الفصل الرابع والعشرون
بين أحضان الطبيعة الخلابة فوق قمة هضبة على ارتفاع ألف وستمائة متر فوق سطح البحركانت رحلتهم يقودها المرشد السياحي الخبير بخيايا المدينة وسر روحانيتها فهي ملتقى الأديان السماوية الثلاثة وفيها حط نبي الله موسى رحاله على جبل الطورليكلم ربه..كما تحوطها سلاسل جبال تجعل مناخها مميزًا عن مدن سيناء كافة..
"أقدر قيمة هذه المعلومات ولكنها الإجازة!"
تذمر كمال حين طال حديث المرشد عن جمال المدينة وتاريخها..
وأردف عمرو بسخرية:"لكن لزميلاتك رأي آخر!"
مشيرًا لمنة التي تفاعلت بشكل حماسي مع المرشد وأخذت تسجل ما يجذبها مما يلقيه على أسماعهم فأثارت غيرة دينا وبسنت لتفعلا المثل كأنهن استعدن أجواء الدراسة والمنافسة حامية الوطيس التي تقام بينهن كل عام..
"لهذا لن يجرب أمثالنا شعور الحصول على المركز الأول أبدًا"
عقب وائل بحسرة ثم التفت الثلاثة لفادي الصامت بشكل غريب.. وابتدره كمال:
"إنها رحلة على نفقة المدرسة لذا لابد أن تُعنى بالثقافة.."
ثم أشار لزميليه قائلًا:
"لقد جربنا هذا العام الماضي..ما إن نعود إلى منازلنا حتى نعد حقائب أكبر وننطلق لأفضل منتجعات الغردقة لنبدأ إجازتنا على الطريقة الصحيحة"
واستطرد عمرو:"وستكون فرصة أيضًا لتعرفنا إلى سامر..دعه يأتي معك"
قطع فادي استرسالهم في هذه الأحلام المستحيلة سائلًا:"هل تذهبون دون علم عائلاتكم؟"
أجابه وائل بصوت يخالطه شئ من الخجل:"والدا كمال منشغلان عنه تمامًا.. وعمرو مسئول من شقيقته وقد انشغلت بزواجها..أما أنا فبعد الانفصال صرت أعيش مع أمي وأعرف جيدًا كيف أتهرب من مراقبتها واستجواباتها"
وحان دور فادي ليسرد ظروفه المتعسرة بالتفصيل:"وإن نجوت من استجوابات أمي فكيف سأتخلص من رقابة أشقائي وحتى أبي رغم..."
عدل عن ذكر الشقاق المستجد بينهما متابعًا:"أبي يعرف كل شئ ولذا مبيتي خارج المنزل يعرضني للمساءلة القانونية..ولا أضمن الموافقة في حال طلبت الإذن"
"اممم..حسنًا لندع هذا الأمر لحين عودتنا ونرى من منكم يستطيع مرافقتي والآن انظروا"
واستعرض أمامهم الصورة التي التقطها لمازن ونوران يوم الحفل المدرسي قائلًا:
"صورة الأكتاف المتماسة احترقت وعلينا التقاط بديل للمجلة"
أيده عمرو و وائل وأخذا يفكران كيف يمكنهم التقاط الصورة دون ملاحظة أحد..
أما فادي فقد أعجزته الصدمة عن النطق لثوان قبل أن يهتف به:
"أكتاف متماسة؟!! هل تدرك ما سببته هذه الصورة لتشير إليها بهذا الوصف المقتصر؟!! لقد ارتكبت خطأً لا يغتفر يا كمال بفعلتك..وأنا لن أسمح لك بالتقاط أخرى قبل أن تطلب إذن أصحابها"
قطب كمال وجابهه بعدائية:"لست متهمًا لتحدثني بهذه الطريقة كما أنني التقطت صورة في مكان يعج بالناس ولم أتطفل على أحد أو أخترق خصوصياته"
"فعلت يا كمال حين تستغل حادثًا عرضيًا لتحوله إلى قصة رومانسية تتصدر صفحة المدرسة بخط عريض فقد أخطأت"
"لم أفعل..كنت أنوي وضعها في مجلة المدرسة وكما تعرف فنحن لا نطبعها قبل موافقة الأستاذة المشرفة على الأنشطة الصيفية..أي أنها كانت معرضة للاستبعاد في أي لحظة.."
"إن لم تكن أنت فمن فعلها؟ من تجرأ وانتحل شخصية الأستاذ ماجد لينشرها؟"
حرك كمال كتفيه أنه لا يعرف ولم يفصح عن شكوكه في الرجل الغريب الذي استعار هاتفه فور التقاط الصورة..
بينما تساءل وائل:"جميعنا استنتجنا وجود ما يربط الأستاذة نوران بشقيقك منذ حادثة بسنت..فلم تسأل كأن الصورة تسببت بفضيحة أو نشر خبر كاذب؟!"
"وطالما لم يعلنا الخبر رسميًا فليس من حق أحد إعلانه وبهذا الشكل المنفر أيضًا"
برر فادي متحفظًا على تفاصيل ما حدث بسبب الصورة..
وتابع السير مع رفاقه قبل ان ينتبه ثلاثتهم لصرخة عمرو المجفلة..فالتفتوا وراءهم حيث مصدر صدمته ليجدوا مازن يسير بروية خلفهم وربما سمع حوارهم الشيق!
وأيقن فادي أنها الحقيقة وليست مجرد احتمال خاصة حين استبقاه قائلًا:"الحقوا أنتم بالمجموعة ريثما أنهي حديثي مع فادي"
"سأتقصى عن هوية الرجل سارق الصورة بنفسي لكن ما أريد سؤالك عنه يخص أمرًا آخر"
ضيق عينيه مترصدًا لأدق رد فعل من شقيقه متابعًا:"لاحظت تقاربك مع نوران مؤخرًا كما أنها أخبرتني عن قصة زواج مزعومة موقعة بتأليفك وخيالك الواسع"
"أنا لا أذكر شيئًا من هذا القبيل"
أنكر فادي بنبرة خبيثة قبل أن يعود لرشده مع نظرة شقيقه المحذرة فأردف:
"هي سألتني عن أخباري..ألا تعرف؟ الأستاذة نوران تهتم بكل شئون طلابها.."
"تابع يا فادي..لا تجعلنا نصور مشهدًا مبتذلًا أمام السائحين"
"نعم أخبرتها أنك انشغلت مؤخرًا بزواجك المرتقب..أليست هذه الحقيقة؟"
شده مازن من شعره مرجعًا رأسه للخلف قائلًا:"حتى رفاقك يعرفون هوية زوجتي المرتقبة وأنت تتظاهر بالجهل لأنني لم أعلنها صريحة!!"
لم يهتم فادي بالألم الذي سببته قبضة شقيقه بل استطرد باستمتاع ماكر:"كان الأمر ممتعًا! إشعال جذوة الغيرة وإثارة غضبها الغير مبرر ضدك..ويبدو أن غضبها طال وتركتك تستكشف أسبابه..هذا أكثر ما يثيرني في قصص الحب أن أرى الثنائي يقاومان سوء الفهم لينالا سعادتهما"
"انتظر حتى نعود وسأجعلك عبرة للجميع يا فادي..ما إن خرجت من قوقعتك حتى جربت حيلك هذه علي أنا! أنا من أهدر وقتي دائمًا معك يا ناكر الجميل!"
دلك فادي شعره ما إن أفلته شقيقه وركض لاحقًا برفاقه بينما يلقي بجملته المستفزة:
"وسأخبر الأستاذة نوران أنك رجل عنيف ضارب للنساء"
فأغمض مازن عينيه يحاول كبت رغبته العنيفة بضرب شقيقه حتى عودتهما لكنها اشتعلت أكثر حين وصلته رسالة نوران..
"وستتخلف أيضًا عن الإشراف حتى تتجنبني! سأنال منك يا فادي!"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"كيف أصبحت؟"
أعاد علي فك رابطة عنقه للمرة التي لا يعرف عددها وشغل مكبر الصوت مجيبًا شقيقته:
"لا تقلقي بشأني..كما أنني متفرغ هذا النهار وسآتيك الآن لتخبرينني بالتفصيل كيف تخطبين لأولادك دون وجودي؟"
"جرت الأمور بسرعة لأن..."
"وتجروئين على التبرير أيضًا!"
وتابع بصوت ضاحك قبل أن توغل في شعورها بالذنب:"الأهم أنك تستطيعين عقد رابطة العنق أليس كذلك؟أحتاج مساعدة عاجلة"
"كيف تحتاج مساعدتي؟وهل يتفوق عليك أحد في عقدها؟!"
أطبق الصمت عليهما حتى خالت علياء أن الاتصال قُطع فأنزلت الهاتف عن أذنها تتطلع فيه وأعادته مرة أخرى ما إن راودها خاطر غريب كغرابة ما عرفته حديثًا عن شقيقها..
"ذكَرك فراقها أنها من كانت تعقدها لك فتعجز عن تخطي الذكرى"
"أنا.."
قاطعته بسخط:"تعال..تعال إلي لأخنقك بها !"
وأنهت الاتصال فورًا مما جعل علي يغرق في الضحك الذي لم يلبث أن انقلب إلى مرارة ساحقة خاصة بعد أن قطعت رزان اتصالها به تمامًا وتوقفت عن مراسلته
حرمته من سلواه الوحيدة التي كانت يتعزى بها عن فراقها..وما أقسى الحرمان!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"جئتِ أخيرًا..لا طعام طالما تقاعستِ عن أداء عملِك"
تكتفت أفنان مصدرة أمرها برفعة حاجب معترض فابتسمت نوران وارتكنت على كتفها قائلة:"ستتعرفين إلى نوران أخرى في هذه الرحلة..أنا لست على ما يرام.."
ربتت على صدرها تتابع بنبرة مطمئنة أمام نظرات القلق في عيني أفنان:
"نفسيًا..هنا داخلي يختلج الكثير يا فنه"
مصمصمت أفنان شفتيها تحاول مداراة تأثرها وعاطفتها التي تدفعها لاحتضان نوران و التخفيف عنها..وقالت بلهجة لينة:
"اجلسي هنا لأعرفك على ما يجب فعله الآن..علينا إنهاء الغداء بأسرع ما نستطيع حتى ننتقل للمرحلة التالية من برنامج الرحلة"
"وكأن الأمر منوط بنا فقط!"
أجابتها نوران بصوت ضاحك قبل أن تخفت ضحكتها وتضمحل ما إن تقدم منهما مازن ..ليسحب مقعدًا من طاولة قريبة ويتوسطهما قائلًا:
"لا أفضل من تناول الغداء بين أجمل فتاتين رأتهما عيناي"
ورفع يد أفنان ليقبل ظاهرها بحب وما إن التفت لنوران حتى تربعت بدفاعية لتخبره دون حديث أنها لن تسمح له بفعل المثل معها..
ثم استرخت تدريجيًا ما إن ظهر فادي وتخلى عن رفقة أصدقائه ليتخذ المقعد المجاور لها فبادلته ابتسامة واسعة على النقيض تمامًا من نظرتها لمازن قبل ثوان فطأطأ الأخير رأسه محبطًا من النتيجة التي آلت إليها علاقتهما بسبب طول كتمانه مشاعره..
وللحق أنه لا تنقصه الجرأة! يستطيع الآن أن ينهض ليفصح أمام الجميع عن مشاعره الجياشة تجاهها لكنه عدل عن فكرته فعلاوة على توجسه من رد فعلها يريد الاحتفاظ بهذه اللحظة سرية وحميمية بينهما فقط..يريد تخليد نظرتها وإجابتها في ذاكرته للأبد..
وما إن احتكمته مشاعره حتى نسى تمامًا إحباطه وانهمك في تناول طعامه بشهية يرسم تخيلات لمشهد الاعتراف..ربما يتجاوز حينها ويأخذها بين أحضانه أو يقبلها..
فاق من تنهداته متذكرًا كيف تدحر نوران كل تخيلاته مرة بعد أخرى فغص بطعامه والتفت لأفنان التي ناولته كوبًا من الماء شاكرًا قبل أن يرمق نوران وفادي المنهمكين في الحديث بنظرة ساخطة..
"لم أستطع مرافقة عائلتي في الزيارة ولكنني سمعت أخبارًا سيئة...."
بتر جملته لا يعرف كيف يصيغها بطريقة لبقة! كيف يحدثها عن شائعة كان هو السبب في افتعالها!
أجابته نوران ببساطة:"لا تقلق يا فادي..لازلت وفية ولم أفشِ سرك"
"بل افعلي! أي سر؟ صارت رغبة تافهة ما إن سمعت الشائعات المغرضة"
وتابع بجدية بما جعل عينا نوران تدمعان:"صفي لي هذه الجارة التي نشرت الشائعة وأنا سأتصرف"
ثم شاب صوته بعض الخجل مستطردًا:"أمي نقلت لي كل ما أخبرتها به والدتك وأدركت أن الجيران فهموا لقاءات الدراسة خاصتنا بشكل مختلف وارتبط الأمر لديهم مع ما نشرته المديرة وظهر لهم على صفحتك الشخصية..لذا أريدك أن تثقي بي هذه المرة وأعدك أن أحسن التصرف وأنهي هذه الشائعة تمامًا"
كادت تردد له طلب مؤمن الصغير حين يتدلل عليها لتقبله تشجيعًا على مجهوده.. لكنها تمالكت نفسها قائلة بحب:"أثق بك يا فادي..أنت رجل مسئول"
ضحك فادي حتى بانت نواجذه وانتفخ صدره باعتزاز قائلًا:"أشكرك"
بينما على طاولة قريبة..
نطقت دينا فجأة:"منذ متى صار فادي مقربًا من الأستاذة نوران؟ ولماذا لم ينظر إليك أو يلقِ حتى التحية عليك يا منة منذ غادرنا الحافلة؟"
ناظرها الجميع باستغراب فقد خالفت عادتها بألا تتكلم على الطعام إذ تخشى عادةً من التفات الأنظار إليها خلاله وترى طريقتها مختلة بعض الشئ بسبب تقويم الأسنان الذي تضعه..
لكنها دينا المعتادة لابد أن تعرف جميع الأسرار والفضائح!
ورغم تحفظ بسنت المستجد إلا أنها لم تستطع تمالك فضولها لتوجه سؤالها الصريح لمنة:
"هل التقيتما قبل الحفل المدرسي؟ أظن أن هذا ما حدث لأن كلاكما تخلفتما عنه وجئتما الرحلة مضطرين كما أعتقد"
"وأنت لم تعلقي منذ بداية الطعام على كفاءته؟ دينا لم تتعلل بمنظرها البشع أثناء تناول الطعام –على حد قولها- وجلست معنا! كمال يجلس هادئًا دون أن يتحين الفرص لالتقاط صور للأستاذة نوران!..."
قاطعها كمال بغضب وسط شهقات الذهول والدهشة التي انطلقت من المجموعة:
"كفى! أظنك رأيت فادي يغافلني ويأخذها مني لذا لا أرى داعيًا لاستعراضك هذا!"
وتهكم عمرو قائلًا:"ونحن من أطلقنا عليك لقب الهادئة! تحفظين كل تصرفاتنا وكأنها مقرر دراسي"
"نعم أحفظها والأفضل ألا تبدأ بإشهار الألقاب السخيفة لأن لدي الكثير منها لكل منكم"
أطبق الصمت على المجموعة وراحوا يتطلعون في منة بتدقيق كأنهم يتساءلون ما سر اختلافها وكيف استحالت من حال إلى نقيضه؟!!!
وأخيرًا نهضت أفنان تنظم صفوف الطلاب حتى يركبوا الحافلة ليقصدوا وجهتهم التالية...
فلكزتها نوران قبل أن تركب بدورها قائلة:"أحببت أفنان المسئولة ولكنني لا أمانع ظهور أفنان الغيورة بين حين وآخر"
اكتفت أفنان بابتسامة بسيطة وغضنت لها أنفها كأنها تداعب طفلًا صغيرًا ثم ناظرتها بمكر متباهية بمهاراتها.. فضربت نوران كفيها ببعضهما متمتمة بيأس:
"مغيظة كشقيقك تمامًا"
لم تبالغ أفنان في تعجلها الوصول لهذه المحطة من رحلتهم لأنها الأفضل والأكثر تميزًا في هذا اليوم..
إذ يقصدون أحد مخيمات سانت كاترين الشهيرة لشرب الشاي (على الراكيه)على الطريقة البدوية التي تضفي له طعمًا مميزًا لا يُضاهى!
رشفت منه كأنه عسل مصفى والتفتت لنوران قائلة:"إنه الأفضل أليس كذلك؟"
أومأت نوران بينما تشرب من خاصتها ثم سألتها:"لكنها السنة الأولى التي ترافقيننا فيها فمتى جربته؟"
"هل تظنين أنني حبيسة البيت مثلك يا مسكينة؟!"
ضحكت نوران قائلة:"لا فائدة تُرجى منك..تابعي..تابعي!"
"كنت أذهب مع إخوتي في رحلات كهذه قبل سنوات..قبل سفر هيثم! وهذه المرة الأولى التي أذهب من دونه"
وقوست شفتيها بأسى متابعة:"ألححت عليه أن يدخل سوق العمل فأطاعني وضاع مني في دهاليزه..أعرف أنك ماهر لا ينقصك الذكاء لكني أفتقدك"
غمغمت بجملتها الأخيرة بصوت لم يصل مسامع نوران التي ناكفتها لتعود أفنان المشاغبة..
"وبعد أن أطاعك ألازلت تعدين له المقالب كما فعلت يوم المباراة؟"
"تظاهرت بالتوبة أمامه"
وأغرقتا في الضحك بصوت عالٍ تنبه له جميع من حولهما فحط مازن على رأسهما كالصقر مازحًا بسماجة:
"اعتبرا نفسيكما في الفصل وأنا بصفتي المعلم أطلب منكما أن تتفرقا"
ناظرته نوران مستهجنة تصرفه بينما نهضت أفنان قائلة باستخفاف:
"ضحكاتنا المرتفعة هي السبب أليس كذلك؟"
"بالطبع! هيا هيا اجلسي مع شقيقك أو أيًا كان"
وتربع مكانها بجوار نوران التي استكانت تمامًا ورفعت ناظريها للبساط الشاسع فوقها بنجومه اللامعة..
فانسابت الكلمات على شفاهها بتلقائية دفعت مازن لمشاركتها شاعرية الحوار بتلهف..
"أنت تلمع كهذه النجوم حين تتحدث عن عملك"
"وأنتِ حين تتحدثين عن عائلتك"
"أراك متوهجًا مثلها بين إخوتك"
"وأنتِ حارقة مثلها تشعين لهيبًا حين تغضبك إحدى تعليقات هالة المرحة"
التفتت إليه نوران ضاحكة قاطعة باقة الاعترافات المتبادلة وقالت:
"أشعر أننا صرنا نجمين في فلك السماء الواسع"
"أحبــــــــ....."
وتلاشت تتمة كلمته في الهواء ما إن ارتفعت أصوات الألعاب النارية وابتدأت الفقرات البدوية على النار التي أُشعلت حديثًا للتدفئة في ليل الصحراء البارد..
لكن ضجيج قلبيهما كان له الكلمة العليا فاستمر لقاء العيون تُتم الاعتراف الناقص
وأدرك مازن أن مشاعره وصلت نوران من حركة شفاهها المضطربة قبل أن تكسر اللقاء بإسدال أهدابها فحار هل يعد تصرفها إجابة! وإن فعل فما هي فحواها؟!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
زمجرت هالة بينما تجالس زيد في مطعمه:
"لم أجب رسائلك ليوم واحد فسارعت للاتصال بأبي!أنت خانق بشكل عجيب"
"من الطبيعي أن أقلق يا هالة! إنه يوم إجازتك وأنت في المنزل.."
قاطعته بحنق:"هل تظنني أقضي يوم إجازتي في العبث والنوم؟ وحتى لو كنت في المنزل فأنا ملتزمة بمسئوليات أخرى"
رشف من الشوكولا الساخنة قبل أن يجيبها بتروٍ:"لقد بذلت جهدي لإقناع العم طاهر بلقائنا هذا لذا لا أسمح لك بإضاعته في الصراخ علي بسبب ضيق مختزن داخلك..فأخبريني بالظبط ما يحدث معك ولنفض الاشتباك الدائر داخلك أو انسيه تمامًا ولا تذكري سواي"
نظرت هالة لمشروبها تدرك صحة قوله ثم واجهته قائلة:
"معك حق..لنبدأ التعارف بشكل لائق"
عقب زيد مستحسنًا:"نعم هكذا أحبك..."
وأضاف أمام ارتباكها:"وأحبك في جميع حالاتك أيضًا"
فتنحنحت تنبهه بصرامة زائفة:"التعارف!"
عقب ضاحكًا:"أنتظر أن تبدأي..."
أرادت الخروج عن قالبهما الجامد ولباقته الدائمة معها فباغتته بقولها الجاد: "أتعرف أني أمتلك زوجًا سريًا؟"
أحس زيد بشئ يدخل عينيه مع قولها فدلكهما بحدة قبل أن يرمش ناظرًا إليها بتجهم ثم أدرك أن في الأمر خدعة ما لذا أجابها متفكرًا:
"ربما تطلقين هذا اللقب على أحد أشياءك المفضلة!
طلاء أظافرك..طقمك المفضل...."
راقبته هالة صامتة فيبدو أنه يجري بحثًا جادًا عن مفضلاتها داخل عقله وقد توصل للكثير بالفعل..
فتابعت بدلًا عنه وهي ترفع مذكرتها:"هذه..تشاركني جميع لحظاتي..الحزن قبل الفرح لذا أطلقت عليها نوران هذا اللقب من شدة غيظها أنها تسرق وقتي دون أن أجالسها أو أخبرها هي عما يزعجني"
"أحببت الفكرة ولكن منذ اليوم أريدك أن تبدأي قسمًا جديدًا في مفكرتك..انسي تمامًا ما كتبته سابقًا فلا تعودي لتصفحه وابدأي من جديد حينها تستطيعين اتخاذ قرار صحيح بشأن الخطوة التالية في علاقتنا"
"الأمر ليس منوط بك فقط يا زيد..بل بي أنا هالة.."
قطعت جملتها مقررة ألا تخبره هذه التفاصيل التي تقض مضجعها فكما أخفت تخبطها الداخلي عن شقيقتها وهي الأقرب إليها لايجب أن تظهره لزيد وخاصة قبل أن تتحقق من استمرارية وصحة علاقتهما..لذا تابعت:
"دعك من هذا أنا كفيلة به وأخبرني عنك.."
رمقها زيد بنظرة حذرة وقرر مسايرتها في رغبتها ريثما ينكشف له سرها..
لكنه أصر قائلًا:"ورغم هذا طبقي اقتراحي رجاءً..اكتبي من جديد بنظرة هالة اليوم"
أومأت أنها ستفعل فانشرحت ملامحه ليجيب سؤالها:
"اكتشفت أنني أحب الإدارة..تنظيم عمل الشركة وبخاصة في وجودك أمر ممتع.. لقد ظننت دائمًا أن العمل خلف المكاتب منفرٌ وممل"
ورغم شعورها المماثل بالمتعة كونها حققت حلمها وصارت إحدى العارضات لمنتجات الشركة لكنها لا تزال متعةً منقوصة لاتدري كيف ترتقي بها للكمال!
"نعم تلك النظرة التي تخبرني أنك مقيدة! لم تحصرين هالة خلف قضبان شعور وهمي؟!..أريدك أن تنظري إليها بعينيَ علك تقتنعين"
"إذاً أعطني إياهما!"
أجابته بمرح متهربة من المواجهة الصريحة كعادتها فعقب بصوت ضاحك: "كيف نجري مقايضة من هذا النوع وخاصتك تليقان بك بالأكثر؟!!"
ضحكت هالة بخفر قائلة:"تخدعني إذًا بمعسول الكلام! هل ستكون حياتنا على هذا المنوال دائمًا؟"
تلبست الجدية ملامح زيد وأجابها:
"نعم في مناقشة جادة قد أفعلها لأنني لا أنوي تقاسم الحمل معك يا هالة..بل إن الأحمال خلقت لنا نحن الرجال ولهذا كان لنا حق القوامة"
وكانت هالة أكثر من مرحبة بهذا الحوار الواقعي فقالت:"وأنا شخصيًا أميل للهدوء وتسليم مقاليد القيادة لغيري إلا في أمر واحد تنبهت إليه مؤخرًا"
لاحت نظرات الاستفهام في عيني زيد منتظرًا التتمة..
"هالة كيان مستقل ولها رأيها وشخصيتها أي أنني لا أقبل بالتحكمات الزائدة يا زيد ولن أعطيك أدق أسراري حتى بعد الزواج لازالت لي مساحتي الشخصية"
"أعطني مثالًا! بعض التوضيح رجاءً"
طلب زيد بهدوء ويبدو أن قولها لم ينل استحسانه!
"أقرب مثال أبي..حين يراني أتصرف بطريقة غريبة أو أفكر بشكل لا يرضيه فإنه يجالسني ويتحدث إلي بهدوء لكنني اختلفت معه مؤخرًا في أمر ما وطلبت أن يترك لي التجربة قبل أن نتناقش فأعطاني مساحتي"
"دعينا نجرب هذا في فترة الخطبة إن راقني فلا بأس..ولكنه احتمال ضعيف فقطعًا لن أكون كوالدك وأترك لك أي مساحة"
قرأ الصدمة في عينيها وخشى مغبة قوله فعدل عنه مصححًا:"أقصد سأحاول أن أترك لك مساحتك"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
وصلت الحافلة سفح الجبل عند منتصف الليل..وتوزع الطلبة على مجموعات لكل منهم مرشد يقودهم ويتفق معهم على كلمة سرية تُقال في حين أعجزهم الظلام عن رؤية بعضهم أو أعاقتهم أي حالة طارئة..
وقبل التسلق مرت المجموعة بنقطة تفتيش عند سفح الجبل..
وانتظروا حتى ينتهي فوج السائحين ليعبروا بعدهم..اشرأبت أعناقهم حين أطلق الجهاز صافرة الإنذار مع مرور إحدى السيدات ومن خلال تبريراتها المرتبكة تفهم الشرطي أنها تملك شريحة معدنية في ركبتها تعوقها كل مرة عن المرور بسلام..
حينها شحبت نوران وتوجست خيفة مع تقدم مجموعتها واقتراب دورها فهمست لمازن الذي يجاورها:
"حلية الحزام ستصدر صوتًا بلا شك..وأنا لن أستطيع خلعه عن البنطال"
فلمعت عيناه مقترحًا بخبث:"اخلعيه وأنا أمسك لك البنطال"
لكن مع الصورة التي يرسمها الجهاز للشخص فيوضح نقطة الخلل بالظبط لم تحتج نوران لهذه المخاطرة والحمدلله! إذ ظهر جليًا على الشاشة أن حلية حزامها هي سبب الصافرة..
ومن وقتها وهي ترفض التعاطي مع مازن والذي لام نفسه على اندفاعه فبعد أن لانت مساء الأمس وصارت أكثر تقبلًا لوجوده في حياتها هاهي تعود لنبذه بسهولة
ولم يجد الفرصة لاستمالتها خاصة بوجود أفنان وفادي الملازمين لهما وكذا مجموعة من الطلبة والسائحين الذين رافقوهم..
وما إن بدأت رحلة التسلق الممتعة لمازن ونوران حتى تباريا كأنهما في مضمار سباق وراحت خطواتهما تتسارع أكثر من البقية لكنها لاتزال ملجومة بالمجموعة فيقفان عند كل استراحة بتحفز منتظرين لحظة الانطلاق من جديد..
"أنتما لستما من البشر بالتأكيد! لقد تعبت"
قالتها أفنان بعد أن كلت خطواتها وخاصة مع السرعة التي يسيرون بها على الصخور المتعرجة والنتوءات البارزة في السلالم الحجرية..
فأجابها فادي متشاغلًا بتذمراتها عن نظرات منة التي تتبعه:"تحملي قليلًا حتى نصل الاستراحة التالية"
"ليتني جلست منذ أول استراحة مع السيدة جنات وزملائك"
لم يجبها فادي ونظر لمنة من زاوية عينه مستغربًا تحملها الذي فاق قدرة أفنان!
إذ استسلم رفاقه مع أول استراحة فالتسلق لا يروقهم كما أنهم يعرفون قدراتهم فيخشون مغبة الصعود وتكرار تجربة السنة الماضية كما أخبروه..
وكلفه كمال بتصويرمشهد الشروق ما إن يصل للقمة ومع إنه يشك في مقدرته على الوصول إليها إلا أنه سيبذل جهده لأداء مهمته القومية!
ما إن ضاقت أفنان ذرعًا بمشهد مازن أمامها المنهمك بنوران حتى أنه لم يلتفت إليها ليرى مصابها حتى صرخت باسمه غاضبة وأوقفته رغمًا عنه:
"لقد تعبت"
قطب مازن وناظرها بحيرة قائلًا:
"تصرخين وكأنك تصارعين حيوانًا بريًا!! ثم إننا على بعد خطوة واحدة من الاستراحة"
تذمرت بدلال:"لا أريد متابعة التسلق"
وأشارت لفادي قائلة:"لا أحد منكم سيجلس معي وأنا لن أجالس الغرباء هنا"
نظر مازن حوله ليجد أن أغلب من حولهم من السائحين لذا لا ضير بالتهور فانحنى يرفع أفنان على ظهره قائلًا:
"تشبثي بي"
لكنها صرخت فورًا قائلة بارتياع:
"ماذا لو كلت يدك وأفلتني؟!! لا غير معقول أن يضيع شبابي هنا"
طمأنها مازن أن هذا لن يحدث فقبلت على مضض إلا أنها عادت للصراخ ما إن لاحظت أن هناك جمل يجاورها! إذ يستخدمه بعض السائحين وساكني المنطقة للصعود ..
فعلت قهقهة مازن وفادي والتقط لها الأخير أكثر من مقطع فيديو قائلًا:"سأرسلهم لزيد وهيثم ما إن تسعفني الشبكة! سنستمتع بمشاهدتها كثيرًا.. ألا تظن يا مازن؟"
"بلى وهاقد وجدت سبيلك للهرب من تسلط أفنان..استخدمهم لابتزازها فيما بعد"
لم تدقق أفنان مع تعليقاتهم المستفزة الساخرة بل دفنت رأسها في كتف شقيقها حتى وصلوا الاسترحة التالية فتنفست الصعداء وأنزلها مازن عن ظهره مستعدًا للمتابعة..
لكنها اعترضت طريقه إذ أصرت أن يجالسها أحدهما وإلا فلن تسمح لكليهما بالمتابعة..
فتطوع فادي لمجالستها بسرور موقنًا أنه لن يستطيع متابعة التسلق للقمة وكذا يشفق على منة من مشقة الصعود وهو على ثقة أنها ستفعل لملاحقته..
لذا أوكل أمر التصوير لمازن واستغل انشغال شقيقته باستعادة طاقتها وارتداء ما يدفئها ملتفتًا لمنة فتلاقت نظراتهما للمرة الأولى منذ خروجهما من قسم الشرطة..
"كيف حالك؟"
استغربت منة نبرته إذ استشعرت فيها ما يشبه الحرج !!
فتساءلت ما الذي قد يكسر كبرياء فادي أو يؤثر به لهذه الدرجة!!
وقبل أن تمعن في التفكير استنتجت الجواب فورًا حين استرجعت كيف عاقبه والده أمامها لذا بادرته:
"أنا نسيت الأمر تمامًا يا فادي..ثم إنه والدك..."
قاطعها فادي بانفعال:"حسنًا لا بأس..مع أنني نويت ألا أتحدث معك مرة أخرى وأن أنساك مع هذا اليوم لكن يبدو أنه أمر مستحيل لذا لنعقد صفقة"
عبست ملامح منة وسكن الحزن قلبها دون أن تعي تمامًا سبب تأثرها بمقاطعته ثم انشرحت ملامحها مع عرضه الأخير وأومات توافقه بحماس فقال:
"سنتعامل بصورة طبيعية شرط أن تنفذي تعليمات الطبيب ما إن نعود"
ودون جدال صافحته منة كأنهما شريكا عمل قائلة:"موافقة"
فابتسم فادي لسرعة استجابتها ثم أفلت يدها بسرعة غير مبررة وقال بارتباك:
"لنجلس هنا"
وعلى بعد منهما واصل مازن ونوران الصعود وخفتت سرعتهما لاإراديًا مع زيادة الضغط وانخفاض درجة الحرارة..كانا قد ارتديا حمولة حقائبهما من الملابس الشتوية الثقيلة وراحا يشجعان بعضهما على الاستمرار..
"لابد أن نتابع.. أريد أن نشهد الشروق معًا"
استطرد مازن بعد أن ناظرته نوران بسخرية غير مدركة سر إصراره!
وأخيرًا تمت المهمة وخطا الشابان القمة..
فابتهجت نوران بإنجازها فالمشقة التي واجهتها هذا العام أهون من سابقه بعد أن أطالت مدة التمرين ورفعت مستوى لياقتها البدنية..
أما مازن فكانت بهجته من نوع آخر..
هاهما معًا ينتظران الشروق..سيكون شروقًا لحبهما وحياتهما المشتركة برضاها التام..حسم قراره هذه المرة! لن يغادرا القمة إلا وقد اعترفا لبعضهما بحقيقة مشاعرهما المتبادلة..نعم إنه واثق أنها تبادله شعوره..
وما إن بدأ قرص الشمس بالصعود للأفق خاطفًا الأنفاس حتى قال:
"أنا أحبك"
رمشت نوران ثم نظرت إليه كأنهما يناقشان أمرًا عاديًا قائلة:
"أتعرف؟ سمعت عن حوادث تقتل من يزور الجبل في الشتاء..قمته تكون متجمدة فلا يتحملون برودتها"
"أقول أحبك بينما تتحدثين عن الجليد والموت..اشعري بناري وانصهري مع أشواقي"
صرخ مازن بنظرة مشتعلة يريد أن يشدها إليه ويثبت لها عمق عاطفته لكن الجموع حولهما التي بدأت بالتقاط الصور لجمت تصرفه وعدمت حيلته..
فأطبق الصمت عليهما وتحطم قراره على صخرة الواقع إذ استغلت نوران وجود الناس من حولهما ولم تسهل عليه المهمة..كان يلزمه الصراخ وإجبارها على النظر إليه لتتلقى مكنون قلبه لكنه وقف عاجزًا عن فعلها حتى في رحلة النزول!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"يقولون أن ذا العقل لا يرتضي الزواج من حبيبه"
قالتها وجدان فجأة مستدرجة عبد الرحيم من شروده فمشطها بنظرة حائرة سائلًا:
"وإن فعل فكيف يعيش؟"
لتفاجئه بسؤالها اللاذع:
"ومن اختار الحب كيف يعيش؟! الحب دون أمان وهم من السعادة الزائفة يتلاشى ما إن تدهسنا الحياة بنوائبها"
لم يجادلها أو يسترضيها كعادته بل تركها لأفكارها وما شاءت فأدركت أن النهاية وشيكة تكاد تبصرها على مرمى البصر خاصة حين جثى عبد الرحيم أمام مقعدها قائلًا:
"هذا لك..احتفظي بهذا المبلغ واعتصمي بالله يا وجدان في نوائب الحياة..أنتِ تجيدين هذا"
ضم قبضتها على المال مشددًا عليها فداهمتها رائحة الموت ورغم حياتهما التي صارت مستحيلة سألته وجدان باهتمام:
"هل أنت بخير؟وكأنك تودعني!"
"لن يكون بإرادتي يومًا! إن قُدِر لي فراقك فسيكون إجباريًا وتحت ظروف قاهرة لا أمرًا أختاره بكامل إرادتي"
تشبثت به قائلة:
"يمكنك مصارحتي بأي شي يا عبد الرحيم..هذه أنا وجدان بئر خطاياك ..ويمكن للبئر أن يقبل المزيد.."
"أنا بخير..شاكر وجودك في حياتي"
قبلها بامتنان على جبهتها ثم تشاركا قبلة عاطفية أكثر قبل أن ينهض عبد الرحيم ويتركها لهواجسها المتلاطمة مقررًا ألا يدنس بئرها بخطيئته المغرقة بالدم..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
في سيارة الأجرة التي قادتهم للمنزل أسند مازن رأسه للنافذة فسلبه النعاس تركيزه لدقائق وأفاق بعد أن نبهه فادي لوصولهم..
وما إن ترجل أربعتهم حتى تنبه مازن لوجود نوران فصاح بشقيقيه:
"لماذا لم توقفا السائق عند بيت العم طاهر؟"
ونظر لنوران التي صرحت بهدوء:
"لأنني لا أسمح لأحد أن يدفع الأجرة عوضًا عني وسأعود وحدي للمنزل"
وسكبت البنزين بلامبالاتها على نار غضبه فارتفعت حتى بلغت عنان السماء لتجعله يصرخ بها:
"سأوصلك"
"لن يحدث"
أخرج مازن مفاتيح المرآب ليحضر سيارته إلا أنها أصرت على الرفض وراقب فادي وأفنان بضجر انتهاء الشجار السخيف..
إذ صرخت نوران أخيرًا بعد أن طفح كيلها من إصراره:
"لن توصلني للمنزل..لقد أقسمت"
فجابهها مازن بعناد لم يتزحزح قيد أنملة:
"أقسم ألا أصعد للمنزل حتى أوصلك"
وقبل أن يتدخل الشقيقان باقتراح مقبول ينهي الشجار..تحقق قسم مازن بأبشع الطرق فتقدم منه أحد أفراد الشرطة وصاح به بوجه متجهم:
""مازن السفيري؟...أنت مستدعى للتحقيق في البلاغ المقدم ضدك
تمسكت أفنان بشقيقها قائلة:
"لا ..من حقك أن ترفض الذهاب..انتظر على الأقل حتى يأتي خالي"
لكن مازن ربت على ظهرها قائلًا:
"لا ترتعبي إلى هذا الحد! ركوب سيارة الشرطة لن يجعلني مجرمًا طالما لا يوجد ما يدينني أو أخجل منه"
وشيع نوران بنظرة مودعة ضاحكًا بسخرية كأنه يخبرها أن تفرح فقد برا بقسميهما المتضادين!
فتقدمت منه مخالفة توقعاته كعادتها وقالت:"انتبه لنفسك حتى يلحق بك السيد علي.."
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أمام مشغل طاهر..
التقت الفتاتان لتنفيذ اقتراح هالة ورغم هذا أصرت نفيسة على موقفها المعترض قائلة:
"حتى الجمعية لم تفلح لسد ثمن بضاعة البقالة..لن ينفعني العمل في هذا المكان صدقيني"
"وعائد البقالة؟ ألا تدرعليكما دخلًا؟"
"بلى ولكن..!"
ورغمًا عنها شهقت نفيسة وانخرطت في نوبة بكاء عنيفة مشفقة على نفسها من كثرة الضغوط التي ترزح تحتها:
"عائلة أمي تسئ إلينا! يبدو أن عداوة كبيرة جمعتهم بأبي وتعجزهم عن تقبلنا إلى الآن..لذا لا يمكننا أن نحيا بطبيعية معهم..وقد طالبت أمي أكثر من مرة أن نغير محل إقامتنا ونترك البقالة التي تأخذ منا أكثر مما تعطينا لصاحبها لكنها مصرة على رأيها..."
كفكفت دموعها قدر استطاعتها واستطردت بصوت متحشرج تردد مقولة والدتها الدائمة:
"امرأتان بمفردهما في شعاب الحياة ستدهسهما أقدام البشر إن لم يتعلقا بقشة العائلة!"
طوقت هالة كتفيها بحنان قائلة:
"انتظريني هنا سأدخل الدار وأستعلم عن ظروف العمل وإن كانت هناك وظيفة شاغرة ثم أعود إليك..أنا معك حتى آخر اللحظة وسنجد حلًا لهذه المعضلة! هيا امسحي دموعك واستعيدي روح الكفاح"
تقدمت بضع خطوات ثم التفتت إليها مرة أخرى لتجدها صارت أكثر تماسكًا وهي سمة تعجبها في شخصية نفيسة..فهي مهما انهارت أو ذاقت علقم الحياة سرعان ما تعود للنهوض بمرونة فتحقيق مبتغاها يوفر لها الطاقة اللازمة لتضميد جراحها..
لكن ما العمل إن لم يتحقق؟!!
هذا هو الاختبار الأكبر فمداواة الجراح المتقيحة لن يكون بالشئ اليسير!
دلفت للدار الذي يسوده الهدوء لتجد مكتب الاستقبال شاغرًا فانتظرت حتى يظهر شخص من الإدارة تستطيع الاستعلام منه..
لكن المنظر الذي رأته أخذ بكل حواسها فنست ما جاءت لأجله..
فإذ بسيدة عجوز بدينة لحد مؤلم تستخدم كفيها عكازين كأنها تسير على أربع!
مع قولها المرير لمن يتتبع خطاها ولا تعرف صلة قرابته به:
"احرص على زيارة الطبيب منذ صغرك حتى لا تقضي عليك آلام الظهر خشونة المفاصل كما فعلتا بي"
رأت الشاب يسندها حتى رفعت نفسها وجلست على المقعد متنهدة..
وقبل أن تتلاقى نظراتهما هربت هالة بشفقتها تغمغم لنفسها بسخرية: (احتفظي بشفقتك لنفسك علك تنقذينها من مصير مماثل)
وأمام نظرات الاستفهام في عيني نفيسة وقفت صامتة ثم صدمها خروج نوران مع والدها من المشغل فتشبثت بها فورًا وعانقتها قائلة:
"اشتقت إليك..متى عدت ووجدت الطاقة لزيارة أبي؟"
في وقت آخر كانت نوران لتدرك أن شقيقتها تعاني خلف قناع مرحها لكنها لم تكن حاضرة معها بكل حواسها وسحبت نفسها بلطف مربتة على شقيقتها تخبرها دون حديث أن الحكاية تطول..ثم تابعت طريقها مع والدها الذي التفت لهالة قائلًا:
"لا تنتظرانا على الغداء يا هالة وأبلغي والدتك أننا لن نتأخر"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"ماذا تعني؟"
صرخ خالد بعلي ما إن خرج إليهم من قسم الشرطة..
فأجابه الأخير:"هناك أدلة جادة يا خالد والقضية ستُحال للنيابة بلاشك..كما أنني لا أملك ما يجعلهم يطلقون سراحه ولو لثانية واحدة.."
ودفعه بخفة قائلًا:"رجاءً يا خالد تمالك أعصابك أحتاج لمناقشة الأمر معك في المنزل..هناك تفاصيل أسمعها للمرة الأولى"
وهكذا انتقل محل النقاش لشقة سالم حيث أسرة خالد وكذا نوران التي لم تتحمل ما يحدث فعادت مع والدها..
"مكتب العقارات الخاص بسعيد القتيل..الصالة الرياضية..المدرسة..جميعها أملاك مسجلة باسم صاحبها يديرها مازن دون ما يثبت أحقيته بهذه الإدارة! وعرفه أبو زهره قريبه ظهر من العدم فجأة بهذه الإثباتات..في الأمر خدعة ما بلاشك لكنني أحتاج توضيحًا مفصلًا يشرح لي ما يحدث"
تناظر خالد وعلياء بحيرة وارتياع فهما أيضًا يسمعان هذه التفاصيل للمرة الأولى..
وكان فادي هو من أجاب خاله بوقاحة:
"لن تجد في هذا البيت من يعرف شيئًا عن أولاده!"
لم تكن نوران بحالة سوية لتؤدي دور المعلمة بل قطعت الحوار الغير مجدي قائلة:"أنا أعرف كل شئ..عرفه ذاك ابن خال العم سعيد يهدد مازن بسبب أرض المدرسة فلم ترضيه مشاريع العم سعيد وكان يبتغي امتلاكها لنفسه..ولهذا تراه يقتنص الحجج يا سيد علي لإيقاع مازن في المشاكل"
"ولماذا لا يملك مازن عقدًا يثبت ملكيته للصالة الرياضية أو حتى مكتب العقارات؟"
"العم سعيد وكله مهمة إدارة أملاكه واختفى..لكن مازن احتفظ له بنصيبه من الأرباح "
"ماذا يحدث يا علي؟ألم تكن شريكًا لسعيد هذا في وقت ما؟"
سألت علياء بقلق فأجابها شقيقها وهو يمسح العرق الذي بلل جبهته من فرط توتره وصعوبة الموقف:
"بلى..لكننا أنهينا شراكتنا منذ سنوات..ولم أكن أعرف أن مازن تابع العمل معه"
فنظرت علياء لزوجها متحسرة على ما آل إليه الوضع ولسان حالها يقول:
(أرأيت عاقبة ترك الأولاد يتيهون في مجاهل الحياة دون رقيب؟)
لم يتدخل زيد في هذا النقاش لأن براءة شقيقه ونزاهته ليست محل نقاش فهو واثق منها.. وأنصت لكل ما يقال منتظرًا أن يعرف طريق إثباتها ليعين شقيقه على الخروج من مأزقه..
أما هيثم فقد شحب وجهه ونكس رأسه كأنهم يناقشون مصيره هو!!
فزادت هيئته من توتر أفنان التي وجهت سؤالها لنوران بغضب:
"لا تتبجحي بأنك تعرفين كل شئ ثم تصمتين!! كيف نثبت براءة مازن؟"
"لا أعرف!"
أجابتها نوران بضعف دون أن تهتم بالطريقة التي تحدثت بها فكل ما يشغل تفكيرها الآن هو كيف تجد ثغرة بين كل ما أخبرها به مازن!
الثغرة ستجر طرف الخيط ولابد أن مفتاح القضية في نهايته.. أكدت لنفسها بثقة وصمتت تمامًا منخرطة في تفكير عميق..
حين انفرد الزوجان ببعضهما تلك الليلة كانا قد نبذا الشحنات العدائية موقنين أن عليهما التكاتف لإنقاذ أسرتهما لا الوقوف لبعضهما بندية وتبادل الاتهامات..
ارتمت علياء في أحضان خالد قائلة:
"لا يحق لأحد أن يسلبني ابني! أنا خائفة يا خالد"
ربت على ظهرها بتؤدة ولم يجد ما يقوله ليطمئنها إلا أنه همس:"ضربة موجعة كهذه كفيلة لجعلي أعترف بأخطائي"
وانطوت ليلتهما بين شهقات علياء الباكية ومواساة خالد الصامتة بينما يشرد ذهنه في ولديه الآخرين..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
صعدت أفنان خلف هيثم إلى سطح منزلهم وراقبته في البداية بصمت دون أن تظهر وجودها مدركة تأثير خبر احتجاز مازن عليه..
أخبرها سابقًا أن علاقتهما هي الشئ الوحيد الثابت بالنسبة إليه الذي لا يخالطه شك أو خوف..وها هو الخوف يجد سبيله إليه من حيث لا يحتسب!..
فتأجيل عقد قرانهما إلى حين إثبات براءة شقيقها ليس خبرًا سهل التقبل بالنسبة لهيثم فهو يضغط بقوة على أسوأ نقاط ضعفه وأكثرها تأثيرًا في نفسه..
تقدمت أكثر حتى وقفت أمامه مباشرة ورغم هذا لم يبصرها هيثم مترنحًا بين سوداودية أفكاره التي وجدت منفذها إليه أخيرًا..
صفعته أفنان بخفة كاتمة ضحكة خبيثة من أفكارها المنحرفة التي تحضها على تقبيله لتنسيه أي شئ عداها ..مدركة تأثيرها عليه كانت تعرف أنها الطريقة المثلى لتشتيت أفكاره المتشائمة وطردها تمامًا من عقله..
"أفنان"
همس اسمها بضعف قبل أن يشدها إليه ..يعاقنها بالإجبار محطمًا مقاومتها العنيفة لفعلته المحرمة ومزكيًا نشوتها العنيفة لفعلته المحببة..
فاكتمل بها وطابت نفسه ليتلاشى ما ينغصها كأن لم يكن..
"أنت لي وحدي"
كرر جملته بصوت أعلى في كل مرة مثبتًا حقه الذي لا ينوي التنازل عنه ولو لثانية..
أدركت أفنان أن صوتها لن يصله الآن فقد أبحرت السفينة به وبجسدها المستكين لدفء حضنه منذ وقت طويل..
أغراها الاستسلام فارتكنت لحبه ونست مقاومتها على الشاطئ!
حتى كشفتهما المنارة فجأة ويدا هيثم تتجرآن لملاطفة أنوثتها المتعطشة إليه..
ترآت أمامها حزمها الضوئية الدوارة فصرخت وراحت تضرب هيثم بما يتيح لها جسدها المأسور في قبضتيه حتى أفاق الأخير شاهقًا كأنه استيقظ من أحد كوابيسه
فقفز بعيدًا عنها خالقًا مسافة كبيرة نسبيًا بينهما قائلًا:
"أفنان! أعتذر..يا إلهي! لم أكن بوعي حقًا..ولا أعرف..."
بتر جملته وجلس على أرجوحتها منكسًا رأسه هاربًا من لقاء الأعين..
بينما وضعت أفنان كفها على صدرها لاهثة كأنها خاضت عباب البحر فأضنتها السباحة!!
وللحق أن هيثم في حالته تلك بحر غادر بلا شطآن!
رفعت صوتها المتهدج ليصله حيث هو قائلة:"فقط أيام يا هيثم..أمهلني بضعة أيام!"
وغادرت بسرعة تاركة هيثم لحيرته وتخبط أفكاره..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
جلست نعمة وأجبرت ابنتيها على تطبيق عادتهما التي كادت تصير نسيًا منسيًا..
إذ استقر رأس كل منهما على أحد فخذيها بينما تترافق لمساتها الحانية مع قولها:
"غبتما عني طويلًا ولاشك أن جعبتكما تمتلأ بالأسرار..هيا أخبراني!"
لكنهما لم تخرجا عن صمتهما المطبق حتى خالت نعمة أنهما اخلدتا للنوم إلا أن انفجار هالة بالبكاء كذب ظنها..لحقتها نوران التي عجزت عن كبت دموعها أكثر فشهقت باكية بخفوت محاولة مداراة حقيقة بكائها بقولها الساخط:
"أنا لا أبكي..لا أحب الضعف"
"أنا لا أتقبل وزني الزائد ولا أستطيع إنقاصه"
"ستُحال القضية للنيابة! هل سأتزوج رجل عاشر المجرمين في السجن!"
"لن أتزوج الآن أبدًا! هذا لا يناسبني"
توالت صرخاتهما المعترضة المشوبة بالضعف والقلق..كلتاهما لا تملك ما يغير الوضع الذي تريانه مجحفًا بكل المقاييس..
فواصلت نعمة التربيت على رأسيهما تنصت لشكواهما المتألمة بصمت.. إنها فسحتهما التي يخرجان فيها كل ما يكدر عليهما معيشتهما قبل أن تستجمعا نفسيهما لمجابهة الواقع..
حتى خلدتا للنوم فأراحت رأسيهما على الوسادة ونهضت تغادر الغرفة شاكرة حدسها الذي هداها للتدخل في هذا التوقيت ومجالستهما في الغرفة لا في صالة المنزل كالعادة..
"فرغنا البالون تمامًا وغدًا تنهضان أهدأ بالًا وأكثر قدرة على التفكير وإيجاد الحلول"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
قاد طاهر سيارة ابنته بذهن شارد يفكر في وضع مازن والأدهى أن ابنته تعرف عنه الكثير وقد ظنها رافضة للزواج به!
ضحك من نفسه قائلًا: "أصرت أنها لم تخطئ ولم تصر على رفض فحوى الإشاعة إنها نوران المعتادة! قشرة صلدة مفعمة بالمشاعر التي لا يعلمها إلا الله!"
تمتم بالدعاء لمازن أن يتمكن علي من إثبات براءته في القريب العاجل..
قبل أن تأخذه أفكاره لهالة التي صارت غريبة الأطوار! تارة تتفاعل معهم كعادتها وأخرى شاردة كأنها تفاضل بين تناقضات عدة لا تعرف كيف تشكلها بما يلائم شخصيتها..
"لو أنها تقبل بمصارحتي لانقضت حيرتها منذ زمن"
فوعد نفسه ألا يتركها لوقت طويل قبل أن يتدخل لترتيب فوضى أفكارها..
أفاق من شروده أخيرًا ليجد نفسه قريبًا من المقر الرئيسي لشركة خليفة ..مرت عيناه على اللافتة المضيئة باسم السُكري ثم جحظتا مع عودتهما للطريق الذي تتوسطه فتاة شابة كادت توقف قلبه من كم الأدرينالين الذي أفرزه جسده ليتعامل مع الموقف ويوقف السيارة في الوقت المناسب..
ترجل من السيارة مع التفاتتها ليصيح بذهول:"نفيسة!"#ڤوت
#كومنت
YOU ARE READING
جيران المدينة
Romanceرواية اجتماعي..رومانسي..كوميدي.. تناقش عدة قضايا اجتماعية في إطار عائلي درامي انتظروا فصل جديد يوميًا بإذن الله ❤️