الفصل الحادي عشر
خرج علي من قسم الشرطة ليصدمه هذا الاجتماع فنصحهم بروية:" لا للضجة أمام قسم الشرطة وإلا أُخذ هذا ضد خالد والسيد طاهر.. سيخرجان بعد دقائق فلا دليل يدينهما ولكنهما سيكونان تحت المراقبة حتى نقدم أدلة تثبت براءتهما"
استاء هيثم لمجرى الأمور ..هذا ما حاول منعه قبل خمس سنوات لكن يبدو أنه لا حد لجشع عبد الرحيم... بينما وصل مازن للتو ووقف على مقربة من زيد الذي كان متحفزًا لهدم القسم فوق رؤوس من فيه..
"أبي!"
هتفت هالة فور رؤية والدها واندفعت لأحضانه باكية فربت على رأسها بصمت وتطلع لزوجته القلقة يبثها بعض الاطمئنان بنظراته الدافئة ..
وقبل أن يغادر مع عائلته تمسك خالد بذراعه وأعلن لأسرته:"هذا صديقي الذي أخبرتكم عنه .. يوجد خير داخل كل شر كما يبدو"
ثم التفت له وقال بحنين:"رجاء اسمح لي باستضافتك مع أسرتك وتعويض تلك السنوات.. صدقًا اشتقت لصداقتنا يا طاهر"
فشد طاهر على يده كأنه يستمد القوة من وجوده..وأومأ بالموافقة قبل أن يقول:"وأنا أيضًا استُنزفت في غيابك يا خالد"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
دلف عبدالرحيم شقة ليلى ليجد زوجته تبكي وصوت شهقاتها قطع نياط قلبه..لقد عاملها بقسوة وأجبرها على قبول ما لا تطيق..
ناظرها بشفقة وقلبه يحثه على الركض إليها ..تقبيل يديها وبذل كل مايملك لمراضاتها.. لكن لاوقت !..هكذا حدثه عقله ..
عليه إنهاء إجراءات الدفن ليسرع بلقاء خليفة وحل مشكلة المصنع.. أما وجدان فأمرها سهل.. زوجة ساخطة على زوجها بكلمتين وليلة رومانسية تنسى الأمر وتعود الأمور إلى نصابها..
"اتصلت بالطبيب ليستخرج شهادة الوفاة..إنه يعرفني من البلدة لذا ابقي هادئة حتى ينهي عمله.. وفقط استعدي لاستقبال المعزين"
رفعت وجدان رأسها وبانت له ملامحها الباهتة والحزن الذي جثم على أنفاسها ..
زوجته صادقة في مشاعرها ولا تحمل ضغينة لأحد وهذا أكثر ما يجذبه إليها ويعذبها بالمقابل فهو في كثير من الأحيان لا يراعي رقتها المفرطة..
ولم يستطع منع نفسه من التربيت على وجنتها التي تلقت صفعته صباحًا بل انحنى يقبلها قائلا:"البقاء لله يا حبيبتي.. اطلبي لها الرحمة والمغفرة"
مسحت وجدان أدمعها بوهن ونهضت بصمت .. ثم خرجت له من غرفتها وقد استبدلت ثيابها بالسواد لتقول:"سأدعو الله ليل نهار أن يتولانا نحن برحمته وأن يتجاوز عن عجزي وقلة حيلتي أمام تجبرك.. سأبكي ما حييت كلما تذكرت هذه اللحظات التي تركتني أتعذب وحدي فيها وليت الله يومًا يمن علي بالنسيان"
لم ينو عبد الرحيم أن يجيبها ولم يكن ليستطيع فحين تتحدث بلغة قلبها الكبير الذي يرى الجميع بمنظار الحب يصاب لسانه بالشلل.. وقد أعطاه جرس الباب الحجة المناسبة فذهب لاستقبال الطبيب..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
في شقة سالم السفيري..
اجتمعت الأسرتان وأتيحت الفرصة أخيرًا للصديقين أن يتعانقا .. وسالت دموعهما تحكي ذكرياتهما معًا ومعاناتهما حين افترقا قبل سنوات واعتقدا أنها النهاية الظالمة لكفاح دام طويلًا..
تبادلا الاعتذار وكل منهما يبرئ ساحة صديقه من الذنب..
وبعد أن انتهى عناقهما كانا يجلسان متجاورين ومن حولهما أسرتيهما وتصدر الجلسة علي الذي وصل للتو و قال:"لحسن الحظ أنني أعرف حضرة النائب وإلا لتأخر استجوابكما حتى الغد.. والآن أريد أن أسمع منكم قصة المصنع وإن كان أي فرد آخر من أسرتنا أو أسرة السيد طاهر قد تعرض لموقف شبيه مع عبدالرحيم"
وتوالى كشف الأسرار .. إنشاء المصنع وعهد الأصدقاء الذي خانه عبد الرحيم..
دين طاهر الذي وفاه ليكتشف أن عبدالرحيم احتفظ بما يثبت العكس ليهدده..
وحينها نظر لصديقه معتذرًا ومعترفًا أن هذا كان سبب قطع صداقتهما وغصة الندم التي لازمته طوال تلك السنوات..
"هل تمزح يا طاهر؟ كنت لأدفع دينك من جديد..نتواصل بشكل سري .. هل تهون العشرة إلى هذا الحد يا رجل؟"
"لم أجد فيَ وقتها العزم للمقاومة.. وعبدالرحيم كما تعرفه يتسلل بين الثنايا ليدرك الخبايا..خاصة أنني لم أكن أملك ما يمكنني من مغادرة البلدة"
فربت خالد على كتفه مواسيًا ومتفهمًا شعوره وقتها..إذ أنه لا ينوي تضييع ثانية أخرى بمبعد عن صديقه أو هدر وقتهما في عتاب لا طائل منه..
ولأنه وقت الأسرار فقد تنحنح هيثم قائلا:" أملك قصة شبيهة للأسف"
واضطر لكشف ما تعرض له من خداع فكادت عيني أفنان تخرج من محجريهما..ثم ناظرته بإشفاق لثوان قبل أن تفيض عيناها بالحب والفخر..
بينما شهقت والدته قائلة:"تخفيان عني..لا أعرف ما داء الكتمان هذا الذي يتملك أسرتنا؟..تتعرض لتهديد بالقتل يا سالم ولا تخبرني؟ ولماذا أستغرب؟ ابنك فعل المثل قضى عامين صامتًا ومنعزلًا حتى لا يُحزن أحدنا"
وافقها خالد الرأي وعاتب شقيقه:"ألم تلمني دائمًا على محاولة الكتمان سابقًا؟ انظر إليك.. بئر عميق!! تخفي عنا طوال تلك السنوات"
مسح سالم وجهه بكفيه وقد كان يفضل ألا تنكشف هذه القصة لشقيقه أو زوجته أبدًا :"لعنة الله على عبدالرحيم أينما حل! هل كان لابد من استجوابنا في هذا الاجتماع يا علي..انظر إلى النتائج!"
مشيرًا لزوجته التي عقدت ذراعيها وبان السخط على ملامحها في إعلان لخصام طويل..
أردف زيد منبهًا الجميع:"عبد الرحيم ذاك مُطالب بتعويض هيثم عن ضياع سنتين من عمره يعمل لديه بالإجبار.."
بينما شرح علي بهدوء:"لقد عرفت عبدالرحيم طوال سنوات حياتي حتى حين سافرت لم أقطع تواصلي به.. وقد سبق وأخبرني قصة مشابهة عن المصنع"
مطت شقيقته شفتيها وأردفت:"وهذا هو الوقت الذي تعرضنا فيه لتلك الكارثة تمامًا يا علي! انظر كم قضيت في الغربة تنشغل بالتواصل مع هذا الخائن!!.. ونحن من خفنا وقتها إثقال كاهلك بأخبارنا... ربما ستخبرني الآن بهدوء أنك تثق بقصته وستقف على الحياد!"
كلماتها الغاضبة المثقلة بالخذلان مع نظراتها العاتبة أثرا فيه بعمق وجعلاه يكره عبد الرحيم واليوم الذي عمل لصالحه فيه:"لم أتقصد يومًا الابتعاد يا علياء كما تعرفين أنني لم أكن أعمل بالمحاماة وقتها ..."
أطبق الصمت على الجميع ...عبدالرحيم شخص كهذا يعيث الفساد أينما ذُكر ..لا يلزم وجوده ليلحق الضرر..
قطع خالد نظراتهما المتبادلة بالتربيت على كف زوجته وأخبرتها نظراته أنها مخطئة في اتهامها..
أما علي فقد تابع بهدوء"صدفة جمعتني به ..وعبد الرحيم لا يمرر الأشخاص عبثًا ..عرفت فيما بعد كيف يستغل كل من حوله لتحقيق مآربه..في البداية جعلني أتعرف على قريبه المقاول وخططنا للعمل في الإنشاءات معًا حين عودتي وقد أفادني هذا العمل كثيرًا فصرت مدينًا لعبد الرحيم وهو كان زبوني الأول كمحام ومن يروج الدعايا لمكتبي"
لايزال الغضب يكتنف علياء لكنها في الآن ذاته تشعر بتأنيب الضمير لوضع وزر ما أصابهم على شقيقها الصغير.. و كعادتها تجد صعوبة في الاعتذار منه..
ولأنه أدرى الناس بها لم ينتظر اعتذارها وتنهد بعمق مضيفًا بهدوء:"لا أنكر أنه من اليسير تصديق اتهام كهذا يوجه لعبدالرحيم بطرقه الملتوية وأفكاره الغريبة.. لكن في الآن ذاته تكتنفني الحيرة كيف سأثبت صحة قصتكم وأنتم لا تملكون دليلًا واحدًا؟!"
لم تتمالك نوران نفسها وهتفت:"كيف تقول هذا؟ كيف يكون الحق ضعيفًا ويحتاج لدليل؟ محال أن يكون هذا المصنع من إنشاء السيد عبدالرحيم وحده.. ألم ترى كيف كاد يفلس لولا مساعدة هيثم قبل ثلاث سنوات؟! ولم يتعظ بعدها بل وصل لحافة الإفلاس من جديد فجاء لتهديد أبي"
أشفق علي على هذه الشابة الخائفة على أبيها وقال:"آسف لأننا في بلد لايؤمن إلا بالقانون الذي تُسيره الأدلة الملموسة.. ولكن أظن أن بوسعنا إيجاد ثغرة كاستخدام حجتك فقد أفلس المصنع حقًا وتم الحجز عليه"
كان صمت خالد وطاهر طوال تلك السنوات محاولة لتطويع غضبهما وخيبتهما من عبد الرحيم..لكنهما كانا مطمئنين لسير العمل في المصنع على ما يرام أما الآن بعد هذا الخبر الذي أكد علي صحته لم يعد للصمت مكان..
فعلق طاهر:"ولماذا؟ ماذا حدث ليتم الحجز؟ كيف أفلس؟ظننتها تهديدات جوفاء من عبدالرحيم ليستدر اهتمامنا"
"إنه خليفة"
أوضح علي بهدوء.. ليضرب طاهر جبهته بإدراك:"يا إلهي! كيف غفلت عن هذا.. خليفة طلب من المشغل الخاص بي طلبية ضخمة قبل فترة ونسيت في غمرة استعجالي بالقبول أن عبدالرحيم يتعامل مع ذات الشركة"
أما خالد فلم يكن يعلم هذه الحقيقة لانقطاع أخبار عبدالرحيم عنه.. فأردف:"لم أكن مطلعًا على أخبار بقية أقسام الشركة..لكن ما أعرفه حق المعرفة أن خليفة لا يتساهل في حقه"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"لم أفهم ما ترمي إليه يا عبدالرحيم...ما شأني بدين طاهر؟"
"أنصت إلي يا خليفة.. هل سبق وأخلفت معك موعدًا قط لتسليم الطلبية؟ لكن هذه المرة كان لدى نقص في العمالة فطلبت من طاهر أن يتولى مشغله العمل ولم يرفض حتى أنني أعطيته ما قبضت من مال منك حتى يلتزم بالموعد.. انظر"
وقدم الوصولات القديمة التي تفيد باستلام طاهر مبلغًا ماليًا .. وللصدفة التي رآها عبدالرحيم من حسن حظه فأسرع باستغلالها كان المبلغ مساويًا تمامًا لثمن الطلبية..
كما أظهر جهله بالتعاقد الأخير بين طاهر وخليفة وتابع يلقي بالحطب لنار الاستغفال التي اشتعلت في صدر خليفة:"لم أشأ إخبارك بهذا في المشفى فأنا على عكسك تمامًا أحب إعطاء أصدقائي فسحة من الوقت حتى لو على حساب العمل"
سأل خليفة بلهجة خطرة قبل أن يطلق مدفعه قذيفة ستودي بطاهر إلى قعر الجحيم:"لماذا لم تُزيل هذه الوصولات بتاريخ الاستلام؟ وكيف لم تخبرني عن عجز مصنعك قبل قبول الطلبية؟"
رفع عبدالرحيم كتفيه ببراءة مدعيًا التعرض للخديعة:"كما تعلم لا حسابات بين الأصدقاء.. لقد أصر طاهر على احتفاظي بالوصولات رغم أنني أعطيته ثقتي اللامشروطة.. لأكتشف الآن أنني كنت مخطئًا لذا جئت إليك أخبرك بكل ما حدث رغم خوفي من رد فعلك على إسنادي العمل لغيري دون علمك.. لكن الصدق منجاة كما يقولون فقررت أن أترك لك الحق لتحكم بما تراه مناسبًا"
تنفس خليفة بهدوء بينما عكست عينيه الشرار الكامن بصدره ونهض قائلًا: "انتهت المقابلة.. ستعرف حكمي في القريب العاجل"
"والمصنع!"
صدر خليفة الذي يتحرك بتسارع من عمق غضبه مع نظراته القوية أتت بمفعولها لينهض عبدالرحيم مبتلعًا اعتراضه ويغادر بصمت..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
انتهى الاجتماع بقول علي أنه سيبذل جهده لإظهار الحق واستئذن الجلوس متعللًا بضرورة الذهاب للمكتب ...
"علي!"
هتفت بها علياء وهي تسرع باللحاق به..
"لما لا تشاركنا الغداء قبل ذهابك؟ سيكون جاهزًا على المائدة خلال دقائق"
لايزال الجرح جليًا في عينيه رغم ابتسامة المجاملة التي ارتسمت على شفتيه..
"بالهناء والشفاء يا شقيقتي.. سأتناوله معكم في ظرف أفضل"
وسارع متجاوزًا عتبة الباب كأنه لا يطيق البقاء معها ..
كانت منادته له ب"شقيقتي" كافية لتفهم علياء قدر ألمه..إنه يذكرها برابط الدم الذي يجمعهما والذي لم تضع له اعتبارًا وهي تفجر غضبها به..
ضغطت شفتيها كابتة رغبتها في البكاء والتفتت لخالد الذي ربت على كتفها مواسيًا:"لا بأس .. لن يطول غضبه "
"كالعادة لا تواجهني بأخطائي يا خالد...رغم أنني حين أغضب أعود لفتح كل الدفاتر القديمة وأثقل كاهلك بعتابي"
ابتسم خالد بتسامح وأجابها:"يمكنني التغاضي طالما تعودين لمصالحتي فيما بعد وهذا ما أثق أنك ستفعلينه مع شقيقك..."
وتابع:"هيا..أريدك أن تجهزي أطباق الغداء في الشرفة الكبيرة.. أخطط لاستدراج طاهر قدر استطاعتي وإعادته لأجواء صداقتنا القديمة حتى يعجز عن مفارقتي مرة أخرى"
ضحكت علياء قائلة:"مثل الأب مثل أبنائه..لكل منكم هدفه الذي يتحايل لتحقيقه بأي وسيلة وأنا سئمت منكم"
فشاركها زوجها الضحك وهتف بها بينما تصعد الدرج لشقتهما:"لكنها لا تزال وسائل مشروعة يا عزيزتي!"
ثم عاد لغرفة الضيوف ضاحكًا فأخذ بيد طاهر:"هيا !...لم تجلس هكذا؟"
"كنت أشكر مازن على مساعدته لبناتي يوم الحادث"
"آه منك.. توقف عن الشكر ووضع الحدود.. إننا أصدقاء وعائلتك هي عائلتي صدق بهذا ولينتهي الأمر يا رجل ..لا تستمر بتعذيب نفسك بهذه الأفكار"
مطت نوران شفتيها وراقبت مغادرتهما الغرفة ضاحكين مع سالم : (لا غرو فقد ورث مازن ذات أفكاره)
وعند هذا الخاطر تطلعت لمازن بفضول لتجده يناظرها بتسلية.. فلكزت شقيقتها بضيق مصطنع تغطي ارتباكها:"انظري إلى من سلمت أسرارك"
ورغم ملامح هالة البائسة لسبب لم تستطع نوران تحديده بعد أو سؤالها عنه فقد أجابتها بحيرة:"حدسي يخبرني أن هناك أمر آخر... هل التقيت به بعدما كنا في منزلهم يوم الحفل؟ "
وأصابت هالة الهدف!! وهذا أكثر ما تكرهه نوران في شقيقتها أنها دائمًا تكشفها بحاستها التي تستشعر خفايا الأمور .. حتى مع مزاجها الغريب لا تكل قرون استشعارها !
فقالت تصرفها عن هذا الأمر:"انظري.. فارس أحلامك ينظر جهتنا"
"غير صحيح.. ينظر لأفنان التي تتظاهر بالانشغال في هاتفها.. أظنها فعلت ما يغضبه"
"أوووف..لا تتوقفين عن التحليل ..أفضلك صامتة منشغلة بما ستبوحين به لزوجك السري"
ضحكت هالة رغمًا عنها وكانت على وشك أن تجيبها حين باغتتهما أفنان :"ما الذي أسمعه؟ هل أنت متزوجة يا هالة؟"
زادت وتيرة ضحكاتها تأمر شقيقتها:"هيا اشرحي يا سيدة التعبيرات الغريبة .. ستفسدين سمعتي!"
قطبت أفنان بين حاجبيها ونهضت تقف أمامهما متخصرة: "لا تسخرا مني!"
"حسنًا..لا تغضبي..سأشرح لك"
لتلين ملامح أفنان كأنها طفلة تبرر كذبها لوالديها:"أنا آسفة للتطفل على حديثكما.. لكن .."
عضت شفتيها بارتباك متابعة:"كنت أحاول التهرب من غضب زيد.. لا أريد المرور أمامه بمفردي.. لذا ما رأيك أن ترافقينني يا نوران بينما تشرحين لي من هو زوج هالة السري؟"
تناظرت الشقيقتان ونوران تتأكد من صحة تحليل شقيقتها كالعادة قبل أن تنهض لترافق أفنان قائلة:"لابأس.. أنا ضد عنف الأشقاء الذكور وسأساعدك.."
ثم رفعت حاجبيها لتفهم أفنان مقصدها وتسارع بالقول:"سأحاول أن أتصالح مع غيرتي منك هيا ..بسرعة قبل أن يأتي لاعتقالي من بينكما"
"هيا أيتها المسكينة!"
وبينما تمران أمام زيد المتجهم همست نوران من بين أسنانها:"استقيمي ولا تختبئي خلفي هكذا.. لا تجعليه يستشعر ضعفك وتوترك"
"لا وقت لنصائحك الثمينة الآن..أنا مرتعبة ولا سبيل لإخفاء حقيقة شعوري.. انظري كيف ينظر جهتنا! أكاد أبكي..لن أغادر غرفتي ما إن أصل إليها"
وما إن بلغتا الدرج الفاصل بين الطابقين حتى أسرعت أفنان راكضة إلى شقة والدها ففتحت الباب وكادت تلج إلا أنها تنبهت لنوران الواقفة على الدرج دون نية في المتابعة فقالت:"هيا .. لم توقفتي عندك؟"
"لم يأذن لي أصحاب المنزل بالدخول..هذا لا يجوز..."
قاطعتها أفنان بحنق:"أوووف..أحتاج عامًا لإقناعك..لذا أنا آسفة يجب أن أدخل قبل أن يلحق بنا زيد..شكرًا على إنقاذي"
وتركت الباب مشرعًا خلفها كأنها تعطيها الفرصة بالتراجع عن رأيها إن أرادت..
فابتسمت نوران بخفة وهي تسترجع ما قالته أفنان..شكرتها ولم تصفع الباب في وجهها كما توقعت ...تغيير ملحوظ حقًا!
نحنحة رجولية جعلتها تستفيق من أفكارها تتطلع خلفها حيث مازن المبتسم بتسلية ويبدو أنه سمع حوارهما..لكن وقبل أن تصرخ به كما تريد بادرها معتذرًا:"آسف على تطاولي معك اليوم...أؤكد لك أنني أتصرف بعفوية هكذا مع المقربين مني لذا لم أنتبه لتصرفي..أرجو أن تعذريني"
"لا بأس.. أقدر هذا..ظننت أنك تعده أمرًا طبيعيًا وقد تراني مبالغة في رد فعلي"
فأجابها بما لم تتوقعه:"لست مخطئة أبدًا بل دعيني أخبرك..في المرة القادمة إن تصرف معك أي رجل بهذه الطريقة دعي بصمتك على وجهه في صفعة مدوية واصرخي به أن يلتزم حدود الأدب"
ابتسمت نوران بتسلية وسألته رافعة حاجبيها :"حتى لو كان أنت؟"
"حتى لو كنت أنا"
وصمتا يتطلعان في بعضهما كأن كل منهما يبتغي سبر أغوار الآخر..
حتى تفاجئا برأس يطل بينهما ..
"هل تصوران أحد الأفلام؟"
التفتا لفادي وزجره شقيقه بتحذير :"انتبه لما تتفوه به!"
لكنه لم يكترث لتحذيره وصاح بسخرية بينما يتابع صعود الدرج مارًا من بينهما:
"ألا نصعد الدرج لنصل إلى منزلنا؟! لم غضبت فجأة؟ أم أنك تبتغي إخفاء خطأ ما؟"
"فادي! أيها الأحمق!"
صاح مازن بدوره قبل أن يرقق لهجته ليطلب من نوران العودة للطابق السفلي بينما يتصرف مع شقيقه..
ثوان وكانا في غرفة فادي الذي بدأ تبديل ملابسه بلامبالاة..
"فادي انتبه لألفاظك وتحلى ببعض الذوق في تعاملاتك"
"حاااااااضر"
زفر مازن بيأس من إصلاح شقيقه قبل أن يتابع:"والدك كان في قسم الشرطة اليوم بناء على بلاغ كاذب..وبما أنه التقى صديق عمره هناك فقد أصر على دعوته وأسرته لتناول الغداء لدينا لذا أريدك أن تتخلى عن انعزالك و.."
لكن فادي قاطعه يقف عاري الجذع بشورت قصير:"ما الذي تقوله؟ أبي!!"
ثبته مازن يمسكه من مؤخرة عنقه:"اهدأ يا فتى! هل تنوي البكاء؟ أفنان لم تفعلها رغم قلقها"
لكنه عاد يكرر كأن صوت مازن لا يصل لسمعه:"أبي! أي بلاغ كاذب؟ كيف؟ أين هو؟"
واتجه لباب الغرفة بغية البحث عنه..فأوقفه مازن بتسلية:"أنصت إلي..نوران وهالة في شقة عمك ...لا يجوز أن تخرج بهذه الهيئة يا فتى"
ضحك بينما يضربه بخفة على رأسه:"هل تسمعني؟ فادي!"
شهقة مكتومة لم يستطع شقيقه الأصغر كتمانها قبل أن يسرع لحمام غرفته تاركًا مازن فاغرًا فمه يتمتم بسخرية:"ورغم هذا يعتزل والده منذ شهور! المعتوه الصغير"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
عادت نوران لغرفة الضيوف لتجد شقيقتها قد انضمت إلى نوال ونعمة في حديث مطول عن مجريات الأمور الأخيرة وكل منهن تحاول تحليل الموقف كما تراه..
فجلست على إحدى الأرائك دون اكتراث بأحاديثهن ليتضح لها أن النافذة التي تعلو رأسها تطل على شرفة المنزل وهاهو صوت والدها يصلها بوضوح ..
"لم نغادر البلدة ..أقمت في منزل والدي المتطرف على حدودها واعتبرته ملاذًا ملائمًا بعيدًا عن عبد الرحيم..لكنه وجدني في النهاية فقررت تأجير شقة هنا على عجالة"
"أيها الخبيث لم أكن أعرف هذا..بالتأكيد عبد الرحيم يصل في النهاية مهما حاولت..وأين هذه الشقة المؤجرة؟"
وصف طاهر موقع العقار حيث استأجر شقته فعقب سالم بدهشة:"إنها ملك علي العدل أليس كذلك؟"
وأجابه طاهر متفاجئًا:"نعم كيف عرفت؟"
ليوضح خالد:"علي شقيق زوجتي..كان يعمل بالعقارات سابقًا وهذا العقار ضمن أملاكه.."
ثم أضاف مازحًا:"أترى؟ لا مهرب مني مهما حاولت.. كل الظروف تدفعك إلي.. لولا تحفظك لكنت تعرف هذه المعلومة منذ زمن "
ضحك الثلاثة رجال ولزم طاهر الصمت كأنه يسلم بصدق ما قاله خالد والذي سرعان ما سأل ساخطًا:"اصدقني القول يا طاهر..أي دين كان لعبد الرحيم لديك؟! لا أكاد أصدق! أنت بكل الحواجز التي تحيط بها نفسك ذهبت للاستدانة من عبد الرحيم؟"
فكرت نوران ووجدت أن خالد محق..كيف لم يخطر في ذهنها تساؤل كهذا؟ والدها لا يلجأ لغيره وإن كان الموت بديلًا لاختاره بكل سرور!!
لا بأس لا داعي لإجهاد عقلها بالتفكير فهاهو والدها يجيب:"لم أندم في حياتي إلا على شيئين يا خالد..شراكة المصنع التي خضنا فيها بسرعة وصرفنا الربح عن إثبات حقوقنا ...و أمر هذا الدين..
أتذكر صندوق البلدة الذي كنا نجمع فيه المال..كل منا يدفع مبلغًا شهريًا بسيطًا لنجمع قدر كاف يستخدمه من يضيق به الحال "
"نعم أذكر..ماذا بشأنه؟"
"عبد الرحيم استنفذ المبلغ كاملًا لسبب لا أعرفه...وحين احتجت ما أكمل به نفقات علاج والدي رحمه الله لم أجد ما قد يساعدني في الصندوق وبدأت أفكر في البحث عن عمل آخر إلى جانب المصنع..
وكالعادة عبد الرحيم يعرف كل شئ.. أتى يعطيني المال بدعوى أنه يرد ما كان بالصندوق وليس دينًا يقرضني إياه لأرده فيما بعد"
ضحك خالد بسخرية وتابع بدلًا عنه:"بعد حرق منزلي وحادثة المصنع..بإمكاني التخيل.. عبد الرحيم أتى يطالبك بالمال الذي استدنته منه.."
"لا أدري ربما أنا المغفل بعد كل شئ.. فقد رفضت عرضه وكتبت وصولات أمانة بالمبلغ الذي أقرضني إياه ..كنت متعجلًا لأدفع للمشفى الذي يرفض بدء العلاج حتى استيفاء الرسوم"
"بحق الله يا طاهر هلا أخذت صداقتنا ببعض الجدية؟"
وعلق سالم الصامت منذ بداية الحوار:"أظن أن هيئتك لا توحي بالثقة يا أخي"
ابتسمت نوران بخفة وصوت قهقهات والدها تصلها قبل أن يجيب خالد شقيقه مازحًا بالمقابل:"أنت اصمت حتى نرى حكم نوال فيك..ربما تحتاج أن أتولى الدفاع عنك"
"هاهما هيثم وزيد عائدين من المطعم...سأقنعك بالدفاع عني فيما بعد"
أجابه سالم ضاحكًا ثم تابع وهو يتجه لأحد أركان الشرفة حيث أسندت مائدة أرضية بشكل طولي:" ساعدني لطرح المائدة أرضًا"
اقترب خالد يساعده بينما يقول مازحًا:
"ألا يمكنك التظاهر بالشبع أمام طاهر على الأقل؟"
عاد سالم للضحك وأجابه:"الجوع رغبة طبيعية تعتري كل بني آدم ..لم علي أن أخجل من إظهارها؟!"
شاركه خالد الضحك قبل أن ينتبه لطاهر الذي يبتعد كأنه على وشك مغادرة الشرفة فصاح بمرح:"تعال إلى هنا! هل تظن أنك ستعود لمنزلك قبل تناول الغداء؟ لن تغادر حتى أتأكد من كسر جميع حواجزك"
وعقب سالم بذات الروح المرحة:"ربما صديقك لا يحب تناول الطعام على مائدة أرضية.."
"هل هذا هو الأمر يا طاهر حقًا؟ إن كنت نسيت عاداتنا في البلدة فلا بأس نضع الطعام على السفرة في شقتي"
وضحك طاهر على سجالهما قائلًا:"بالتأكيد ليست (الطبلية )ما أهرب منها"
"ابن بلد حقًا!"
قالها خالد ضاحكًا قبل أن يسحبه من ذراعه ليجلسه أرضًا وأردف:"انظر ستجلس هكذا لدقائق حتى نضع أطباق الطعام..لن تهرب ريثما أنادي عائلتك "
"حسنًا أستسلم هذه المرة .."
إلا أن مزاحه أثار المرارة في نفس خالد ليتنهد ولاتزال القطيعة التي نشأت بينهما لسنوات تحز في نفسه وعلق بلوم:"كان عليك الاستسلام منذ وقت طويل يا طاهر! لكن على كل حال سأعيد التعارف ببناتك كما يجب حتى لا تجدا الهرب سهلًا مثلك"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
كلما نضبت دموعه تعود للهطول من جديد!
إنه والده الذي يقف منه على حد سيف..
فلا هو بقى طفلًا مقربًا منه يصحبه حيث يذهب ويُعنى بكل شئونه ...
ولا شبَ ليحظى بثقته وفخره..
مهما راجع نفسه لا سبيل لإقناعها بغير رأيه.. لن يظل تلميذًا يذهب للمدرسة ويعود لاستذكار دروسه بغية حصاد الدرجات النهائية ..
تلميذ بشارب وصوت رجولي! أي موقف هذا؟!
وكالعادة رفض طلب مازن وفوت الترحيب بالضيوف ليلزم غرفته باكيًا كالأطفال مناقضًا نفسه.. نعم صار رجلًا .. ونعم يتخيل والده يتخطى الحواجز الوهمية التي أنشأها بينهما ويدخل غرفته يربت على رأسه..
"كم أتطلع للحديث معك!"
ردد بأسى قبل أن يشرع بتصفح مدونته الإلكترونية التي أنشأها حديثًا ليعرض أعماله الفنية فربما جذبت انتباه أحدهم ليعرض عليه العمل..
تذكر سخرية سامر منه حين أخبره عنها وقوله الحانق:"أي مدونة هذه؟..كان عليك إنشاء صفحة على الفيسبوك أو الانستجرام..هذه المنصات الأكثر استخدامًا هي ما ستساعدك"
لكنه يفضل ألا يعرض أعماله في منصة يستخدمها أي من أفراد عائلته حتى يحقق ما يبتغيه فيعلن لهم أنه صار ناجحًا...
وإمعانًا في إشغال نفسه بدأ يمر خلال مدونات الآخرين يتفحص ما يعرضونه لتجذبه مدونة بعينها ..
ولا يدري لم توهج إحساس داخلي لديه أنها منة..هذه الاقتباسات المختصرة الحزينة التي نشرتها .. مع تساؤلات غريبة عن عالم الحيوان كقولها:
(الأسود هي أسوأ الكائنات في عالم الحيوان...الأنثى هي المسئولة عن اصطياد الفرائس ثم يكون القائد الذكر هو أول من يأكل منها..
أما عن الأشبال فحين يكبرون يخرجون عن القطيع ليبحث كل منهم عن قطيع آخر يتسيده بقتل قائدهم والزواج من أنثاه وإن رفضت فمصيرها القتل..
هل رأيتم أسوأ من عائلة كهذه؟!!)
ضاقت عيناه يحاول فهم المغزى من هذا التساؤل.. ثم كان ما جعله يتيقن من ظنه أنها منة إذ نشرت رسمته مع تعليق يفيض بالسعادة:
(كانت هذه اللفتة كفيلة بجعلي أتحمل أي تنمر أتعرض له في المدرسة..ممتنة لمن أهداني إياها وأتمنى أن أصير يومًا كما تخيلني في رسمته)
إذ أنه كان قد أهداها يومها رسمتين إحداهما تجسد هيئتها تمامًا..
وأخرى بوجه أكثر امتلاء بعد أن اختفت عظمتي الوجنة البارزتين في الرسمة الأولى وابتسامة متألقة تفيض بالحماسة..وهي التي نشرتها مع تعليقها..
حينها انتابه إحساس بالفخر أن تكون رسمته هي من أشاعت داخل نفسها السرور وجعلتها تتحمل ما تقاسيه من تنمر..
وتعهد لنفسه أن يبذل قصارى جهده ليحميها من تنمر دينا وبسنت بالأخص..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
انفجر طاهر ضاحكًا بعدما فشل في تمالك نفسه..
إذ يجلس خالد مقابلًا له مترأسًا المائدة من الجهة الأخرى فيناظره ثم يناظر ابنتيه كل حين متوعدًا ..
ثم صاح به بصوت متقطع من أثر الضحك:
"قل ما تريد وخلصنا.."
فشاركه خالد الضحك بدوره ثم قال بكبرياء:"هالة..نوران..لقد تعرفت عليكما بعيدًا عن هذا الرجل وأريد ألا تربطا علاقتكما بي مع صداقتنا التي يتهرب منها"
أجابته هالة بمرح:"وأنا إنسانة لا تحب كتم شعورها ولذا يجب أن أعترف أنني أحببتك يا سيد خالد.. صدقني كانت الشركة بلا معنى دون وجودك اليوم"
"انظر!..انظر وتعلم..تعرفت عليها منذ شهر فقط "
مط طاهر شفتيه بسخرية:"وتناديك سيد خالد! ابنة أبيها تعرف الحدود!"
فحدجها خالد بنظرة متوعدة قائلًا:"هكذا! تُشمتينه بي يا فتاة وأنا أشدت بانفتاحك ومرحك..يبدو أنني سأرفض اعترافك بالحب وأنتقل لشقيقتك..نوران!"
رفعت نوران ناظريها إليه واحتارت ماذا عليها أن تقول... لا تستطيع أن تكون مرحة كشقيقتها ولكن لابأس ستتحلى بالذوق اليوم فقط وتتظاهر بعكس حقيقتها..
"مازن يقول أننا صرنا كالجيران بعد أن جمعتنا مدينة واحدة..لذا مؤكد أنك لن تفترق عن والدي من جديد يا سيد خالد"
ضيقت هالة عينيها تلتقط الذبذبات بقرون استشعارها.. متى قال مازن جملة كهذه؟ قالها في غير حضورها كما يبدو!
إذًا سيحين وقت استجوابك يا نوران انتظريني! ..هكذا توعدت شقيقتها التي يبدو أنها تنبهت لجملتها التي أوقعتها في مأزق أكبر أمام عيني مازن المتسليتين بتخبطها..
أما خالد فقد تذمر قائلًا:"انظرا إلي حتى لا أستخدم معكما لهجة التهديد.. أنا العم خالد فقط لن أسمع كلمة سيد تلك مرة أخرى .. ولن تكون هناك أسرار بين العائلتين ما يصيبكم يصيبنا ولكم حرية الاختيار فيما يصيبنا"
"إزالة الحدود تعني أن المعاملة ستكون بأفضل منها ولن تجدنا أنذالًا ننسحب عند الشدة"
أكد طاهر بثقة ليضرب خالد على المائدة باستحسان:"هذا أفضل ما سمعته منك يا طاهر منذ تعارفنا..استمر على هذا المنوال"
أما أفنان المتأثرة بلقاء الصديقين بعد سنوات وجدت الفرصة أخيرًا لتفضي برأيها:"أحببت لقائكما كثيرًا يا أبي..أرجوك يا عمي لا تتخلى عن صداقتكما من جديد مهما كانت الظروف..إن افتقاد الأصدقاء كسكين بارد يقطع في جسد الإنسان ببطئ ليس عذابًا سرعان ما ينتهي بل يقضي على راحته تمامًا ويتركه فريسة الوحدة رغم الزحام حوله"
أيد خالد وطاهر حديثها وتابعا مزاحهما بشأن صداقتهما ..
بينما انفصل هيثم عن الجميع وتشبيه أفنان يلامس شغاف قلبه فيجعله ينقبض معتصرًا حبه الكامن لها.. هذه مهجة قلبه التي حرم منها سنوات طوال ..هاهي تصرح بها للجميع .. تشرح بأقسى الكلمات كيف عانت في غيابه..
في وقت آخر كان ليشعر بالفخر لأن هذا يعكس قدر حبها له لكن الآن لا ينتابه سوى الأسى لأنه كان سببًا في معاناتها..
ثم تنبه من شروده على استئذانها ومغادرتها الشرفة بهدوء...
ومع صخب الجلسة العائلية لم يلتفت إليه أحد وهو يلحق بها..
"قبل أن ينتهي هذا الاجتماع أريدكم أن تكثفوا جهودكم لإقناع زوجتي ببراءتي"
انفجر الجميع في الضحك مع إشارة نوال المتوعدة ..وعلق خالد بحذر:
" هذه الأمور تتخطى قدراتي ..هاهي زوجتي لا يفصلني عنها أكثر من شبر ولكن لا أحد يعرف ما قد يحدث في المستقبل"
أما طاهر فقد التفت لزوجته التي تناظره كأنها تقول( افعل ما يغضبني لتنتهي حياتك) ثم أردف بمرح:
"وأنا مدين لزوجتي بعشاء راق في أحد المطاعم.. لا أستطيع التدخل"
أمالت هالة رأسها على كتف والدها بدلال:"أهكذا يا أبي؟ ألن أشارككما هذا العشاء؟"
وأمام عيني زيد المراقبتين ابتسم طاهر ابتسامة تفيض حبًا كأنه يخصها بها فقط وقال:"لنؤجل خاصتنا ليوم آخر حتى أهبك كل اهتمامي"
فقبلته بدفء قائلة:"آه..كم أحبك!"
تسرب هذا الدفء أيضًا ليشمل زيد الذي وجد قلبه يخفق متأثرًا بعمق العاطفة بينهما ورغمًا عنه تخيل نفسه موضع طاهر يدلل هالة ويتنعم برقتها ..
وسرعان ما تبخر حلمه في الهواء حين لكزه مازن قائلًا:"شقيقك عديم الذوق لم ينزل بعد.. انظر إلى والدك كيف يرقب باب الشرفة كل حين كأنه ينتظره"
ولم تلق جملته صداها داخل نفس زيد الذي أطلق زفرة ساخطة لإخراجه من حالة الهيام التي أنس بها:
"ابتعد عني الآن !"
فشاكسه مازن الذي لم يفهم سبب غضبه إذ همس في أذنه مغيظًا:"لا أعرف ما يشغلك ولكن.. أفنان غادرت الشرفة منذ دقائق و في أقل من ثانية كان هيثم يلحق بها"
اتسعت حدقتي زيد وتنبه لصدق قول شقيقه فانتفض واقفًا مجفلًا الجميع ..
قبل أن يتنحنح بإحراج :"عن إذنكم"
وغادر الشرفة بخطوات متعجلة لتميل هالة على شقيقتها:"أبشري بقطع عنق أفنان"
لكزتها نوران التي خشت أن يكون صوتها مسموعًا للجميع:"لا تفوتك شاردة أو واردة! اصمتي أو تابعي التمسح بوالدك يا مدللة"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أفنان!"
التفتت إليه دامعة العينين فانحبس صوته داخل حنجرته...لا يعرف كيف يعتذر منها وكيف السبيل لمحو سنوات عذابهما!!!
وارتأى أن يخرجها من بؤرة ذكرياتهما البائسة قائلًا:"ليس ذنبي صدقيني .. زيد رفض تقديم الحلوى قبل الغداء"
ضحكت أفنان رغمًا عنها وحديثه يعيدها لأفضل أيام حياتها ثم قالت:"لا بأس لنغير عاداتنا اليوم فقط ... كما أنني أخشى مازن .."
قطب هيثم وسألها باستغراب:"ولم تخشينه؟ "
ابتلعت غصة مسننة في حلقها وأجابته بمرارة:"لن تجد عندي أي تفسير .. عليك أن تجمع المعلومات بنفسك وتعرف ما فاتك ....في غربتك"
أغمض عينيه يستوعب القذيفة التي أطلقتها تجاهه وقبل أن يجيبها كان زيد بيفصل بينهما..
"خيرًا! ..ماذا...."
قطع حديثه تمامًا حين اندفعت أفنان تخفي وجهها في صدره وتنوح بصوت عال...
فهدهدها برفق وربت على رأسها مشفقًا عليها قبل أن يلتفت لابن عمه البائس وأمسكه من مؤخرة عنقه ساحبًا إياه تجاهها...
"ارفعي رأسك..ها هو عنقه بين يدي..أستطيع أن أفصله عن جسده إن أردت.. اطلبيها فقط وسأفعلها بكل سرور"
لكنها لم تتمثل لأمره مستمرة في بكاء متواصل حتى دفعه هيثم وغادر دون أن يملك ما يستطيع قوله وهذا الإحساس بالعجز يقتله..
ثوان وكانا يجلسان على سريرها لتترك أحضانه أخيرًا:"آسفة...أنا عاطفية بشكل سئ جدًا هذه الأيام وأبكي لأقل سبب"
فقبل زيد رأسها بحنو:"تعلمين أنك تستطيعين البكاء قدر ما تشائين فلن أعترض.. لا تنسي أبدًا يا فنين أنني ركن راحتك فاستغليه كما يحلو لك"
ارتسمت بسمة خفيفة على شفتيها وسألته:"هل يعني هذا أنك لست غاضبًا مني؟"
وكأنها ضغطت على زر التحول إذ ارتفع حاجبه تدريجيًا وارتسم الامتعاض على وجهه وصاح غير قادر على كبت انفعاله:"لو أنني أفهم فقط ما يعنيه هذا الحب الذي يجمعكما؟ كلما تأكد لي قوة مشاعرك كلما رغبت في دفعه من سطح منزلنا ولنسترح منه"
شهقت شقيقته من القسوة التي تتكشف لها للمرة الأولى وأجابته بقلق مستتر: "إنه وحيد والديه"
ليدفعها زيد برفق ونهض بنية مغادرة الغرفة قائلًا بسخط:"وكأن هذا سبب اعتراضك !!"
وتركها ضاحكة تفكر في المسكينة التي ستقع في فخ الزواج من شقيقها.. سيعاملها كزجاج نادر الوجود يخشى انكساره ويخفيها عن الأعين.. ربما تستطيع احتمال غيرته لكن غضبه الأسود الذي ينطلق ليدمر الأخضر واليابس!! فليكن الله في عونها!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
ذلك المساء في بيت طاهر ..
"كنت تبدين كدجاجة منتوفة الريش حين عدت للمنزل اليوم"
ضحكت نوران بصخب قائلة:"انظروا إلى التعبيرات!!"
"اعترفي هل قاموا بتعذيبك في القسم بينما تنتظرين الإفراج عن والدي؟"
كان تساؤل هالة كفيلًأ بأن يحيل وجهها إلى آخر عابس متجهم وأجابتها بتأفف:
"أووف..ياللسخافة! كنت غاضبة وذهبت للصالة الرياضية قبل العودة للمنزل..لا أظن أنه من الصعب أن تستنتجي أمرًا كهذا بحاستك السادسة"
ضيقت هالة عينيها لتسألها بخبث:"حاستي السادسة تسألك هل تقصدين الصالة الرياضية الخاصة بمازن؟"
حينها انفجرت نوران بها صارخة:"هالة!! أمامك دقيقتين للخروج من غرفتي"
فانغمست هالة في موجة ضحك لانهائي وأجابتها:"لن يحدث..سأقضي ليلتي معك"
ظنت أن نوران ستحاول طردها بشتى الطرق وتبدآن شجار الشقيقات الذي تحبه بشكل خاص لكنها التفتت إليها لتقول:"جيد أتحت لي فرصة استجوابك"
"لااااااااا"
ولم تعبأ نوران بصراخها المضحك لتبدأ الاستجواب بدورها:"عدت لأجدك كنملة عجوز تتسند على أمي"
هذه المرة وقعت هالة أرضًا من كثرة الضحك لدقائق دون أن تستطيع إجابة شقيقتها ثم تنهدت وشعور دافئ يتغلغل لروحها التعسة:"نملة عجوز!! بربك يا نوران...أنت فقط من تستطيعين إدخال البهجة لنفسي.."
"هيا توقفي عن التنهد كالعجائز وأخبريني بالتفصيل ما الذي أزعجك اليوم"
تنفست هالة بعمق قبل أن تجيبها بهدوء:"وأنا انتظرت لحظة الانفراد بك لأشكو لك ما حدث"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
شعر عرفه أن السيارة تطير بهم حيث وصلا دون عوائق مرورية وبسرعة فائقة إلى المدينة وبذات السرعة كانا عند منزل سعيد..
فلم يستطع التخلص من إلحاح فاروق بأي حال من الأحوال.. لماذا لم يأت سعيد لزيارته؟ لماذا انقطع عنهما؟..
بحق الله هل سيخرج الميت من قبره ليعودك في مرضك؟! كاد يصرخ بها في وجهه بالأمس..
لكن هاشم كان له رأي آخر.. وهاهما بناء على رأيه يقتربان من العقار الذي يسكن فيه سعيد وليلى..
كتم عرفه أنفاسه وسار مجاورًا لشقيقه متوقعًا الأسوأ حين يعلم شقيقه بما أخفاه.. مرا بصوان عزاء مقام عند مدخل العقار فترحما على المتوفى الذي يجهلان هويته وصعدا حتى وصلا للشقة المقصودة..
ناظر هاشم شقيقه المتراجع باستغراب لقد ظن أنه سيندفع لطرق الباب ويمسك بتلابيب سعيد لكن تصرفه فاجأه حقًا..
فبادر بقرع الجرس ولم يدم انتظاره طويلًا فقد فتحت له سيدة متشحة بالسواد بوجه أحمر من كثرة البكاء وقالت من وسط شهقاتها:"يمكنك تقديم العزاء بالأسفل حيث صوان العزاء"
"أي عزاء؟ لحظة أظنني أخطأت في العنوان... هل هذه شقة سعيد القتيل وزوجته ليلى؟"
زاد بكاء السيدة وأجابته بصوت متهدج:"توفي العم سعيد منذ مدة أما ليلى فقد توفيت بالأمس"
وأعرضت عنه حيث تلقفتها أحضان أخرى من بين جموع السيدات اللاتي يرتدين السواد.. تمتم هاشم:"لاحول ولاقوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون"
ثم التفت لشقيقه المصدوم الذي جثى على ركبتيه وهو لايفتأ يكرر:"ماتت ليلى!! ماتت قبل أن أراها !"
#ڤوت
#كومنت
بستمتع بقراءة تعليقاتكوا الجميلة متحرمونيش منها❤️❤️
YOU ARE READING
جيران المدينة
Romanceرواية اجتماعي..رومانسي..كوميدي.. تناقش عدة قضايا اجتماعية في إطار عائلي درامي انتظروا فصل جديد يوميًا بإذن الله ❤️