الفصل الثالث عشر

39 2 0
                                    


الفصل الثالث عشر

في طريقها للمدرسة استرجعت نوران حديثها مع سميرة بالأمس..
"هل يمكنني أن أتولى هذا الأمر؟"

التفتت سميرة إليها كأنها لا تفهم حقًا ما تقوله ..
وجهها ذاهل وعيناها تقدحان شررًا:"إنني لا أحلم! هنا في المدرسة التي أتولى الإشراف على طلابها يحدث هذا المشهد! وأمام عيني! بل ويبدو أنهم معتادون على هذا!!!"

كررت طلبها إلا أن سميرة كانت في عالم آخر تمامًا تردد فقط:"أمام عيني! أمام عيني! أمام عينيييييييييييي!!"

فلعقت نوران شفتها السفلية وعضتها محاولة ابتلاع رغبتها بالضحك حين تخيلت أن تستبدل سميرة بشقيقتها فترى المشهد طبيعيًا جدًا وتعلق بمرح أنهم أحسنوا التصرف وأنها للأسف لم تكن بجرأتهم في طفولتها...

وأخيرًا انتبهت سميرة لوجودها فسألتها مرة أخرى:"هل يمكنني تولي هذا الأمر؟"

"وماذا ستفعلين؟ يجب استدعاء أولياء أمورهم فورًا ومناقشة هذا التصرف معهم"

"أفكر بشكل مختلف..كل ما أرجوه أن تتركي لي التصرف هذه المرة وأعدك أن ترضيك النتيجة"

فجزت سميرة على أسنانها في محاولة لكبت غضبها المتصاعد ووافقتها على مضض قائلة:"حسنًا أترك لك الأمر برغم أنني أتحرق لتعذيبهم...فادي هذا معضلة كبيرة ..كونه شقيق السيد مازن يجعلني أتهاون معه وهذا يغضبني فوق غضبي من تصرفاته"

ضحكت نوران بخفة وهي تصف سيارتها بنظام أمام المدرسة .. ثم ما لبثت   الجدية أن تلبست وجهها لتبدأ ترتيب خطتها بشأن التعامل مع تمرد فادي..
"كن مستعدًا يا سيد فادي"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
استيقظ عبد الرحيم وتمطى بهناء وراحة بال حين وصلته أصوات طرق الأواني من المطبخ فعلم أنه نال رضا وجدان وهاهي تعود لعادتها في الاهتمام به وإعداد فطوره بنفس مُحبة راضية...

فنهض من فراشه مبتسمًا ليلتحق بها قائلًا:"صباح الخير يا وجداني.. "

وغمزها بعبث:"هل ينتظرنا فطور ثقيل؟"

لتضحك قائلة:"اذهب إلى الحمام وفرش أسنانك قبل الفطور أيها الشقي"

"حاضر يا أمي"

وتحرك لتنفيذ أمرها بعد قوله المرح الذي جعل وجه وجدان المسترخي يتجمد ويتلبسه الحزن والعبوس حين ذكرها بأهم ما تفتقر إليه حياتها..

إنها تريد الأطفال بشدة وقد ارتضت بأن تحيا بدونهم حين علمت عن مرضه الذي يعيقه عن الإنجاب.. ثم عاد باب الفرج ينفتح أمامها إذ أخبرهما الطبيب أن العلاج ممكن وقد نجح في كثير من الحالات الذين صاروا يملكون ليس طفلًا أو اثنين بل الكثير..ومع تأكيده خرجت من تلك الزيارة مبتسمة متفائلة ليحطم زوجها أملها ببساطة حين أخبرها أنه لا يملك المال..

مع أنها جملة غريبة تصل للعقل فينبذها بكل يسر معريًا كذب صاحبها.. إلا أنها اختارت تصديقه...

والحمد لله مرت فترة قبل أن يخضع زوجها لرغبتها ويبدأ العلاج.. وكانت الصدمة بالنسبة إليها ..الطبيب يؤكد أن جميع الحالات حصدت الشفاء خلال شهر أو أقل من بدء العلاج أما زوجها فلا استجابة...

خضع للكورس العلاجي مرة بعد أخرى بعد إلحاح منها دون نتيجة...
"فيم تشردين؟"
سألها عبد الرحيم الذي دلف للمطبخ توًا فوجدها تصب العصير دون انتباه أنه فاض من الكأس الزجاجي حتى كون بركة حوله على المائدة...

"آه..آسفة لم أنتبه"
تجاوز عبد الرحيم استغرابه ومسح العصير المنسكب بنفسه مما أوضح لها مزاجه الرائق الآن..
فلعقت شفتيها تجمع شجاعتها لتسأله:"هل ذهبت للطبيب الذي أخبرتك عنه؟"

"أي طبيب؟"
وسرعان ما فهم مقصدها فتابع:"ليس بعد..تعلمين لازلت أخضع لجلسات العلاج الطبيعي حتى أستطيع الاستغناء عن العكاز"

حمدت الله سرًا أن سؤالها لم يغضبه وبتردد قررت الاستزادة:"ألا يمكن متابعة الأمرين معًا؟ اصدقني القول يا رحيم ألا تريد الحصول على الأطفال؟"

"أريد وبشدة أيضًا..لكن الأمر خارج عن إرادتي"

اقترحت بخفوت مدركة أنها لم تعد بمبعد عن غضبه سريع الاشتعال:"هل يمكنك أن تتفرغ لهذا الأمر فقط يا رحيم؟ تهمل أعمالك وصفقاتك وتتابع علاجك فقط ألا يمكن؟"

ولم يكن رده خارج توقعاتها فقد انتفض تاركًا مائدة الإفطار الذي لم يمسه بعد وقال:"يا إلهي! كيف نسيت المصنع؟ خليفة لم يتواصل معي بعد!!.."

وأسرع لغرفتهما يبدل ملابسه فلحقته وجدان تعترض بضعف:
"ولكنك لم تهتم بإجابتي! لماذا لا يحتل الإنجاب جزءًا من أولوياتك؟انظر كيف تولي مصنعك الاهتمام الأكبر؟!! رحيم!!إنني أتحدث إليك"

قبل وجنتها بسرعة قائلًا:"فيما بعد يا عزيزتي"

وأسرع يغادر المنزل صافقًا الباب خلفه فسالت دموعها تشكو أمومتها الدفينة التي لن تخرج للنور أبدًا طالما زوجها لا يهتم..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"اليوم سنضع اللمسات الأخيرة في لوحتك ..ولا تنسى أن تدعوني لحفل عيد ميلادك"

"شششششش..أخفض صوتك! وتصرح بها كأنك فخور بهربك من المدرسة ؟!!"

"ما بك؟جميع زملائنا في الفصل يعلمون"

"هل جننت يا فادي؟ إنه الطابور المدرسي وقد يشي بنا أي طالب من الفصول الأخرى"

صمتا يراقبان الأستاذة سميرة تمرر نظراتها الصارمة على صفوفهم تتأكد من النظام والالتزام بالزي المدرسي..وأهدتهما بشكل خاص نظرة مرعبة قبل أن تتحرك لمتابعة جولتها..
"هل رأيت هذا؟ إنها تعلم ..أقسم لك تعلم"

وكزه فادي بملل:"لا تكن جبانًا! وهل ستظل على صمتها أو تكتفي بنظرة تحذير لو علمت؟!!"

"أنا لا أعرف هذه الأمور..اسمع سأتصل بمدبرة المنزل وأطلب منها أن تستقبلك في أي وقت..تعرف طريقك لغرفتي ..أتم عملك ولينتهي هذا الأمر دون توريطي"

"حسنًا إن كنت لا ترى أهمية لوجودك فلا بأس"

مط كمال شفتيه بضيق قائلًا:"لو أنك أتيت يوم الأجازة كما اقترحت عليك لأنهيت الجدار مرة واحدة"

فأنهى فادي الحوار بصرامة دون أن يسمح بالمزيد والذي يراه تجاوزًا في حقه كصاحب عمل:"أنا أعمل هذه الساعات فقط من بعد الراحة وحتى وقت انتهاء الدوام المدرسي..كان عليك ألا تطلب إن لم تناسبك مواعيد العمل!"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"صباح الخير.. ألن ترحبوا برئيسكم أيها العمال؟"
التفت الجميع لعبدالرحيم الذي صاح بهم بأعلى صوته قبل أن يعرضوا عنه دون اكتراث بإجابته..

كرر صياحه دون أدنى استجابة حتى وصل سمعه ضحكات خبيثة فالتفت ليرى خليفة يتقدم منه ويجاوره عماد يشعان قوة ومكرًا يخبرناه دون حديث أنهما الفائزان..
"مرحبًا بك يا صديقي..حمدًا لله على سلامتك"

"ما الذي يحدث هنا؟ "
تساءل عبد الرحيم وعقله يؤكد له صدق توقعه.. ولم يذره خليفة لظنونه طويلًا بل سرعان ما قال:"كما ترى يواصل العمال عملهم بعد فترة انقطاع نتيجة تغيير مُلاك المصنع"

"تغيير مُلاك المصنع؟!! هل تسمع صوتك؟ ومن سمح بهذا التغيير؟ أنا لم أبع لك شيئًا!!"

"حقًا!! ذكرني كم ألفًا دفعنا لشراء المصنع يا عماد؟"

وتابع باستهانة:"بإمكانك مرافقتي لمكتبي حتى نتفاهم أو تفضل طريقك مفتوح خارج مصنعي"

استدار متابعًا طريقه مؤكدًا له أنه الآمر الناهي في هذا المكان وشروطه تسري على جميع من فيه..
ورغمًا عنه كان لزامًا أن يخضع لأمره ويلحقه إلى مكتبه بل إنه مكتبه هو!!
"تفضل..تفضل..أنرت المكان بزيارتك"

"ليست زيارة وأنت تعلم! انتظرت اتصالك لتخبرني أنك قبضت على السارق الحقيقي!"

"حسنًا لأشرح لك بوضوح..أنا أحببت هذا المصنع وأردت امتلاكه بأي طريقة منذ قابلتك للمرة الأولى..وهذه كانت فرصتي..سددت ما عليك من ديون فتم فك الحجز وصرت مالكًا للمصنع برغم أنني أبخسته ثمنه..دينك كان بسيطًا مقارنة بهذا البناء المتكامل الأركان"

"أي ديون؟ أخبرتك أن طاهر..."
قاطعه خليفة باستخفاف:"حقيقة انتظرت قدومك لتعترف بخدعتك..نعم ثار غضبي وقتها وأعماني عن تحليل كلماتك..لكنني استفقت لنفسي وضحكت طويلًا..أليس كذلك يا عماد؟ ألم نضحك طويلًا؟!!"

تابع غير عابئ بالصدمة المرتسمة على وجه عبد الرحيم:"مشغل طاهر مختص بفساتين الزفاف والسهرات وتلك كانت طلبيتي لفرع الشركة الجديد.. هذا لا يقارب بأي صورة الصفقة المعقودة بيننا قديمًا التي تخص المنسوجات..ما دخل طاهر بعمل المصنع يا صديقي العزيز؟!!"

زاغت عيني عبد الرحيم وتغير لون وجهه  حتى صار لا يقوى على التبرير أو اختلاق الحجج ليستطرد خليفة بهدوء :"يمكنك إبلاغ الشرطة إن شعرت بأي خداع ولكن أولًا انظر إلى هذا"

أشار لعماد الذي عرض عليه ورقة مطبوعة قرأها بصدمة أشد وإحساس بالخسران ليس له مثيل..إذ كان عقد بيع مجهز وموقع كذلك بخط يده وبتاريخ من الشهر المنصرم...

"كنت عزمت على إجبارك على بيعه بأي وسيلة..لكنك خلقت بنفسك أسهل السبل ولم يعد يراودني إحساس بالذنب كذلك..صرت مدينًا لي وقبلت أن تبيعني ما تملك لتتخلص من دينك..المبلغ المسجل في العقد يفوق دينك ولذا يمكنك أن تطالب بالفرق..عماد!"

وأمام عينيه تحرك عماد ليضع ظرفًا مكتظًا بالمال أمامه فعقب خليفة:"نعتذر عن واجب الضيافة ..بإمكانك الانصراف بعد أخذ مستحقاتك"

إنه كابوسه الدائم يتحقق بأبشع الصور أمام عينيه..خليفة وجاسوسه عماد يستوليان على المصنع دون أن يكون له حق الاعتراض..

المصنع شقاء الأصدقاء..الأصدقاء الذين خانهم فرُدت إليه الخيانة!!

هل هذا ألم الخيانة و إحساس الخسارة؟ هذا ما ذاقه طاهر وخالد على يديه..

نهض دون حرف يغادر المصنع ولم ينسى ظرف المال..
ثم التفت يناظرالبناء بعين الندم قبل أن يتابع طريقه عازمًا على إيجاد طريقة لاستعادته..
لابد من جولة أخرى ينهض فيها الجواد من كبوته..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"إلى متى ستبقى لدي ؟"

التفت مازن لخاله برفعة حاجب متكبرة:"قررت ملازمتك حتى أتأكد من إتقانك لعملك"

ليرفع علي خف الحمام ويسدده بدقة نحو ابن شقيقته المستلقي على أريكته براحة قائلًا:"لا تجعلني أطردك من بيتي دون إفطار .. هيا انهض لتبدل ملابسك"

فانتفض مازن يلقي الخف الذي استقر على ملابسه صائحًا:"بدلت ملابسي للتو يا خالي!! إنك تطردني بأبشع الصور!"

كتم علي ضحكة كادت تنفلت من بين شفتيه يرتب أطباق الفطور على المائدة قائلًا بجدية مصطنعة:"شغل التلفاز يا ولد ولا أريد سماع صوتك"

فنفذَ مازن على مضض معترفًا بصدق مقولة(من خرج من داره قلَ مقداره)

"أجبني بصدق يا خالي..كيف قضيت كل هذه السنوات عازبًا؟!!"

"لولا أنني أعرف علياء حين تشعر بالذنب لقلت أنها أرسلتك إلي لهذا الغرض.. وما شأنك أنت يا ولد؟"

"حقًا أسألك بجدية..مثلًا أنا لا أحتمل حياتي بهذه الصورة وأتحرق شوقًا للزواج فكيف تحتمل أنت؟"

"لقد تزوجت أثناء سفري وصدقني ندمت بعدها وأيقنت أنني فاشل في الأمور الاجتماعية بشكل ميؤوس منه"

"هل تعلم أمي بهذا الأمر؟ "

دق  ناقوس الخطر داخل رأس علي فصرخ بمازن:"إياك أن تخبرها أتفهم؟ ستقتلني أو ربما تأمر خالد بقتلي ..ستجد وسيلة للتخلص مني"

فرفع مازن يديه مستسلمًا :"لا أجرؤ على فعلها صدقني..ومن الأفضل أن تنسى هذا الحوار الذي دار بيننا.. هل أخبرك بأفضل من هذا؟ اعتبرني لم آت إليك.. سأغادر منزلك بهدوء دون ترك أدلة"

انفجر علي ضاحكًا وأمره :"أحضر هذا الهاتف في طريقك للباب"

إذ صدح رنين هاتفه بينما يجلس على مائدة الفطور و لا ينوي النهوض لإحضاره.. ولولا ارتباطه بقضايا مهمة اليوم لأغلقه تمامًا حتى يُنهي إفطاره..

"يا إلهي! إنها أمي..هل شعرت بما يدور خلف ظهرها؟"

مط علي شفتيه وأجابه:"بل تشعر بالفراغ..ستبدأ الحديث في أي موضوع المهم أن أقبل بمحادثتها وتتخلص من شعورها بالذنب تجاهي"

"وهل ستبقيان في خصام طويلًا؟"

رفع علي رأسه بكبرياء وفمه الملئ بالطعام يناقض هذا الكبرياء وقال:"حين أهدأ سأجيب اتصالاتها"

ليجيبه مازن متهكمًا:"وكأنك تتألم كثيرًا ! ألا ترى هيئتك؟"

كاد يقذفه هذه المرة بالقهوة الساخنة فاعتذر بسرعة قائلًا:"سأغادر المنزل فورًا.. وآسف للإزعاج"

فارتشف علي من قهوته بهدوء:"جيد أنك لم تأخذ أطباع والدتك المكابرة..أنقذت نفسك"

وفي غضون دقائق بدلَ مازن ملابسه واتجه لباب المنزل مغادرًا..فاستوقفه علي بجدية:"سأسعى جاهدًا لإثبات براءة والدك حتى إن غالبتني قلة الأدلة "

وأضاف:"أخبر والدتك أنني لن أتولى أي قضية لعبدالرحيم حتى أصل للحقيقة.. فلتحظى براحة البال...ورسالتي موجهة إليك أيضًا "

ابتسم مازن بخفة عازمًا على تغيير رأيه مهما كلفه الثمن..وأغفل الإفصاح عن نواياه يؤجلها لحين آخر معطيًا كل اهتمامه في هذه اللحظة للخصام بين الشقيقين
فقال:"أرى أنك تظلمها يا خالي.. لم يكن اتهامًا بقدر ما هو تعبير عن حاجتها إليك.. كان الأمر شاقًا عليها أن ترى زوجها في هذا المأزق وشقيقها الذي بوسعه مساعدتها بعيد عنها "

ابتسم علي إذ أن دفاع مازن عن والدته وتفكيره بها وبأمر عائلته الذي دفعه في المقام الأول لزيارته جعله يقول بفخر:
"بصدق يا مازن..أحي خالد على تنشئتك أنت وزيد بهذه الصورة وأفخر بكما.. أتمنى أن أرى فادي مثلكما يومًا"

ابتسم مازن مؤَمنًا على أمنية خاله وودعه بهدوء..

بينما استعاد علي ذكريات زواجه التي ألحت عليه وبقوة بفضل مازن..وتمتم بشجن:
"مكابرة كعلياء ولا تهتمين إلا بعملك..لا أدري أي منا أخطأ وأينا من عليه الاعتذار؟!!.."
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
وفي مطبخ علياء حيث اجتمعت بنوال تتناولان إفطارهما على انفراد معلنتين الإضراب على زوجيهما..
"انظري كيف يرفض إجابة اتصالاتي؟ وماذا إن أخطأت في حقه؟ إنني شقيقته الكبرى ومؤكد لن أعتذر صراحة..هذا يفوق قدرتي"

"أضيفي إلى هذا أن الاعتذار واجب على الرجال أكثر من النساء.. اسمعي ما رأيك أن تعدي له غداءً من صنع يديك وأرسليه إليه مع أحد الشباب"

"فكرة جيدة أحسنت"

أومأت نوال مرتاحة ففكرتها ستضمن انتهاء هذا الخصام.. ثم رشفت رشفة سريعة من كأس العصير أمامها قائلة:"تعالي هنا! أنا وغضبي مفهوم سببه..ماذا عنك؟ لم تنقمين على زوجك؟"

"اممم..يطول الشرح لست غاضبة بالمعنى التقليدي..أنا أريد إقناعه بتغيير بعض طباعه.."

"نسأل الله العون.."

"لا تسخري مني!"
توقف سجالهما حين سمعا صراخ هيثم مع طرقه باب غرفة أفنان:"أقول افتحي يا أفنان..لقد وافقت بالأمس وانتهى الأمر"

" لم أعد متفرغة"

"أفنان سأكسر الباب"

"حينها أكسر حاسبك"

"هذا الذي سرقت منه ملفاتي"

ففتحت أفنان الباب وصرخت به:"ألم نتفق على بدء صفحة جديدة؟"

"حسنًا آسف.. هيا..."

توقف عن المتابعة حين تخطته أفنان تقصد المطبخ حيث والدتها تصيح: "أميييييي! أبعديه عني"

احمر وجهها حين وجدت زوجة عمها تجالس والدتها فناظرتها الاثنتان بملل قبل أن تلتفتا لطعامهما..
"أمي! يريدني أن أخرج معه...زيد سيهدر دمي إن فعلت"

لحقها هيثم ليعترض بسخط :"ولكنك وافقت بالأمس..سنأخذ إذنًا كتابيًا من عمي إن شئتي.."

وأضاف بمسكنة:"أمي قولي شيئًا!"

لكن نوال ظلت على صمتها فسألتها علياء:"هل غضبت على ابنك أيضًا؟ لم أحسبك تفعلينها بعد أن عاد من غربته!"

"بعد أن اكتشفت الحقيقة صرت أرغب بشيه مع الدجاج على الغداء .. فليحمد الله أنني اكتفيت بخصام بسيط"

انفجرت أفنان ضاحكة تخرج لسانها لهيثم المستاء من خصام أمه..

فلكزتها والدتها موبخة:"وأنت انهضي لمرافقة ابن عمك..يكفي وقف الحال الذي أوقعت نفسك به منذ سنوات! "

"هل تصفينني بالعانس يا أمي؟"

"ألفاظك يا فتاة..إياك وأن تمر هذه الكلمة على لسانك مرة أخرى..ستتزوجين وعن قريب أيضًا"

"أجل اضربيها حتى يعمل عقلها يا زوجة عمي"

عبست أفنان حين فتحت والدتها الباب لشماتة هيثم ..وما لبثت أن ابتسمت حين صرخت  علياء:"اصمت أنت أيضًا..واعلم أن ابنتي يتمناها القاصي والداني فلا تظن أنها ستنتظر طويلًا حتى تتكرم وتعلن عن نواياك الدفينة"

"أتعرض للاضطهاد يا أمي! ألن تدافعي عني؟"

"هيا يا علياء اصرفي هذه القرود..نحتاج لتناول إفطارنا بهدوء وراحة بال"

"معك حق..استمعا إلي جيدًا ستخرجان عصرًا توصلان الغداء إلى منزل علي وبعدها تتصلان بي حتى أحسب ساعة بالدقيقة وإن لم تصلا في نهايتها سأترك لزيد التصرف..."

"وهل تكفي الساعة؟"

اعترض هيثم بضيق لتضيف علياء:"تكفي وتفيض.. إن سأل زيد خلال الساعة فالحجة حاضرة إيصال الغداء.. لا مزيد من الامتيازات..ولا تنسى استئذان عمك"

"حاضر"
ومال مقبلًا رأس والدته مسترضيًا:"أين ذهبت أيام الرخاء؟ دعينا نتصالح يا أمي ولن أغضبك مرة أخرى.. أرجوك لن أحتمل طويلًا هذا الظلم"

دفعته نوال بخفة قائلة:"اصرفيهما من المطبخ يا علياء رجاءً"

فخرج هيثم حانقًا ولحقته أفنان المستمتعة التي همست له قبل أن تعود لغرفتها: "ستحتاج لاستئذان مازن أيضًا لأنني لا أركب سيارات أجرة ويلزمنا استعارة سيارته"

"ولم لا نستخدم سيارة العائلة؟"

"هكذا أريد وإلا لن أخرج"

أغلقت باب غرفتها فتمتم هيثم بسخط:"الخطأ على من فكر في مراضاتك أيتها المستغلة!"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"صباح الخير!.."
قطع جملته وهو يرى عينيها الحمراوين اللتين تلازمانها قبل أن يتغافل عنهما ليسأل بهدوء بناء على توصية ابنته اللحوحة:"لم أجد الفرصة للاطمئنان على السيد عبد الرحيم بعد  الحادث..ولم أستطع الوصول إليه في العزاء أيضًا"

"إنه بخير ساقه تتحسن مع العلاج الطبيعي.. لكن للأسف غادر المنزل ربما تلقاه في وقت آخر"

"آه حسنًا إذا سأذهب لعملي إلى اللقاء"
لكن الرجل الذي يصعد الدرج بترنح لا يرفع عينيه عن وجدان جعله يقرر التحقق من هويته قبل ذهابه فربما أراد بجارته السوء...

بانت دموعه التي تملأ عينيه حين اقترب منهما ليسأل:"هل ماتت ليلى حقًا؟ ألا تحتفظين بصورة لها؟ هل ماتت دون ترك أي أثر خلفها؟ ألم تسأل عن عرفه قبل موتها؟"

جلس على الدرجة القريبة من باب الشقة فرفعت وجدان عينيها لوحيد المتسائل عن هوية الرجل لتخبره بهدوء بينما يبدو أن الرجل في عالم من الهلوسة والرثاء يخصه وحده:"أحد أقارب ليلى أتى يوم العزاء يسأل عن الحاج سعيد وحين علم بوفاة ليلى أصيب بهذه الحالة"

"يبدو الأمر غريبًا..إما أنه مخادع جدًا يحترف تمثيل الحزن لغرض في نفسه أو مقرب جدًا من ليلى وهذا غير مقبول لأنه لم يزرها أحد من أقاربها طوال فترة إقامتها هنا "

أومأت وجدان توافقه الرأي ثم تذكرت فجأة لتهتف به:"آه تذكرت وصية الحاج سعيد ربما تفيده إن أخبرته عنها"

"ما هذا الجنون؟ لا يجب أن تتعاملي مع هذا الرجل أبدًا في غير حضور زوجك.. وأي وصية تلك؟"

"لا أعرف أخبرتني عنها ليلى قبل موتها كانت تريد التواصل مع المحامي بشأنها ولكن وافتها المنية قبلًا"

"على كل حال سأذهب إلى عملي وأنت أغلقي بابك حتى يعود زوجك.. "

وفي منتصف الدرج التفت إليها ليجدها لا تزال على وقفتها تتطلع لعرفه الحاضر الغائب فقال:"هل اطلع عبد الرحيم على الوصية؟"

قرأت وجدان في عينيه ما حذرها منه سابقًا ووقع فأجابته:"أنا.. ربما ليس من حقي ولكنني لا أريد لهذه الوصية أن تظهر للعلن..لتمت مع العجوزين أفضل من أن تستغلها مطامع أحدهم.."

قاطعها وحيد صارخًا:"هل تظنين أن زوجك لا يضع أملاك سعيد الباقية نصب عينيه؟..يجب توثيق الوصية وفتحها في حضور أقارب المتوفى على يد محام معروف بنزاهته"

"ششششش..لقد صار كل الجيران يعلمون عن الوصية بسببك! ما هذا؟ هل جننت؟"

واستفاق عرفه أيضًا يسأل :"أي وصية؟ أين هي هذه الوصية؟"

تراجعت وجدان بقلق وفي عقلها لا يدور إلا تحذيرات وحيد التي تتحقق بأبشع الصور.. طالما حذَرها من هذا الرجل فيجب أن تخشاه بحق.. وفسرت هامسة: "العم سعيد سجَل وصيته في الشهر العقاري بإمكانك أن تتأكد من الأمر"

ناظرها عرفه لوهلة بتدقيق حتى ظنت أنه سيهجم عليها يفتش شقتها وربما يفعل ما هو أفظع...لكنه نزل الدرج بهدوء دون أن ينطق بحرف يمرر عينيه بينها وبين وحيد واكتفى بوعيد أخير:"سأعود!"

"إذا فهو الاختيار الأول..رجل مخادع يسعى وراء المال كغيره!"
تمتم وحيد ثم لحق بعرفه نازلًا الدرج إلى عمله دون أن يطمئن وجدان كعادته فوقفت وحيدة على عتبة بابها ...
ودمعت عينيها لقد كذبت على عرفه في أمر تسجيل الوصية.. إذ أبلغتها ليلى قبل موتها أن العم سعيد أوكل إليها هذا الأمر وليلى لم تغادر المنزل أو تلتق بالمحامي

بل المصيبة الأكبر أنها لم تخبر رحيم بعد عن الوصية ولا تظن ليلى فعلت .. انتهى الأمر! سلمَت أنها لن تجد الأمان يومًا...

إن لم تجده في كنف زوجها فأنى له أن يكون؟!!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"فادي أيها الزعيم!"
التفت فادي باعتزاز يجيب نداء زميله:"تفضل.. كيف أستطيع مساعدتك؟"

"متى تنهي عملك مع كمال؟ أريد مساعدتك لإعداد هدية زواج شقيقتي الكبرى"

"يمكنك أن تخبرني بما تريده وأنا سأجد الوقت لإنجاز الأمرين معًا لا تقلق"

وقاطع وائل حديثهما:"بالمناسبة كمال الذي تحقد عليه يا عمرو يتعرض الآن للتحقيق في غرفة الأستاذة سميرة"

استفسر فادي بقلق:"التحقيق؟!! ماذا تقول؟"

"لا أعرف..إنه مجرد استنتاج..الأستاذة نوران أخذته من يده قبل دقائق وأدخلته غرفة الأستاذة سميرة"

صفق عمرو بحماس:"الله! بدأت الصقر سميرة عملها.. سيصبح كمال جاسوسًا بيننا..ها أنا أخبرك يا فادي..إياك أن تهرب أمامه مرة أخرى سيشي بك للأستاذة سميرة"

"ربما وشى بك بالفعل"

وانضمت إليهما بسنت بدورها:"أترى؟ تعرضت للخيانة من ولد مثلك!"

ناظرها عمرو بتحقير:"ماذا تعنين بالولد؟ نحن رجال!"

فضحكت دينا بسخرية:"رجال! وهل الخيانة من طباع الرجال ؟"

"بل النساء هن الخائنات"هتف بهما وائل..

مما دفع فادي لينهض صارخًا بهم:"كفى أنهيا هذا الصراع الآن! لنرى ما يخبرنا به كمال حين عودته ثم نقرر كيف نتصرف!"

"جيد ولكنك وعدتني بإنهاء لوحتي قبلًا"

اعترضت دينا بتذمر فأجابها فادي:"إنني أعمل عليها في المنزل لا تقلقي..أنت طلبت لوحة بأبعاد كبيرة وتستلزم مني وقتًا"

"حسنًا"

"هاهو..إنه يعود! لا.. الأستاذ ماجد في إثره!"

"في فترة الراحة إذا يخبرنا"

بالكاد استطاع كمال التركيز فيما يشرحه الأستاذ ماجد حيث تلاحقت عليه همزات أصدقائه وإلحاحهم أن يكتب لهم ما حدث إن لم يكن يستطيع الكلام في وجود الأستاذ..

لكنه ماطلهم حتى انتهى الدرس وتوصل لحجة مقنعة لهم:"لا شئ مما تخافون منه.. كنت أخفي سلسلة ذهبية تحت قميصي فكشفتها الصقر سميرة وسلبتني إياها..هذا كل ما في الأمر"

"وما دخل الأستاذة نوران؟ لماذا أخذتك بنفسها لغرفة الأستاذة سميرة؟"

"ما شأني؟ ربما هي من طلبت منها..تعرفون الأستاذة نوران مسئولة عن الإشراف ...."

قاطعه فادي متفهمًا:"حسنًا حسنًا..معك حق إنهما دائمًا معًا.."

بينما سأله كمال باستغراب:"لم لا تزال في المدرسة؟ هل قررت تأجيل العمل اليوم؟"

"لا..لا يوجد تأجيل... فقط سأغير خطتي اليوم"

أومأ كمال بقلق فإن لم يهرب فادي اليوم كعادته..ستعرف الأستاذة نوران أنه من حذره وربما تقرر ترك الأمر للأستاذة سميرة لمعاقبته!

رددها داخله آملًا..(اهرب يا فادي اليوم أرجوك)
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"سأرافقكما!"
قالها مازن بحسم حين طلب هيثم استعارة سيارته فناظر الأخير أفنان بغيظ قائلًا:
"انظري إلى شقيقك الملتصق!"

"اشتقت لخالي وأريد زيارته ما المشكلة أيها الدخيل؟"

ضحكت أفنان بينما يحترق هيثم من الغيظ دون قدرة على الرد وإمعانًا في إغاظته قاد مازن السيارة بنفسه وأوصلهما إلى منزل علي الذي خرج أمامهما من بوابة العقار فترجلت أفنان على عجل تلحق به...

"آه..هذا لا يحتمل! في كل مرة أراها تتودد إلى خالها أُوشك أن أنهض لضربها لولا أن عقلي يُذكرني بهويته"

فلكمه مازن بقوة:"وستحترق كثيرًا بعد يا ابن العم وإياك أن تجرؤ على توعد شقيقتي بالضرب أمامي مرة أخرى"

"وما شأنك أنت؟ كنت أتحدث إلى نفسي!"

"حقًا! إذا يتوجب علينا الاحتفال فقد نجحت أفنان في الإطاحة بعقلك أيها المسكين"

غادر السيارة تاركًا هيثم يصب عليه سبابه همسًا قبل أن يلحقهما بدوره..
"شكرًا لكم! سأتناوله في المكتب.."

"وماذا بشأن أمي؟"

سألت أفنان لينفجر علي ضاحكًا ثم يجيبها:"فيما بعد! أرسلا إليها شكري العميق حتى ألتقيها ونحسم هذا الأمر"

انشغل مع شقيقها في حديث هامس فاستغلت الفرصة لتنفرد بهيثم..ركلته في ساقه تخرجه من شروده فالتفت إليها هيثم غاضبًا..
"شششش..إياك أن تصرخ! ما رأيك بقضاء الوقت في هذا المقهى؟"

"هل خرجت مع أحد أصدقائي الرجال؟ أي مقهى هذا الذي تطلبين الجلوس فيه؟"

"أصدقاؤك الرجال؟!!! أيها الوقح! هل تُلمح إلى أنك تملك أصدقاءً من غير الرجال؟"

"نعم الفضائيون أمثال شقيقك! اقطعي وصلة النكد قبل أن أقطع لسانك يا أفنان!"

انتبه مازن للجدال الدائر بينهما فسارعت أفنان ترسم ابتسامة مصطنعة على وجهها :"سنقضي الوقت هنا حتى تنهي حديثك مع خالي"

داست قدم هيثم تحذره من الاعتراض أمام شقيقها.. بينما أومأ مازن قائلًا:"حسنًا لا بأس.. سأكون مع خالي في مكتبه...لن أتأخر عليكما"

"امش أمامي"
همست أفنان من بين أسنانها فتحرك هيثم يرافقها إلى وجهتها حتى غاب مازن عن ناظريهما مع خاله ليقف هاتفًا بها:"سنجلس في السيارة!"

"أي سيارة؟ هل هذه فكرتك عن الخروج؟"

"لقد دمر شقيقك النزهة وانتهى الأمر!"

قوست أفنان شفتيها بحزن مصطنع وسألته:"إلى أين كنت ستصحبني؟ هل كانت مفاجأة حلوة؟"

"ليست أجمل من فراشتي! هيا هيا ادخلي السيارة قبل أن يعود شقيقك"

لكنها أمسكت بيده تجره للمقهى رغمًا عنه..فشدد قبضته على كفها قائلًا:"لأجل هذه اللمسة الناعمة فقط سأوافق..لكننا سنجلس في قسم العائلات...مفهوم؟"

"نعم مفهوم..اترك يدي"

"أنت أمسكت يدي قبلًا..لا يجوز رفض هدية كهذه"

"اترك يدي قبل أن أتصل بزيد"

أفلتها فورًا متمتمًا بسخط:"كنت أمزح ألا يجوز؟"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
حين عودتها للعمل وقفت هالة أمام المرآة.. مذكرتها بين يديها وسجلت الآتي: (أنا سمينة... ثقيلة الوزن.. مهما أتقنت تنسيق الألوان والتصميم سأظل فاشلة على المستوى الكلي)

كتبتها كما تؤمن بها عن قناعة تامة لا سبيل لتبديلها كما لاسبيل لحرق دهونها..
إذ وقع حريق في الشركة اليوم..أُطلقت صافرات الإنذار..وتحت إشراف المُدراء اتجه الجميع لمخرج الطوارئ بنظام  ولكن الوضع الجاد واشتعال الحريق مرة أخرى بعد إخماده أشاع حالة من الفوضى جعلت كل شخص يهتم بحياته فقط..

وهي لا تتقن هذا..في حياتها بأسرها لم تتصرف بسرعة..ولا تستطيع اتخاذ قرارات -إن تجرأت- إلا في هدوء بينما تطلي أظافرها ..

لوهلة حاولت صنع هذا العالم الخيالي .. لكن التدافعات وركض الجميع من حولها أثارها بشدة فمضت تبحث عن والدها باكية حتى انكفأت على وجهها ومضى الجميع من فوقها تقريبًا دون اهتمام فتذكرت أن والدها لم يأت للشركة اليوم وزادت وتيرة بكائها مع ظهور هايدي الراكضة والتي رغم الخطر ضحكت حين رأت حالتها المزرية..

"انهضي يا هالة.. هل تنتظرين وصول الحريق إليك؟"

عادت للواقع تبكي وتنوح بصوت عال ثم قرصت فخذيها بقوة تصيح بأسى:"متى تتخلون عني؟ جعلتموني سخرية للجميع.."

تصاعد رنين هاتفها يقاطع نواحها فنظرت من خلف غمامة دموعها لتجده خالد..
جاهدت لتكفكف دموعها قبل أن ترفع الهاتف لأذنها تجيبه:"سيد خالد..آه.. كيف حالك يا عمي؟"

"بل كيف حالك أنت؟ أخبروني في الشركة أن التلفيات ليست بالهينة... أرجو أنك بخير"

"أنا بخير..كدت أختنق من استنشاق الدخان لكن لا بأس يحتاج المرء أن يقوي مناعته بين حين وآخر"

ليصرخ بها من شدة قلقه:"هالة ليس وقت المزاح..أسألك بجدية.."

ثم سرعان ما انتبه لشهقات بكائها الخافتة فأعاد سؤاله بلهجة لينة:"حسنًا.. سأسأل بوضوح..حين تم استدعاء رجال الإطفاء والإسعاف.. هل رافقتهم؟ هل احتجت الذهاب للمشفى؟"

"لا أنا بخير..عدت للبيت  قبل أن أعرف مصير الجميع حتى.. "

" لست مطمئنًا أبدًا..سأتصل بطاهر وآتي لزيارتكم"

"أنا لم أخبره بعد..."

"كنت أعرف!..سآتي مساءً..إلى اللقاء حتى أراك "

لم تكن تكذب أو تجامل حين قالت أنها تحبه..يكفي أن يُحدثها بهذا الرفق لتستشعر كم هي مهمة !
وكم أن الحياة حلوة بوجود أمثال العم خالد..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
يوم الأربعاء يخرج الطلاب الذين يدرسون اللغة الفرنسية قبل وقت انصراف باقي الطلبة بنصف ساعة..
وكانت هذه خطة فادي الجديدة سيغادر معهم كأنه واحد منهم رغم أنه من الشعبة الأخرى التي تدرس الألمانية..
تأكد من أن كمال أعلم مدبرة منزله بوصوله في وقت قريب.. ثم غادر الفصل بعد انتهاء الدرس وقبل وصول مدرس الحصة  التالية ..
وتحرك بروية مع غيره من الطلاب حتى غادر المدرسة تمامًا فضحك باستمتاع:
"أحب هذه المدرسة المتساهلة كثيرًا..يمكن للمرء أن يخرج متى أحب"

وقبل أن ينعطف يسارًا متابعًا طريقه شعر بيد توضع على كتفه فالتفت متوجسًا بشعور مجرم هارب من العدالة حين يقع في قبضة الشرطة...
"فادي! ظننتك من طلاب الألمانية ...أم أنك هارب من المدرسة مثلي؟"

أجابها فادي دون أن ينتبه لاعترافه الضمني بالهرب:"وهل يهرب المعلمون أيضًا؟"

"في الحقيقة يمكن للجميع أن يعتذر عن متابعة أي شئ على شرط أن يستأذن صاحب العمل أو ولي أمره ويُقدم عذرًا مقبولًا .. أنا على سبيل المثال استأذنت من السيدة جنات قبل خروجي لأن شقيقتي تعرضت لحادث في عملها"

"وهل هي بخير؟"

"نعم..لكنني لم أحتمل رغم ذلك وأردت الاطمئنان عليها..انظر إنها سيارتي..هل أوصلك حيثما تريد؟"

تطلع فادي للسيارة بصمت فتابعت نوران :" فرحت كثيرًا أنني رأيتك وأتيحت لي فرصة للحديث معك..كنت أريد الاعتذار عن موقفي منك يوم الحادث.."

"لكن..لقد مر وقت طويل..كما أن..هل يعتذر الكبير للصغير؟"

"نعم كل من يخطئ عليه الاعتذار وإن لم يفعل فهذا يعني أنه يحتاج لاكتساب هذه المهارة ولا ينفي خطأه"

"جيد ..ربما معك حق"

"إذا هل سترافقني؟"
أمال فادي رأسه وضيق عينيه فذكرها بمازن حين لحقت به إلى الحي القديم ..
" أنا لا أثق بك"

ضحكت نوران بخفة وأجابته :"ضربة مباشرة لكبريائي المُهشَم"

"ومن أتى على تحطيمه بالضبط؟ هل أنا؟"

"مجرد تعبيرات أستخدمها هكذا! وأحببت أن أمرح معك.."

"حسنًا اعتذرت كما أردت ثم تبين لك أنه لا يمكن استجوابي..هل هناك ما تحتاجينه مني بعد؟"

يهرب من المدرسة ثم يتحدث إلى معلمته بهذه الجرأة!! الآن تتفهم معاناة مازن وهي من ظنت أن الأمر سيكون سهلًا كما كان مع كمال!!

"في الواقع حين رأيتك تهرب شعرت بالسوء..أنا أعتبر المدرسة بيتي الثاني وهروبك أشعرني أنك ضيف لم ترقه استضافتي.. لذا إن افترضنا أنك لا تأتي للمدرسة وتواصل تعليمك لأن هذا هو المعتاد وما يفرضه علينا آباءنا هل يمكن أن تصارحني بأسباب رفضك للمدرسة؟"

رمش فادي بغير استيعاب دون أن يجيبها فتابعت:"فادي فقط.. أريدك أن تخبرني برأي فادي..بما يجعل فادي لا يحب متابعة يومه الدراسي..ربما تملك اقتراحًا كيف يمكن أن تكون مدرستنا أفضل لك ولزملائك! ما رأيك؟ هل نحظى بحديث هادئ غدًا في فترة الراحة؟"

"حصة التربية البدنية.."

"نعم غدًا نلتقي في حصة التربية البدنية أيضًا فاستعد للهزيمة أيها البطل..إلى اللقاء"

ركبت سيارتها ثم غمزت لفادي الذي يراقبها بذهول قبل أن تنطلق بها..

"ما كان هذا؟ مؤكد ليست الصقر سميرة من دفعتها لفعل هذا! إذا فهي لا تعرف وهذا هو المهم"

وتابع طريقه إلى منزل كمال والأفكار تتوارد إلى رأسه تباعًا عن غرض نوران الحقيقي من هذا الحديث الودي..الغريب!!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
ساد الصمت لدقائق بعدما جلسا على أحد الطاولات ..
فنظر هيثم لحبيبته الناعمة التي يقابل مقعدها نافذة زجاجية صغيرة..
إذ انعكس شعاع الشمس على الزجاج الملون للنافذة فنفذ منه إلى وجهها...
أحمر..أصفر..برتقالي..أزرق..أخضر..لامست الأضواء الملونة وجهها فرسمت له لوحة تعبر عن حياتهما معًا..
طفولتهما الخضراء في كنف العائلة حيث اللهو والمرح وبراءة الأطفال..

مراهقتهما الحمراء حيث أخرجا كل طاقاتهما في المقالب التي أعداها لبعضهما ولا تزال هي لغتهما المشتركة حين لا تسعهما الكلمات ..

أزرق بلون حبيبته المفضل .. أصفر بلون نرجستيها وحبها لذاتها الذي يدفعها للغيرة من نجاح غيرها حتى وإن حققت المثل..

ثم برتقالي بلون حساء العدس الذي ألف إعداده في الغربة ليكون ذكراه الوحيدة من عائلته...

انتبه من شروده في ذكرياتهما على قولها:"اشتقت إليك..إلى النظر لوجهك فقط! هل تدرك أي عذاب عشته بعيدًا عنك؟"

في موقف آخر كان ليضحك وربما سجَل اعترافها الذي يعيقها خجلها عن الإفضاء به إلا فيما ندر..

لكن الآن اكتفى بتنهيدة حزينة قبل أن يجيبها:"زواجي بك هو المشروع الوحيد الذي لم يمر به خوف أو تردد...كان هدفي في الحياة وغاية كبرى عرقلتها مخاوف..."

قاطعته أفنان بضجر:"نعم مخاوفك! الآن أخبرني بوضوح عنها.. وبالتفصيل"

"إنها من أهم دوافع خروجي معك اليوم يا أفنان.. ربما لمست فيَ هذا الخوف منذ طفولتي لكنني أبدًا لم أشرح لك سببه..العد للمائة قبل الخروج من السيارة..جبني عن التبليغ عن خداع عبدالرحيم وخضوعي له.. اختيار السفر والدراسة عوضًا عن التقدم للعمل والاستقرار بينكم..كل اختياراتي  لم تكن نابعة من عقلي بل من خوفي..وأنا أقر أنني عاجز عن المقاومة"

"لا تتوقف عن المتابعة..أخبرني كيف كانت بداية هذا الأمر؟ ألا تظن أنه حان وقت الاعتراف .. قد يبدو الأمر بسيطًا إلا أنه حاجز كبير منعك عن أهلك لخمس سنوات وأعاق زواجنا .. يجعلك إلى الآن عاطل عن العمل رغم ذكائك و استيفائك لشروط سوق العمل.. هل تنوي إمضاء حياتك خلف هذا الحاجز طويلًا؟"

"لا...قطعًا لا..وأنا أردت لقاءنا هذا بشدة حتى أعترف.. "

واستطرد قائلًا:"كنت في الروضة حين اصطحبني أبي لزيارتكم في البلدة.. ثم حجزنا الطريق المغلق وظللنا في السيارة تلك الليلة بكاملها ..يبدو الأمر عاديًا حين أقصه عليك الآن..ولكنه أثر فيَ بعمق وقتها ... رؤية الدماء على السيارات المتحطمة ومتابعة سيارات الإسعاف أثناء نقلها أشلاء الضحايا .. كنت قبلها بدقائق أخبر أبي أنني أشد أبناء جيلي تفوقًا فأنا أستطيع العد حتى المائة ..ولأنه أشفق عليَ من رؤية كل هذه الدماء أمرني أن أستلقي على المقعد الخلفي للسيارة وأعد حتى المائة ومن يومها وأنا لم أغير عادتي.."

"ماذا حدث بعد أن أنهيت العد؟ لا أظن أن الأمر انتهى في هذه الثوان"

"لم ينتهي...رُحت في نوم عميق وحين استيقظت كنا قد عُدنا لمنزلنا حيث أخذ أبي الطريق المعاكس ما إن فُتح الطريق صباحًا وعدلنا عن أمر زيارتكم"

"لهذا لم نكن نتزاور إذا...أخبرني المزيد"

"نعم لازال هناك المزيد... تلك كانت البداية فقط حين آمنت أن العد للمائة يقيني أي مفاجأت غير محمودة العواقب أثناء ترجلي من السيارة.. خضعت بعدها لرقابة مشددة من أمي فإتقاءً لغضبها علي لم أكن أخرج من المنزل في كثير من الأيام.. إن تأخرت دقيقة عن موعد عودتي من المدرسة تأتي لاصطحابي وتضمني وسط زملائي كأنني غبت عنها لسنين..اللعب مع أصدقائي في أوقات فراغها حيث نلعب أمام عينيها في شارعنا .. ربما لم تبدأ في فك الحصار عني إلا حينما عدتم من البلدة وقررتم الاستقرار معنا ...هل نست الحادثة أم انشغلت معكم؟ لست أدري.. لكنني أبدًا لا أنسى هذه الحادثة وصار مستحيلًا أن أُقنع عقلي بترك الخوف جانبًا"

صمت يرتشف من قهوته التي أصبحت باردة ثم تابع:"ظننت أنني أنجح في تخطي الأمر وكنت على وشك تقديم الملف الذي سرقته للعمل وطلب الزواج منك حتى تعرضت للخداع من عبدالرحيم فتحطمت تمامًا... وجد عقلي أخيرًا السبيل للومي على  ترك الخوف..فلو أنني بقيت على خوفي لما تجرأت لمقابلة عبد الرحيم ولما وقعت العقد"

"إن ذكرت أمر سرقة الملف بيننا مرة أخرى فسأمتنع عن الحديث معك!"

حذرته أفنان بمرح تضيف بصمتها المعتادة لهذا الحديث الجاد.. ثم أردفت: "لأخبرك الآن وبوضوح .. اجعل عقلك هذا الجبان منتبهًا معي! لن نتزوج حتى تحصل على عمل وتتخلص من هذه الوساوس.. نعم أتفهم الأمر قد تكون قناعة الخوف من أي أمر جديد قد لازمتك ولكن عليك ألا تخسر هذه الحرب أبدًا وإن كانت ضد نفسك..أنا لا أقبل أن أتزوج عاطلًا أو شخصًا يدفن ذكاءه في قبر خوفه...تخلص من هذا القبر الذي يسكنك ويدفن داخلك كل ما يميزك.."

"لا أكون خائفًا بوجودك.. لنتمم زواجنا ثم نتغلب على هذا الأمر معًا"

"قطعًا لا.. لن يحدث! دع الخوف من فقدي يدفعك إلى نبذ هذا الخوف الذي لا معنى له..جميعنا معرضون لمواقف صعبة ولا يمكن أن أتزوج رجلًا يترك لي التصرف مع عقبات حياتنا"

غضب هيثم بشدة من قولها فهتف بها:"لا أقبل السخرية يا أفنان .. لقد صارحتك بما كتمته عن الجميع..."

قاطعته بصوت مختنق استغربه هيثم:"صدقني قصدت إعطاءك حافز للمقاومة ليس إلا... آه..آسفة دقائق وأعود"

"أفنان!"

لحقها هيثم يقف عند حمام السيدات يصله صوت استفراغها بوضوح...وحين خرجت إليه لاهثة بعد دقائق بررت بضعف:"آسفة الشوكولا تجعلني أشعر بالغثيان"

"ولكنك من طلبت مشروب الشوكولا الساخنة وأنا نبهت الرجل ليعده بالماء وليس الحليب الذي تتحسسين منه ... ظننتك تريدين شيئًا حلوًا كعادتك قبل أن نعود لتناول الغداء مع العائلة"

"نعم الحلو يفتح شهيتي للطعام..ولكنني طلبته عامدة حتى أرى خوفك علي!"

تنهد هيثم بيأس يجرها من مؤخرة عنقها إلى طاولتهما قائلًا:"أقسم أنك منطقة ألغام يا أفنان "

"علي أن أكون هكذا حتى تتفرغ للخوف علي ولا تترك نفسك فريسة لخوف آخر لا طائل منه..وأبعد يدك هذه عني!"

وصلا طاولتهما ليجدا مازن ينتظر عودتهما مضيقًا عينيه من وضعهما الغريب : "هل كنتما خارج المقهى؟ هربتما من باب خلفي وخدعتماني أليس كذلك؟"

"أي خدعة؟ شقيقتك كانت في الحمام!"

"ما شاء الله.. وأنت هل رافقتها لفعل الخير؟"

استحال وجه أفنان ليصير كحبة طماطم ناضجة وسبقتهما إلى سيارة شقيقها صارخة بهما:"كفى! كفى! لن أخرج مع أحدكما مرة أخرى"

لحق بها الشابان ولا يزالان يتبادلان نظرات العداء..
"اعترف بما فعلت"

"ابتعد عني أيها الأحمق! يا إلهي! متى أتخلص من تسلطك أنت وشقيقك؟!!"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"هل تمزح يا علي؟ما الجديد؟ أنا أتعرض للسرقة وأنت تتشبث بمواقف تافهة! إن كنت غاضبًا مني فتعالى نتصافى ولكن أرجوك تولى هذا الأمر.. جد طريقة لاستعادة المصنع"

كالعادة لا يهتم عبد الرحيم إلا بمصالحه الشخصية... حتى دون سبب من حقه رفض أي قضية لا تروقه كمحام..
لكن الخطأ يقع عليه من البداية للسماح بصداقة مزيفة كهذه!

"أعتذر منك يا رحيم ولكن ما لا تعرفه أنك اشتكيت صهري..أودعته قسم الشرطة ببساطة! وما سمعته منه لا يجعلني متحمسًا حتى للحديث معك"

"ماذا تقصد؟من هذا الصهر؟"

"خالد السفيري زوج شقيقتي.. وشريكك القديم في المصنع كما أخبرني"

"هل صرت خفيف الظل بشكل استثنائي هذا المساء؟"

"لا ..ولكنني أقطع تعاملاتنا إلى حين انتهاء هذه القضية يا رحيم..أي إلى أجل غير مسمى!"

وأنهى الاتصال ليتسمر عبد الرحيم حيث هو مبهوتًا من هذه المفاجأة والتي ستدفعه لتغيير مسار تصرفاته كليًا!

#ڤوت
#كومنت
❤️❤️❤️

جيران المدينةWhere stories live. Discover now