الفصل العاشر

45 3 6
                                    


الفصل العاشر
قرع متواصل على جرس الباب أقلق وجدان التي سارعت لاستطلاع هوية الزائر وما لبثت أن هتفت بذهول: "رحيم!"

"اشتقت إليك يا زوجتي"
قالها عبد الرحيم وهو يضمها إليه ثم أردف عاتبًا :"هل هنت عليك لتقطعي الزيارات وتتركيني بين يدي الممرضات"

وقطعًا لم تجد وجدان الوقت لمقارعته بخطأه فقد سمعت ليلى المتلهفة صوته ونادته:"عبد الرحيم.. تعال إلي"

فلم تجد وجدان بدًا من التوضيح:"أصيبت بأعراض الجلطة من جديد ولن تستطيع مغادرة فراشها"

فأومأ زوجها متفهمًا ودلف غرفة ليلى وما هي إلا دقائق حتى ارتفعت الضحكات فتأففت وجدان وتمتمت بأسى:"يارب ادحر كيده"

ثم  وقفت بابتسامة مصطنعة عند باب الغرفة تراقب بسخط كيف يتقرب زوجها لليلى ويسهب في الحديث معها عن ذكريات زوجها الراحل..الآن تفهم سبب تحليه بالصبر مع العجوز منذ انتقلا لشقتها.. كانت تظن في بادئ الأمر أن طباعه قد تغيرت وأن حياته مع العجوزين هذبت طبعه القاسي لكن هيهات!! إنها تحركات ثعلب ماكر يخطط بدقة لتحقيق مآربه..
التفت إليها قائلًا:
"وجدان حبيبتي هيا حضري الغداء لليلى..سأتناوله اليوم معها..لن تغاري أليس كذلك؟ "

ثم نهض وقادها بمزاح أمام ليلى للخروج من الغرفة و همس:"لا تتأخري فاليوم ينتهي كل شئ "

داعب ذقنها وهو يرى الغضب جليًا على وجهها وقال:"حين تمتلكين الشقة ستنسين سخطك هذا ..أنا أكيد مما أقول"

فأجابته بتقزز كأنها تبصق في وجهه:"أنا أشمئز منك..وسأدعو الله ليخلصني من هذا الزواج "

تحركت يده من ذقنها إلى وجنتها في لطمة خفيفة ورغم اشتداد عينيه وظهور الغل فيهما..قال باستخفاف:"كثفي الدعوات فقد تجدينني ميتًا بالغد إذًا ! "

ومضى عنها ضاحكًا ..أما هي فرغم سخطها لم تملك إلا تنفيذ أمره لئلا يتأخر الطعام عن العجوز المغدورة..
وفيما بعد جلست بقلة حيلة في غرفتها تستمع لصوت ضحكاته التي صارت أبغض شئ إليها الآن فرفعت يديها راجية الله أن يرحم العجوز..
لحظة! توقف الحديث المازح وارتفع صوت عبد الرحيم مناديًا ليلى فخرجت بلهفة خشية أن تكون قد تعرضت للإغماء من جديد...

لكنها رأت زوجها يتحسس النبض في رسغها وما لبث أن رفع رأسه إليها قائلًا : "هل وضعت السم في طعامها؟ يا محتالة! تلومينني على طمعي ثم تضعين هذه الخطة الجهنمية؟"

وضحك بسخافة بينما شحب وجه وجدان وأجابته بارتباك:"أنا...لم أفعل"

تابع عبد الرحيم ضحكه وقد راقه وجهها الشاحب ثم قال وهو يقدم لها ورقة : "انتهى الأمر كما أخبرتك..لم أتوقع أن تكون العدالة الإلهية عونًا لمخططاتي إلى هذا الحد؟...انظري نلت توقيع العجوز قبل احتضارها..كم أنا محظوظ!"

سألت وجدان بخوف والشك يعتمرها:"رحيم ..أنت لم تقتلها أليس كذلك؟"

فأجابها بهدوء وهو يخرج هاتفه :"لم أفعل..إنها مشيئة الله وبإمكانك أن تطلبي تشريح الجثة.. دعيني الآن أجري اتصالاتي لأنهي هذا الأمر"

ظنت وجدان لوهلة أنه سيتصل بالطبيب ليتحقق من الوفاة ويتم دفن المتوفاة لكنه اتصل بعلي محاميه البغيض وقال ما أثار غضبها:"وقعت الحاجة على عقد البيع كما طلبت ودون توكيلات ..متى نذهب لتوثيقه؟"

فلم تستطع أن تتمالك نفسها وانقضت عليه تمسكه من تلابيبه صارخة:"أي عقد يا منعدم الضمير؟ ماتت العجوز للتو بعد أن خدعتها؟ ليحل عليك غضب الله ماذا تفعل؟ "

ولم يهتم زوجها برضاها أو عدمه بل لفها بسهولة بين يديه ليصبح ظهرها مواجها لصدره وكمم فاها حتى أنهى مكالمته ...ثم ألقى بهاتفه وحررها قائلا:"لن أسمع اعتراضًا...كل ما ستفعلينه هو التكتم على وفاة العجوز حتى نوثق عقد البيع"

فصرخت بجنون رافضة أن يجبرها على هذه الحقارة:"لن أفعل...إكرام الميت دفنه وهو ما سأقدمه لتلك العجوز التي لم تعاملني يومًا بسوء كي أجرم في حقها بهذه الطريقة"

فتلقت صفعة أولية أدارت وجهها وعلا صوته الغاضب يأمرها:"اعتدلي يا وجدان.. لا تنسي من تخاطبين..واجب الزوجة هو تنفيذ أوامر زوجها أيًا كانت"

ودون اكتراث بألمها هتفت به بقوة:"امر بما يستطاع تطاع..أنت تطلب مني ترك المرأة تتحلل حتى تتم احتيالك ..يا ظالم! ألم تفكر أن الله قد يقبض روحك في الحال وتجاورها تحت الثرى عوضًا عن الاستيلاء على ملكها؟...كن عادلًا يا رحيم! الله يرانا"

فتلقت الصفعة التالية وقد بلغ جنونه مداه :"هذا أجر خدمتنا لها وزوجها وتسلمينا إياهما للقبر ..وإن نطقت بحرف آخر حتى طلوع الشمس فسأواريك الثرى معها هكذا وأنت حية ترزقين "

ومضى عنها بعد أن أحكم إغلاق باب الشقة وسلبها هاتفها ..وفي لمح البصر دون محاسبة لنفسه الآثمة راح في نوم عميق وتركها تبكي بصمت لاعنةً حظها العثر..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

"نوران هل تسمعينني؟"
وصلها صوت والدها المضطرب مما جعلها تقاوم تشوشها من أثر النوم ونظرت لساعة الحائط فوجدتها جاوزت منتصف الليل ..
وكان هذا كافيًا لتستفيق  بالكامل وتجيب والدها بتركيز:"نعم أبي أسمعك"

أخبرها والدها بسرعة كيف أخذته الشرطة من أمام منزلهم قبل دقائق بتهمة تدبير حادثة عبد الرحيم ثم طلب واثقًا أنها قادرة على تنفيذ مطلبه:"رغم أنني كنت أتوقع موقفًا كهذا إلا أنني لم أستعد له ..اتصلي بالسيد علي وأخبريه بموقفي يا ابنتي.."
ودون أن تسمع المزيد لأنها كانت تتوقع اعتذار والدها معتقدًا أنه يكلفها بأكثر مما تطيق لكنها هي والمسئولية وجهان لعملة واحدة وإلا فمن يحمل مسئولية عائلتها إن لم تفعل..أجابته بثقة:"دقائق وسأكون عندك أبي"

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

استيقظت وجدان من نومتها غير المريحة على الأرضية واستغربت حين وجدت ليلى تنام على الأريكة في صالة المنزل فمدت يدها توقظها.. لكنها سرعان ما سحبتها كأن مسًا كهربائيًا أصابها وقد تذكرت الواقع الأليم فسالت دموعها تفكر كيف تنقذ هذه المسكينة من مخططات زوجها..

تحققت أنه لم يستيقظ بعد ودخلت الغرفة حيث ينام تبحث بعزم وخفة عن تلك الورقة الموقعة يجب أن تتخلص منها..كما يجب أن تستعيد هاتفها وتطلب من وحيد أن يحضر طبيبًا لاستخراج شهادة الوفاة..

"طاهر.." همس عبد الرحيم
ففزعت وجدان واستندت بظهرها إلى الخزانة منتظرة ما سيحل بها..لكنه لحسن الحظ كان لايزال نائمًا ويهمس باسم صديقه الذي خانه سابقًا كما أخبرها في إحدى نوبات هدوئه حين يتذكر ذنوبه ويندم على فعلها ويقسم أنه سيعتذر ممن ظلم ..لكنه لا يلبث أن يتراجع كأن شيطانًا قد سكنه ولعب برأسه..

كان بحثها دون جدوى لذا نظرت وجدان لساعة الحائط بأمل أخير .. إذ أن وحيد يذهب لعمله بين العاشرة والحادية عشر فربما تستطيع التواصل معه بشكل آخر..
سارعت للشرفة بعد أن كتبت ورقة تطلب العون ووضعتها في سلة مربوطة بحبل وانتظرت حتى يمر ... وهي تدعو الله ألا يكون قد ذهب لعمله قبلًا..

والحمد لله حالفها الحظ وما إن لمحت وحيد يخرج من باب العقار حتى ألقت بالسلة بغية لفت انتباهه..لكن السلة لم تصل رغم طول الحبل لأن يدًا أخرى متجبرة سحبت الحبل ورفعت السلة..

التقط عبد الرحيم الورقة وقرأها باستخفاف:"توفيت ليلى ليلة الأمس.. أرجوك ساعدني!"

ضحك جارًا إياها من حجابها يدخلها الغرفة وقال:"لا فكاك لك مني يا وجدان.. وستبقين هنا في المنزل باحترام ترقبين جثة ليلى بصمت ريثما أنهي توثيق العقد مع علي.."

لم تهتم  وجدان بمعاملته القاسية معها وحاولت للمرة الأخيرة دون يأس: "أرجوك.. أنت ندمت على حرق منزل خالد وأعطيتني الوصولات التي تخص طاهر لأتلفها..عد إلى صوابك..ادفن ليلى بسلام ودع ممتلكاتها تذهب للورثة .. أرجوك لدينا منزلنا ..حتى يمكنك جمع المال من جديد وتعويض خسارتك.. أنت بارع في عملك.."

كادت تقبل يده ترجوه العودة للرشد والتزام الصواب لكنه أبعد يده وراح يربت بها على رأسها..وقال كأنه يخاطب طفلة صغيرة:"ستكونين مطيعة وتبقين هنا دون ضجة أليس كذلك؟ "

ورفع هاتفه يستعجل علي لتوثيق العقد مغلقًا باب المنزل بالمفتاح محتجزًا وجدان وأملها في العيش بسلام..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
دخل عبد الرحيم المتكئ على عكازه قسم الشرطة بكبرياء وثقة وفورًا لمح تلك الشابة التي تكتفت وزمت شفتيها جالسة على دكة خشبية كأنها تجاهد ألا تبكي .. فاقترب منها وحياها باستخاف..
وحالما رفعت نوران عينيها ورأت وجهه الساخر اشتعلت نظراتها بالغضب مما أجج فرحته بالانتصار وقال:"اعذريني خفت ألا توصلي سلامي لوالدك.. فأردت تحيته بطريقتي"

لم تتح لنوران فرصة الرد وهي ترى خالد يدخل القسم بوجه متجهم يجاوره أفراد الشرطة ..فربت عبد الرحيم على كتفه يحييه قائلا:"آه..كيف حالك يا رجل؟.. هكذا تتعب رجال الشرطة في البحث عنك ليلًا؟"

ثم ترك العيون تقدح شررًا واتجه للباب مغادرًا وهو يقول باستفزاز:"إذا سأغادر وأدع العدالة تتخذ مجراها.."

وبعد رحيله سمح رجال الشرطة لخالد بالحديث إلى نوران التي قالت بلهفة: "سيد خالد ! لم أحضروك إلى هنا؟"

"دبرت الحادث ..هكذا يقول السيد عبدالرحم ولايريد تركنا لنعيش حياتنا بسلام"
اتسعت عيني نوران بصدمة وقالت:"أي جنون هذا؟ إنه يتهم أبي كذلك ..أرجوك يا سيد خالد هلا طلبت من إحدى المحامين الترافع عن أبي.. اتصلت بالسيد علي العدل لكنه لم يجب ولا أعرف غيره.. "
وقبل أن يجيبها أو يسألها كيف تعرف شقيق زوجته..كان والدها يتقدم مع رجلين من رجال الشرطة..
فنظر الصديقان لبعضهما بدهشة و..حنين.. وسخط على الظروف ..هل هكذا يكون اللقاء بعد سنين طوال؟!! في قسم الشرطة متهمين من أعز أصدقائهما !! خسئت الظروف وخسئ عبد الرحيم!

وسرعان ما أدار طاهر عينيه بخجل عن عيني خالد المشدوهتين ودلف الصديقان بدفع رجال الشرطة إلى مكتب النائب للتحقيق..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
رافق علي عبد الرحيم إلى الشهر العقاري حيث تم توثيق عقد البيع ..

وفي طريق العودة سأل علي بدهشة:"لكنك أخبرتني أن الحاجة لا تستطيع الكتابة.. كيف وقعت؟ "

ضحك عبد الرحيم بارتباك وطالت الضحكة وهو يفكر في حجة مقنعة ثم قال : "اتضح أنها تخرف تارة تقول أنها لا تستطيع وأخرى تقول أنها تستطيع.. وحين أريتها العقد أمسكت القلم ووقعت فورًا..حقًا لا تأمن للعجائز !"

لم يهتم علي كثيرًا بالأمر وقال:"حسنًا ..مبارك عليك الشقة.."
ونظر في هاتفه الذي يومض باتصال من جهة غير معروفة قائلًا:"نسيت.. وجدت اتصالًا من أحدهم في منتصف الليل .. والآن هذا .. ماذا يحدث؟"

لكن عبد الرحيم كان متعجلًا خشية تهور وجدان فتركه  قائلًا وقد وجدها حجة مناسبة:"حسنًا سأتركك لزبائنك الملحين وأذهب لنقل الخبر السعيد لزوجتي ..إلى اللقاء"

"من معي؟... ماذا؟..أنا قادم فورًا يا خالد"

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"هل أنت واثق أن الأستاذة سميرة لن تكشف أمرنا؟"
سأل كمال بتوتر وهو يلحق فادي الذي يمشي الهُوَيْنا بثقة لا حدود لها كأنه لم يهرب توًا من المدرسة ...

"أفضل استغلال وقتي في العمل عوضًا عن حضور دروس عقيمة ... "
ولم يبد أن رفيقه يوافقه الرأي وهو يتطلع خلفه كل حين متوقعًا وجود من يلحق بهما..

فنظر فادي لساعة يده وتابع :"لم تنته فترة الراحة بعد ..يمكنك العودة للمدرسة كأن شيئًا لم يكن ولكنك ستأخرني في استلام طلبك ..."
و تحقق توقع فادي إذ كان تحذيره كافيًا لينسى كمال أمر الأستاذة سميرة نهائيًا ويرشده لمنزله..

وخلال دقائق كانا في صالون المنزل الفسيح الذي يصرخ معلنًا ثراء أصحابه الفاحش.. فعرض كمال بتهذيب:"بعض العصير أم أطلب تحضير الغداء؟"

لكن فادي المتحمس لمهمته الجديدة ضرب على كتف زميله وقال:"هيا اصحبني لغرفتك فورًا يا كمال..لا وقت لدينا ..ألا تريد إنجازها قبل عيد ميلادك ؟!"

متعللًا بعامل الوقت مبطنًا حماسته ومظهرًا كبرياء صاحب العمل المنشغل ذكَر كمال بعيد ميلاده بعد يومين فتناسى الأخير آداب الضيافة وصحبه لغرفته..

"انظر هذا الجدار..تعلم ولعي بكرة القدم لذا أريد هذه الصورة تحديدًا..انظر!"

أخرج هاتفه يريه صورة للاعب الكرة الشهير "محمد  صلاح" وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة رافعًا الكأس مفاخرًا بفوزه ...

"ارسم لي هذه..أريد أن أطالعها كل حين حتى أصل لمكانته ذات يوم"

أومأ فادي متفهمًا قبل أن يسأل بفضول:"ولم تريدها قبل عيد ميلادك بالتحديد؟"

ابتسامة ساخرة ارتسمت على شفتي كمال قبل أن يجيبه:"أبي وأمي غير متفرغين لحضور حفل عيد ميلادي وتركا عوضًا عن وجودهما الكثير من المال لأشتري الهدية التي أريدها... هل تستطيع التخيل؟إنهما بعيدان لدرجة ألا يعلما اهتماماتي أو ما قد يسعدني"

صمت لبرهة قبل أن يتابع:"مؤكد ستطلب الكثير مقابل إنهاء عملك قبل الوقت المحدد وأنا سأكون أكثر من سعيد بإعطائك أتعابك كاملة وبزيادة نكاية بهما"

هذه المرة الأولى التي يراود فادي شعورًا كهذا منذ زمن.. ناظر كمال الذي خرج لشرفة غرفته كأنه يريد البكاء ويخجل أن يطلق دموعه أمامه...

يبدو لامباليًا بل يريد الانتقام من والديه رغم أنه لاشك يألم لوضعه.. ومن ذا قد لا يفعل؟!
يريد كل إنسان أن يشعر بوجود أسرته حوله تفهمه..تحنو عليه..توجهه إن لزم..

أخرج أدواته ليبدأ الرسم على الجدار وهو يفكر في والديه اللذين لم يقصرا يومًا في حقه..وهباه الحنان..دفء الأسرة..وأمان الاحتواء..

الآن يجب أن يعترف كم يؤلمه انعزاله عنهما وخاصة والده الذي صار فجأة لا يقبل أي كلمة تخرج من فمه...يقول افعل كذا يا فادي فتثور نفسه أن لا وألف لا حتى أصبحا لا يتكلمان إلا فيما ندر...
يرى عيني والده اللتين يتلبسهما الحزن والأسى  حين تقعان عليه فيلوم نفسه  لكنه يريد تفهمه..يبتغي أن ينسى حداثة سنه ويتعامل معه كزيد ومازن... ألم يوكلهما في كل أمورهما رافضًا التدخل ؟! ليراه مثلهما إذا وحينها تعود الأمور لنصابها..

وهكذا تابع عمله بجد وقد وضع نصب عينيه هدف واحد:فخر والده الذي يريد الحصول عليه بأي ثمن..

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"ياللسخافة!! هذه البدينة تصبح عارضة!!"
وصلت هذه العبارة الهازئة مسمع هالة حين كادت على وشك دخول غرفة الملابس لتشرف على استعداد العارضات وارتداء ملابسهن بأناقة كما تقتضي تصميماتها..

وتابع الصوت الساخر الذي عرفت أنه لهايدي العارضة التي وقع اختيار الشركة عليها بعد بحث مضني:"ذوقها لا مثيل له....بإمكاني أن أسلمها نفسي مغمضة العينين ... لكن أن تحل مكاني!! لاشك أنك فهمت الأمر بشكل خاطئ يا عزيزتي.. لا وجه للمقارنة بيننا ..أي رئيس عمل لن يقبل أمرًا كهذا خوفًا أن يخسر زبائنه.."

تنهدت هالة بعمق ودلفت للغرفة بعد طرقة سريعة وقد اكتفت من التجريح.. لم تكن تتخيل أن تسمع يومًا هذه العبارات الجاحدة على لسان هايدي وقد جمعهما الاحترام المتبادل منذ بدء تصوير أزياء الموسم..

"هالة عزيزتي..نحتاج لمستك الفنية إذا سمحت"
ابتسمت هالة ابتسامة لم تصل لعينيها وتقدمت تتم عملها بكل حرفية.. لكن وقبل بداية جلسة التصوير كانت قد اعتذرت متعللة بدوار مفاجئ وغادرت الشركة بأكملها..
وكأنها أرادت إيذاء نفسها أكثر فقصدت الحافلة عوضًا عن ركوب إحدى سيارات الأجرة.. هنا حيث الزحام والنظرات المتوجسة التي تقع عليها خشية أن تجلس هذه البدينة بجوارهم ..

تأففات الفتاة التي جلست جوارها دفعت دموعها للهطول رغمًا عنها.. لكنها علقت ناظريها بالشارع دون أن تلتفت إلى حركاتها المتكررة بحثًا عن وضعية مريحة لكن هيهات أن تجدها...

في هذا المجتمع عليها أن تكون شاكرة للفتاة تقبلها وضعها على مضض دون أن تصرخ بحنقها وتسخر من وزنها أمام الجميع..

مر بخاطرها موقف زيد الأنيق في المطعم وابتسمت بسخرية وسط دموعها (لتبق الأحلام طي الخيال فلا أمل أن تتحقق يومًا)

وصلت المحطة التي تبتغيها فترجلت من الحافلة بعد سلسلة من الاصطدام مع الواقفين بين المقاعد يهيئ إليها أن كل اصطدام تتبعه أصواتهم الداخلية تسبها وتهزئ من وزنها..
لهذا تكره الخروج للشارع لأنها لا تستطيع منع نفسها من التخيل أن كل من حولها يرونها بعين نفسها المحقرة لذاتها التي ترى جسدها عائقًا كبيرًا في حياتها يستحيل أن يجعلها يومًا محبوبة  ذات شأن بين الناس بل لن يتعدى شعورهم مجرد الشفقة على حالها قائلين(أيعقل أن يحبس هذا العقل المبدع في هذا الجسد البشع المنفر؟)

بالكاد تمكنت من مسح دموعها قبل أن تدلف للمنزل فوجدت والدتها تنتظرها والقلق يعلو ملامحها حتى أنها لم تنتبه لآثار بكائها أو عودتها المبكرة من العمل بل بادرتها:"هل هاتفتك نوران إليك ولو لمرة منذ الصباح؟ هل تتخيلين؟! اتصلت بها في المدرسة فأكدت لي السيدة جنات أنها لم تذهب اليوم ولم تتقدم حتى بعذر.. أنا أكيدة أنها مع والدك الذي لم يعد للمنزل أمس..أين نام ليلته؟ هل أصابهما مكروه؟ يكاد القلق يفترسني !"

لم يكن هذا ما تنتظره هالة الآن! إنها أضعف من مشاركة والدتها التفكير  فراحت تنتحب بقوة مثيرة هلع والدتها ببكائها الصاخب..
"لا بأس يا عزيزتي! آسفة..أخفتك وقد عدت للتو من العمل..اعذريني"

ضمتها بقوة تهدئ من روعها ظانة أن اختفاء نوران وطاهر هو سبب بكائها : "سننتظر عودتهما .. الله لطيف بعباده لن يفجعنا فيهما..اهدئي"

ورغم استكانتها الظاهرة استرجعت نعمة منامها المقلق بشأن عبد الرحيم.. ترى هل يكون هو سبب اختفاء طاهر وابنته؟!
(يارب اجعله لا يتحقق) تمتمت ولا تزال تربت على ظهر ابنتها برتابة مع حركة عقارب الساعة البطيئة كأنها تتوعدها بانتظار طويل...
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
دلفت أفنان شقة عمها في الطابق الأول .. مستغلة غياب هيثم كانت تنوي التسلل لغرفته دون أن يلحظها  عمها أو زوجته لكنها وجدت عمها يتصدر صالة المنزل مضجعًا على الأريكة ويتابع التلفاز مستمتعًا بوجبة خفيفة حتى يحين موعد الغداء..

ولسوء الحظ لم يفته دخولها فاعتدل في جلسته مادًا ذراعيه لكي تأتي إلى أحضانه.. فتقدمت منه خجلة وكأنها شعرت أنه كشف خطتها ..

"ألازلت معتكفة في المنزل يا فنه؟ لقد نال هذا الأحمق هيثم جزاءه لما فعل بك"

ابتعدت أفنان عن حضن عمها بصدمة مما يقول.. فتابع:"ماذا؟ هل ظننت أنني لن أعرف ما فعل؟.. هيا ادخلي غرفته كما كنت تنوين وعاقبيه بما يستحق"

استقامت أفنان خجلة وكادت تنوي مغادرة الشقة لكنه هتف بها محفزًا روح التحدي داخلها:"هيا يا فتاة.. هل ستتركينه يوقعك في الفخاخ دون رد؟! .. هيا"

استدارت وأمسكت بمقبض باب غرفة هيثم فغمزها عمها قائلًا بمرح:" ولا تنسي أن تخبريني بما فعلت "

ثم استوقفها ليسأل بقلق:"هل تعلمين أين والدك؟.. كان في عزاء صديقه خارج المدينة ولم يعد منذ الأمس"

"لقد اتصل بأمي فجرًا وقال أنه اضطر للمبيت وسيعود مع طلوع النهار.. لا أدري سبب تأخره"

أومأ سالم متفهمًا ثم قال بمرح مصطنع ولايزال ذهنه مشغولًا بشقيقه:"هيا اذهبي إلى عملك"

دلفت أفنان الغرفة وأغلقت الباب سامحة لرائحة هيثم بأن تتغلغل إلى أنفها وكل كيانها .. هذه الرائحة التي حرمت منها لخمس سنوات دون سبب معلوم.. لامست الفراش وألقت بنفسها فوقه بسعادة .. هاهي الغرفة تعود كما كانت بعودة صاحبها..
فقد تغير ترتيب تلك الكتب.. عُلقت بعض الثياب بعشوائية خلف الباب.. باب الخزانة غير محكم الغلق .. عالقة هي في حب تفاصيله وبشدة..

دفعة من عقلها المتيقظ دائمًا جعلتها تنهض عن السرير كأن الكهرباء صعقتها .. فتمتمت كأنها تخاطب نفسها التي تأبى الصفح:"حسنًا حسنًا سأتم عملي وأغادر الغرفة.. ألا مجال للمشاعر لديك أبدًا؟"

التقطت حاسبه الشخصي و شغلته فطلب كلمة المرور:"ماذا إن كان قد قام بتغييرها؟"

كتبت الكلمة القديمة وأغمضت عينيها متوقعة الأسوأ لكن المفاجأة أن شرع الحاسب الأبواب أمامها لتختار الملف المحدد الذي سمعت هيثم يخبر شقيقها قبل أيام أنه سيتقدم لشركة ما للعمل وقد جهز المشروع الذي يقدمه.. وكم كانت سعيدة بنفسها وهي تلتقط اسمه لتأتي الآن وتجده بكل سهولة..

نقلته على هاتفها ومسحته تمامًا من الحاسوب ..
"الآن نرى يا سيد هيثم ماذا ستفعل؟"

"سأبدل ملابسي وأعود إليك يا أمي"
قالها هيثم وسمعتها أفنان بوضوح فأغلقت الحاسب على عجل وتوسلت إليه أن يطفئ الشاشة .. فإن عرف هيثم بدخولها غرفته فعلى الأقل لا تريده أن يعرف بكنه الفخ الذي ينتظره..

وسرعان ما كان هيثم يشاركها الغرفة مغلقًا الباب ثم اتسعت عينيه حين لمحها جالسة على مكتبه .."أفنان !"

"قالت عمتي أن..أن..."
تلعثمت وتقطعت كلماتها حين ملس على شعرها الذي تذكرت توًا أنها تركته طليقًا
"يا إلهي! سأغادر.. يجب أن أرتدي حجابي"

"مضى زمن طويل منذ..."

توردت وجنتي أفنان وطأطأت رأسها لكنه تابع جملته بما صدمها:"منذ آخر مرة  شددت بها شعرك"

وأرفقها بأن شدَ شعرها بخفة.. فأضاف إلى وجهها إحمرار الحنق قبل أن تدفعه بمرفقها لتغادر الغرفة.. وصوته يلحقها:"طيري يا فراشتي"

زاد خجل أفنان حين رأت نظرات عمها وزوجته المتسلية التي لاحقتها حتى باب الشقة..
وما إن فتحته حتى وجدت زيد الذي ناظرها بدهشة استحالت غضبًا حين رأى هيثم يقف عند باب غرفته لكنه أغمض عينيه مستعيدًا هدوئه وقال:"أبي في قسم الشرطة"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
غادرت نوران قسم الشرطة بغضب بلغ عنان السماء ..هذا الرجل الذي توسلها يوم الحادث أن تساعده في مأزقه يريد الآن الهلاك لوالدها.. اتجهت رأسا للصالة الرياضية حيث متنفسها حين تصل لهذه المرحلة من الغضب ولا تستطيع التحكم بطاقة العنف التي تشع منها فتكاد تدفعها لقتل أحدهم..
وهناك خلعت عباءتها التي ارتدتها أمس على عجل دون أن تتاح لها فرصة التدقيق فيما تختاره..اكتفت بالبنطال الذي ترتديه أسفلها مع بلوزة بنصف أكمام ودخلت غرفة الرمال ..هنا حيث تمسك بالحبل الذي يزن أكثر من ثمانية كيلوجرامات وتضرب به الرمال بعنف دون اهتمام بتناثره على رفيقاتها ..

وارتفع الحبل في حلقات متتالية من قوة ضرباتها.. مع صوت علي يتكرر في أذنها
"غادري يا آنسة نوران حتى نرى إلام يصل الأمر.. سبق وأن أخبرني والدك بقصة المصنع وإلى أن نستطيع إثباتها  أو إيجاد حجة غياب لكليهما يلزمني بعض الوقت.. لكني أؤكد لك أنني لن أتوانى  عن إخراجهما اليوم من الحجز فلا دليل يثبت تورطهما في هذا الحادث"

تركت الحبل لتمسك بإطار ضخم شبيه بإطارات السيارات ورفعته مقرفصة ثم عادوت الاستقامة وكررت الأمر وكلها يصرخ أن لا.. لا يمكن أن تسمح بسجن والدها جورًا وطغيانًا إرضاءً لهذا الخسيس..

قضت ما يزيد عن الساعة تمارس أقسى التمارين رغم تحذير المدربة ألا تضغط نفسها إلى هذا الحد في جلسة واحدة.. لكنها لم تستجب لتحذيرها..
ورغم هذا غادرت الصالة ولا يزال الغضب يشع منها إشعاعًا حتى كادت تصطدم بالسيارة التي تتقدمها..

فترجلت بنية الشجار مع قائدها أيًا كان .. حتى لو كانت مخطئة وطلب تعويضًا فهي مستعدة للشجار ولن تدفع التعويض وليقُدها للقسم حيث تقضي أيامها برفقة والدها علها تجد بعض الراحة..

"نوران! هذه أنت.. كنت أظن أنك سائقة محترفة لكن يبدو أن مزاجك معكر بعض الشئ"

ولكمها بخفة في ذراعها ثم سحب يده بسرعة منتبهًا أنه لا يجوز التصرف بهذه العفوية معها فهي ليست أفنان..
وكأنه ضغط الزر .. صرخت نوران دون اعتبار لأي شئ:
"من تظن نفسك لتلامسني بهذه الطريقة؟ من أنت حتى تطلب مني لقاءك ؟ من أنت؟ ابتعد عن طريقي .. لا أريد أن تقع عيني عليك مرة أخرى"

وقف مازن مشدوهًا برد فعلها العنيف  حتى أنه لم يتحرك حين عادت لسيارتها وقادتها بسرعة مغادرة من أمامه.. وأيًا كان سبب غضبها فقد ابتسم مازن وسجلت ذاكرته هذا الموقف متمتمًا:"لنرى يا سيدة نوران كيف ستتحملين عواقب ما فعلتي؟"

لكن سرعان ما غادره مزاجه الرائق حين اتصل به زيد ليخبره عن اتصال خاله وأن والده يقبع في قسم الشرطة..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
لاتزال الأوضاع كما هي يقضي عرفه وهاشم نهارهما يعملان في أرض فاروق ويتعرفان إلى بعضهما..
إذ وجد عرفه نفسه رغمًا عنه تهفو لرفقة شقيقه وتستمتع بها وتجبره على الإصغاء إليه..وكل ما يصدر من فم هاشم بإيمانه العميق وتسليمه لخالقه ينزل بردًا وسلامًا على روحه التي تنازعه دومًا ليتخلى عن حقده ويتعلم من شقيقه..

قطعا حوارهما وهما ينتبهان لروان تتقدم منهما بصينية ضعف حجمها ..
فبادر هاشم بحملها عنها بينما ربت عرفه على رأسها بحنان وانحنى يقبله قائلًا:"لا تتعبي نفسك مرة أخرى يا صغيرة.. هذا يفوق طاقتك"

لكنها رفعت رأسها إليه بشجاعة تجعلها ترفض الخضوع لأشعة الشمس التي تقابل عينيها فتجبرهما على الانغلاق  لكنها  لا تلبث أن تفتحهما دامعتين ..

فأشفق عرفه عليها وضمها إليه يحثها على التقدم إلى جذع الشجرة التي كانا يستظلان بظلها ...
"شاركينا الغداء طالما أتعبت نفسك بإحضاره"

"أبي يريد لقاءكما ...ويطلب منكما أن تزوراه الليلة بعد أن تستريحا من عناء العمل"

تناظر الشقيقان بحيرة قبل أن تتابع روان:"عمي هاشم..أريدك أن تعلمني الزراعة..يجب أن أتحمل مسئولية الأرض في غياب أبي"

التفت إليها هاشم باهتمام..تعجبه شجاعتها التي تسبق من هم في عمرها لكنه أجابها:"ومن أوجب هذا يا صغيرتي؟ ربما بعد عامين أو ثلاث ..ما رأيك؟"
مما جعل عرفه ينهض منزعجًا وتحرك مبتعدًا عنهما دون تبرير وقد فهم شقيقه ما يعانيه الآن.. فقد ذكرته حماسة روان وإقبالها على تحمل مسئولية العمل موقفًا شبيهًا مضى عليه الكثير حتى كاد يصبح طي النسيان..

يومها طلب من عمه عثمان أن يأخذه ضمن عماله يعلمه ويجعله يتشرب المهنة..
ليرفض الأخير بشدة مؤكدًا وجوب إتمام دراسته قبل اختيار العمل الذي يناسبه..
يومها لم يلمه على ما فعل بل حفظ له حرصه على أن يشب متعلمًا لكن ما حدث بعدها...

جز على أسنانه متذكرًا شعوره المر حين علم أن سعيد صار المقرب لدى عمه والذي أوكل إليه كل أعماله.. كما شاع خبر خطبة سعيد وليلى..

عنذئذ ثارت ثائرته ليقصد منزل عمه ما إن وصله الخبر يطلب ليلى مقسمًا أن يبذل الغالي والنفيس ليسعدها...
توقع الرفض لأن عمه يفضل سعيد عليه..

لكن الإهانة التي تعرض لها يومها كانت فوق احتماله..
"صعلوك مثلك يتطلع لابنتي! بأي حق تطلبها؟ ما الذي تملكه لتقدمه إليها؟ الغالي والنفيس!! إنك لا تملك أغلى من ثيابك التي ترتديها.. اذهب من أمامي ولا تعد لبيتي أبدًا أيها الفاشل"

التفت ليجد سعيد متسمرًا يراقب الموقف مبهوتًا مشفقًا عليه من قسوة عمه...لكنه لم يكترث بمحاولته للتهوين عليه فيما بعد وقاطعهما..

قاطع عمه حتى وفاته فلم يحضر جنازته..

وقاطع ابن عمه الأكبر الذي سرق منه أحلامه..

عاد للواقع جاثيًا على ركبتيه وسالت دموعه دون إرادته :"انظرا إلي إن كنتما تستطيعان..ها أنا ذا أملك المال..أعمل في المصنع..ولن يهدأ لي بال حتى أسلبكما ما تركتماه خلفكما..كله سيكون لي تعويضًا على الإهانة والأذى الذي نالته روحي منكما"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
حاولت نوران أن تتأخر عن البيت قدر استطاعتها لكن كان لابد من العودة ومن تلقي نظرات والدتها وشقيقتها المتسائلة.. وللحق أن طاقتها كانت قد نفذت لذا صارحتهما مباشرة بما حدث...

بعد قليل..
اجتمعت الأسرتان أمام قسم الشرطة ونفوسهم تضج بالقلق!
#فوت
#كومنت
اكتبولي تعليقاتكوا الحلوة وتوقعاتكوا❤️

جيران المدينةWhere stories live. Discover now