الفصل الثاني

97 2 0
                                    


الفصل الثاني

انطلقت نوران جهة عملها السادسة صباحًا ..وهاهي تقارب الثامنة بينما تجاهد ﻹخراج قدم السائق من مقدمة السيارة المتهشمة وقد كان مفترضًا أن تشرح الآن الدرس لطلابها..
"هل أنت طبيبة؟"

سأل السائق بضعف .. فنظرت له نوران المتوترة وقالت:
"رجاءً ساعدني .. أحتاج لإخراجك من السيارة بسرعة فقد تنفجر  في أي لحظة"

اتسعت عينا الرجل بذعر وسأل:
ماذا تعنين بالانفجار؟" "

تسارعت ضربات قلبه وضخ الأدرينالين في جسده وهو يصرخ بجنون وقد بدأ يشتَم رائحة البنزين المتسرب في الأجواء:
"هل تلك رائحة بنزين؟ .. أتعلمين أنني أحمل قدرًا منه داخل سيارتي ؟"

وصلت تلك الجملة لمسمع مازن الواقف خارج الشاحنة فصعد من جهته وحاول مساعدة نوران في إنهاء مهمتها والتي تهاوت بعدما صرح السائق تصريحه المنذر بالخطر...
"يا آنسة.. من فضلك تمالكي نفسك.. يجب أن نسرع ونخرج من هذه الشاحنة ومؤكد لن نترك الرجل خلفنا"

وبالفعل تعاونا وجاهدا قدر استطاعتهما لإنقاذ السائق من مأزقه بسرعة بينما يضرب الأخير رأسه في مسند المقعد وهو يصرخ بهما أن يقطعاها فهذا أسلم حل:
"لا لازلت أريد الحياة.. لن أسمح لهما أن يفلتا مني "

ما إن خرجت القدم من مكمنها حتى حمل مازن السائق دون اهتمام بسلامته وتحرك مسرعًا مبتعدًا عن الشاحنة ظانًا أن نوران خلفه .. وصل لسيارته واضعًا الرجل على المقعد الخلفي وأمر فادي المصدوم أن يدير السيارة ..ثم التفت خلفه متوقعًا وجود نوران إلا أنها كانت لا تزال في الشاحنة .. وما إن عاد إليها  حتى التفتت  له وسألت كأنها تسرد حقيقة مؤكدة:
"هل سأموت اﻵن؟ "

أجابها مازن ليطمئنها:
"يا إلهي! أي موت ؟ كنت شجاعة حتى اللحظة هيا انزلي من الشاحنة.. تعالي من هذه الجهة أنا سأساعدك .. تعالي"

تقدمت نوران ببطئ نحو الباب الذي يقف عنده مازن.. وفي داخلها رددت لنفسها أنها لن تنجو وبدأت الهذيان فقالت لمازن وقد بدأت دموعها تنزل بهدوء:
"أخبر السيدة جنات أنني فعلت ما بوسعي للحضور وأن ما حدث لم يكن ذنبي "

انتاب مازن الشك أن تكون نوران مصابة بالانفصام .. منذ دقائق كانت تخرج قدم رجل مليئة بالدماء من سيارته المتهشمة.. أما اﻵن أصيبت بالرعب ﻷنها تشم رائحة بنزين فتخشى أن تنفجر بها الشاحنة و ترفض النزول منها..
لذا لم يكن أمامه سبيل آخر ..فقد تقدم منها وسحبها من يدها ثم حملها مخرجًا إياها من الشاحنة وهي لا تزال ذاهلة وربما لا تعي ما يحدث حولها.. وركض بها مسرعًا جهة سيارته التي انطلق بها  دون أن يبصر شيئًا حوله..

بدأت نوران تفيق تدريجيًا وهي تنظر للشاحنة  التي تجاوزها مازن فصرخت فجأة:
"يا إلهي! هالة!..تركت شقيقتي في السيارة"
ثم بدأت تضرب يد مازن الممسكة بالمقود بهستيرية وهي تصيح به أن يعيدها لشقيقتها .. ودوى الانفجار!!

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
  
حطت الطائرة التي تحمل هيثم في المطار .. وبعد إجراءات مطولة ومملة وقف  ينتظر مازن – ابن عمه – والذي تعهد بإيصاله إلى منزل العائلة...
لكن ما لم يعرفه هيثم أن مازن كان قد قصد المدينة المجاورة مع فادي بالأمس حتى ينقل أوراقه للمدرسة التي يملكها  في مدينتهم حيث تعمل أفنان .. ولأنهما تجولا هناك لبعض الوقت فلم يتمكنا من العودة في نفس اليوم و قضيا ليلتهما في تلك المدينة..

ومع الحادثة التي لا يعلم عنها أحد بعد تأخر مازن ونسى تمامًا موعده مع هيثم الذي انزعج مما ظنه إهمالًا من ابن عمه..  فحدث نفسه بضيق:
"لا يجيب على هاتفه ولم يأت .. هل سأنتظر مطولًا بعد ؟"

ظل واقفًا لدقائق أخرى يتابع الحركة في المطار.. ما بين شخص تودعه عائلته واﻵخر يستقبله أقاربه وأحبابه.. فاستاء  كثيرًا وشعر بالوحدة وسط هذه الجموع.. وأخذ يتفحص قائمة اتصالاته عسى أن يعثر على رقم من أرقام العائلة لا يزال يحتفظ به.. وضغط  مباشرة زر الاتصال قائلًا بغضب:
"هل هذا هو استقبالكم للمغترب الذي لم تروه من سنين سيد زيد؟.. وأين شقيقك ذاك الأحمق مازن ؟ألم يخبركم عن وصول طائرتي اليوم وأنه سيأتي ﻹيصالي للمنزل؟ لولا أن رقمك لا يزال كما هو ولم يتغير طيلة تلك السنوات لكنت اﻵن عاجزًا تمامًا عن التواصل مع أحدكم"

وكانت المفاجأة حين أجابته أفنان والتي لم تتوقع هذا الاتصال مطلقًا بعدما وصلت المنزل تاركة زيد يعاني مع زبائن مطعمه بمفرده:
"مرحبًا  مرحبًا بالطير المهاجر! لكن شعورك بالضيق من إخوتي لا يعطيك الحق في أن تصرخ بوجهي.. لو أنني كنت أعلم لجئت لاستقبالك حتمًا"

صُدم هيثم أول الأمر ولم يجد إجابة مناسبة ﻷنه لم يتوقع مطلقًا أن يكون أول حديثه معها بعد سنين بهذا الشكل .. فأجابها بعد برهة:
"اعذريني يا فراشتي ولكنني لم أكن أعلم أنك من ستجيبين"

أجابت أفنان وهي تحاول أن تجعل صوتها طبيعيًا دون أن تظهر الاشتياق أو العتب:"طبعًا سأجيب .. لقد صار هذا الرقم خاصًا بي أنا"

اعتذر هيثم منها :
"حسنًا .. لا بأس .. أعتذر مرة أخرى ولكن هلا جعلت أحد إخوتك يتفضل عليَ ويأتي لإيصالي أم أنهم صاروا عديمي الشفقة إلى هذا الحد؟"

دافعت أفنان عن إخوتها قائلة:"ليسوا عديمي الشفقة لكن في الواقع .. لا أحد منهم إلى جواري .. مازن وفادي لم يعودا بعد من السفر .. وزيد ..."

قاطعها هيثم بسخط:
"أي سفر ؟ هذا اﻷحمق حدثني قبل ركوب الطائرة مباشرة وقال أنه سيتكفل بإيصالي..حسنًا لا بأس لا تهتمي يا فراشة .. سأتصرف و آتي بنفسي وحينها لي كلام آخر مع أشقائك أولئك"

ثم أضاف منبهًا: "لا تخبري أحدًا عن قدومي لأنها مفاجأة .. أراك على خير"

ودعته أفنان:"حسنًا .. كما تريد.. حمدًا لله على السلامة.. نحن بانتظارك لا تتأخر"

ابتسم هيثم على الجهة الأخرى لأنها لا تريد تأخره وأجابها:"مؤكد يا فراشتي"

ارتسمت السعادة على وجه أفنان فبالإضافة  لحصولها على العمل بشكل رسمي  اليوم فقد عاد هيثم صديق طفولتها وأكثر فرد مقرب إليها في العائلة  .. ضمت الهاتف إليها وهي تسترجع ذكريات ما قبل سفره لإتمام دراسته خارج البلاد وانقطاع الاتصال بينهما تمامًا لمدة سنتين كاملتين..
كان الأمر مجحفًا ومفاجئًا لها أن تجبر على مفارقة صديق طفولتها  على حين غرة ودون مقدمات..
وبدا لها وقتها أن هيثم قد امتنع عن إخبارها بسفره دون أن يترك وسيلة للتواصل بينهما وحتى أنها فيما بعد رفضت أن تحدثه في اتصالاته للعائلة أو أن تتراسل معه عبر اﻹنترنت...
لأنه تركها دون وداع حقيقي.. صحيح أنهما قضيا اليوم السابق لسفره معًا حين اجتمعت العائلة بعد تخرجها من الجامعة .. بدا مهتمًا بها بشكل زائد ويرسل لها نظرات لم تألفها منه لكنها فضلت التجاهل  .. ولطالما أعلنتها صراحة وقتها أنها ليست مستعدة للارتباط أو  مقابلة أي رجل يتقدم لطلب خطبتها..

ربما اختار هو الابتعاد ريثما تكون مستعدة للارتباط لكنها لن تسامحه .. لكن
احمر وجهها فجأة حين تذكرت أنه ناداها بالفراشة طوال المكالمة بل وقال أيضا فراشتي..
"يا إلهي! توقفي عن السخافة يا أفنان.. هل ستسامحينه فقط لأنه ناداك بالاسم الذي كان يدللك به قبل سفره؟.. أوووه..لكنه أضاف له ياء الملكية يا أفنان"
وسرعان ما تحركت تغادر غرفتها مستعيدة اتزانها قبل أن تطلق لأفكارها العنان فتسامحه دون عقاب.. لقد تحدثت معه بصورة جيدة رغم كل شئ لكن هذا لا يعني أنها نست ما كان
رددتها لنفسها مرارًا : "لن أنسى.. لن تنسي يا أفنان"

ولم تنتبه في خضم حديثها لنفسها لوجود والدتها في صالة المنزل والتي قالت:
"ما بك يا فنه ؟ لا وقت لشرودك هيا اذهبي لإعداد الغداء ريثما أجالس زوجة عمك قليلًا"

أومأت أفنان برأسها وفي طريقها للمطبخ سألت:
"هل قال زيد أنه سيعود لتناول الغداء معنا ؟"

أجابتها علياء وهي تفتح باب الشقة مستعدة للمغادرة:"لم يقل شيئًا ..ألم تكوني في مطعمه منذ دقائق؟"

أغلقت علياء الباب تاركة ابنتها لأفكارها المتضاربة بشأن هيثم وفي داخلها تمنت وجود زيد لأنه وحده من تحب البوح له..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤                                          
لم يهتم مازن مطلقًا بصراخ نوران فهو على يقين أن سيارتها تبعد بالقدر الكافي عن الشاحنة ..وما يهمه الآن أن يصل بهم لبر الأمان رغم استيائه مما سيصيب السيارات المارة التي بدأت تتوافد قبل الانفجار..
التفت لفادي الجالس على أرضية السيارة أمام المقعد الخلفي الذي يحتله المصاب وقال:
"هلا اتصلت بالإسعاف وطلبت منهم أن يسرعوا بالقدوم..الله وحده العالم ما أصاب السيارات المارة ..و لا نعلم كم سيكون عدد المصابين؟"

علق فادي بسخط وهو يرفع الهاتف لأذنه مشيرًا لجلسته :
"أتعلم؟.. كل ما أصابنا لأنك حكَمت رأيك وأردت نقلي من مدرستي وتفريقي عن رفاقي..تخطأ أنت وتقع التبعات على رأسي!!"

لم يكن أمام مازن فرصة ليرد عليه بما يستحقه فقد أجاب فادي محدثه من الطرف الآخروالذي أكد له وصول سيارة الإسعاف والشرطة خلال دقائق ..
فالتف مازن بسيارته ودون اهتمام أنه صار يسير في الاتجاه العكسي للطريق عائدًا للشاحنة المحترقة بعد خمود الانفجار..
بعد دقائق بدأت الإسعاف عملها في تفحص ركاب السيارات المتضررة وتحركت الشرطة لوقف تدفق السيارات على الجانبين..
"لم أكن أستطيع رؤيتك من هذا البعد .. خفت كثيرًا حين وقع الانفجار"
احتضنت نوران شقيقتها المرتعبة الباكية وشاركتها البكاء ...
وبعدما شرح مازن لرجال الشرطة كيف وقعت الحادثة..اقترب من سيارته حيث تجلسان ومعه عبوتان من العصير حصل عليهما من قائد أحد السيارات المتوقفة والذي أشفق على الفتاتين من الموقف الذي تعرضتا له..و قال مستجلبًا انتباههما:
" هلا هدأتما رجاءً.. لا تخافا! السيد لن يموت والشرطة ستتصرف في الأمر هيا.. اشربا هذا رجاءً وتنفسا بعمق .. لا داعي للبكاء"

رفعت نوران رأسها محاولة  كبت دموعها وكانت على وشك إجابته حين اقتربت صحفية من السيارة مع طاقم من المصورين..حيث كانت في مهمة لتصوير إحدى القرى النائية ونقل أخبارها للمسئولين .. وصادفت الحادثة موعد عودتها  فقادها فضولها لتعرف سبب توقف الطريق ..وبخاصة حين عرفت هوية المصاب زاد لهيب فضولها وارتأت ان تكون السباقة بنشر الخبر المثير..
وجهت سؤالها لنوران بلهفة:
"علمنا أنك من أنقذت السيد عبد الرحيم  من السيارة المنفجرة.. هلا شرحت لنا الموقف وما حدث رجاءً؟"

انتبهت  هالة لما يحدث فتوقفت عن البكاء وتحمست لظهورها على التلفاز كما  الممثلات اللاتي يحصدن آلاف المعجبين إثر ظهورهن في المسلسلات التي تتابعها .. وأخيرًا ستصبح مشهورة!!
وأجاب مازن الصحفية المتطفلة بغلظة:
"لحظة واحدة يا سيدة ألا ترين أنهما متأثرتان من الحادثة ولن يتمكنا الآن من إرضاء فضولك"

صمتت لبرهة تبتلع ريقها بإحراج ثم عادت مهنتها تلح عليها فاستعادت حماسها وسألته:
"لكن قد تستطيع سيادتك إجابتي ..ألم تشهد الحادث ....؟"

فقاطعها مازن  ببرود:"أنا أعرف أمرًا واحدًا يا سيدة.. أننا بحاجة للعودة لأعمالنا بعد كل هذا التأخير وللأسف لن نتمكن من إرضاء فضولك حتى تحصلي على السبق الصحفي الذي تسعين إليه"

ثم وجه حديثه للفتاتين الذاهلتين:
"تحدثت مع الشرطي منذ دقائق وأخبرته أننا سندلي بأقوالنا عن الحادثة فيما بعد.. كما أنني سأتكفل بإرسال سيارتكما إلى المكان الذي تريدانه.. لكن الآن علي العودة سريعًا وأظن أنه من الأفضل أن تأتيا معي"

لم تكن نوران على استعداد للمجادلة ..مؤكد لن تستطيع القيادة وهي بهذه الحالة وشقيقتها لا تتقن شيئًا إلا متابعة المسلسلات .. فأومأت بصمت ووافقت مازن اقتراحه لكن قبل أن تتحرك السيارة أشارت للصحفية بالاقتراب وقالت بوهن:
"حقًا لا أهتم مطلقًا بإجابة أسئلتك.. لكن بما أن هذا الحديث سيعرض على التلفاز دعيني أقول إذًا.. سيدة جنات إن كنت تسمعينني الآن فأنا أعتذر منك جدًا لما حدث وقد كان خارجًا عن إرادتي وهذا ما ستدركينه حين تصل إليك أخبار الحادثة وأعتذر كذلك من السيد الموجه"

كان مازن على وشك أن يتحرك بالسيارة لكن هالة قالت باندفاع وهي تلوح بيدها: مرحبًا جميعًا  هذا أول ظهور لي على التلفاز...""

أوقفتها نوران عن المتابعة وأشارت لمازن أن ينطلق فلو أنها تركت الفرصة لشقيقتها لأفضت للمتابعين المفترضين بحسابها على كل مواقع التواصل الاجتماعي ولم تكن لتسكت .. إذ تظن أنه يكفي الظهور على التلفاز لتحظى بالمتابعة والشهرة كالممثلات!!

وأخيرًا غادرت سيارة مازن موقع الحدث ..
وفيما بعد مع ارتفاع صوت المؤذن بآذان الظهر  كانت سيارة الإسعاف قد رحلت بمصابيها بعدما نجحت الصحفية في تصوير قدر كاف لسبقها الصحفي .. وعادت حركة المرور مرة أخرى رغم بطئها..مما سمح للسيارة التي تقل والدي نوران بأن تعبر حيث رأى الوالدان الشاحنة المحترقة وسيارة نوران التي كانت قد رُكنت مجاورة للشاحنة... 

"يا إلهي !! أتمنى ألا يكون أحدهم قد احترق مع تلك الشاحنة"
قالتها نعمة بأسى وقد انتابتها قشعريرة حين تخيلت نفسها في تلك الشاحنة المحترقة.. لكنها لم تلقى استجابة من زوجها الذي قال بفزع:
"أليست هذه سيارة نوران؟"

انتفضت نعمة من جلستها المسترخية ونظرت بهلع قائلة:
"أين؟! كيف؟! ألم تصل نوران بعد للمدرسة ؟"
حاوط طاهر زوجته بذراعه في محاولة لتهدئتها رغم القلق المستبد به واصطحبها مترجلين من السيارة ..
لكنها  دفعت ذراعه عنها وهرعت لسيارة ابنتها ..وراحت تضرب بكفها على زجاج السيارة بعنف ودون تفكير بدأت تصرخ بطاهر أن يعيد لها ابنتيها!

انتبه سائق السيارة لما فعل الزوجان واستغلالهما إيقاف الشرطي للسيارة فصاح بهما: " هل ستنزلان هنا ؟!.. كيف تنزلان في منتصف الطريق بهذه الطريقة؟"

أشار له طاهر أن ينتظر لبعض الوقت وبعد حديث مع ضابط الشرطة فهم  ما حدث وقبل أن يتخذ أي قرار رأى رجلًا  يترجل من ذات السيارة وفاجئ الجميع بأن تقدم من سيارة نوران واحتل مكان السائق فيها!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤                        
علت الزغاريد فاندفعت أفنان خارجة من الشقة لاستطلاع ما يحدث في شقة عمها في الطابق السفلي بعد أن تأكدت من إطفاء الموقد على الغداء.. فوجدت  الجيران قد اجتمعوا للترحيب بالغائب الذي عاد أخيرًا ليستقر في وطنه من جديد.. ولأن الوقت غير مناسب لمثل هذه التجمعات فقد أعلن الحاج سالم والد هيثم أنه سيقيم وليمة للترحيب بابنه فغادر الجيران فرحين بهذا الإعلان..
قال هيثم وقد أطلق تنهيدة ارتياح:
"لقد أزلت عبئًا كبيرًا عن عاتقي يا أبي.. شكرًا لك "

عانقه والده قائلا:
"ما تلك الغيبة الطويلة؟! ماذا فعلت طوال تلك السنوات يا بني؟ "
بادل هيثم والده الاحتضان وتعلق ناظريه بأفنان التي تتهادى برقتها المعهودة على الدرج والشوق يحتل عينيها نابضًا من كل جوارحها فتتسمر مكانها في محاولة  لإخفائه لكن هيهات فهو مشتعل كشوقه إليها..

و قطعت والدته هذا الاتصال البصري حين سحبته من أحضان والده  وأدخلته الشقة متشبثة به تقبله بين الحين والآخر حتى أجلسته على الأريكة وحشرت نفسها بينه وبين والده..
وقالت بعد أن أراحت رأسها على كتف ابنها محتضنة ذراعه:
"دعك من هذا الحديث الآن.. لابد أن يرتاح ابني أولًا.. لماذا لم تخبرنا يا هيثم عن قدومك؟.. كنا لنستقبلك في المطار ونحضرلك غداءً متينًا"

ضحك هيثم من قولها وقبل رأسها قائلًا:"خططت أن تكون مفاجأة لكم يا أمي .. وكان مازن سيأتي لاصطحابي لكنني اضطررت للقدوم بنفسي بعد أن تأخر"

فربتت والدته على كتفه بمودة وقالت:"حسنًا.. هيا استئذن عمك ووالدك وانهض لترتاح وأنا سأجهز لك أفضل وجبة عشاء قد تحظى بها"

وعلقت علياء: "وأنا سأساعدك يا نوال.. هيا بنا.. هل ستساعديننا يا أفنان؟"

أجابتها أفنان بهدوء:" طبعًا يا أمي سأساعدكما.. وبإمكاننا أيضًا أن نطلب بعض الأطعمة من مطعم زيد"

تساءل هيثم مندهشًا:" هل افتتح زيد مطعمًا؟ يبدو أنني غبت كثيرًا"

تمتمت أفنان بشرود:
"نعم غبت كثيرًا وتغير الكثير في غيابك"

واستفاقت على سؤال هيثم الماكر:"ماذا قلت يا فراشة؟"
                                 
فأجابته بمرح زائف لتشغله عن زلة لسانها:
"كنت أقول أن عليك تأجيل النوم بعض الوقت وتتناول غداءك معنا قبل أن يبرد"

وافق الجميع أفنان على قولها واستدركت والدتها : " لقد جهزت أفنان الغداء.. ونسيت أن أخبركم في خضم لهفتنا لاستقبال هيثم"

ودون تفكير نهض هيثم معهم قائلًا بحنين وهو ينظر لأفنان:"طبعًا سأتناول الغداء معكم فقد هدني الشوق للقائكم والجلوس معكم ولن أضيع هذه الفرصة"

ضحك خالد بخفة من نظرة هيثم لابنته التي لم يستطع إخفائها..بينما نظر سالم لأخيه الباسم متمنيا أن يعجل هيثم بالاستقرار..
وهكذا صعدت العائلة لتناول الغداء الذي ينتظر منذ دقائق ..
حاولت أفنان أن تبدو طبيعية قدر استطاعتها فبعد أن جهزت الغداء على المائدة شغلت التلفاز وقالت بمرح:
"يجب أن نشغل شيئًا مسليًا لابن عمي وهو يتناول غداءه حتى يحب جلستنا و لا يعود للسفر من جديد"

أجابتها نوال بعفوية وهي تربت على كتف ابنها المجاور لها: "أي سفر ؟! إياك وذكر هذه الكلمة مجددًا يا أفنان.. سأتشبث بابني ولن أدعه يرحل عني من جديد"

ضحك الجميع وانحنى هيثم مقبلًا كتف والدته بحب.. وانقطعت تلك الضحكات حين ارتفع صوت المذيعة من التلفاز تنقل الخبر الحصري الذي وصلها عن حادثة وقعت في الطريق الموصل للمدينة وذكرت مؤشرات مبدئية عن عدد السيارات المتضررة وإصابات من كانوا بداخلها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤                                                                          
كانت هالة تلوم شقيقتها بصوت منخفض على قطع حديثها مع الصحفية.. لكنها ما لبثت أن تناست الأمر وانصرفت لمتابعة الطريق من نافذة السيارة بصمت.. بينما تحدثت نوران:
"شكرًا لك سيد مازن على إيصالنا.. فقط أدخلنا المدينة ونحن سنتصرف "

أجابها مازن بلطف:
"لا داعي للشكر يا آنسة .. لكنني سأحرص على إيصالكما إلى وجهتكما أيًا كانت.. رجاءً أخبريني عنها.. آه .. نسيت إخبارك أنني طلبت من الشرطي  أن يُبقي على سيارتك مكانها وأرسلت سائق العائلة كي يوصلها لك حيث ترغبين.. سيدخلها المدينة أوأيًا كان ما تريدين سيفعله"

ضربت نوران بكفها على جبتها متذكرة:"نسيت في خضم اطمئناني على هالة أن أُغلق السيارة حتى أن مفاتيحي داخلها لكن اتضح أن خطأي سيفيد سائقك.. إذًا دعه يلتقي بنا في الطريق"

علق مازن بلطف:" لا أظن أنك تستطيعين القيادة بعد.. أخبريني فقط المكان الذي تذهبان إليه وأنا سأجعله يتركها هناك"

وقبل أن تعترض نوران وردها اتصالًا من والدتها ..
"لحظة! إنها أمي! من الجيد أنني لم أنس هاتفي في السيارة أيضًا"

: ثم أجابت الاتصال
"أمي.. كيف الأمور لديكم؟ "

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أنرت المكتب بوجودك يا سيد خليفة ...ما هذه المفاجأة السارة؟"

لم يعر خليفة ترحيب علي أي اهتمام وجلس بسطوة يفرضها وجوده على من حوله ثم قال:"ماذا يظن صديقك هذا؟.. هل يظن أنني سأترك صداقتي البائسة معه تفسد عليَ عملي... "

نهض علي من خلف مكتبه ليجلس مقابلًا له ثم قال:" لنطلب فنجانيَ قهوة من مقهى عصام ثم تخبرني المشكلة بالتفصيل ..أنت خير من يعلم أن عبد الرحيم لا يفلح في الالتزام بمواعيده"

لكن تعكر مزاج خليفة كان جليًا  فلم يقبل بمحاولة علي لتهدأته:"لا يفلح إلا في المطالبة بأتعابه أليس كذلك؟... اسمعني يا سيد علي أوصل له رسالتي صريحة .. لقد قدمت محضرًا بالفعل والجلسة بعد أسبوع ..إن لم تصلني الطلبية ستحكم المحكمة بالحجز على المصنع حتى سداد ديونه ولا مجال للتفاوض معي"

ونهض بعدما ألقى تحذيره .. ولم يلبث أن التفت لعلي قبل مغادرة مكتبه قائلًا: "أنصحك بألا تتولى الدفاع عنه لأنك ستفقد سمعتك كمحام ناجح وشريف.. وإن قررت ألا تعمل بنصيحتي وأتيت للتفاوض معي رغم كل شئ فكن على علم أنه لن يرضيني إلا سلب صديقك هذا المصنع الذي لم يتعلم بعد كيف يديره"

وقد كان علي يدرك أن خليفة محق فيما قال.. تردد عبد الرحيم على مكتبه يؤثر على سمعته وعليه أن يتخذ خطوة جدية بشأن هذا الأمر..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
                                                                     
في المشفى
تم فحص السائق والذي تبين أنه السيد عبد الرحيم المعروف حاليًا للجميع بأنه رجل أعمال ناجح يبيع بضاعة مصنعه لأشهر شركات المدينة..
اكتشفت الشرطة كذلك أن الحادث مدبر من خلال فحص أجزاء السيارة المتبقية .. كما أثار حمل رجل أعمال بمكانته كمية من البنزين في سيارته تعجب الجميع حيث يدل حجم الانفجار والأضرار التي أحدثها  أنها لم تكن بالهينة..
ركضت وجدان مسرعة بين أروقة المشفى حتى دلتها الممرضة على غرفة زوجها .. لكن الطبيب منعها من الدخول و أخبرها  أنه لا بد من إجراء عملية مستعجلة لقدمه حتى لا يضطر لبترها إن تضاعفت الإصابة..

كانت وجدان قد حضرت للمشفى على عجالة بعدما اتصلوا بها تاركة ليلى وحيدة مع بضع جارات ..فبعد أن علم الجميع بوفاة الحاج سعيد وبدأ جارهم وحيد الإعداد للدفن والعزاء.. فُجعت المسكينة حين تلقت اتصال المشفى ولم تجد بدًا أن تتصل بوحيد فهي لا تعرف غيره وتطلب منه أن يحضر لها مبلغًا ماليًا كانت تحتفظ به في شقة ليلى  ليبدأ الأطباء الإعداد لعملية زوجها..

وفي أثناء انتظارها قدوم وحيد وردها اتصال من محامي زوجها الذي قال :
"السيد عبد الرحيم لا يجيب اتصالاتي .. لذا اتصلت بك يا سيدتي.. هناك أخبار يجب أن أنقلها له فورًا"

فكرت وجدان في داخلها أن هذا ليس وقته أبدًا ولم تجد لديها القوة لتلقي تلك الأخبار عوضًا عن زوجها فقالت بجمود:" سيد علي لا أدري إن كانت الأخبار قد وصلتك أم لا .. لكن أؤكد لك أنها أهم من الأخبار التي تحملها..عبد الرحيم الآن يستعد لدخول عملية جراحية بعد أن تعرض لحادث سير"

تفاجئ علي من الخبر ومن لهجة وجدان معه لكنه قال بدبلوماسية:" آسف لما حدث لزوجك يا سيدتي.. سأحاول السيطرة على الأمور ريثما يستعيد السيد عبد الرحيم عافيته"

وأنهي  الاتصال متسائلًا إن كان بمقدرته حقًا السيطرة على الأمور!! فعبد الرحيم لم يستطع توفير تلك الطلبية للشركة ..والمشكلة أنه قبض الثمن سابقًا وعليه إعادة الأموال مع تعويض كاف أو الالتزام بكلمته وإيصال الطلبية كاملة .. فرك جبينه بتعب والحيرة تسيطر عليه إذ كيف يمكن لمبلغ ضخم كهذا أن ينتهي دون أثر في هذه المدة القصيرة ؟

قراءة ممتعة❤️


#فوت
#كومنت
#جيران_المدينة

جيران المدينةWhere stories live. Discover now