الفصل السادس عشر

50 2 4
                                    

الفصل السادس عشر
في ظلمة غرفتها أعادت هالة تشغيل الفيلم مرة أخرى..
نعم لا تحتمل أجواء التوتر المتزايد التي تثيرها هذه الأفلام لكنها لم تستطع مقاومة فضولها واستسلمت للمشاهدة متوقعة أن ينتهي الفيلم بهلاك نانسي حتمًا حتى إن نجت من افتراس القرش فالبرد والجوع كفيلان بقتلها..وتمنت ألا تسلبها النهاية راحة بالها الوليدة بانقطاعها عن رؤية هايدي ..

صرخت مع تتابع الأحداث المريعة وانتباهها لأظافرها التي قضمتها في خضم توافرها وصاحت ببؤس:"لااا..لقد تدمرت أظافري"

طرقة سريعة على باب غرفتها ثم دلفت نوران التي ناظرت شقيقتها الجاحظة العينين في ظلام غرفتها بدهشة..
"تهيأ لي سماع صراخك..وهمهمات أخرى..تملكين زوجًا سري نعم لكن.."

"أووف..لا تقلقي لم يسكني جني عاشق بعد..انصرفي عني الآن يا نوران!"

وكالعادة تسمرت نوران منتظرة تبرير منطقي فأردفت هالة:"تعالي..اجلسي هنا أحتاج من يساندني حتى أحتمل مشاهدة هذا الفيلم القاسي"

"تقولين فيلم قاسي!!"

دمدمت نوران بسخرية فلكزتها هالة بسأم وأجابتها زاجرة:"نعم أصابني الجنون.. جنيت على نفسي والآن أنا ممزقة بين خوفي وفضولي"

فمدت نوران يدها تشغل الفيلم قائلة:"تعالي أرضي فضولك وانفضي هذا الخوف"
بعد دقائق..
ارتمت هالة باكية في أحضان شقيقتها التي ناولتها المناديل تربت على ظهرها برفق دون أن تفهم سبب بكائها الهستيري بالضبط!! حاولت التحليل ! ولكن لم تتوصل لنتيجة..
"ستموت الآن"
أكدت هالة بيأس..إلا أن نانسي حطمت توقعاتها كالمعتاد..وقد أعلنتها صريحة بمقاومتها: لن تستسلم حتى تنهي القرش..

هي حرب للبقاء..لذا فإنها ترفض الخروج منها دون القضاء على خصمها الذي جعلها تحيا هذه المخاطر وأنهكها حتى خالط أملها اليأس وشاب عزيمتها الفتور فكادت تتيح له فرصة قتلها..
وانتهى الفيلم كما أنهت نانسي القرش لتعقب نوران متسائلة بحيرة:"ألن تخبريني ما تخططين لمكافحته كنانسي؟"

ضحكت هالة بسخافة مدركة استحالة أن تملك عزمًا كالأخيرة أو أن تصل لقوتها يومًا وأجابتها:"مؤكد لا تتوقعين أن تري شقيقتك المسالمة يومًا بهذه الصورة!"

"لا أعرف ما تقصدين بقولك المستخف.. ولكن نعم سأراك يومًا بهذه الصورة حتى إن لم ينقص وزنك فإنك ستكونين قوية محبة لنفسك واثقة بقوتها مؤمنة بها لا تعبأين بمن يقلل من شأنك مقدار ذرة"

وغمزتها مودعة:"سأعود للنوم وأنت أيضًا..فغدًا يوم مميز"

ابتسمت هالة بينما تراقب انصرافها وعلى نقيض توقع شقيقتها فإنها مدركة لضعفها الداخلي واستحالة أن تصير مكافحة كنانسي يومًا..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
حين اقترب علي من قسم الشرطة تراءت له هيئة أنثوية مألوفة.. شعر أسود قصير لم تتح له شرف ملامسة كتفيها  وحلة رسمية أبرزت جمال قوامها الممشوق..
دقق أكثر في ملامحها من هذه المسافة..لا يوجد شك!..إنها هي!
وكأنها تنبأت بوجوده أو لا يعرف لم التفتت تحديدًا ! .. رفعت نظارتها الشمسية لتصبح كحلية لشعرها وأخرجت سيجارة بأناملها الرفيعة الأنيقة التي اعتاد التغزل فيها وبكل مكر طلبت من العسكري الذي يقف عند الباب أن يشعلها ..

فانصاع الأخير طوعًا ولم لا فهي فرصة للتقرب تمنحها للقاصي والداني بغير وجه حق!
ونفثت الدخان في وجه الرجل بعبث قبل أن تقصد سيارتها الصغيرة المركونة على جانب الطريق...

لتنطلق  بها فورًا في إشارة أنها أعطته الفرصة الكافية ليراها ويعرف أنها قريبة منه...
فتمتم بسخط  (لنرى يا سيدة رزان! لنرى!)

انتبه علي من ذكرياته لواقع وصوله إلى منزل شقيقته فقرع جرس الباب الخارجي ثم صعد مع مازن حيث التجمع العائلي فألقى بالخبر السعيد ..

"أنرت يا علي..تعال يا وجه السعد تعال"
استقبله سالم بحفاوة وعانقه مبتهجًا ..
وكذلك فعل خالد الذي شكره بعمق قائلًأ:"وحتى لو لم يفعل كنت واثقًا أنك ستلقي إلينا بحبل النجاة"

فربت علي على كتفه مبتسمًا:"لا تقلها يا رجل..الله معكما ولم يكن يحق لعبد الرحيم ما فعل أبدًا"

والتفت عنهما إلى شقيقته التي وضعت ساقًا فوق أخرى ببرود كأنها لا تراه فتقدم منها مستشعرًا توترها ونظراتها  المختلسة من طرف عينها إليه..

ثم جذبها من كفها لتقف مقابلًا له وقال:"خيرًا يا سيدة علياء ترسلين إلي (اللوبيا) كأنك زميلي في العسكرية؟! هل هذا تعريفك عن الطعام المنزلي؟ ماذا تقصدين بفعلتك؟"

وأردفت أفنان مشدوهة:"ولهذا أخبرتني أنك لم تطهيها رغم أنني أكيدة من رؤيتك تعدينها للسلق"

زجرتها علياء:"اصمتي أنت ولا تتدخلي"

ثم جابهت شقيقها بكبرياء:"هذا كان عقابك حتى لا تتجرأ وتغضب مني مرة أخرى!"

"حسنًا لن أفعل..لا يحق لنا الغضب أبدًا علياء هانم"
أجابها علي بمرح قبل أن يقربها إليه مقبلًا رأسها بمودة فطفرت عيناها بالدموع رغمًا عنها لتخبئها في صدره...
فشدد من ضمها إليه بينما ابتهجت أفنان بشدة واحمرت وجنتيها مع همس هيثم الشقي:"متى ؟ حددي موعدًا لأن صبري ينفذ"

وأخرجهما زيد من بوتقة المشاعر تلك يدفع خاله بخفة :"انتبه إلينا يا سيد علي..ألا ترانا؟"

فابتعدت علياء عن شقيقها مبتسمة ورأت ابتسامة خالد فاستبشرت خيرًا أنه لا يزال يهتم بسعادتها وربما تستطيع إقناعه بقطع الجفاء بينه وبين فادي...

وأردف زيد مخاطبًا شقيقه:"ماذا تفعل يا هذا؟ قل شيئًا"

حك مازن مؤخرة عنقه بارتباك قائلًا:"تعال لنرى وزنك يا خالي"

وكان علي أكثر من يعرف هوس مازن بهذا الأمر وقدرته على تضخيم عقدة الذنب لدى من يزيد وزنه فأجابه:"كلا..لست مستعدًا أبدًا"

وفي الأخير تمكن مازن من تحقيق مراده ليهتف بخاله عابسًا:"جيد  وزنك مناسب لطولك..ربما تحتاج لأداء التمارين الرياضية وتحسين مستوى لياقتك لكن لا بأس"

فعقب علي باستنكار:"ولم تقولها وأنت مستاء بهذ الشكل؟ "

ليربت زيد على كتف شقيقه قائلًا بسخرية:"لأنه يغار! صاحب الصالة الرياضية يأكل كما يحلو له فيزداد وزنه بينما يضيق الخناق علينا ويجبرنا على إتباع حمية لتقليل الوزن"

تجاهلهما علي تمامًا والتفت لشقيقته قائلًا:"علياء هيا أعدي إفطارًا شهيًا يليق بهذا اليوم السعيد وأبعدي أبنائك عني"

سرت موجة ضحك بين الجميع بينما ناظر سالم زوجته العابسة متأكدًا أنها ستتحول إلى النقيض تمامًا حين يفصح عن الأخبار السارة في جعبته ..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
وبعد يا وجدان؟! إلى أين يقودك لطفك وعطفك؟ متى تتخذين قرارًا قاطعًا وتعتزلين كل ما يؤذذيك؟
كررت وجدان تساؤلاتها المتحسرة لذاتها التي لم تعد تتعرف إليها من كثرة تبدلها لتتكيف مع تقلبات عبد الرحيم...

وكان قرع جرس بابها أفضل فرصة لتتهرب من جلد الذات فأسرعت تفتح الباب لتجده وحيد  والذي طلب بلطف:"وجدان إذا سمحت تفقدي منة بين الحين والآخر وأرجو ألا يكون طلبي ثقيلًا عليك"

أوقفته عن الاسترسال في رجائه قائلة:"كيف تقول هذا يا وحيد؟ بالتأكيد اذهب مطمئنًا إنها ابنتي.."

"شكرًا لك"
قالها مبتسمًا بينما يعطيها مفتاحًا احتياطيًا لشقته.. وسارع ينزل الدرج دون أن يتبين هوية من يصعد الدرج معاكسًا له واكتفى بإلقاء سلام عابر ماضيًا في طريقه..

أما وجدان التي تنبهت للرجل وتعرفت إلى هويته.. كادت تغلق الباب غير عابئة به لكنه استوقفها قائلًا:"لحظة واحدة..أردت أن أعتذر عن تشكيكي بك المرة السابقة..كنت صادقة وأنا لم أكن على طبيعتي..اعذريني ليلى كانت مهمة لدي لذا احتجت وقتًا حتى أستوعب حقيقة رحيلها"

ابتلعت وجدان ريقها متخوفة..متوجسة..هذا الرجل تشع منه هالة غير مطمئنة وليس عليها أن تطيل في الحديث معه كما أوصاها وحيد..

كما أنها لم تفهم تمامًا كيف تم توثيق الوصية وربما يقصد استدراجها إلى فخ أعده لها بإتقان ..فأجابته باقتضاب:"لعلها تكون آخر الأحزان...عن إذنك"

لكن يده حالت دون غلق باب الشقة كما ابتغت وجدان..واستمر في مخاطبتها بنعومة كملمس جلد ثعبان يلتف بهدوء حول رقبتك:"أنت لطيفة..لطيفة كثيرًا في الواقع..هل يمكنني..؟"

قاطعته وجدان تهتف به بصوت مرتجف أظهر مدى خوفها:"شكرًا للمجاملة.. عن إذنك لا يصح حديثنا بهذا الشكل...أنا امرأة متزوجة"

"ولكنك تتحدثين إلى جارك هذا..إنه ذاته الذي رأيته عندك المرة السابقة أيضًا.. أم أنه زوجك المزعوم؟"

"من فضلك إن لم تكن لديك حاجة أستطيع قضاءها لك فانصرف .."

لا يزالان يدفعان الباب كل من جهته مع تزايد رعب وجدان وصدرها الذي يعلو ويهبط بشكل متسارع...

"نعم حاجتي لديك..يمكنك منحي مساعدة بسيطة في غياب زوجك كما تفعلين مع جارك.."

اعتدل في وقفته ساحبًا يده حين سمع نحنحة رجولية تقترب منهما..بينما تمالكت وجدان نفسها أكثر وسارعت تصفع الباب في وجهه شاكرة ظهور أحد جيرانها في هذا الوقت بالتحديد...

"ولازلت ترين الهجر صعبًا يا وجدان؟!!!!!"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"بالمناسبة أين فادي؟ نسيت شكل هذا الولد!"

أجابت أفنان تساؤل خالها :"ونحن أيضًا يا خالي...صار يفضل غرفته وأصدقاءه عنا"

ومع النظرات العاتبة التي تلقاها خالد من زوجته نهض قائلًا:"سأبلغ طاهر الخبر السعيد"

لكن شقيقه استوقفه قائلًا:"اجلس لدقائق يا خالد حتى تسمع أنت أيضًا ما أريد قوله"

دار بمقليته بين الجلوس واستطرد:"أردت إخباركم بالتفصيل عن التهديد الذي تلقيته ودفع هيثم للتهور.."

قاطعته نوال:"رجاء يا سالم لن يأخذ هذا الموضوع أكبر من حجمه"

"بل رجاء منك يا عزيزتي..أنصتي إلي..عرفت بعدما وصلني التهديد أنها كانت لعبة بين خليفة وعبد الرحيم.. ربما اختاراني بعشوائية أو عن عمد ..كلا الاحتمالين موجود..وأنا تغاضيت عن الأمر لأنه لم يكن ذا أهمية وقتها.. لكن بعد التلفيات الأخيرة في فرع الشركة الجديد وما أخبرنا به هيثم عن معاناته..رأيت ضرورة استعادة حقي وحق هيثم..وكشريك يجبر شريكه على احترامه بالقوة لو تطلب الأمر..أجبرت خليفة على تغيير بضع بنود بما يناسبني وأيضًا صار فرع الشركة الجديد ملكًا لي وحدي"

لم يلق رد فعل من الجلوس غير قول مازن الهادئ:"أحسنت الفعل يا عمي.. استرددت حقك"

فتابع سالم:"وأنا سجلته باسم هيثم..قد لا أستطيع إعادة الزمن أو إهداءك عامين من عمري مقابلًا لما ضاع منك لكن تقبل هذا كهدية صغيرة مني ودليل أن جهدك لم يضع سدى يا بني.."

"أبي!"
هتف هيثم ممتنًا قبل أن ينهض متقدمًا من والده فقبل ظاهر يده ورأسه قائلًا: "شكرًا لك..يكفيني هذا ويفيض.."

ابتسم سالم وربت على ذراع ابنه يراقب كيف اتسعت ابتسامة نوال ونظراتها المبتهجة الشاكرة التي رمقته بها..

بينما علق علي:"لو أن القانون لا يكفل للمرء حقه..أنصحك باتباع نهج شقيقك يا خالد"

فأومأ الأخير قائلًا:"معك حق..لم يكن علي التصرف بسلبية بينما أرى المصنع يُسلب مني وجهد السنين يهدر أرضًا"

"لا تقسُ على نفسك يا خالد...صدقني لاشئ يعادل وجودك بيننا الآن في أتم الصحة قادر على العمل والعطاء"

بُهت خالد من قول زوجته ..لم يكن دعمها بالشئ المستجد ولكنه لم يتوقعه الآن بينما هي ناقمة عليه..
ولم يدر كيف يجيبها بادئ الأمر..فعقب شقيقها بعدما قبل رأسها:"هذه جوهرة عائلتنا..هل ترى كيف تدافع عنك؟ إياك أن تحزنها يومًا.. إياك!"

"لا أجرؤ أن أفعل إنها عماد بيتي"

صفر مازن وزيد في حين صفقت أفنان بحماس وعقب هيثم بمسكنة:"من أسعى لنيل رضاها تقول أن عماد البيت هو أركانه يا عمي!"

مطت أفنان شفتيها بحنق وحدجته بنظرات محذرة ..بينما أجابه خالد:"لا..لا تملك حس الرومانسية أبدًا ..دعك منها يا بني واخطب غيرها"

"هذا ما أنوي فعله"

لم تملك أفنان نفسها فهتفت به:"أنصحك بإيجاد مصدر دخل ثابت قبل أن تذهب للأخرى إذا"

نفض هيثم شيئًا وهميًا عن ملابسه وأجابها بتكبر :"لقد صرت من أصحاب الأملاك يا ابنتي ولا تجرؤ إحداهن على رفضي..فضلًأ عن كل هذا وسامتي كافية"

"شبعت! عن إذنكم"

ونهضت عن المائدة مارة بهيثم الذي همس لها:"تمني لي الخير يا فراشتي"

فتابعت طريقها دون أن تعيره اهتمامًا ... ونهض خالد بدوره معلنًا أنه سيتصل بطاهر يبلغه آخر التطورات..
ومر بهيثم عامدًا ليضرب على ظهره محذرًا:"إياك أن تكررها ...ابنتي تفعل وتقول ما يحلو لها متى شاءت"

أجابه الأخير بخوف مصطنع:"فهمنا ..أعتذر"

ثم التفت لوالدته قائلًا:"ألن تقولي لا تحزن نفسك يا بني سأزوجك بسيدتها؟"

زمجر زيد متوعدًا في دلالة أنه سمع قوله وزجرته نوال بدورها:"أوجد طريقة لإقناع البنت يا ولد..وكفى تضييعًا للوقت أيها العاشق!"

فعلق والده مبتسمًا:"في منتصف الجبهة تمامًا..أحسنت يا نوال"

ونهض علي ضاحكًا:"تمنيت أن أجالسكم لوقت أطول..لكن لدي موعد مستعجل قبل صلاة الجمعة.."

كاد مازن ينهض لاحقًا بخاله لكن والدته استوقفت شقيقها آمرة:"اذهب لموعدك ومر مجددًا بعد الصلاة..غداءك اليوم معًا هل فهمت؟"

"حسنًا فهمت..عُلم ويُنفذ يا علياء هانم"

فاطمئن مازن وخطط لإبلاغ خاله بما يريد عندما يعود..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"علمت أنك محامي عبد الرحيم  لذا جئت إليك.."

ختم بها الرجل قصته الطويلة التي أنصت إليها علي مشدوهًا ثم أجابه:"أنا..
لا أدري ماذا أقول! إنها سرقة واضحة وعن سبق الإصرار أيضًا"

"اكتشفت أنني واحد ضمن قائمة طويلة ممن خدعهم عبد الرحيم بذات الطريقة... محام باع ضميره يحضر إمضاء العقد ويوثق الأرض باسم الشاري ثم يتضح أنها ملك لغيره.."

"وأنا لأسباب مشابهة توقفت عن العمل لصالح عبد الرحيم مؤخرًا ..."

قاطعه الرجل موضحًا:"حصلت على حكم صحة نفاذ أيضًا من المحكمة.. وأخيرًا أتى المالك الحقيقي يخبرني أن الأرض ملك له..لا أعرف ماذا يتوجب علي فعله الآن؟أنا دفعت مالًا ثمن تلك الأرض ونلتها بطرق مشروعة!!"

"المئات من تلك القضايا تملأ المحكمة ولا تصل لكلمة فصل في النهاية للأسف.. إن لم يستعد أمثال عبد الرحيم ضمائرهم فلسوء الحظ سيظل الصراع قائمًا بينك وبين مالك الأرض الأصلي الذي غفل عن ملكه متيحًا الفرصة لوساوس البشر وطمعهم"

"من جهتي سأحرص ألا يتمكن عبد الرحيم من إتمام صفقات مشابهة.. وكذلك سألتقي بالمالك الحقيقي وربما نتوصل لحل وسط يمكننا من اقتسام الأرض فهذا أقصى ما يمكنني فعله.."

وأضاف قبل أن يرحل:"أحسنت باتخاذ قرار مقاطعة عبد الرحيم... "

ابتسم علي بسخرية بعد رحيل الرجل واحتار كيف يبرع عبد الرحيم في ابتكار السبل لنهب من حوله!!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد صلاة الجمعة..
دلف طاهر شقته ليجد نساء منزله قد تصدرن صالة المنزل بشعر مسترسل على ظهورهن وملابس باللون الوردي دون أكمام وبنطال يصل بالكاد للركبتين..

"امممم..هل هو يوم الدلال؟"

أومأ الثلاثة برؤوسهن أن نعم..فابتسم ليفهمن أنه كالعادة نسى تاريخ اليوم رغم تميزه..

فقد ولدت نوران وهالة في ذات اليوم باختلاف الأعوام ..واستغلالًا لصدفة مميزة كهذه أعددن طقوسًا مختلفة ومميزة لهذا اليوم أيضًا تليق به وتم إجبار طاهر على الالتزام بها وملازمة المنزل هذا اليوم حتى لو أجل عمله..

"قريبًا سيكون على زوجيَ الفتاتين أن يحفظا تاريخ هذا اليوم جيدًا ..ولأستريح أنا منه..."

قاطعته زوجته ممسكة بتلابيبه تشده إليها قائلة:" لكنك ستظل تحتفل به معي وتحضر لي هدية كالمعتاد"

"وهل أجرؤ على غير ذلك؟.. حتى فتياتك سيطالبن بالمثل وإن نلن هدايا العالم أجمع"

حركت الفتاتان رأسهما بالموافقة فمال طاهر يعض ظاهر كف زوجته مناكفًا:
"أصدري الأمر لكماشتك أن تفلتني حتى نبدأ الاحتفال"

أفلتته نعمة على مضض فتحرك لغرفتهما قائلًا:"جهزت الهدايا كالمعتاد منذ بداية الشهر حتى لا أغفل عن اليوم وأتعرض للعقاب"

توقع المجاملة أو أن تقول إحداهن أن وجوده كاف حتى لو نسى أمر الهدايا..
لكنهن جلسن بصمت ينتظرن أن يحضرها في التو واللحظة..

فأومأ باستسلام قائلًا:"سأعود"

وبعد دقائق عاد إليهن بثلاث علب مغلفة بورق أزرق لامع..
وأردف بينما يراقب ملامح كل منهن وهي تتطلع لهديتها:"أبلغني خالد أن عبد الرحيم قدم تنازلًا وانتهى الأمر..لم أعد مطلوبًا للعدالة"

وكان خطأه..فقد أطلق خبرًا سعيدًا كهذا مع بهجة كل واحدة بهديتها والنتيجة الحتمية هجوم أنثوي ثلاثي الأبعاد حتى أجلسنه أرضًا بقوة ولا يزال الثلاثة متشبثات به فانفجر بالضحك يهتف بهن:"ستزهقن أنفاسي!"

تراجعن عنه جزئيًا ليتابع:"ولكن ما أجمل حياتي ولدي مثلجات منعشة بمختلف النكهات تبهج نفسي"

وغمز زوجته بخبث:"ولا ننسى الشوكولا أيضًا!"

لكزته نعمة بغيظ  وقطبت نوران بحيرة لتهتف هالة:"راكبة الأمواج! هل رآها؟"

أومأت نعمة بشفتين مقلوبتين معترفة أنها أوقعت نفسها في الفخ..فاستطردت هالة معاتبة:"كنت سأحذرك! لم يكن عليك متابعة فيلم كهذا و عودة أبي وشيكة"

فلامها طاهر بمسكنة مصطنعة:"ولم يا ابنتي؟ تحرمين والدك من تناول مقبلات فاتحة للشهية"

واستحالت ملامحهن المسترخية إلى أخرى عابسة ومشتدة كالوتر وزجرنه في ذات اللحظة:"أبي!"...  "طاهر!"

فمرر طاهر إصبعيه السبابة والوسطى على شفتيه كأنه يغلق سحابًا..

وأكملت نوران:"لا يقبل المزاح في أمور كهذه يا أبي"

"فهمنا يا ابنة أبيك..هيا أين الغداء الباكر وسلسلة الأفلام المعدة لاستقبال مناسبة عظيمة كهذه؟"

"في الحال..ستكون على المائدة في الحال"
قالتها هالة وهرولت للمطبخ بحماس وقد رمت اليوم السابق بأفكاره خلف ظهرها..
وكذلك لحقت بها نوران وحماستها من نوع مختلف إذ تتطلع لوقت فتح الهدايا متأكدة أن والدها أبدل سيارتها كما طلبت.. فتحاول عبثًا التركيز فيما تفعل لكن ذهنها يشرد مجددًا متسائلًا عن لونها!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بين أرض يسلبها عبد الرحيم من مالكها ليبعيها آخر كان يهتم بأخذ هدنة كافية لينسى الجميع الأمر تمامًا فيتمكن من تكرار صفقته...
لكن الأمر مختلف هذه المرة إذ قصد البلدة بعد أن وصله مرسال من عماد عن أرض يرغب مالكها في بيعها .. وبعد التقصي اتضح أن الأرض ملك للرجل مع أولاد عمومته وقد ورثوها عن أجدادهم..
لكنه الطمع المحرك الأساسي لبني الإنسان ودافعهم لنيل المزيد والمزيد دون اكتراث بغيرهم..وللحق أنها متعة عبد الرحيم في الحياة!

قابل عماد المتوتر بوجه ساخر وسأله باستخفاف:"أين سيدك؟"

"رجاء يا سيد عبد الرحيم دون سخرية..السيد فاروق أرادني أن أكون حلقة الوصل بينكم حتى إتمام الأمر"

"حقًا؟!! وكم تريد بالمقابل؟"

ضحك عماد بارتباك ودارت عينيه يستطلع الوسط من حوله قبل أن يقول:"لا أطلب الكثير..تعرف أنني أسد جوع أبنائي بما أجنيه"

"نعم أعرف..وأفواه أبنائك كبيرة لا يكفيها ما يجود به خليفة"

ليبرر عماد بكبرياء مصطنع كاصطناع رجولته التي ارتضى بإهانتها وتطويعها لمن يدفع أكثر:"هذا شأن آخر..رجاء يا سيد عبد الرحيم لننهي هذا الأمر ونحافظ على علاقتنا الطيبة فالمستقبل مجهول لكلينا"

"نعم..إنك محق..لنعمل لأجل هذا المستقبل المجهول"

وتقدم بعرجته حتى وصلا بيت فاروق فطرقا الباب لتفتح لهما مراهقة مبتسمة سرعان ما اعترى وجهها القلق ثم فرت من بينهما مجاوزة باب البيت راكضة..

فتبادل الاثنان نظرات محتارة ودلفا للداخل..
"السيد فاروق أيضًا تعرض لحادث ولايزال قعيد الفراش"

ضحك عبد الرحيم بسماجة قائلًا:"أجل..معدل الحوادث زاد مؤخرًا..أتمنى أن يكون حالك أفضل فلا تخرج بعرج دائم مثلي"

أخفى فاروق ارتباكه خلف ابتسامة مجاملة قبل أن ينادي:"الشاي يا أم روان"

بادره عبد الرحيم دون إهدار للوقت:"هل شركاؤك في ملك الأرض..؟...تبدو جديدًا في المهنة..والصدمة المرسومة على وجهك غير محمسة أيضًا"

فأكمل عماد عوضًا عنه:"السيد عبد الرحيم يقصد هل سينتبه أولاد عمومتك؟ هل يتفقدون البيت؟ تعرف عقد بيع كهذا يتطلب وقتًا للتوثيق وحتى نمر بكل الخطوات المنطقية لبيع مشروع ..لا نريد مفاجآت..."

وقبل أن يتم عماد جملته كان هاشم يندفع من باب المنزل المفتوح تلحقه روان المرتعبة:"لن يتم هذا البيع!"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
ذلك المساء
تغيب الكبار عن الساحة فاستغل الشباب الفرصة للتجمع..فعوضًا عن الجلسة العائلية المرحة كالعادة..التقى زيد ومازن في شرفة سالم ..

تبادلا النظرات المختلسة قبل أن يصرح كلاهما للآخر وفي ذات التوقيت:"لقد وجدت فتاة أحلامي"

حدقا ببعضهما بذهول قبل أن يدخلا في نوبة ضحك متواصلة وتابعا معًا أيضًا بعفوية:"ولكني لن أخبرك عنها الآن"

لتندس أفنان بينهما والتي وصلت للتو فسمعت هذا التصريح العظيم من كليهما..
"أريد أن أعرف..يحق لي أن أعرف..من هما؟"

وأردفت بعدما أدار كل منهما رأسه ضاحكًا:"حسنًا ..ليخبرني كل منكما على حدا.. أي أنه لن يفشي سره للآخر..أنا فقط من سأعرف"

وقلبت شفتيها حين التفتا إليها فشد كل منهما أذنها من جهة وقالا معًا:"لا شأن لك أيتها المتطفلة"

"كنت أظنك تحبني أكثر منه يا زيد! فاتضح أنك غليظ مثله"

وتدخل هيثم الذي شاركهما الجلسة للتو قائلًا بلطف كأنه يدلل طفلة صغيرة:"أنا سأحبك بالأكثر لا تكترثي لهما يا فراشة هيثم"

حدجه زيد محذرًا لكن هيثم لم يرتدع هذه المرة بل هتف به:"لقد أصبحت طوع أمري وانتهى عصر سلطتك يابني.. ستعمل في الشركة والتي أصبحت أنا مالكًا لها.. أي أنك أجير لدي يمكنني طردك في أي لحظة"

"أنا أقتل لأتفه الأسباب..يمكنني الآن أن أنهض لأنهيك كن حذرًا"

لكن هيثم بالغ في استفزازه قائلًا:"وتجلس في بيتي أي أنك صفر أمامي الآن"

فنهض زيد يثبت له ما يعنيه أن يكون صفرًا كما وصفه!

لكن أفنان تشبثت به تطلب بدلال:"أرجوك لا تفعل..هل ستحزنني في هذا أيضًا؟"

فمط زيد شفتيه ممتعضًا وركل هيثم بقوة ثم عاد للجلوس قائلًا لشقيقته:"لن أحزنك"

فأرسل هيثم قبلة طائرة لحبيبته مغازلًا:"يسلم لي الحلو"

ليغرب مازن في الضحك مع زمجرة شقيقه المتوعدة ثم قال:"يابني كان عليك أن تنهض لمقاتلة زيد فتربح الجولة وبهذا تكسب قلب حبيبتك أكثر"

"حقًا؟ هل يروقك العنف يا أفنان؟"

بينما صرخ زيد بشقيقه:"وأنت ماذا تقول؟ هل جننت؟ بدل أن تشاركني تكسير عظامه تعترف به كحبيب وتسديه نصائح أيضًا!!!"

"إنه التحطيم النفسي يا شقيقي..إنه مدرك لصعوبة الوصول لأفنان بينما هي تتوسطنا ولا يجرؤ على أن يكون ندًا لك في نزال"

"لا..سأغادر هذه الجلسة"

نهضت أفنان عابسة فقد توقعت جملة هيثم التالية:"ولماذا لا أجرؤ؟ ليكن.. حدد موعدًا وأنا مستعد"

"لا..هذا لا يروقني..تراجع يا هيثم...أنا.."

كادت تكمل أنها تحبه كما هو لكنها تراجعت خجلة وقد أقسم هيثم داخله أنها لو فعلت لتراجع عن قوله..إلا أنها كالعادة لم تفعل..

فأصر هيثم متابعًا:"حدد موعدًا"

وأومأ زيد قائلًا:"بالتأكيد..لنر كيف ستسير إصلاحات الشركة وسأجد ساعة لعقد نزال شريف بيننا"

ثم جذب شقيقته لتعود مكانها مرة أخرى وقرص خدها مداعبًا:"لا تزال السهرة في بدايتها بعد.."

طاوعته أفنان على مضض ولزمت الصمت طوال الجلسة وتجاهلت كل محاولاتهم لإشراكها في أحاديثهم الممتعة..
وللمرة التي نست عددها  تفقد الجلسة متعتها بسبب هيثم!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
قصدت علياء غرفة فادي بعد حديث طويل مع زوجها تصافيا فيه وأقنعها أنه لايزال عاجزًا عن مواجهة فادي.. وأن السبيل الأفضل حتى لا ينقطعا عنه تمامًا أن تحل هي محله فتدعم الصغير وتجالسه وتكون حلقة الوصل بينهما حتى حين..

ولأنها أدركت أن اقتراحًا كهذا بمثابة تنازل منه فقد وافقت وأقرت أنه تقدم مقبول كبداية..

طرقت الباب بخفة ولزمت مكانها حتى سمعت فادي يأذن لها بالدخول..نعم احترام الخصوصيات أهمية قصوى لدى صغيرها الآن!

ودلفت بهدوء بعد أذن لها فوجدته يقف عاري الصدر أمام خزانة ملابسه..
وفورًا ارتفع مؤشر قلقها الأمومي..لكنها حافظت على هدوء ملامحها بينما تسأله بلهجة جاهدت لتبدو طبيعية:"هل تخطط للخروج؟"

"نعم..رفاقي الجدد يسهرون الليلة وطلبوا مني القدوم"

وأمام الإحباط الذي ارتسم على وجهها أضاف فادي:"لكنني لم أعطهم الموافقة بعد"

فناظرته علياء بدهشة قبل أن تتمالك نفسها وتضيف بصوت أودعته كل لهفتها الحقيقية وشوقها لصغيرها الذي يرى نفسه صار كبيرًاعلى أحضانها:"وأنا أتيت للجلوس معك قليلًا .. أحببت مشاركتك بعض مشكلاتي"

"حقًا؟"
تساءل فادي باستغراب ثم استطرد:"لا بأس..أنا متفرغ..ربما أرافقهم الأسبوع القادم..لا مشكلة"

ابتسمت علياء وسحبته إلى أحضانها مقبلة وجنتيه رغم مقاومته..فلتخسأ الحدود والخصوصيات..
"صرت رجلًا..ما المشكلة؟ أنا أقبل أخويك بذات الطريقة وهما أيضًا من يطلبا أحضاني أغلب الأوقات.. عد إلى رشدك يا ولد"

ضحك فادي مستسلمًا وبادلها الاحتضان ...

"اسمع إنها  ليست مشكلة كبيرة..لكن لا أريد لأحد أن يعرف..كنت أرفض استعمال الهواتف المحمولة ولكني غرت منكم وأردت تجربته ..وعندما قابلت ابن إحسان في السوق أعارني إياه حين تحججت أنني أريد إجراء مكالمة ونسيه معي.. والآن لا أعرف كيف أعيده إليه!"

"هل أنت طفلة يا أمي؟"
صرخ بها فادي قبل أن يراجع نفسه ويضيف بهجة لينة:"هاتيه أنا سأعيده.. ومن اليوم يمكنك استخدام هاتفي كما يحلو..."

وانتبه لزلة لسانه وعقله يوضح له اللعبة المكشوفة التي وقع فيها..دمعتين وقصة مستهلكة حتى تتمكن والدته من مراقبة هاتفه..

لكنها رأت أفكاره مرتسمة على وجهه فقالت بينما ترمقه بنظرات عاتبة:"والدك سيشتري لي واحدًا قريبًا وأردت أن أتعلم استخدامه.."

لا ..هو لا يعرف الاعتذار..
حدث فادي نفسه قبل أن يجيبها:"حسنًا يمكنني تعليمك كل ما تريدين"

وأضاف بغرور:"لقد قصدت الشخص المناسب"

فمررت علياء أصابعها في رأسه مداعبة ومالت تقبله قائلة:"حسنًا.. ماذا ستعلمني الليلة؟"
وأنصتت بصبر وحب لكل ما قاله وبين الحين والآخر تستدرجه بسؤال لتستعلم عن أحواله ومدرسته الجديدة..
ولكنها اكتشفت أن صغيرها قاطع الدراسة نهائيًا فكادت تلطم خديها.. مفكرة في المشكلة الجديدة:كيف ستقنعه بالدراسة؟ وكيف سيتقبل والده حقيقة رسوبه إن حدث؟!!
لا حل غير الدعوات يا علياء! اطلبيها من الله وهو قادر على هداية كليهما وإراحتك..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"هل أنت واثقة أنك تستطيعين قيادة السيارة في طريق العودة؟"

قادت نوران السيارة بثقة بينما تجيب شقيقتها:"بالطبع.. وهل الصالة الرياضية وحش يستهلك طاقتي كما تتخيلين؟!!"

وأضافت محذرة:"أنصحك أن تلزمي الصمت ولا تفسدي علي فرحتي بالسيارة الجديدة"

"أنا متأكدة أنك ستتورطين في المشاكل كالعادة..فهل ستغيرين هذه السيارة أيضًا حينها؟"

أجابتها نوران بطفولية تتشبث بها في هذا الأمر تحديدًا:"لا أعرف..أنا أتشاءم من أشيائي المرتبطة بالأحداث المؤلمة بالنسبة إلي.. وذكرى الحادث لا تفارقني خاصة بعدما فعله ذلك النذل مع أبي"

"لكنه تنازل عن القضية.."

رمقتها نوران بسخرية قبل أن تلتفت للطريق أمامها قائلة:"صوتك يشي بقلقك يا هالة..أخبريني ما آخر توقعاتك بشأن القضية والنذل؟"

"لا أعرف.. ربما إن التقيته وجهًا لوجه يمكن لحدسي تكوين فكرة عنه وعن تصرفاته"

"لا أنصحك أن تفعلي إذًا.. ولندع الماضي للماضي كما يقول مازن"

لم تستطع نوران كتم شهقتها بعد زلة لسانها بينما قهقهت هالة حتى ظنت نوران أنها لن تتوقف عن الضحك أبدًا..
"أعرف أنك لم تعدي العدة بعد لبدء نظام تخسيس محترم لذا لا بأس بألا ترافقيني اليوم..ترجلي هنا لأن.."

لم تعبأ هالة بمحاولاتها للتهرب قاطعتها ضاحكة:"يا رب! شكرًا لأنك أنصفتني.. عشت لأرى اليوم الذي تتوترين فيه وتخفين أسرارًا مهمة كهذه عني.."

"أنت توقعت ان تتكرر لقاءاتنا بهم.."

"والآن أتوقع أن تتكرر لقاءاتكما معنا.. نوران ومازن فقط تجمعكما المسئولية.. الخوف على مصلحة فادي..إصلاح علاقتك بأفنان..هوسكما بالرياضة..صدقًا سأفرح أخبريني متى حددتما الخطبة؟"

جحظت عينا نوران بهلع من تطور الأمر في مخيلة شقيقتها إلى هذا الحد فأزاحت أفكارها الداخلية التي تطرح عليها السؤال ذاته وبررت بارتباك:"كان لقاءً عابرًا.. إنه مجرد شخص.."

قاطعتها هالة بمكر:"بل جارك ألم تقولي أنه وضع هذا التوصيف لعلاقتكما سابقًا؟"

"كفى هذرًا..وصلنا "
أنهت نوران الحوار بحدة فترجلت هالة لاحقة بها مدركة ما يختبئ خلف قناعها الحانق..وسرعان ما تبدل حالهما فابتسمت نوران بثقة ملتفتة لشقيقتها قائلة بوعيد رسم الحنق والفزع على وجه هالة:"استعدي لأنني سأوصي المدربة بك خيرًا..سأوصيها وبشدة في الحقيقة"

بعد دقائق..
أخرجت هالة طرف لسانها تغيظ شقيقتها إذ استقبلتها المدربة بابتسامة ودودة قائلة:"إنه اليوم الأول لك لذا لن أضغط عليك في التمرين..إن رأيت التكرار مبالغًا ومتعبًا لك فلا بأس أدي عددًا أقل منا..اعتبريها جولة تعريفية بالأجهزة والنظام ثم أبلغيني رأيك في آخر التمرين وقرارك النهائي"
انصرفت المدربة لتنبه الجميع لبدء التمربن فربتت نوران على كتفي شقيقتها ببعض الحدة قائلة:"إذًا لا تقفي في طريقنا حتى لا ندهسك يا صغيرتي"
وانضمت لرفيقاتها المعتادات على العذاب مثلها بينما قلدتهن هالة وعند أي إحساس ببادرة تعب تقف في مكانها تتنهد براحة وتصفق لهن مشجعة..

وبعد فترة كافية من الإحماء وتمارين الحرق(الكارديو) بدأن التمرين باستخدام الأوزان فتراجعت هالة عن المشاركة قائلة:"لا أستطيع حمل هذه الأوزان.."

ناظرتها نوران شزرًا بينما أعطتها المدربة أقل ثقل في الصالة لتحمله قائلة:
"ستعتادين فيما بعد لكنني لن أفرض عليك شيئًا لأنها المرة الأولى"

فأدركت هالة الشر الكامن خلف جملتها وحمدت الله أنها مرتها الأولى تعد نفسها ألا تكرر المحاولة..

وعندما بدأن التمرين تذكرت هالة قرارها الذي عزمت عليه فحاولت بجدية هذه المرة أن تتابع معهن إلا أنها شيئًا فشيئًا كلت و وقفت حيث هي تتابعهن بابتسامة متكلفة..
وكلما نظرت لشقيقتها انتابها اليأس أكثر فأكثر..إذ رفعت نوران (البار) الذي يحمل ثقلًا ضخمًا عند طرفيه وكررت به التمارين بهدوء كأن ثقليه مجرد بالونين من المطاط..
"سنركز الآن على تمارين البطن"
أعلنت المدربة بحماس فاستلقت السيدات أرضًا على ظهورهن وبدأن أداء التشكيلات المختلفة حتى جحظت عينا هالة وهي ترى المدربة تمر عليهن واحدة تلو الأخرى فتضرب بطونهن بكرة سوداء صلبة تبدو كقنبلة موقوتة!

فنهضت هالة جالسة فورًا تعلن رفضها لهذا التعذيب لذا اقترحت المدربة ضاحكة:
"إن شئت يا هالة يمكنك متابعة التمارين مع الفتيات هناك أظنها ستناسبك أكثر بما أنها المرة الأولى"

فأومأت هالة وسارعت بالهرب..
ولحقت بها نوران بعد قليل إذ أدركت شعورها في هذه اللحظة فأرادت أن تخفف عنها بقولها:
"الأوزان في الأصل للرجال لكننا كحزب القوة أردنا أن نتعادل معهم"

جاملتها هالة بابتسامة صغيرة.. قبل أن تمسك بالقضيب الحديدي المثبت بشكل عرضي في الحائط لتبدأ التمرين..

فشاكستها نوران وهي تضغط على كتفها قائلة:"ميلي بخصرك أكثر يا هالة.. لتشعري..."

لكن هالة قاطعتها بمرح لتخرج نفسها من بوتقة الإحباط :"ميلي بخصرك صوبي ميلي"
وأكملت دندنتها بالأغنية بينما تميل للخلف على شقيقتها راقصة بغنخ فانقلب تعاطف نوران فورًا إلى الغيظ وتركتها قائلة:"وأنا من قررت التفضل عليك بجزء من وقتي.. تابعي الرقص يا هالة..تابعي!"

فهتفت هالة:"والرقص أيضًا نوع من التمرين يا شقيقتي.."

وضحكت حين لم تلتفت نوران إليها متمتمة:"ونوع ممتع أيضًا"

وأخيرًا استسلمت هالة لكسلها فجلست تدردش مع السيدات تارة وأخرى تراقب شقيقتها أو تلقي إحدى تعليقاتها المرحة.. حتى انتهى التمرين فرحلت أغلب السيدات إلا ثلة قليلة كنوران بدأن استخدام الأجهزة المختلفة..
"نوران دعيني أجرب"

"سأحضر لك شوكولا في طريق العودة لكن دعيني أنهي التمرين يا لولو"

تذمرت هالة تدب الأرض بقدميها قائلة:"هل تحادثين طفلة؟ أريد التجربة!"

"ثمانية..تسعة..عشرة.."
أنهت نوران العد لاهثة ونهضت تتيح لشقيقتها فرصة التجربة كما طلبت..
لكن هالة ما إن جلست على الجهاز متخذة ذات وضعية نوران حتى قالت:" أشعر أنني سأخضع للجلد"
فطرقت نوران رأسها بالحائط وقد يأست منها..بينما عادت هالة للضحك غير قادرة على تمالك نفسها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد أسبوع
تجهزت نوران ليوم عمل جديد بعد أن حظت بإجازتها السنوية فهي تذهب لأداء عملها دون مماطلة أو تكاسل حتى يوم الدلال فتتبعه بأسبوع إجازة تريح جسدها ونفسها وعقلها من أعباء العمل وتعقيدات المراهقين الذين تدرس لهم..

وقفت لتحضر الشاي بعد تناول الإفطار فداهمتها هالة من الخلف:"نوران ألن تعترفي لشقيقتك؟"

"هالة! إنني أحتاج لطاقتي بعد.. لذا اجتنبيني في هذه اللحظة"

لكن هالة تابعت مصرة على مضايقتها ودفعها للاعتراف:"التقيت بمازن من خلف ظهري بينما تأمرينني ألا ألتقي بشقيقه..اعترفي! كم مرة ضعفت؟ وهل حدثت تجاوزات؟أو وعدك بلقاء والدك مثلًا!"

دفعتها نوران بخفة وهتفت بصوت عال:"كم معلقة سكر يا أمي؟"

في محاولة مكشوفة لإلهاء شقيقتها التي كانت لها بالمرصاد..

فاستطردت نوران تغير الموضوع كوسيلة دفاعية تعتنقها دائمًا مع شقيقتها: "قررتي الهجوم لتنسيني  فشلك الذريع في الصالة الرياضية طوال الأسبوع أليس كذلك؟ وستطلبين الآن إلغاء اشتراكك.."

لكن تسمر هالة في مكانها دفع نوران للتأفف بغيظ:"ماذا تريدين؟ لدي عمل"

اقتربت هالة لتتراجع شقيقتها متوجسة ..

قبل أن تقبل هالة وجنتيها قائلة:"قبلة..أريد قبلة..ألا يستقبلك مؤمن بها يوميًا حين تذهبين لمساعدته في دروسه"

دفعتها نوران زاجرة:"نعم وتكون أفضل من خاصتك..كما أنه طفل مسالم لا يتعبني مثلك..هيا هيا تنحي عن طريقي لست عاطلة مثلك"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
في الباحة الخلفية من المدرسة وقفت منة بمعزل عن زملائها في الاستراحة
فبعد أن تم تجبير ذراعها المكسورة  قررت قطع إجازتها المرضية مخالفة أمر والدها وتعليمات الطبيب بالتزام الراحة وزيارة مختص بالتغذية..
لم تتلقى الاعتذار الذي انتظرته بل كالعادة صفعتها إشاعة أخرى..تنمر آخر اعتادته من رفاقها وظنت أن فادي تمكن من دفعه عنها أخيرًا لكن للأسف اتضح أن فادي أكبر متنمر فهو أول من اعتزلها بعد أن لازمتها إشاعة أن جنيًا قد سكنها وهو من يتصرف عوضًا عنها..

اسأل عن الأسباب! ما المنطقي في إشاعة كهذا؟ لن يجيبك أحد!

بينما راقب فادي وقفتها المنبوذة وعقله يتردد من قبول هذه الإشاعات لكن رغمًا عنه وجد نفسه أول من تجنب التعامل معها وقد أصابت الإشاعة أكثر الأمور جدلًا وإقلاقًا لمراهق في عمره..

وانتهت مراقبته عند هذا الحد حين قرع الجرس إيذانًا بانتهاء الاستراحة والعودة للفصول..
وبعدما استقر الطلاب في الفصل ومن بينهم منة .. وصلهم النبأ السعيد أن الأستاذ قد تغيب عن الدرس ..فنهضوا من مقاعدهم وراحوا يثيرون الصخب بالحديث والغناء وفعل كل ما بدا لهم..

فسبب ضجيجهم الصداع لتلك المسكينة علاوة على ارتفاع حرارتها إثر الحمى التي أصابتها مؤخرًا وتجاهلتها مصرة على الذهاب للمدرسة..متوقعة أن يستقبلها الجميع بالاعتذار والشوق بعد غيابها..لكن هيهات!
صارت عيناها حمراوتين مع إفرازات غريبة تنحدر منهما كل دقيقة فتسارع لمسحها لكنها لا تتوقف .. وأخيرًا نهضت بألم بغية مغادرة الفصل..لكن السكون تلبس الجميع من حركتها المفاجئة وتجرأت إحداهن على تحسس جبهتها الدافئة صارخة : "يا إلهي! بشرتها ساخنة.. إنها النوبة بلا شك...الآن سيظهر لنا الجني..من يحفظ منكم آيات من القرآن فليقرأها"

وثار ضجيج من نوع آخر أمام عيني منة المتألمتين فقد تكدس زملاءها في جهة واحدة من الفصل قلقين منها..
وأحدهم يتعوذ بالله في وجهها وآخر يتساءل ماذا عليهم أن يفعلوا ليتقوا شر الجني؟!..وأقاويل متناثرة عن أعراض المس والتي يزعمون أنها جلية على منة..

بينما صاحت إحداهن :"لننادي الأستاذة نوران ..لاشك أنها ستحسن التصرف"

وهنا تذكر فادي توصيات مازن حين قص عليه ما يحدث مع منة ..وتذكر تأكيده أنها طبيعية وأن أحدهم قد ألف هذه القصة لإثارة الحماس بين صفوفهم..لذا حاول  إقناع نفسه بالتقدم ومساعدتها وربما الدفاع عنها ضد أولئك الحمقى لكن دون جدوى فوقف يراقب بأسى ما يحدث..
"ما هذا الضجيج؟"
سألت الأستاذة سميرة بينما تدلف للفصل مستاءة من ضجيجهم:"منة مريضة"

تقدمت سميرة تتفحصها بقلق وأخذت بيدها  خارجة من الفصل..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
سار زيد بروية متابعًا العمل المكثف لإصلاح تلفيات الحريق وقد رفع هاتفه يجيب اتصال شقيقه الملح:"أفنان على وشك فضح أمرنا لأمي وإن بلغ أمي الخبر فسوف تنشره في جميع الأوساط حتى قبل أن تأخذ موافقة الفتاة..أسرع!"

"ولم لا تفعل أنت؟"

وصلته إجابة مازن عبر الأثير الذي لم ينجح في طمس الغرور المتدفق في صوته:"أنا واثق من ردها يابني..ارفع رأسنا أنت فقط"

"هل أخمن هويتها؟"

"لا..دعنا لا نفعل! ليبق مجرد تخمين على الأقل حتى لا يزل لسانك وتفشيه لشقيقتك المدللة"

ضحك زيد موافقًا:"لا بأس..هيا اذهب لأعمالك..إلى اللقاء"

ثم توجه لمكتب السكرتيرة والتي عادت لتنظيم المواعيد واستلام الطلبيات قبل بدء العمل الرسمي خلال هذا الأسبوع فأصدر أمره الأول كمدير:"اتصلي برؤساء الأقسام فلدينا اجتماع عاجل في الغد"

أومأت نهلة قبل أن تستدرك قائلة:"هل أتصل بالآنسة هالة أيضًا؟..لا  ليست رئيسة..."
قاطعها زيد مبتسمًا:"بل اتصلي بها"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
في مقعد الاستراحة المخصص لانتظار الحافلات جلست هالة تستمتع بمذاق جديد من المثلجات والأفكار تتراكض خلف بعضها في رأسها..
انتهجت منهاج نانسي فقررت مهاجمة دهونها المستعصية وقصدت الصالة الرياضية مع نوران لكن لم تلق نتيجة بعد ست ساعات تدريب على مدار أسبوع..

رأت الكثيرات ممن في وزنها بل أكثر كن باسمات رغم النتائج البطيئة وأخبرتها إحداهن أنها لم تبدأ في فقدان الوزن إلا حين بدلت عبوسها بابتسامة واسعة وتحسنت نفسيتها فتغيرت نظرتها للتمرين وصارت تجد متعتها فيه علاوة على أنه وسيلتها لتحقيق هدفها..

وأخرى قالت أن وزنها يزيد بسرعة البرق ويقل كما السلحفاة بروية حتى علمها الصبر.. ورغم هذا لم تلتزم بعد بالحمية وتقع في هفوات قاتلة تعيدها للصفر كل حين..

إلا أن جميعهن أدين التمرين بحماسة وشغف..لكنها كانت متكاسلة..متثاقلة.. فما التمرين الذي قد يدحر دهونًا كالتي لديها؟

يحتاج الأمر لمعجزة! وهي أضعف ما يكون ولن تتمكن من تحقيقها..

وصلت الحافلة فكادت تنهض حتى تبتعد عن زحام المترجلين لكنها فتاة واحدة من ترجلت من الحافلة..شابة تماثلها في العمر تقريبًا دفعها محصل الأجرة بخشونة قائلًا:"هيا اغربي عن وجهي أيتها الدميمة!"

راقبتها هالة بأسى وهي تستعيد توازنها قبل أن تجلس على ذات المقعد على مقربة منها..فتفحصت حقيبتها متوقعة أن الفتاة ستطالبها بمناديل ورقية لمسح دموعها لكن الشابة ذات الملامح الناعمة والبشرة الخمرية التفتت إليها مبتسمة: "ما اسمك؟"

"أدعى هالة..."
وكادت تسألها عما رأته قبل دقائق لكنها تراجعت خشية إحراجها فبادرتها الأخرى بلطف:"أنا نفيسة..لا تستغربي.. هذا خالي..أمي حذرتني من ركوب الحافلة في هذا الوقت حتى لا أصادفه وللأسف اضطررت لنكث وعدي حتى لا أهدر راتبي مع سيارات الأجرة"

لاحت الشفقة في عيني هالة فتابعت نفيسة:"رأيت الفضول في عينيك أي أنني لست ثرثارة كما تقول أمي..كنت أجيب سؤالك الصامت فقط"

لم تملك هالة إلا الضحك أمام خفة ظلها ثم قالت:"أنت رائعة..حلوة جدًا في الحقيقة..وآسفة لكن خالك نظره ضعيف كي لا يبصر جمالك..يكفي شعرك الأشقر الذي يجعلك مميزة للناظرين"

أنارت ملامح نفيسة بابتسامتها قبل أن تجيبها:"أشكرك..بعض أقاربي لا يرون هذا الجمال الذي تصفينه  خاصة أن جين الشعر الأشقر متوارث بيننا..في نظرهم الفتاة البيضاء هي الجميلة فقط..إلا أنني لا أهتم أمي أنشأتني على هذا أن أقدر نفسي..أنا نفيسة كاسمي تمامًا"

بان التأثر على ملامح هالة ولمسته نفيسة التي أضافت:"أنت أيضًا بالإضافة لملامحك الجميلة فبشرتك البيضاء تليق بك..لو أن أمي رأتك ستقول طاجن قشطة على قدمين"

"هذا الطاجن تمامًا ما يجعلني بهذا الحجم"

"وما به الحجم..تظلين جميلة يا لولو..واسمحي لي أن أدللك..اسمعي يجب أن أسرع في العودة حتى لا أتأخر عن أمي ولكني لم أجلس معك بالقدر الكافي بعد"

تقبلت هالة ما قالته كمجاملة ستسجلها في مذكرتها كغيرها مما تسجله من أوصاف نعتها بها الناس... واقترحت عليها:"لنلتق  في ذات الموعد متى راقك الأمر.. أنا متفرغة"

"رائع..نلتقي في الغد وبعدها نتفق على الموعد التالي ما رأيك؟"

"موافقة"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"هذا الفصل صار أيقونة للمشاغبة منذ التحاق فادي به.. لقد تزعمهم أعطاهم الجرأة بدعوى حرية الرأي!"

"لا بأس..تعرفين طاقات المراهقين..لنتحمل إنه الأسبوع الأخير"
مازحتها نوران كي تخفف عنها حدة شعورها بالسوء مدركة كم تأخذ سميرة الأمور بجدية وتحملها أكثر مما تستحق..

فأجابتها الأخيرة:"وهذا الرجل والد  منة!! كم يهمل في ابنته! الفتاة نحيلة.. كسرت ذراعها في حصة التربية البدنية.. ثم يتركها تأتي للمدرسة محمومة!"

"منة أيضًا تحتاج لمساعدة نفسية كما أظن..هل يمكنك إقناع والدها أن يفعل؟"

وللمرة الأولى رأت نوران سميرة مترددة ولا تضع مصلحة الطلبة أولويتها القصوى إذ اعترضت قائلة:"ولم تركت هذه المهمة لي؟ فادي وكمال وغيرهم اهتممت بأمرهم!"

وبررت بحجة ضعيفة:"أعني لا أحب التعامل مع هذا الرجل يكفي أن أراه لتشتعل النيران أمامي فلا أتوقف عن الصراخ به"

"لكل منا مهامه..أنا لا أتعامل مع أولياء الأمور..ورجاءً اطلبي من وائل أن يزورني الآن في غرفة المعلمات إذا سمحت"

"لنرى نتاج أفعالك..بالمناسبة فادي كرر هروبه مرتين أثناء غيابك"

ضحكت نوران بخفة قائلة:"سيكون لي حديث مطول معه فيما بعد..لا تقلقي"

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أخرج مازن ذراعه من نافذة سيارته كأنه يداعب الهواء بإحساس يشمله كله فيضفي إلى روحه هذه الخفة التي تجعله كطائر يخوض بجناحيه عباب السحاب..
وسرعان ما استعادها ضاحكًا حين تقدمت السيارة التي تلحقه لتكون مجاورة له مقررًا أن يمثل الوقار أمام الغرباء..
عاد يدقق في قائد السيارة ليصدمه حقيقة أنها نوران..
"سيارة كحلية!"
ناظر ساعته مستغربًا قبل أن يقرر ملاحقتها..

ولم يمنع نفسه من توعدها بمكر:"سنعرف رد فعلك حين أواجهك بأفعالك الآن"

أما نوران فلم تلتفت لأي شئ حولها ..هدفها واضح وعليها أن تسرع لإيقاف هذه المهزلة..

فأخيرًا بعدما تمكنت من إقناع وائل أفشى لها السر وراء العداء المتبادل مع بسنت.. إذ أنها جارته التي يغفل عنها أهلها على حد قوله فتخرج للقاء رفاقها في جلسة مختلطة تستمر حتى وقت متأخر من الليل..
ورغم جدية الموقف و وعدها له بتفقد ما يفعلونه هذا المساء..شعرت نوران وقتها بدغدغة من كلمة جارة..هذه الكلمة صارت تحمل مكانة خاصة في قلبها حتى إن سخرت من نظرية صاحبها أو سفهتها..
(ليس وقت نظرياتك المحببة الآن يا نوران رجاء)
أمرت نفسها بصرامة قبل أن تتابع طريقها غافلة عن صاحب النظرية الذي يتتبعها!

في الآن ذاته..
كان الاجتماع في ذات الزقاق الضيق أمام فيلم مختلف ككل ليلة يقررون اللقاء..
همست دينا لصديقتها:"كيف أتيت دون أن يلاحظك وائل؟"

"أوووف..إنني أستمتع بالمشهد الآن..لا تذكريه أمامي"

"ولم لا؟أمامك فرصة لتحظي بتجربة رومانسية الآن..اغتنميها"

صرخت بسنت باستنكار:"مع وائل؟!!"

فتنبه رفاقها لحديثهما الهامس وزجرهما كمال:"اذهبا لوائل ودعانا نتابع الفيلم.."

أجابته دينا بامتعاض:"نستخدم حاسبك كل مرة ولكن هذا لا يعني أن تعاملنا بهذه الطريقة يا كمال"

أما عمرو المنتبه بكل حواسه للمشهد الساخن أمامه أمر الجميع بالصمت.. فانصاعوا له وحواسهم تستقبل بلهفة ما يُعرض أمامهم..

ومع تعليقات الأولاد وكلماتهم البذيئة التي حثتهم رجولتهم الوليدة على تعلمها وما أفضل من مشاهد كهذه لتكون متنفسًا لهذه اللغة بينما انخرطت دينا وبسنت في حديث هامس غير مهذب بتاتًا غير عابئتين بالبذاءة المحيطة بهما..

وفجأة نهض شريف مترنحًا واتجه للفتاتين ..في البداية لم ينتبه أي من الأولاد لما يحدث حتى صرخت دينا مستغيثة وهي ترى الفتى يتهجم على صديقتها:
"أخبرتك يا كمال ألا تجعله يشاركنا الجلسة ..إنه أكبر منا ولا نأمنه..."

قطعت جملتها وهي تضرب شريف على ظهره بكل قوتها الضعيفة أمامه بينما ينهمك الأخير في تقبيل صديقتها وكأنه يريد تطبيق المشهد الذي رآه للتو على أرض الواقع..

وضع كمال حاسبه على حقيبته الملقاة أرضًا ونهض مع رفاقه يحاولون دفع الفتى المختل عن زميلتهم التي لم يتوقف صراخها وبكاءها..
وهتف عمرو:"أي شئ تعاطاه قريبك يا كمال؟! أوجد حلًا!..دينا محقة أنت سمحت لغريب أن يدخل بيننا"

وبينما يحاولان الفصل بينهما وصلت نوران التي دفعت الولدين بسرعة وجذبت الفتى بقوة بعيدًا عن بسنت وبكل قوتها طبعت صفعتين على وجهه..
"ماذا تفعل؟ ماذا تفعل؟ وأنتم ؟!! تبًا تبًا"
إلا أن شريف لم يقف عاجزًا أمامها فقد رفع قبضته جهتها يعاقبها على قطع متعته..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
عاد عبد الرحيم لبيته منتشيًا فأبلغ وجدان بسعادة :"اشتريت بيتًا في البلدة..رائع يا وجدان..ذهبت كشاهد على عقد البيع لأجد نفسي المشتري في النهاية"

ناظرته وجدان بمرارة ..وجهها شاحب وقد فقدت تمامًا راحة بالها مع زيارات عرفه المتكررة..

"مبارك عليك"

تابع كأنه لايبصرها حقًا:"وبعد أن أستعيد المصنع من خليفة..نؤجر المنزل ويصبح لنا مصدري دخل مع عملي كسمسار بين فترة وأخرى...ونعود لإيجاد حل لأولادك الذين يرفضون الرضا عن والدهم"

فكرت وجدان بأسى:(عليك التفكير في والدتهم قبلًا يا رحيم)
وتركته يسرد على مسامعها تفاصيل أحلامه الطامحة الطامعة دون أن تشاركه سعادته...إن الأيام تدهسها وبقوة فصارت عاجزة عن ترتيب حياتها  بينما يشكلها القدر كيفما شاء...وليت لها القوة فتوقف عجلة الزمن!

قراءة ممتعة❤️❤️

#ڤوت
#كومنت

جيران المدينةWhere stories live. Discover now