية الحلبة منهكين تمامًا....
وبدآ الضحك في آن واحد ... إنها المتعة! أن تلقى أرضًا بعد تفريغ كل طاقاتك في قتال عنيف كانت متعتهما الخاصة التي يحتفظان بها لنفسيهما كشئ شديد السرية فلا يشاركهما بمعرفتها إنسان..
"لو أن والدك رآنا بهذه الهيئة!"
"لا أريد التخيل..سيقع صريعًا ما إن يكتشف أن لديه ثلاثة مراهقين وليس واحدًا فقط"
"أنتما هنا!"
قالها معاذ بينما يصعد للحلبة ويتفقد نبض عنقيهما متوجسًا..
"لا نخطط للموت هنا "
مازحه مازن قبل أن يفاجئه كالعادة بركل ساقه فجثى معاذ على ركبتيه بينهما قائلًا:"أيها الوغد!"
وضربه بركبته في خاصرته فتأوه مازن ضاحكًا بينما عقب زيد شامتًا:"لم يكن هناك داع للاستعراض وأنت ضعيف بهذا الشكل"
"ظننتك ستشاركنا التدريب اليوم..."
ابتسم مازن بإنهاك.. فتابع معاذ:"لا بأس..لنتفق على موعد آخر تشاركنا فيه التدريب..أقصد تتلقى فيه الهزيمة منا"
واستدار على وشك مغادرة الحلبة بينما ينطق بجملته الاستفزازية حين استطال مازن عامدًا ليعرقله بقدمه فوقع أرضًا من جديد...
وأمام عيني زيد الضاحك نهض معاذ راكلًا مازن حتى دحرجه على أرضية الحلبة وأخرجه منها تمامًا ملقى على ظهره فاقدًا القدرة على الحركة...
"وستبقى ملقى كالكلاب حتى نغلق المركز..لن يساعدك أحدنا"
ألقى معاذ جملته التوعدية وغادر الشقيقين اللذين عادا للضحك..
"لدي أصدقاء يعزونني دون سبب والله"
"أجل..أجل..لاحظت!"
أجابه زيد متهكمًا قبل أن ينهض بدوره مضيفًا:"سأرسل إياد حتى يسندك فأنا لن أحتمل ثقل جسدك في هذه اللحظة!"
"ومن سيوصلنا للمنزل؟!"
بعد دقائق...
استعاد مازن بعض عافيته بحمام ساخن ثم ذهب لغرفة التبديل حيث شقيقه الذي بادره:"سأترك العمل في المطعم قريبًا!"
ارتفع حاجبا مازن بدهشة فاستطرد زيد:"اشتريت حديثًا آلات متطورة لصناعة الحلوى ومع بعض التعليمات يمكن لأي شخص إدارة المطعم... كما أن والدك يصر علي أن أشاركه العمل في فرع الشركة الجديد"
"تبدو مستاءً رغم ذلك"
"لا بأس ليكن ..سأتفرغ للعمل بشهادتي وأترك المطعم لأوقات فراغي"
ربت مازن على ظهره بقوة:"لا بأس! سأطلب منك إعداد الحلوى في المنزل ولن تحرم متعتك يا سيدي"
ابتسم زيد وضربه على مؤخرة عنقه بخفة قائلًا:"أحتاج لفنجان قهوة ساخنة..هل تشاركني...."
قاطعه مازن بلؤم:"قطعًا لا..بعد التمرين أحتاج حضنًا دافئًا ولا أظنك تملك واحدًا"
"أيها الفاسق! هل انحرفت أخيرًا؟"
"كنت أقصد أمي يا أحمق...لحظة!"
وأخرج هاتفه يستطلع هوية المتصل وما لبث أن اتسعت ابتسامته ليغمز شقيقه مودعًا:"أراك فيما بعد"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أخيرًا أسند وحيد ابنته حتى استلقت على فراشها متأوهة..
"سأعد لك حساءً ساخنًا"
أومأت منة بصمت وما إن خرج والدها حتى سالت دموعها الساخنة تشعر بالظلم أن الكسر أصابها هي دون غيرها من زملائها..يتشاجر بسنت و وائل كعادتهما لتقع العواقب على عاتقها هي! ولم يعتذرا منها أيضًا!
أما وحيد فقد شرع في تحضير الغداء متذكرًا ما قاله الطبيب الذي تولى تجبير ذراع ابنته وازداد ثقل شعوره بالسوء تجاهها وأنه لم يعطها الوقت والاهتمام الكافي..
"كما شرحت لي معلمتها يا سيد وحيد فإن كسر ذراع ابنتك غير مبرر..أقصد لا أظن أن وقعة كهذه كافية للكسر.. كما أنني أرى ضرورة عرض ابنتك على طبيب مختص بالتغذية..ها أنا بنظرة واحدة ودون فحوصات أستطيع القول أنها تعاني من ضعف عام وسوء تغذية.."
في الحقيقة هو لا يذكر كيف كانت شهية ابنته وهل قلت أو زادت لا يعلم! هذه أمور تابعتها زوجته دائمًا ولا يظن انها كانت لتكتم عنه علة تشكو منها ابنتهما!
لا بأس من اليوم سيبدأ التدقيق ويعرضها على مختص في التغذية كما أوصى الطبيب..
أنهى تقطيع البصل والخضراوات ليضعها في إناء على النار مع ملعقة من الزيت ..وبعد أن بدأت تذبل أضاف اللحم مبتسمًا..
إنها الوجبة الوحيدة التي يستطيع إعدادها للأسف! والحمد لله أنها تروق ابنته وستجعله يتمكن من إقناعها بشرب الحساء..فقد اقتسم جزءًا من اللحم ليضعه في إناء آخر لإعداد الحساء حين فاجئه طرق على باب الشقة..
"من يزورنا في هذه الساعة؟"
خلع مئزر المطبخ وترك الطعام ينضج على نار هادئة قبل أن يبادر لاستطلاع هوية الزائر..
"وجدان!"
دقق بحيرة بجارته التي يبدو على وجهها آثار البكاء كما اعتاد أن يراها مؤخرًا وخلفها كان زوجها ينفث الدخان من فمه كتنين يوشك على التهام المسكينة التي تقف أمامه...
وقبل أن يجد ما يقوله بادرت وجدان تسأله كأنها تتوسله المساعدة:"هل منة بخير؟ أخبرتني أن أمر للاطمئنان عليها"
ضيق وحيد عينيه مستغربًا بمعرفتها بأمر كهذا إذ وصل لتوه مع ابنته فمتى علمت؟!
لكنه لم يجد بدًا من إجابة النداء الملهوف في عينيها مجيبًا:"نعم كسرت ذراعها في حصة التربية البدنية..تفضلي سيكون من الرائع لو هونت عليها مصابها"
دخلت وجدان فورًا قاصدة غرفة منة بينما وقف الرجلان يتطلعان لبعضهما.. كلاهما لا يطيق الآخر رغم عدم وجود سبب ملموس..
فعرض وحيد مضطرًا:
"تفضل أنت أيضًا يا سيد عبد الرحيم..شاركنا الغداء"
"لا داعي .. أتمنى الشفاء العاجل لابنتك إن كانت مصابة حقًا!"
حدجه عبد الرحيم بنظرات محذرة تتوعده بالشر وأعرض عنه عائدًا لشقته..
"أعوذ بالله من الخبث والخبائث"
نطقها وحيد باشمئزاز وعاد للمطبخ راجيًا أن يعين الله وجدان المسكينة على محنتها!
وفي غرفة منة ضمت وجدان الصغيرة الباكية إليها تربت على ظهرها بحنو ومودة!
تتذكر الساعات الماضية فبعدما سمعت جدال زوجها مع رجل على باب شقتهما ثم عاد إليها وأبلغها أنه مازن أقرت له بزيارة الأخير قبل وفاة ليلى..
فوجد سببًا آخر لينزل عليها لعناته وغضبه فكيف فوتت زيارة كهذه دون أن تعرف ما دار بين ليلى وزائرها؟!
لذا أسرعت بتصنع القلق وأخبرته عن مرض مزيف تشتكي منه منة وأنها لابد أن تزور الفتاة الصغيرة وترعاها فوالدها لا يملك خبرة في هذه الأمور.. وأبدعت في الكذب كإبداع زوجها في القسوة ...
توقعت أن يرفض وتفضح كذبتها لكنه قبل بالإفراج عنها..فك وثاقها ورافقها ليتأكد من مرض الصغيرة...
(الحمد لله الذي أنجاني)
تمتمت وهي تشدد من ضم منة إلى صدرها ورغم ضعف الأخيرة إلا أنها وجدت فيها ملاذها واعتزمت المبيت في غرفتها الليلة...
(آسفة لتخيب رجائك يا شيخي)
هكذا فكرت فقط وهي تتذكر إتقانها الكذب واكتسابها عادة التستر على جرائم زوجها... كلها عادات اكتسبتها من معاشرته ووجدت فيها المهرب من غضبه..
لكن أغضبه أهون من غضب الله يا وجدان؟!!
ذكرت نفسها بألم ودموعها تزداد انهمارًا..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"مرحبًا!"
بابتسامة عريضة وملامح أخفاها خلف نظارته الشمسية جلس مازن مقابلًا لنوران في الحديقة العامة..لتعض الأخيرة شفتها السفلية بضيق من تهورها فقد اتصلت به تطلب لقاءه!
أي جرأة هذه يا نوران؟!!
"آسفة أزعجتك باتصالي"
"لا أبدًا..أنا متفرغ لجيراني الأعزاء في أي وقت"
زمت نوران شفتيها بحنق فهاهو سيستغل الفرصة ويمعن في ذكر أحاديثه الفارغة تلك...
ورغمًا عنها كانت في قرارة نفسها مدركة أنها تستلذ بلقائه وحديثه !
"هل نطلب الغداء؟ أم تناولته بالفعل؟"
"لا بعض القهوة ستكون مناسبة وهذه المرة أنا من سيدفع الحساب"
ابتسم مازن وأجابها بمشاكسة:"حقًا!"
ثم نادى العامل ليطلب منه فنجاني قهوة..
"هل تسخر مني؟"
وبكل براءة أجابها:"أنا؟ إنني أجلس بكل تهذيب منتظرًا أن تخبريني سبب هذا الاستدعاء العاجل.. "
تنفست بعمق تتدارك نفسها قبل أن تدخله معه في جدال كهذا ثم قالت بجدية: "هناك ما فكرت به وأردت استشارتك....."
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
استلقى زيد على أريكة غرفة المعيشة وعظامه كلها تأن من صراع القوة الذي خاضه مع شقيقه ....
"أفنان ألم أوصيك بتنظيف شباك غرفة المعيشة؟"
"فعلت يا أمي ومنذ الصباح..هل هناك عفريت في تلك الغرفة لا أعرف لم لا تروقك؟!"
"هناك رائحة سجائر تملأ الشقة منذ الأمس ولا أدري مصدرها"
ابتسم زيد من وضعه حيث استلقى وتذكر صديق والده المدخن الذي استقبله في الشقة بالأمس..ومن وقتها ووالدته تشم رائحة السجائر وتؤكد أنها عالقة في البيت..
دلفت أفنان للغرفة صائحة:"سأعيد تنظيفها وتعطيرها يا أمي..لا تقلقي"
والتفتت لشقيقها الباسم باستهجان:"انهض وساعدني"
رقصَ زيد حاجبيه بإغاظة قائلًا:
"هذا خارج نطاق مسئولياتي"
فتقدمت منه تشده من ذراعه حتى ينهض إلا أنه جذبها لتجلس على الأريكة واستبقاها بوضع رأسه في حجرها:"نوميني أولًا"
"ماذا يعني أولًا؟ستساعدني وأنت نائم أليس كذلك؟ صبرني يا رب"
"أحتاج للنوم بشدة يا فنه ولا أستطيع..ألا تساعدينني؟"
مطت أفنان شفتيها بحنق لكنها مررت أصابعها في شعره مشفقة عليه فقد أخبرها مؤخرًا عن قراره بإرضاء والده ومطاوعته في أمر العمل..ولأنها تعلم قدر حبه لمطعمه كانت مستاءة لأجله ...
في أحيان كهذه تستغرب تناقض والدها إذ أنه أمر شقيقيها بإيجاد طريقهما الخاص في الحياة ثم كأنه ندم عاد يطلب من زيد أن يعمل بشهادته فهذا ما يرضيه عنه!
"عمي سيكون رئيسك في العمل إذا..سمعت أنه لا يقبل إلا بعدد معين من سنوات الخبرة ليقبل المتقدمين للعمل"
رفع زيد ذراعه يجذب شعرها بخفة:"إن لم تلتزمي الصمت ستكون عاقبتك سيئة"
فارتسمت ابتسامة خبيثة على شفتيها وبررت بمسكنة:"وما خطأي؟ كنت أنبهك فقط!"
وارتاحت لمرأى ابتسامته فعادت تداعب شعرها متمنية له كل الخير ..وأن يجد من يدللها وتدلله فتتخلص من مراقبته الخانقة!
أضافت أمنيتها الأخيرة وهي تتطلع لهاتفها الذي وضعته على الصامت إذ ومض ينبهها لوصول رسالة جديدة على الواتس ..
(أنا آت إليك)
قرأتها بعينين جاحظتين تبحث بعينيها عن وشاح لرأسها وذراعيها اللذين كشفتهما بيجامتها ذات النصف أكمام..
زاد ثقل رأس شقيقها فعلمت أنها نجحت في إدخاله عالم الأحلام..
مع صوت هيثم يسأل والدتها عنها..
تمتمت بغيظ:"أمي تخبره بكل بساطة عن مكاني !"
ورفعت وجهها المتجهم لهيثم الذي يقف بباب الغرفة متسليًا قبل أن يركع من قوة الضحك الذي يجاهد لكبته حتى لا يوقظ الأسد الرابض بأحضان حبيبته..
إذ استغلت أفنان سترة شقيقها فوضعتها على رأسها وجمعت مقدمتها بيديها عند صدرها حتى تغطي جزءها العلوي بالكامل...
وبالكاد تمكنت من إمساك هاتفها لتكتب له:
(كان بإمكانك إخباري ما تريد هنا )
فأجابها هيثم كتابيًا:
(وكنت سأفوت على نفسي فرصة رؤيتك في هذه الخيمة)
لم تكن بحاجة لكتابة رد فتعبيرات وجهها الغاضبة كافية ليعرف رأيها في تصرفه..
فكتب: (سأنتظرك على السطح )
وتحرك مغادرًا واثقًا أنها ستلحقه رغم حنقها..
أما أفنان فقد نهضت بخفة تريح رأس زيد على أحد وسائد الأريكة.. وأغلقت باب الغرفة حتى يحظى بالهدوء اللازم ثم أمسكت بالمعطر ترشه بكثافة في غرفة الضيوف والصالة علَ والدتها تستريح أخيرًا..
ارتدت عباءة منزلية خفيفة وأحكمت وشاح رأسها قبل أن تلحق بهيثم..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"تفسير منطقي! معك حق"
وافقها مازن الرأي قبل أن يستطرد:"عمي شريك في هذه الشركة منذ سنوات حتى قبل حريق منزل البلدة... ومؤخرًا قررا إنشاء هذا الفرع الجديد"
"هذه مهمتك يجب أن تعرف الأسباب الخفية..."
قاطعها مازن بمشاكسة:"هل أنا أحد طلابك ستكلفينه بمهمة منزلية؟"
وتابع ضاحكًا:"حسنًا لا تغضبي..اعترفي أنها كانت مزحة لطيفة..وجعلتك تبتسمين أيضًا"
عبست نوران فورًا كأنها تعاقب نفسها على ابتسامتها ..ليكمل مازن بهدوء:"لا أريدك أن تقصري تفكيرك على هذه القضية يا نوران.. والدانا أخطآ حين جبنا عن المطالبة بحقهما في الماضي وأظن أنهما في الوقت الحالي أيضًا سيكتفيان بنفي تهمة عبد الرحيم لذا هوني عليك وساعدي والدك على تجاوز هذه الخسارة والتطلع للمستقبل "
"معك حق..خالك سبق وقالها هذه القضايا لا يحسمها القانون للأسف..أتمنى فقط أن تمر الأمورعلى خير..لا أريد لأبي هذا الأذى"
"بإذن الله كثفي الدعوات "
شعرت نوران أنها على وشك البكاء دون سبب كعادتها حين تتخيل ما قد يصيب والدها والعاقبة السيئة لمعرفته برجل كعبد الرحيم لذا سارعت تنهض قائلة:"علي الذهاب وآسفة لإزعاجك"
نهض مازن بدوره قائلًا بلطف:
"سأوصلك إلى منزلك"
"معي سيارتي..شكرًا لك"
لم يجد مازن حجة لاستبقائها رغم رغبته الحثيثة في حديث طويل معها.. عنهما هما فقط..دون فادي ..دون صراع المصنع..دون خوف أو قلق.. لكنه كان مدركًا أيضًا لاستحالة هذا فحتى لقاءاتهما المسماة ظاهريًا بمصلحة العائلة باتت منافية للصواب.. واكتفى بتوديعها باقتضاب:
"أراك فيما بعد"
وتحركت نوران مغادرة إلا أنها عادت إليه تفتح حقيبتها قائلة:"آه نسيت .. الحساب!"
رفعة حاجب محذرة من مازن استفزتها لتصيح به:"ماذا! لا يصح"
"بل لا يصح ما تفعلينه يا نوران وهيا غادري قبل أن أغضب منك"
معه فقط عرفت هذا الشعور وتنازلت عن اعتناق المسئولية والتفكير في العواقب!
"حسنًا شكرًا لك"
"لا..لا أريد شكرًا باهتًا..اشكريني بإعداد تشييز كيك لي وحدي"
بدت المفاجأة على وجهها إلا أنها لم تعطه ردًا وانصرفت ببساطة.. فابتسم مازن يعد نفسه بأن تنال ما تريد لكن في الوقت المناسب..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"ماذا تريد أيها العاطل؟"
صرخت أفنان غاضبة ما إن صعدت للسطح لكنها تسمرت واحمر وجهها حين رأت الأرجوحة المميزة التي أخبرته عنها يومًا مثبتة تنتظرها ...
بينما بادرها هيثم بمسكنة:"انشغلت بتركيب الأرجوحة فنسيت أمر التقدم للعمل"
"هيثم!"
"سأذهب يوم الأحد ..أعدك"
تابع يسحبها من يدها:"هيا جربيها"
انصاعت أفنان له وجلست مبتهجة على الأرجوحة متوقعة أنه سيبدأ بدفعها لكنه خالف توقعها إذ جاورها قائلًا بصبيانية:"أستطيع الدفع وأنا جوارك أيضًا"
"هيثم هل تحبني؟"
دار هيثم بعينيه مستغربًا سؤالها ثم شاكسها قائلًا:"توقعت شكرًا وقبلتين..لكن هذا الاستجواب يقلقني"
"أجبني بصدق"
تلبست ملامحه الجدية فترقبت أفنان اعترافًا مدويًا وثبتت في مكانها رغم خجلها إلا أنه قال:"مطلقًا"
تدلى فم أفنان بصدمة ليغرب هيثم في الضحك قبل أن يوضح:"أحبك حبًا مطلقًا يا فراشتي"
وراقبها كيف ضغطت شفتيها كأنها تبحث في عقلها عن كلمة مناسبة تصف غلاظته فتابع:"آسف..أحببت ممازحتك وإلا خجلت وتركتني أتأرجح بمفردي كحبل الغسيل المقطوع منذ سنين ولا يزال معلقًا في شرفتنا"
ظهر التقزز على ملامح أفنان وهتفتت به :"اصمت..اصمت يا هيثم ..أفسدت بهجة الاعتراف وأهميته!"
ابتسم الأخير متنهدًا قبل أن يبسط راحته أمامها فتطلعت أفنان لما فيها باستغراب: "أذكر أيضًا أنك تتناولين الموز بينما تذاكرين فأحضرت لك هذه حتى تساعدك"
التقطتها أفنان متحمسة وقالت:"أتعلم؟ لازلت حتى الآن أحضر دروسي بينما آكل الموز وآخذ ممحاة برائحة الموز معي الفصل حتى تذكرني بالشرح..خاصتي صارت بحجم حبة الذرة من كثرة استخدامها..شكرًا لك"
"هل نبدأ بتبادل....؟"
"أجل تبادل! تبادل ماذا أيها المنحرف؟!"
أجفل الاثنان ناهضين عن الأرجوحة مع صراخ مازن الذي كاد يصم آذانهما..
"كنت سأقول تبادل الذكريات وأخبار عاداتنا الغريبة..ما شأنك أنت؟ عمي يعلم أننا هنا على السطح .."
وتكتفت أفنان تناظر هيثم بغيظ:"لأنك غليظ .. يسلط الله عليك من يفسد مخططاتك"
"هذا عوضًا عن لوم شقيقك الوغد!"
بينما تنحنح مازن بهدوء قائلًا:"لا بأس..سأجلس هنا أشم بعض الهواء ريثما تكملان حديثكما.."
"شرفتنا والله سيد مازن"
أومأ مازن بغرور مؤكدًا:
"أعرف أعرف!"
وما لبث أن أضاف وهو يتربع قريبًا منهما:"متران فقط..حتى أسمع استنجاد أفنان إن سئمت منك"
عاد هيثم للجلوس مغتاظًا يهتف بأفنان:"أترين ما أتحمله؟! لنتزوج ونستريح منهما"
"ليس الآن"
أدار هيثم وجهه حانقًا فلكزته أفنان بخفة تلاطفه:"لنعد لحديث الذكريات أرجوك"
"كم تدفعين؟"
ضحكت أفنان وأخرجت جيب عباءتها الفارغ أمامه بوجه حزين...
فعاد هيثم يدفع الأرجوحة بينما يخبرها:"حسنًا سامحتك هذه المرة.."
وأخرج كيسًا من المقرمشات قائلًا:"أول عادة يجب أن أذكرك بها أنني أصدر أصواتًا أثناء الأكل وأمي تنفر منها..لكنك ملزمة بالاعتياد عليها "
حركت أفنان كتفيها ببساطة قائلة:"لا بأس"
وانخرطا في حديث طويل بينما يتشاركان تناوله وقد تأكد لهما أن راحة كل منهما بين يدي الآخر فتعاهدا ألا فراق بعد اليوم..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
صباح الجمعة..
طرق مازن غرفة فادي صائحًا:"هيا أيها الكسول لا تهرب من التحدي ولو لمرة واحدة"
ثم أشار لوالديه اللذين يجلسان متفرقين في صالة المنزل:"هيا إلى الأسفل أيها السادة"
أدارت علياء رأسها رافضة..ليتحرك مازن إليها يأخذ بيدها قائلًا:"إنها الجمعة يا أمي موعد التحدي الذي لن يتأثر أبدًا بالخلافات العائلية "
قبلت على مضض مرافقته ولحقهما خالد إلى شقة عمه حيث يجمع أفراد عائلته جميعهم كل جمعة طالما سمحت الظروف ليخضعهم بالإجبار لقياس أوزانهم..
وتنص شروط التحدي على الآتي:
من يحقق تقدمًا ويسجل الميزان نقص في وزنه يحصل على ثمانون جنيهًا أي مجموع عشرة جنيهات من الأفراد الثمانية الذين نالتهم الخسارة..
وإن ظل على هذا المستوى لشهر كامل يحصل على مئتين من الجنيهات من مازن -المشرف الوحيد على التحدي- تقديرًا لجهوده طوال الشهر..
"هيا من قرر أن يتطوع للبداية"
"ابدأ بهذا العجوز حتى يشهد الجميع خسارته"
اقترحت نوال بحنق لايزال يتملكها تجاه زوجها فتقدم سالم بكبرياء قائلًا:"ها أنا ذا مستعد يا مازن..."
ثم التفت إلى زوجته قبل أن يقف على الميزان فمازحه مازن:"هل تراجعت يا عمي؟"
"لا ولكن ليشهد الجميع إن نقص وزني عن الأسبوع الماضي على نوال أن تقبل بالصلح وتقطع خصامها معي"
وصاح هيثم:"يحيا العدل..سلم فوك يا أبي"
ناظرتهما نوال بغيظ قبل أن تضيف:"بشرط أن يكون هذا النقص يفوق ما حققته أنا يا عزيزي.. وربما إن زاد وزن ابنك أتراجع عن رأي وأعاقبكما ليوم آخر"
"يا أمي! لا تضعيني ضمن المعادلة رجاءً.."
فهتف به والده:"ألم تضع التحدي نصب عينيك طوال الأسبوع يا ولد؟"
"لا..أنا لم أكن أعرف عن هذا التحدي"
وعقب مازن:"نعم معك حق لم نجد الوقت منذ عودتك لعقد التحدي.."
ثم نظر لزوجة عمه:"رجاءً يا عمتي إن فاز العم سالم فأنهي الخصام..إذ لا يجوز أن يزيد عن ثلاث أيام كما تعلمنا من سنة نبينا عليه الصلاة والسلام"
"صل الله عليه وسلم..قد أقطع الخصام ولكنني سأجد طريقة أخرى لعقابهما إن لم يتفوقا علي"
ضحك مازن يرفع كفيه مستسلمًا:"حاولت أن أساعدكما ولكن الأمر يفوق قدرتي كما تريان"
ومال هيثم على أفنان هامسًا بينما مازن يتحقق من وزن والده:"لهذا كنت خائفة من مازن"
"أترى كيف يجبرنا جميعًا على اتباع حمية بهذا التحدي؟ ويضيف قانونًا آخر مفروضًا علي فقط فإن زاد وزني يصحبني لصالته ويخضعني لتمارين مكثفة حتى أعود إلى سابق أعهدي"
"هذا ظلم بيَن!"
قالها بصوت عال وصل مسامع الجميع وبخاصة مازن الذي أعلن بهدوء:"نقص وزن العم سالم مائة جرام عن الأسبوع الماضي..هيا تعالى إلي أيها المظلوم!"
"أنا أطالب بإغلاق صالة هذا الرجل..لم نخضع لهذا التعسف؟ لا أفهم!"
سرت موجة ضحك بين الجميع حين عقب زيد:"لم يجرب بعد التعسف الحقيقي ويعترض! أرى أنه يلزمك أسبوع في صالة مازن حتى تعود إلى رشدك"
"لحظة! لن يستطيع هذا الصديق الدخول في التحدي للأسف لأننا نسجل وزنه للمرة الأولى"
اعترضت أفنان:"أنا أعرف وزنه القديم ..يمكننا المقارنة بينهما "
حدجها زيد بنظرات متوعدة بينما برر مازن ضاحكًا:"شقيقتنا تملك مهارة حفظ الأوزان ألا تعرف؟"
وهتف هيثم :"أنقذنا يا بني! فوزي ضروري لنيل رضا أمي.."
"سأكون متساهلًا معك هذه المرة فقط..كم كان وزنه يا فنه"
وبعد المقارنة أضاف مازن:"نقص خمسة كيلوجرامات ..رائع!"
"حتى إن كان أكثرنا في مقدار النقص لا يجوز أن تعلنه كفائز...إنها ضربة حظ! لم ير قدر معاناتي يوميًا لأحرم نفسي من الحلوى التي أعدها بيدي هاتين"
أومأ مازن يوافقه الرأي قبل أن يضيف ساخرًا:"معك حق..يجب أن نشفق على أمثالك"
"سترى مني ما يعيدك لمكانك أيها المتحاذق"
توعده زيد فضحك قائلًا:"على الأقل أنقذنا أسرة من التشرد ..هيا يا عمتي "
ناظرت نوال ابنها المتحمس وزوجها الضاحك ثم قالت:"لا .. دعني للنهاية.."
"حسنًا لا بأس..من التالي؟"
ونظر لأفنان المسكينة التي تقدمت طوعًا ويدها على قلبها من الخوف فأمرها مازن بحزم مصطنع:"ذراعك إلى جانبك أيتها الآنسة..ارفعي رأسك ولا تنظري للأسفل..من المفترض أن آخذ مقاساتك أيضًا لكنني أتساهل معك"
وتمتم هيثم:"بل أنا من عليه تسجيل هذه القياسات"
ليلكزه زيد بمرفقه في معدته ويؤنبه هامسًا احترامًا للجلوس :"عد إلى وعيك أيها الخسيس"
لم يجد هيثم حجة تقيه غضب زيد فاستسلم لقدره واعتذر..وفي داخله كرر وعده لنفسه مرارًا أنه سيتزوج أفنان قريبًأ ويتخلص من هذا الاضطهاد..
"وزنك ثابت..ليست النتيجة المطلوبة ولكن لا بأس نجوت من الأسبوع الشاق الذي كان بانتظارك أيتها الصغيرة"
"صباح الخير"
صوت فادي يلقي تحية الصباح جعل الجميع يناظره بذهول قبل أن يتدارك مازن الموقف ويسحبه إلى الميزان:"أنرت التحدي سيد فادي..تعالى لنرى كم صار وزنك؟"
أدار خالد رأسه غير راض عن هذا الهجر الطويل بينه وبين ابنه لكنه لن يبادر بالخطوة الأولى مهما حدث..بينما نقلت علياء نظراتها بينهما بحنق وقد حارت كيف تصلح بينهما!!
أما زيد فقد ناظر شقيقته قائلًا:"أخبرينا كم كان وزن فادي حتى يستطيع المشاركة في التحدي.."
ارتبكت أفنان واحمر وجهها من مغزى سؤاله:"لا أعرف..أنا.."
"لا بأس أنا أعرف..فادي كان يزورني في الصالة الرياضية أحيانًا"
قاطعها مازن مشفقًأ عليها من غلظة زيد ثم أضاف:"وزنك ثابت يا فادي.. هذا أمر جيد..استمر على هذا المنوال"
أومأ فادي واتخذ مقعدًا إلى جوار زوجة عمه .. ثم توالى قياس الأوزان للبقية فحققت علياء ونوال زيادة واضحة..
ليشاكسهما خالد :"هذا لأنكما تناولتما طعامكما على انفراد في الأيام الماضية.. ويبدو أنكما ترسلان إلينا بقايا الطعام مع أفنان ولهذا بدونا نحن الرجال بهذا الحال المزري"
قلبت الاثنان شفتيهما على الفور وكادتا تصرخان به.. إلا أن مازن حال دون ذلك حين صاح بحزم:"أي حال مزر يا أبي؟ لقد تفشى الوضع تمامًا حين أوقفنا التحدي فترة قصيرة..سأعلن الآن أن الفائز هو عمي سالم الذي نقص وزنه مائة جرام فقط؟!!!...ما هذا؟ فضيحة كبرى"
تهرب الجميع بأعينهم بعد أن استشعروا صدق قوله وكيف لم يلتزم أي منهم باتباع الحمية ظنًا أن التحدي سيؤجل هذه الجمعة أيضًا.. لكن مازن فاجأهم بعقده في موعده هذا الأسبوع فتلقى هذه النتيجة الصادمة..
وقطع زيد هذا الصمت حين نهض يجر شقيقه يوقفه على الميزان بالإكراه:"هيا لنرى كم صار وزنك أيها المتجبر قبل أن تحكم على أحدنا"
"سترى أنني حققت أفضل.."
قاطعه زيد باستخفاف:"زدت مائة جرام هذه التي نقصها عمي فسخرت من إنجازه.. ها .. ما قولك؟"
تنحنح مازن بإحراج يبحث عما يبرر هذه الزيادة ..حين تعالى صوت يشبه تنبيه القفل الآلي للسيارة..
فصرخت نوال بفادي الذي يجاورها :"أفزعتني يا بني! ما هذه الأصوات كأننا في الشارع؟!!"
"إنها رسالة من أحد أصدقائي.."
"هل يوضع صوت مزعج كهذا كتنبيه للرسائل؟!!!"
فنهض فادي دون أن يجيبها يعلن للجميع:"سأصعد لغرفتي.."
ولم ينتظر الإذن من أحد لينفذ قوله..فقالت نوال تشعر بالذنب:"هل عاد لعزلته بسببي؟"
"لا عليك..قام بخطوة صغيرة كبداية لكنها ستعيده رويدًا رويدًا إلينا"
لكن أحدًا لم يلتفت لتبريره ونظراتهم تخبره بوضوح أنهم لم ينسوا بعد أمر زيادة وزنه ..
وقال زيد:"لسنا في أمر شقيقك الآن..ولأنك أحد الخاسرين اليوم فأنا أطالب عمي الفائز بوضع العقاب المناسب لك اليوم"
أومأ سالم موافقًا بينما دعمت أفنان شقيقها بقوة:"نعم أعطه عقابًا قاسيًا يا زيد"
"حسنًا جائزة الفائز اليوم ستكون من مالك الخاص..ولن يخسر أحدنا قرشًا واحدًا..رغم أنه حكم مخفف لكن لا بأس أشفقت عليك هذه المرة"
وافق مازن بكبرياء مصطنع:"أوافق.. لا مشكلة..لكنني لكم بالمرصاد"
"ونحن أيضًا لك بالمرصاد"قالها زيد بتحذير..
قبل أن يقدم مازن لعمه ورقة نقدية فئة المائة ويقول بغيظ:"الباقي..عشرون جنيهًا إذا سمحت"
"ناظره سالم بامتعاض:"ما هذا البخل يا ولد؟ لا يوجد باقي ! هيا اغرب عن وجهي!"
ونهض من مقعده بغية إجبار زوجته على قطع خصامها فقابلته نظراتها الزاجرة ليعود لمازن يعطيه ما يطلبه ثم جلس إلى جوارها حيث المقعد الذي شغله فادي قبل دقائق يلوح بورقة المائة جنيه أمام عينيها قائلًا:"كيف حالك أيتها النجمة الحانقة؟"
تأففت نوال بغيظ وأجابته:"بخير..ينصح الأطباء بتقنين الكلام لمن هم في عمرك"
"حقًا! لا بأس نستخدم لغة الإشارة إن تطلب الأمر"
وقاطع حوارهما جرس الباب الخارجي للمنزل فذهب مازن يستطلع هوية الزائر..
ولم يتأخر في العودة وخاله يلحق به.. وحين رأى اجتماعهم أعلنها للجميع:"عبد الرحيم تنازل عن المحضر..لم يعد هناك قضية"
#ڤوت
#كومنت
اكتبولي آرائكوا وتوقعاتكوا للأحداث القادمة ❤️❤️
YOU ARE READING
جيران المدينة
Romanceرواية اجتماعي..رومانسي..كوميدي.. تناقش عدة قضايا اجتماعية في إطار عائلي درامي انتظروا فصل جديد يوميًا بإذن الله ❤️