الفصل الثالث والعشرون

55 0 0
                                    



الفصل الثالث والعشرون
(بعد تفكير طويل قررت أن أستمتع بوقتي حتى إن تخلى عني الجميع)

قرأ علي رسالتها التي أرفقتها مع صورتها وهي ترتشف العصير بتلذذ وكانت قد اعتزمت ألا تشربه إلا بعدما يجتمعان فيشرباه معًا..
قد يبدو الأمر مجرد تهديد تافه إلا أنها منذ قررت اتخاذ طرق أخرى لمشاغلته لم تتوقف عن مراسلته بسبب وبدون سبب حتى إن أغاظته بكوب عصير كما تفعل الآن!

ورغم تأثره برسالتها وأمنيته -التي أسرها- أن يكون برفقتها في هذه اللحظة إلا أنه أرسل ردًا مقتضبًا باردًا: (ألم أطلب منك أن تتوقفي عن مراسلتي؟!)

لم تجبه فظن أنه أخيرًا نجح في إقصائها عن حياته إلا أن هاتفه اهتز في يده معلنًا اتصالها..
"ماذا؟!! ماذا تريدين؟ أريد استقبال صباحي بهدوء دون توتر"

"علي.."

ازدرد لعابه مع ندائها الوديع المستغيث فلانت لهجته وسألها:"ماذا حدث؟"

"صورتي يا علي..أتذكر الصورة التي بروزتها لتزين غرفة النوم ؟لم أجدها بين أغراضي..أتظن أنني نسيتها في بيتنا هناك؟"

"وربما عثر عليها الآن مالك الشقة أو أحد المستأجرين الجدد"

واستطرد يمعن في إشعارها بالذنب:"والآن صارت صورتك مشاعًا يتداولها القاصي والداني كما خشيت دائمًا وحذرتك ألا تطبعي صورة كهذه..ألا يكفي أن تكون سرًا بيننا وفقط؟!"

"أين حميتك وغيرتك على...؟"

قاطعها علي بغضب بلغ مداه:"هل سأسافر للبحث عن صورة طليقتي؟ أهذه هي الغيرة التي تريدينني أن أغرقك بها؟..بربك يا رزان لا تتصلي بي مع مطلع النهار مجددًا والأفضل أن تقطي اتصالاتك كليًا..ذريني لأعمالي وحياتي"

ودون أن تعطيه ردًا أنهى كلاهما الاتصال فطأطأ علي متفكرًا في حاله وما وصل إليه ثم قصد غرفته لغرض ألح عليه ما إن ذكرته به طليقته..
فكاد يصطدم بعلياء المندفعة للخروج من الغرفة والتي صرخت به فجأة مشهرة الصورة التي تحملها:
"ما هذه؟أريد تفسيرًا منطقيًا حالًا"

وكان أول ما فعله أن كتم فمها بيده وأدخلها الغرفة مغلقًا الباب خلفهما ثم أجابها بصوت خفيض وصارم في الآن ذاته:
"علياء هذه المرة لن أسمح لك بنشر جدالنا للعلن وأمام زوجك خصيصًا..اهدئي قليلًا واسمعيني..رزان كانت زوجتي في الغربة "

وأردف كاذبًا بعد أن استعاد يده متحرجًا منها:"وهي من نست الصورة معي"

تطلعت علياء مرة أخرى للصورة إذ اتخذت رزان وضعية مغرية علاوة على فستانها المكشوف فرأت احتفاظه بها حتى هذا الوقت إنذار خطر مُدَوٍّ وإشارة لكارثة كبيرة ستقع إن لم تتدخل..
"لم أفهم! كانت زوجتك ولم تخبرني؟! وهل يحتفظ الرجل بصورة خليعة كهذه لطليقته؟"

بينما حار علي كيف يبرر لشقيقته فعلته المتهورة!
هل يصارحها الآن بحبه المجنون لرزان الذي دفعه للاحتفاظ بصورتها بل سرقتها بغير علمها! والأدهى أن الأخيرة اكتشفت اختفاءها وهو بكل نذالة تكتم على الأمر وأمعن في إشعارها بالذنب..

لكنه رفض المثول أمام محكمة شقيقته طويلًا لذا ما إن وقعت عيناه على حقيبة السفر خاصته المفتوحة حتى تلبسَ الغضب وجهه فسألها:"كيف تفتشين في أغراضي؟من سمح لك؟"

"حقيبتك مماثلة لخاصتنا وقد فتحتها عن طريق الخطأ..هل يناسبك هذا التبرير؟ أم ستتهمني بالكذب أيضًا وتبالغ في إدعاء الغضب حتى تتهرب من فعلتك الشنعاء؟"

وكرجل فخور يتعرض لسؤال كهذا يطعن شرفه ونزاهته قرر علي ألا يجيبها والتقط الصورة من يدها بحدة وأغلق عليها في أحد الأدراج قائلًا بينما يدير المفتاح محكمًا إغلاق الدرج:
"لا أظن التفاصيل تهمك..والصورة ستعود لصاحبتها في أقرب فرصة"

"والزواج؟ ألن تخبرني كيف تم؟ ومتى تحديدًا؟"

أجابها بالنفي رغم قراره السابق أن يخبرها كل شئ ما إن تحين الفرصة:"لن يحدث...والأفضل ألا تبحثي في دفاتر مغلقة"

لكنها لم تستسلم وألقت بجملتها الهازئة من خلفه:"تحتفظ بصورتها وتدعي أن زواجكما مجرد دفتر مغلق!!رجاءً حاول إخباري إن قررت فتحه مجددًا يا..شقيقي"

زفر علي بغضب وأعرض عن إجابتها تاركًا لها الشقة بأكملها وقد ضاقت بهما في هذه اللحظة فلا تسعهما معًا..
أما علياء التي تلقت مكالمة مفاجئة من صاحبة الصورة أجابت فورًا:
"لنلتقي اليوم"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
وصلت علياء حيث محل اللقاء فلمحت سيارة رزان تقترب منها وقبل أن تترجل الأخيرة سارعت إليها فاتخذت المقعد المجاور لها وقبل أن تنطق بأي كلمة بادرتها بصفعة مدوية أدارت وجه رزان فحدقت في المقعد الخلفي بعينين متسعتين وقد أخذتها علياء على حين غرة..إلا أنها خمنت السبب..
زواجها بعلي..وصلها الخبر فأتت فورًا تنتقم لأخيها وكأنه فتاة أهدروا شرفها!
"المصنع ومقالاتك مجرد حجة مزيفة أليس كذلك؟ أتعرفين أنك سلكت أسوأ السبل وأكثرها إزعاجًا لي..والآن صرت أمقت رزان الإنسانة التي خدعتني ورزان الإنسانة التي سلبتني شقيقي"

نظرت ليديها بصدمة متابعة:"إنني أعرفه كما أحفظ خطوط يدي وأعرف كل انفعالاته وانطباعاته..أفكاره ومعتقداته..لم يسع أبدًا للاحتفاظ بأية أسرار بيننا فتأتين أنت بكل وقاحة لتكوني حجر الأساس في جدار أسراره!"

ثبتت رزان على وضعها ونظراتها للمقعد الخلفي حتى انتهت علياء من خطبتها العصماء عن الأخوة والوفاء اللذين دمرتهما هي بكل بساطة.. وهي من ثقبت الأوزون لو أرادت!

ثم التفتت إليها رويدًا رويدًا حتى تلاقت أعينهما فشحب وجه علياء حين أدركت أنها جاءت لمحاكمة الطرف الأضعف وكان الأجدر بها أن تفعل مع شقيقها..
"أنتما تريدانها قصة مبتذلة إذًا..لا بأس! أصغي إلي! شقيقك استغلني وخدعني باسم الحب حتى أتزوجه فيرضي هوسه بي..ثم يطلقني ليبقى في النهاية رجلًا لن يحاكمه المجتمع يومًا أو يضع طلاقه في الحسبان بينما يلتفتون إلي وأولهم شقيقته فتصمني بالعار والوقاحة"

وأمسكت يد علياء قبل أن تتمكن من طبع الصفعة الثانية على وجهها قائلة بتحذير:"ولم تكن الأولى أيضًا لتقع لولا أنك فاجئتني بها..أنا إنسانة محترمة يا سيدة علياء ولا أقبل الإهانة وخاصة إن كانت ردًا على لباقتي!
وها أنا أمنحك الفرصة الأخيرة.. بإمكاني إخبارك تفاصيل حياتي مع شقيقك ونسيان صفعتك أو تفضلي بمغادرة سيارتي واعتبريني ألد أعدائك ومن أفسدت طباع شقيقك حتى آخر يوم في عمري"

تقبضت كفا علياء منكسة رأسها بندم وأسى على ما آل إليه حال شقيقها ثم رفعت ناظريها لرزان قائلة:
"أخبريني.. كيف كانت حياتكما؟"

هي الجنة التي دخلتها دون حساب وطردت منها دون جريرة!
هكذا كانت..ولا تعرف كيف يمكن أن تستحيل إلى قصة سخيفة تتبادلها مع شقيقته؟!
ليتها لم تعرفه قط!
لامت نفسها فورًا على أمنيتها السرية وخشت عواقبها فربتت على قلبها متمتمة بل ليتني نجحت في إقناعك ألا نفترق..

ثم التفتت لعلياء التي احترمت لحظات صمتها الحزين وقالت:
"صدفة..جلسنا على منضدة واحدة في المطار وكنت أصرخ في هاتفي طالبة من محدثي أن يغيثني بإيجاد محام يخرجني من ورطتي..فعرض علي شقيقك المساعدة ما إن أنهيت مكالمتي وتعارفنا..اثنان التقيا في بلاد الغربة تجمعهما دماء الوطن
كان لابد أن تنشأ الألفة بيننا واستحالت مع الوقت لانجذاب سحق إرادتنا فاخترنا الزواج السريع حتى تنتهي مهمتنا فنعود للوطن ونعلن علاقتنا"

عقبت علياء التي لم تبارح الدهشة ملامحها طوال الوقت:
"وكأنك تتحدثين عن رجل آخر..أنا في عمري هذا وبين كل من التقيتهم من الرجال أو تعاملت معهم لم أعرف رجلًا يجيد التحكم في تصرفاته كشقيقي.. لم أظنه أبدًا ممن تحكمهم العاطفة أو تحجزهم في أحد متاهات الحياة بل أسوأها"

"قطعًا ستكون متاهة سيئة طالما ارتبطت بوجودي أليس كذلك؟"

تطلعت علياء في وجهها صامتة..لا شئ من ملامحها يذكرها بأحلام شقيقها عن فتاة أحلامه أوتطلعاتها هي لزوجته المستقبلية..وحتى إن عدت رزان الأمر تخلف أو جمود لكنها قطعًا لم تتوقع أن يرتبط شقيقها بفتاة متبرجة..ولاتزال تعاني وقع صدمة المشاعر التي بُني عليها زواجهما المتهدم..

لذا فقد ارتأت إنهاء هذا اللقاء حتى قبل أن تسمع تتمة الحكاية فلا تضمن أن يسع صبرها أكثر من ذلك..

وفتحت باب السيارة تودعها باقتضاب:"لا أعرف إن كان سيجمعنا لقاء آخر في المستقبل ولكني لم أقصد إهانتك أو الإساءة إليك..رزان البلكي كصحفية إنسانة أحترمها وأقدرها وسأبذل جهدي لمساعدتك في مقالاتك أما على النطاق الشخصي اعتبرينا لم نلتق"

ازدردت رزان لعابها وشيعت طيفها المبتعد بدموع ساخنة طفرت من عينيها لتلهب خديها وتشيع النار في قلبها بذكرى حب لم يُقدر له إلا عمر قصير كسنة نوم ما إن تلذذت بها حتى أحرقتها تاركة أثرها موشومًا على قلبها الصريع..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بينما لم يدر علي بهذا الصراع ونتائجه حين قصد شقة رزان فيما بعد..
ولكنه استبصر أن هناك ما أصابها فمن خرجت إليه بلون أسود صريح- لم ينل شرف الاندماج مع ألوانها الزاهية أو تبرجها الجذاب- قطعًا لم تكن رزان!
"تفضل"

بادرته رزان وأفسحت له الطريق فدلف ثم التفت إليها باحثًا عن موطن الاختلاف فيها قبل أن يقول:"صورتك لدي"

اتسعت عينا رزان وصرخت به فابتهج إذ عادت إلى شخصيتها وردود فعلها المعتادة..
"جاءت شقيقتك تحاسبني على وقوعك في غرامي..انظر ما فعله الغرام بعقلك وأخبرني هل هذا خطأي؟!! أنا لم أسع إليك يومًا إلا بعدما أوقعتني في حبائلك واستسلم كلانا لقدره فظننت أنك ستكون ركني الآمن وملاذي من هذا العالم الغادر لكنك تراجعت مرة أخرى ورأيتني أدنسك كعار كان لابد من إلقائه جانبًا وبأقصى سرعة"

زوت بهجته ما إن ادرك المسار الذي يتخذه حوارهما فقد أوقدت علياء نار حقدها تجاهه.. لذا أتاح لها الفرصة لتلفظ كل ما لديها ضده علها تهدأ فتُتاح له الفرصة لقول ما جاء لأجله..

"إن كان حبك يعادل الأرض وما رحبت في قلبي فقد ترفعت نفسي عن هذه الأرض يا علي..هذا لم يعد حبًا بل إذلالًا وأنا لا أرتضيه أبدًا وإن لفظتني الأرض برفضي لحبك فلازلت السماء رحبة سأبحث هناك عن خلاصي..هناك رب لن يحاسبني بتصنيفاتكم القاصرة"

أظلمت ملامح علي فقد أدرك أن كرامتها حجزتهما مجددًا إلى حائط سد فلا جدوى من المحاولة..سيصطدمان به إن عاجلًا أو آجلًا  فتُكتب نهاية حبهما بحادث عارض يدنو كثيرًا في نظره عن قدر حبهما وقيمته في قلبه!

"لم أكن أعرف عن لقائك بعلياء..وأنا لاأزال علي المحكوم بأمر عقله الخاضع لقلبه فيما يخصك..وقلبي هو من رفض زواجنا لا عقلي يا رزان!
بل إنني أهملت عقلي منذ عرفتك..نحيته جانبًا دون لحظة تفكير!
هل تعرفين لم رفضك قلبي؟"

"وقحة..قليلة التهذيب..مؤكد لا تروق لقلبك سيد القرار!"

أجابته رزان باستخاف فلم يعبأ علي بنظراتها الهازئة بل شدها إليه وفاجآها بأن قبض على عضديها متمسكًا بها مظهرًا لها قدر تشبثه بها وحرقته على فراقها الظالم..
"قلبي احترق..رفض الخضوع لك بعد أن صار رمادًا..فعلى قدر رغبته بك كانت غيرته..أنت أحرقته بغنجك ودلالك اللذين نشرتهما للعلن مفتخرة بسلاح أنوثتك الجذاب الذي أوقعني صريع هواك..
وغرك حلمي لتظني أنك تحكمين قلبي وألا سلطة تعلو فوق سلطتك..
ألا تسعدين بتسيدك؟ لقد أحرقت خادمك وأذهبت سلطانه فلم تألمين؟ لأي شئ تأسفين؟"

واستطرد بنبرة تسمعها رزان منه للمرة الأولى..نبرة مشوبة برماد قلبه وعاطفته:
"أُشهد الله أنني لم أفكر يومًا في تركك أو التخلي عنك..نعم كان زواجي بك مخالفًا لرؤيا عقلي ومبادئي لكنني تشبثت بك وكنت أستعد لإقناع علياء بتقبلك..
فإن كانت نار حبي قد تركت أثرًا لاسعًا على قلبك فقد أحرقت نارك مصدر هذا الحب وأحالته رمادًا لن تقيمه السنون ولو جهدت!"
وما هي وأثرها أمام أثر السنون؟!
إن لم يفلح الأخير فهل تقدر هي على فعلها؟
أفلتها علي ما إن التبس اليأس عيونهما ورفعا راية التسليم موقنين أنها النهاية الفعلية لحبهما!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
راقب خالد تحركات زوجته الغاضبة بحيرة وما إن التفتت لتجده يتابعها حتى هتفت:
"سأجمع أغراضنا..إن أردت يمكننا المبيت الليلة هنا لكنها ستكون الليلة الأخيرة"

فتقدم خالد نحوها وسألها بلطف:"ألن تخبريني سبب خلافك مع علي؟ لا يبدو لي الأمر بسيطًا ككل مرة"

"لاشئ..هيا اذهب للنوم وأنا سألحق بك ما إن أنتهي"

أومأ خالد وقبل رأسها بحب مغادرًا فما يعرفه أن خلاف الشقيقين مهما تعقد لا يطول..لذا كان مطمئنًا ولم يلح لمعرفة سببه..

لكن العكس ما حدث هذه المرة فقد استاءت بشدة من إخفاء شقيقها أمر زواجه عنها..والأسوأ هو اختياره!
فمن غير المعقول أن ينحني عقل علي الراجح لسلطان قلبه! لذا لابد أن تسمعها على لسانه وتستشعر هذه المشاعر داخله لتتأكد أن رزان ليست بكاذبة..

جلست تنتظره..وهي تتحرك في جلستها للأمام والخلف برتابة..بانتظار مقيت..
إن كانت قصتها هي الحقيقة فما العمل يا علياء؟!!

تركت سؤالها بلا إجابة مع دوران المفتاح واتسعت عيناها ما إن التقتا بعيني شقيقها..
"علي!"
همست مصدومة وتلقته بين أحضانها وقد تلاشى خلافهما تمامًا..
إنه شقيقها من ترى عينيه الآن بلون الدم!
إنه شقيقها من يحكي تهدل أكتافه عن مدى حزنه وحسرته!

"ماذا حدث؟ ما بك؟"
لم يجبها علي بل شدد من ضمها إليه..يلتجأ لدفء أحضانها علها تنسيه ألمه وتعاسته..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعينين نصف مغمضتين دفعت نوران باب الحمام الموارب لتجد شقيقتها متسمرة أمام المرآة تطالع صورتها وقد ضغطت على أنبوب معجون الأسنان حتى فاض بأكثر من حاجتها وهي لاتزال متسمرة على وضعها ممسكة بفرشاة الأسنان في يدها الأخرى تلهو بها في خصلات شعرها ومع كل حركة تتسع ابتسامتها فأيقنت نوران أنها سافرت إلى عالم رومانسيتها الحالمة..

وهي لن تشاركها عالمها قطعًا.. حتى إن فكرت فطعم الباكتيريا الصباحية في فمها يعوقها عن التنفيذ لذا سارعت تسحب منها الأنبوب لتشرع في غسل أسنانها دون حديث..

أما هالة التي انتبهت لواقعها علقت بطفولية بعد أن وضعت لها نوران قدرًا من المعجون على فرشاتها:"أنا فتحته فأغلقيه"
تابعت نوران ما تفعله مصدرة صوتًا من أنفها دليل على رغبتها في الضحك..
ثم قالت بعد أن غسلت فمها:"خيرًا! تأخر فارسك وتركك لأحلامك!"

"سيأتي عندما تتصالح المصالح"

ودون تجمل أو تزييف التفتت نوران إليها وسألتها مباشرة:"الرحلة المدرسية بعد يومين.. هل تظنين أنني سألتقي مازن قبلها؟"

ناظرتها هالة بصمت قبل أن تسألها:"هل تريدين الصراحة؟"

أومأت نوران بتوجس فأردفت هالة:"سيكون مرافقك في الرحلة وله حق الرفقة أيضًا"

"لم أفهم! لن أعتبره توقعًا..أفنان هي من أخبرتني أنه سيكون متواجدًا في الرحلة"
ودون أن تطلب مزيدًا من التوضيح خرجت من الحمام غير عابئة بضحكات شقيقتها الخبيثة..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد ساعة
تلقت نوران اتصال مازن بشئ من الاستغراب فلم تسمع منه خبرًا منذ اجتماعهم في المطعم لذا تجاهلت الأمر ورمت مشاعرها الخاصة في أقرب مكب نفايات بل الأصح ألقت جزءًا منها..فالأنثى داخلها رغم كل شئ تأثرت وتأملت لكنها اتخذت قرارها بقسوة وقررت ألا تحادثه إلا في أضيق الحدود وفي نطاق العمل فقط..

لذا لم يكن عليها أن تجيب اتصاله الآن وهي تدرك أن اتصاله لا يخص العمل..و لكنها فعلت!
"كيف حالك يا سيد مازن؟"

ضرب مازن جبهته بيأس على الطرف الآخر فقد بدأ تغير معاملتها قبل قراءة الخبر فماذا سيحدث بعده!
وأجابها:"أنزلي الهاتف عن أذنك وطالعي آخر إشعار وصلك قبل أن نستأنف حديثنا"

ورغم رغبتها في إنهاء المكالمة بقلة ذوق لكنها فعلت ونفذت طلبه..
وليتها ما فعلت!

مررت نظراتها على ما تقرأه بغير استيعاب مستهجنة ما وصل إدراكها قبل عينيها
اللتين أغلقتهما وفتحتهما مرارًا دون أن تلحظ أي تغيير فيما تقرأه..
لاتزال السطور تتراقص أمامها على نار الفضيحة وصوت أنفاسه في أذنها تزيد اشتعال نار الغضب الموقدة في صدرها..

فتابعت صعود الدرج الموصل لشقة والدها علها تصل غرفتها بسرعة فتجد حلًا لهذه المعضلة..وصرخت به:
"ولم أحضرت الصحافة من الأصل للحفل؟"

"لم أحضرها..إنها اقتراحات مجلس الإدارة وأنا لم أجد ما يمنع وجودهم ..كما أن الإشاعة من ابتكار منتحل شخصية الأستاذ ماجد الذي لم نعرف هويته بعد"

"كان علي أن أنتبه..مشهد كهذا في حفل يعج بالمراهقين سيصبح حديث الساعة بلا شك!..يا إلهي! ماذا أفعل الآن؟"

"هل ستصعدين للسطح وتجهزينه لاستقبال حبيبك يا أستاذة نوران؟"

جحظت عينا نوران واستجمعت كل ذرة صبر تملكها لتوجه سؤالها بلطف للطفل رغم رغبتها في طرق رأسه بالحائط الآن ..
"من أخبرك هذا يا مؤمن؟"

"بعد أن أريت أمي صورتك على الفيسبوك..أخبرتني أنها رأتكم كل يوم بينما تتسللان للسطح دون أن يعرف أحد وأخبرت الجارات في السوق.. حتى أنها ذهبت للمباركة للخالة نعمة"

"ماذااااااا؟"
صرخت نوران وأكلت الدرجات أكلًا بخطاها..
عليها منع هذه الكارثة من الوقوع بأي شكل! وإن علمت الجارات فلا حل غير إنهاء عقد الإيجار ولينتهي الأمر..

"ومن هذا الحبيب السري يا نوران؟ مستاءة من إعلان خطوبتنا القريبة بينما تخفين أسرار كهذه عني!"

وصلها صوت مازن الضاحك فعلمت أن حكاية مؤمن الظريفة وصلته بالكامل ..
"أغلق هذا الاتصال وإلا لا أعرف ما يمكن أن ينالك مني اللحظة...ياربي! خسئ.."

وقطعت الاتصال قبل أن تدلي برأيها الصريح في موقفه البارد مما حدث..

"مبارك..لتكن زيجة العمر يا نوران"
تلقفتها أيدي الجارات يمررنها لبعضهن ككرة من المطاط وهي امتصت كل هذا مستسلمة لحضن تلو الآخر بصمت دون أن تصرخ بهن احترامًا لوقوف والدها المبهوت عند باب الشقة..

"ولكنني ألوم عليك الصعود معه للسطح في أنصاف الليالي يا ابنتي..هذا لا يليق بك أبدًا..وأنت أيضًا يا أستاذ طاهر لم تؤجل الإعلان عن خبر سعيد كهذا؟ ألم تكن راضيًا من البداية عن خطيب ابنتك؟!"
وأجابتها الأخرى:"نعم وإلا ما الذي يدفع نوران العاقلة لفعل كهذا؟!"

انغلق وجه نوران تمامًا ولم تعد قادرة على التظاهر أكثر من ذلك فتجاوزت السيدات وارتمت جالسة على أريكة الصالة..

بينما أنهى والدها هذا الحديث المثير عن ابنته :"سيكون الإعلان قريبًا يا سيدات.. وأتمنى ألا تنشرن الخبر قبل أن نحدد موعدًا رسميًا"

واصطنع ابتسامة مجاملة ليفك التصاق أقدامهن بعتبة الشقة.. فتراجعن أخيرًا يعدنه بكتم الأمر رغم يقينه أنهن قمن بنشره بالفعل..

أغلق الباب ملتفتًا لابنته التي طأطأت رأسها المرفوعة ذات الكبرياء..في مشهد لم يرها به أبدًا..
إنها نوران ابنته وعصاه التي يتوكأ عليها وقت الشدة..
لو أن خبرًا كهذا شاع عن هالة لتفهم الأمر..ربما أوقعت نفسها في مأزق بسبب مرحها الدائم ورؤيتها للحياة من منظور ساخر..لكنها نوران..

ورغم هذا تظل ابنته..أغمض عينيه يتنفس بعمق مستحضرًا كل هدوء وصبر يملكه ...مهما حدث سيتفهم الأمر وسيتعامل برفق..

وما إن فتح عينيه حتى قابلته عينيها المترقبتين ..يلمح الخوف في عمقهما ولكن ليس الخزي.. القلق من رد فعله مع الشجاعة..أخبرته بصمت أنها تنتظر حكمه وستسلم له أيًا كان ..

"أبي لا تصمت طويلًا.. أعتذر منك لأنني سأصدق على اللقاءات السرية مع أحدهم دون أن أملك قدرة تبريرها ...
لكنني أقسم لك وبكل صدق تعلمته منك أنني لم أخطأ أبدًا كما يظنون..انظر!التقط أحدهم هذه الصورة فخلقت كل هذه البلبلة..ما حدث أنني التفتُ فباغتني وجوده خلفي ..فقط!
لا دلالات أخرى وليس مشهدًا مقصودًا بأي طريقة ..لا أملك تفسيرًا ولا أريد إلقاء اللوم على غيري.. انظر ما يليق بتصرفي وأنا أتقبل النتائج أيًا كانت"

رغمًا عنه لا يستطيع تقبل هذا ولا يستطيع استبقاء هدوءه أكثر..مد يده يربت بقوة على خدها وكله يتحرق لتوجيه صفعة مؤلمة...لكن عينيها الثابتتين دون حرج دفعتاه لاسترجاع يده بهدوء..
ثم أسرع لغرفته صافعًا الباب خلفه بقوة ...
أما نعمة التي استقرأت رغبة زوجها في الانفراد بنفسه حتى لا يتسبب فيما لا يحمد عقباه بغضبه..
جرت ابنتها إلى غرفتها تستجوبها بحرقة:"لا يمكنك الاحتفاظ بأي أسرار لنفسك يا نوران بعد أن وقعت في مأزق كهذا..أخبريني الصدق..نعم أنا ووالدك واثقان أنك بريئة ولن تقدمي على خطأ كهذا..لكن يلزمنا التبرير رغم كل شئ يلزمنا التبرير.."

راحت تقطع الغرفة جيئة وذهابًا تُنفس عن توترها وقلقها أمام صمت ابنتها الغريب..
"من يلتقط  لك صورة كهذه؟ إنه مكان عمل! هل أرسلناك إلى حفل في ناد..."
قطعت جملتها تغادر الغرفة هي أيضًا..هكذا تعاملت هي وزوجها دائمًا مع البنات .. وكان هذا أحد سبل التربية الفعالة التي اعتمداها سويًا فنشأ هذا البيت هادئًا متحابًا لا يصرخ أحد بغيره مهما حدث..
لكن هذه المرة يفوق الأمر أي اعتبار!
نوران بربك ماذا حدث؟ وأي لقاءات سرية تلك؟
نعم ابنتها كانت تدلف للمنزل في بعض الأحيان السادسة أو السابعة صباحًا..تكرر الأمر على مدرا أسبوعين ولم يكن بصورة يومية..لكن أي حجة غير هذه ستكون معقولة!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
دلف مازن غرفة شقيقه وهجم عليه مقبلًا رأسه..
فأجفل الأخير ودفع مازن بعدوانية كرد فعل تلقائي لهذا الهجوم الذي لم يفهمه..
"أنا ممتن وبشدة يا زيد.. شكرًا لك شكرًا"
اتسعت عينا زيد مصدومًا مما يسمعه وحلل فعلة شقيقه باشمئزاز:
"إن أتيت تبتغي المصارعة كنت ستلكمني لا تقبلني! وحتى إن أتيت ممتنًا كان عليك أن تلكمني.."

"هل جننت لأنك لم تستطع الإفضاء بمشاعرك لنوران؟!"
سأل أخيرًا بنبرة الإقرار لا الاستفهام..

فأجابه مازن:"نعم جننت! الفتاة أطارت عقلي فجعلتني لا أستطيع مصارحتها بمشاعري وعلاوة على هذا انتشر خبر خطوبتنا!"

وفي الآن ذاته دفعت أفنان باب الغرفة ودخلت مشهرة الهاتف في وجهيهما فأشار مازن إليها قائلًا:
"هاك! ستشرح لك شقيقتك وباختصار أنني ونوران صرنا المرادف الحقيقي لكلمة الفضيحة"

بعد دقائق فهم خلالها زيد ما نُشر باسم نوران وشقيقه..
تنهد مازن قائلًا:"الحمد لله أنك أخبرت أبي قبلًا..أنا عاجز عن شكرك يا زيد!"

فنهض زيد وصاح به بغرور:"تخيل! جاء اليوم الذي ينحني لي فيه الجميع..هيا أعطني...."

خفت صوته قبل أن يبتر عبارته مفكرًا.. ثم قال باستياء:"لا أعرف كيف أستغلك الآن!..نسيت كل ما كنت أطلبه منك فترفضه بصفاقة!"

"انتظر أرجوك! إنه مصيري ما تمزح بشأنه الآن..أفنان.."

التفت لشقيقته وكاد يطلب منها أن تتحدث إلى والده لكنه عدل عن رأيه ونهض معلنًا بحسم:
"هذه المرة سأقدم طلبًا رسميًا لأبي..يجب أن يتحدث مع العم طاهر ويشرح له الوضع إن وصله الخبر ثم يحدد موعدًا للخطبة ولابد أن تكون عاجلة"

وتحرك مغادرًا الغرفة فلحقه زيد قائلًا:"خذني معك..لابد أن تشملنا هذه الخطبة معًا"

بينما وقفت أفنان حيث هي تتطلع للصورة المنشورة على صفحة المدرسة بضيق تفكر كيف ستتعامل مع هذه الغيرة المزدوجة!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
انصرف الوالدان ليجد كل منهما ما يشغله ويهدئ نار غضبه مؤجلين النقاش لوقت لاحق حتى يجدا داخلهما مساحة من التفهم والاحتواء..
أما نوران فقد خلعت حجابها وتكلفت المرح قائلة:
"نفذت عبوات الغسول من السوق! أتصدقين؟اشتريت كل شئ إلا هذا لم أجده"

ونظرت لهالة الصامتة كأنها تحثها على مجاراتها في هذا الحوار التافه مضيفة:
"لكنني سأحرص على شرائه قبل أن يأتي زيد لا تقلقي"

"نوران!"
هتفت بها هالة قبل أن تشدها لأحضانها وتربت على ظهرها بحنان قائلة:"أدرك أنه صعب التقبل لكن حاولي..ابكي هنا..لا بأس ألا تظهري ضعفك للغرباء ولكن هنا بين أحضان شقيقتك افعلي..هيا..أفضي إلي بكل ما يعتمل داخلك"

"تعرفين أنني لا أبكي!"

أقرت نوران وتشبثها بملابس شقيقتها يكذب حديثها..
"أرفض الضعف..ولن أكون يومًا ضعيفة خانعة لأبكي مصيري..فليكن! سأعتبر أنني مررت بتجربة عاطفية فاشلة وأعلن للجميع إلغاء هذه الخطبة وأراه سببًا منطقيًا لكتم الأمر عنهم..فلم أعلن عن حدث مر وانتهى؟!!"

أبعدتها هالة تدقق في وجهها علها تستبصر سرها لكن ملامحها كانت جامدة وكأنها ألغت مشاعرها تمامًا..
"ولكنني لا أرى الأمر مثلك..مازن يكن لك مشاعرًا صادقة ..صحيح أنني لا أجد سببًا لتكتمه عليها إلى الآن لكنها موجودة صدقيني"

"هالة بربك! أنا لا أهتم! وأرجوك دعيني بمفردي الآن.."
أومأت هالة باستياء وفي طريقها للخروج من الغرفة سحبت هاتف شقيقتها خلسة
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"نظراتك المرتعبة تؤكد لي أنك تعرف ردي"
عقب خالد بهدوء بينما يجيل نظراته بين زيد ومازن المعني بقوله..
"أعرف ..قطعًا أعرف..كنت سترفض زواجي بنوران لأن ما بني على باطل فهو باطل..لكن الحمدلله زيد كان حكيمًا وأخبرك..ودعني أؤكد لك أن رغبتي ليست وليدة يوم وليلة بل إنه قرار ترسخ داخلي منذ التقيت بها"

أومأ خالد دون كلمة..فتناظر الشقيقان بقلق.. إنهما ينتظران الفرحة العارمة بقرارهما والزيارة المتعجلة لبيت العم طاهر لا هذا الصمت المريب!

"بحكم معرفتي بطاهر أدرك أي جحيم يعيشه الآن..وصدقًا إنه شعور قاتل فأي رجل حر لا يرتضي الفضيحة لابنته"

وترقب الشقيقان التتمة بصبر يحسدان عليه..
"سألح عليه حتى يقبل أن نلتقي وحينها أخبره كل شئ..لا تقلقا! كثفا الدعوات وليقدر الله الخير للجميع"
ومع هذا الوعد نهضا عائدين لغرفة زيد وقلبهما تتقاذفه هواجس القلق من رد فعل العم طاهر..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
وعلى الجانب الآخر سجلت هالة رقم مازن وضغطت زر الاتصال ..
فرفضه مازن بضيق متوقعًا أن يكون عرفه وقد عاد لتهديداته الفارغة ..فكررت هالة الاتصال بغضب وما إن أجابها مضطرًا حتى قالت:
"أنا هالة يا سيد مازن"

"هالة!"
نطق اسمها باستغراب فالتفت إليه زيد وتنبهت جميع حواسه لمعرفة سبب الاتصال..
"منذ التقيتك وأمنتك على سري لم أتوقع يومًا أن تأتيني الطعنة منك"

قطب مازن وأجابها بحيرة:"أنا لا أفهم! ماذا فعلت؟"

"أسأت لشقيقتي..لم أتوقع هذا منك أبدًا!"

"انتظري! إنه سوء فهم جعل الخبر ينتشر بأسوأ طريقة لكن صدقيني كنت أريد الإفصاح لها عن حقيقة شعوري مرارًا ...."

قطع جملته ليعيد صياغتها بما لا يجرح كرامته كرجل وأضاف:"شقيقتك تجعل الموقف يتعقد فينعقد لساني وأعجز عن الحديث.."

"معك حق إنه خطأ شقيقتي! الصمت في حرم الجمال أليس كذلك؟"

وصلتها ضحكات مازن على الطرف الآخر فودعته بعد أن اطمئنت لصدق حدسها: "الآن فقط ارتحت.. سأنتظر قدومك مع والدك لطلب يد شقيقتي وإصلاح الموقف ولا تنس إخبارها بكل ما يعتمل داخلك..وأنا من جهتي سأوصيها أن ترفق بك..إلى اللقاء"

"انتظري!"
هتف مازن ساخطًا لكنها كانت قد أنهت الاتصال ببساطة..
فالتفت لشقيقه قائلًا:"علاوة على الفضيحة تحدثني حبيبتك وكأنني طفل وتأمرني بإصلاح الموقف"

مشطه زيد بنظرات ممتعضة وأجابه:"معها حق..أنت أخطأت في حق نفسك.. وتستحق كل ما نالك منها لأنك تجاهلت إشارتي ورفضت إعطائي الهاتف"

ودفعه بسخط مضيفًا:"هيا..هيا اخرج من غرفتي"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
نهض عبد الرحيم بعد أن تحقق أن وجدان لاتزال خاضعة لسلطان النوم وأخذ يفتش عن سجائره حيث رآها تضعها بالأمس..
إذ أصرت أن يعدها بتقليل استهلاكه منها فخضع لإلحاحها كالعادة وتركها تقدم المساعدة بأسلوبها الرقيق..
وخرج للشرفة يعب من السيجارة كما شاء نافثًا دخانها ليتطاير في الهواء كتطاير الدماء أمام عينيه..
إذ اتخذ قراره النهائي بقتل خليفة..ثم ظهرت الصحفية رزان فكان لازمًا أن يتخلص منها في المقام الأول..ولأنه يدرك أن خليفة لن يذرها تهدم إمبراطوريته فقد سكن تمامًا واختفى عن الأنظار منتظرًا أن يؤدي خليفة دوره ويتخلص منها
وليته يعجل بفعلها حتى يلقى حتفه هو الآخر!

إلا أنه قضى أيامه الأخيرة متوترًا..واستغرق وقتًا أكثر من اللازم للتصديق على قراره!
أغمض عينيه وزفر بعمق كل ما يختلج داخله مع دخان سجائره..
فقد نجحت وجدان في غرس فسيلة الخير والصلاح داخله..

(وإن حال الموت دون رغبتك فستُخضع سلطانه لإرادتك حتى تنال بُغيتك)
استرجع كلمات والده الزاعقة مع لسعات السياط فانطوت فورًا ذكرى زقزقة وجدان الخضراء واستعاد جموده ودمويته..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
استيقظت نوران على ضجة شقيقتها التي راحت تتقافز كحبات الذرة في المقلاة صائحة:"ابتسم لي أبي"

أرجعت نوران شعرها للخلف ومسحت عليه بكسل قبل أن تسأل بخفوت:
"ماذا يحدث؟"

"أبي يجلس على مائدة الفطور بابتسامة واسعة..وسمعته يخبر أمي أن تستعد لزيارة العم خالد هذا المساء"

فعقبت نوران بفتور:"كنت أحتاج للراحة واستجماع عقلي قبل الرحلة المدرسية"
لكزتها هالة بمرح وغمزتها قائلة بنبرة ماكرة:
"تستجمعينه حين تسكن حلقته الذهبية بنصرك"

"اغربي عن وجهي برومانسيتك الزائدة"هتفت بها نوران بمزاج نكد رافقها إلى نهاية اليوم..

ذلك المساء
تعالت الزغاريد ما إن فتح طاهر باب شقته لاستقبال صديقه وعائلته..
وتبادلت النساء الأحضان والقبلات الدافئة مع قول خالد المرح:
"أخيرًا سأتمكن من ربط عائلتينا ببعضهما إلى الأبد"

ضحك طاهر وعقب بحفاوة:"تفضلوا.. تفضلوا"
وشوشت أفنان نعمة برغبتها في الدخول لنوران وهالة فأومأت السيدة بابتسامة واسعة وقادتها لغرفة نوران حيث اجتمعت الشقيقتان للاستعداد.. وانصرفت لتقديم واجب الضيافة والترحيب بضيوفها المهمين..وكيف لا؟ وقدومهم يبشرها بزواج ابنتيها القريب..

أجالت أفنان أنظارها بين الشقيقتين قبل أن تغرق في الضحك..إذ تجهزت هالة بثوبها الأرجواني ذي الفصوص اللامعة كعروس تستعد لحفل خطبتها وجلست بابتسامة متألقة بانتظار انتهاء شقيقتها التي ارتدت طقمًا أبيضًا دون أي رتوش أقل من العادي! حتى أنها كانت تذهب لعملها بملابس أكثر أناقة!
"لن أخرج! من حقي أن أمتنع عن المشاركة في هذه المهزلة طالما لا ترضيني"

صرخت بها فجأة فأجفلت الفتاتين وانقلب ضحك أفنان إلى نوبة فواق مضحكة جعلت نوران تناظرها بغيظ مردفة:
"أفضل هذا على صوت ضحكك الذي صم أذنيَ..وعلى كلٍ يظل سببًا آخر لتأخير خروجنا إليهم"

"أنت..مستفزة.. سأجعل..شقيقي..يعدل ..عن ..رأيه"
ألقت جملتها بتقطع أخرق بسبب الفواق فلم تعرها نوران اهتمامًا وظلت تطالع صورتها في المرآة باستياء مصرة ألا ترتدي حجابها ولا تتم استعدادها لأنها لن تخرج..

وفي غرفة الضيوف..
أدى كل من زيد ومازن دور الشاب المهذب المبجل لوالده وانتظرا أن يبتدأ والدهما الحديث إلا انه ظل على صمته وربت على فخذ شقيقه تاركًا له المهمة..
لكن سالم مال عليه هامسًا بما لم يصل سمعهما..فأدركا أنهما يتبادلان المجاملات الآن وفي أكثر اللحظات أهمية على الإطلاق..
يتلكأن في الإفصاح عن سبب الزيارة ليختارا من منهما الأحق بالحديث!!
لذا تركا عنهما التظاهر فورًا ونطقا بصوت واحد:
"أتينا لطلب يد نوران/هالة"
اكفهرت ملامح طاهر من صراحتهما واندفاعهما بهذا الشكل الغير مقبول فتدخل سالم فورًا محاولًا خلق جو من المرح قائلًا:
"لابد أن تضعا اللقب..الآنسة نوران والآنسة هالة..ألم تتعلما أبدًا أصول الحديث؟"

وعقب خالد بدوره:
"بل الأستاذة نوران..والفنانة هالة..اللقب ينسب إلى الوظيفة هذه الأيام"

فضحك طاهر مردفًا بانعدام حيلة:
"أعرف أنني وبناتي تورطنا في هذا النسب!"

فرقص خالد حاجبيه وقال مناكفًا:"وصدق انه لا خلاص لك يا سيد طاهر من هذه الورطة"

بينما همس مازن لأبيه:"هناك تفاصيل أخرى تهمنا غير الألقاب يا أبي!"

زجره خالد بنظراته ولكزه زيد قائلًا:"لا تنغص علينا لحظات رضا والدك بلا سبب"
في حين تقدمت نعمة بصينية الحلوى والعصير فنهض طاهر يحملها عنها موزعًا على الجميع قبل أن يعود لمقعده قائلًا:
"لنتحدث بجدية..نحن نتشرف بنسبكم يا خالد ولا تحتاج سؤالًا لتعرف رأي الصريح فيك لكنني أطلب مهلة لمعرفة رأي البنات"

"ولأنني أدرك قدر ابنتيك يا طاهر فلن أنتظر حتى ينافس أخرون أبنائي في طلب ودهما.. لذا اسمح لنا أن نعتبرها قراءة فاتحة سريعة إلى أن نحدد موعدًا لحفل الخطبة ونتفق على باقي التفاصيل..ويمكن للفتاتين تكوين رأيهما بروية طوال فترة الخطبة"

"كأنك متعجل بعض الشئ!"

لكن خالد أخمد اعتراضه بقوله:"كل طلباتك مجابة ولن نختلف في التفاصيل إن شاء الله"

فلم يجد طاهر بُدًا من الموافقة و رُفعت الأيدي للاستفتاح بفاتحة الكتاب وطلب التوفيق من الله ثم علت الزغاريد مرة أخرى فأيقنت نوران أنها وقعت في المصيدة ولا فرصة للمقاومة لذا استسلمت لقدرها وشرعت في ارتداء حجابها..

تعلقت نظرات الشقيقين بوالدهما ورغم إدراكه ما يريدانه تظاهر خالد بعدم الانتباه إليهما والتفت لحديثه مع طاهر وسالم..في الوقت الذي التفت علياء ونوال حول نعمة وجُدلت بينهن الأحاديث الودية..

فراسل زيد شقيقته فورًا يستجوبها بقلق:"فنه كيف وجدت نوران وهالة؟أليستا مستعدتين للخروج إلينا؟ لقد انقلبت الزيارة تمامًا وأشعر أن أبي لا ينوي الاستفسار عن خروجهما والعم طاهر يرحب بهذا طبعًا"

فأجابته أفنان متهكمة على تعجله:"وكنت تلومني على رغبتي بالزواج!"

أعاد هاتفه بغيظ إلى جيبه وجز على أسنانه كاتمًا رغبته بالصراخ بها من مكانه..

وأخيرًا أشفق عليهما خالد.. فوجه سؤاله لطاهر مستنكرًا:"انهض لمناداة العرائس يا رجل! هل تظنني سأغادر قبل المباركة لهما بنفسي؟!"

طاوعه الأخير ضاحكًا فترقب الشقيقان ظهور فتاتي أحلامهما بصبر نافذ..
وقُرعت الطبول في قلبيهما مع دوي الزغاريد ما إن تحققت أمنيتهما بخروج هالة اللامعة بمبالغة ونوران العابسة بشكل غريب..

قرأت نوال وعلياء المعوذتين بينما تستقبلان الفتاتين بالأحضان والقبلات ونظر الشقيقان لبعضهما شزرًا وكل منهما يسأل الآخر دون حديث أين ستجلس عروسه وهو يحتل مكانها إلى جواره؟!!

بينما اقترح سالم أن يتركوا للأولاد غرفة الضيوف ويجلسوا في الصالة فأيد خالد اقتراحه فورًا وقال بُغية إقناع طاهر:
"لا تقلق..أفنان ستراقبهم ونحن سنكون بالقرب تحسبًا لأي حالة طارئة"

فضحك طاهر ودفعه أمامه خارجين من الغرفة متمتمًا:"لن تكون خالد إن لم تجد لكل شئ تبريرًا محكمًا"

إلا أن أفنان استوقفت خروجهم تنادي والدها مستنجدة إذ ترك لديها دبلتين ذهبيتين قبل مجئيهم ولم تدر كيف تتصرف فيهما الآن!

فعاد إليها خالد ملتقطًا منها العلبتين قائلًا لصديقه:"هل تسمح أن أهدي ابنتي بشئ بسيط لمباركة اتفاقنا؟"

وأضاف بينما يفتح العلبتين لتلمع الدبلتين ببريقهما الذهبي المتوهج:"الشبكة ستختارها العروسين فيما بعد على ذوقهما الخاص"

اندفع كل من زيد ومازن لاحتضان خالد وتقبيل يده فلم يتوقعا منه هذه المبادرة المبهجة ثم عقب مازن مستنكرًا:
"وأين دبلتي يا أبي؟ لابد أن يشملني هذا الإثبات ليعرف الجميع أنني العريس صاحب هذه الدبلة الذهبية"

وقطب زيد مضيفًا:"وأين المحبس يا أبي؟وكيف عرفت مقاس الدبلتين؟"

فالتفت خالد لصديقه قائلًا:"تراجعنا يا طاهر..اسحب موافقتك"

وكاد يغلق العلبتين إلا أن الشقيقين سارعا لالتقاطها مبررين أقوالهما أنه مجرد مزاح برئ!

والتقطت أفنان لحظة تلبيس الدبل بعدسة هاتفها وسط الزغاريد والضحكات المبتهجة ...ثم خفتت الضجة وخلا كل رجل إلى عروس المستقبل  تتوسطهما أفنان والتي راسلت هيثم يتشاركان فرحتهما بقرب زواجهما..

إذ تقرر أن يكون عقد قرانهما مع حفل خطبة شقيقيها فكان لحديثهما عبق مختلف وحماستهما لتحقق مرادهما أخيرًا تضفي لمسة شغوفة تتسارع لأجلها دقات قلبيهما..

تبادل زيد وهالة النظرات السعيدة قبل أن تقول هالة:
"بالمناسبة هذه الدبلة لا تحمل أي معنى ريثما نعلن الخطبة الرسمية"

"بل تحمل الكثير..اسأليني أنا! حين تأتين للمطعم سأجد عذرًا لترك العمل حتى آتي لمجالستك..وإن رأيتك منهمكة في عملك بالشركة فلن أمانع باستراحة قصيرة أقضيها معك..إنها تعني أننا في مرحلة التعارف الجدية التي تسبق ارتباط اسمينا إلى الأبد"

"لقد أخبرتك..."

"وأنا أجبتك حينها..استرخي يا هالة ودعينا نتعارف بروية ونكتشف بعضنا"
كانت مقاومة هالة الطفيفة لرغبتها الحقيقية في بناء شخصيتها بنفسها..أرادت أن تعيد تكوين هالة امام ناظريها هي في المقام الأول لتدرك قدراتها وتبرز ما يميزها فتتخطى انتقاصها الذاتي بسبب وزنها الزائد..

وعلى الطرف الآخر حيث المقاومة الأعنف فقد خلعت نوران دبلتها كردة فعل أولى ووضحت لمازن بحسم:
"أنا لم اقبل بهذه الخطبة إلا للسبب الذي تعرفه لذا فأنا أعدها مزيفة وما إن تهدأ نار الفضيحة في المدرسة حتى أسارع لإنهائها..لأنني لا أسمح لنفسي بعلاقة كهذه دون أساس راسخ يدعمها أو يعضد استمرارها"

ثم أعادت ارتدائها ونهضت من فورها خارجة من الغرفة فنكس مازن رأسه يلوم نفسه في المقام الأول لأنه من تأخر بالإفصاح عن مكنون قلبه حتى اختلطت الأمور فصار طلبه ودها الآن مجرد درء للفضيحة..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد يوم..
تطلعت نوران في مقاعد الحافلة التي شغلها طلاب الصفوف المختلفة وتنهدت حين لم تجد أثرًا لمازن..فحمدت الله أنه عدل عن الحضور..
تستطيع الآن التعامل بأريحية مع طلابها..
لذا أهدتهم ابتسامة واسعة ملقية تحية الصباح ثم شرعت بنداء أسمائهم للتأكد من حضور جميع المشتركين في الرحلة المدرسية..
"فادي السفيري"
أجابها فادي الذي وصل للتو بينما يصعد للحافلة:"حاضر يا أستاذة"

التفتت إليه نوران مبتسمة وسرعان ما تلاشت ابتسامتها حين ظهر مازن خلفه وغمزها بمرح قائلًا:
"أضيفي مازن السفيري أيضًا..وهكذا نحن مستعدون للانطلاق"

ومع تسمره أمامها حارت نوران كيف تتصرف..فقالت أول ما توارد لذهنها:
"أين أفنان؟"

أشار مازن خلفها لشقيقته الغارقة في نوم عميق على مقعدها..
"تستكمل نومها حتى تحين لحظات المغامرة"

أومأت نوران بلا معنى وتراجعت للخلف مفسحة له الطريق إلا أنه ظل على وقفته وانحنى نحوها هامسًا:
"ألن تجلسي في المقعد المجاور لي كأي خطيبة شغوفة بالحديث إلى خطيبها؟"

"أنت! ماذا تفعل؟ هل نسيت أنها خطبة مزيفة؟"
قالتها نوران مرتبكة وتعاقبت الألوان على وجهها متحرجة من منظرهما أمام الطلاب..
فأجابها مازن بحسم:"مزيفة في عرفك فقط!"
وتركها قاصدًا مقعده بعد أن نجحت في تعكير مزاجه الرائق..بينما تلفتت نوران للنظرات الخبيثة حولها ولم تجد بُدًا من اللحاق به والجلوس إلى جانبه..

وما إن فعلت حتى التفتت لهما جنات الجالسة على المقعد أمامهما وقد رفعت غطاء عينيها قائلة:
"بعد الاستراحة سيستفيق الجميع من الغيبوبة الصباحية ويدب فيهم النشاط.. حينها نعلن الخبر مرة أخرى ونحتفل بكما يا أعز من عرفت في حياتي"

أجفل الاثنان من التفاتتها المباغتة لكنهما ابتسما بتكلف واصطنعا السعادة باحتفالها المرتقب..

نظرت نوران لمرافقها تستطلع رد فعله فوجدته يناظرها بامتعاض وشئ من الضجر فارتسمت الصدمة جلية في عينيها مما أضحك مازن الذي قال أخيرًا:
"أردت أن أسبقك وأطالعك بذات نظرتك حتى تضعي نفسك مكاني وتتخيلي حالي.. خطيبتي تناظرني بهذه الطريقة وكأنني عدوها!"

"أووف..سخيف جدًا..أنا سأتابع نومي حتى نصل"

"وأنا أيضًا"
وأطبق الصمت عليهما إلا من نظرات مختلسة بين حين وآخر..فأدرك كلاهما أنهما يتشابهان في هذا أيضًا..
إذ يعجزان عن النوم في الحافلة فيقضيان ساعات مملة حتى الوصول للمكان المقصود..لكنه لم يكن مملًا هذه المرة بتعاقب التعبيرات على وجه مازن..
في البداية لم تفهم معنى ما يفعله..فهو يدير رأسه للنافذة ثم يعود ليناظرها وفي كل مرة تختلف نظرته بين العبوس..الضيق..والتأفف..
لم تقدر على حجز ابتسامتها التي استحالت إلى ضحكة صافية أطربت مسامع مازن إذ فهمت أنه يخبرها كيف تنظر إليه في العادة..

عقبت ساخرة بصوت يخالطه الضحك:
"أحضرنا طفلًا من الروضة معنا"
فابتسم مازن دون رد وأخذ يفكر في اللعبة التالية حتى ينطوي طول الطريق..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أخيرًا وصلت الحافلة إلى وجهتها المنشودة ودلف فوج الطلبة يتقدمهم جنات ..نوران ..أفنان ..ومازن إلى الفندق المحجوز لليلة واحدة..
وما إن تمت الإجراءات حتى صعد الجميع إلى غرفهم للراحة قبل بدء جدول الرحلة
وهناك في غرفتها..
تطلعت نوران لبنصرها مستجد التوهج بحلقته الذهبية واسترجعت حديثها مع والدها بالأمس الذي ضمها إليه وأخبرها أنه يثق بها ويدرك أن ما حدث مسها وبشدة وعاث فسادًا في سلامها الداخلي..لذا فإنه ينتظر لجوءها إليه متى شعرت أن خطبتها مجرد قيد اجتماعي سلسلت به معصميها لإسكات الأفواه

دمعت عيناها وكادت تزل في فخ البكاء لكنها سرعان ما تمالكت نفسها..حتى أحضان عائلتها لم تفلح في جعلها تعدل عن قرارها بالجمود وكتم حزنها لذا لن تسمح لنفسها الآن بفعلها وهي وحيدة وفي أشد لحظاتها ضعفًا..بوجوده!

شهقت فورًا وكتمت فمها تمنع نفسها من الاعتراف وإن داخليًا!
"لا مجال للضعف يا نوران!"
رددتها بعزم قبل أن تجفل مع رنين هاتفها فأجابت فورًا علها تستعيد بعض القوة من اتصال شقيقتها..

"كيف حال حياتك العاطفية؟"
لكن هيهات!
مع صراخ شقيقتها المؤمنة بالحب لن تنسى أبدًا ضعفها!
دلكت أذنها بسخط ضاحك ثم شغلت مكبر الصوت وشرعت في تبديل ثيابها بينما تجيب هالة:
"وصلنا للتو أيتها الحمقاء..والجبال تحوطنا من كل جانب فلا تتوقعي أي حركات رومانسية"

صمتت هالة لثوان فأدركت نوران قدر إحباطها ولكنها لم تلبث أن قالت بحماس مشتعل من جديد:
"مازن رجل رياضي وقطعًا لن تعوقه الجبال عن تحقيق أهدافه"

"أحدهم يطرق بابي.. دعيني أرى ثم نعود لسماع وصلة غزلك"

ضحكت هالة بعد أن التمست الغيرة بين طيات حروفها وأجابتها:"لا بأس..اذهبي لشأنك وسأتصل بك مرة أخرى..آه لا تنسي ارتداء البنطال الذي أوصيتك به إن تسلقت الجبل"

أنهت نوران الاتصال متوجسة من عواقب الاستماع لتوصيات شقيقتها..ثم أعادت ارتداء ثيابها على عجالة لترى من يطرق بابها في هذا الوقت الغير مناسب مطلقًا..
إذ يستعد الجميع للراحة بعد رحلة شاقة وهي أول من تحتاج لقدر كبير منها..

إلا أن ضيقها تلاشى ما إن وجدته فادي فاستقبلته بحفاوة قائلة:"تفضل بالدخول"

بادلها الأخير الابتسام وقال بارتباك:"في الحقيقة أردت أن يبقى هذا سرًا أيضًا"

ضحكت نوران وأومأت بصمت في إشارة لموافقتها..فبسط أمامها ورقة بيضاء التقطها من دفتر يحمله قائلًا:
"اعتبريه شكر بسيط على تعاونك معي"

تطلعت نوران في لوحته الحية التي تنطق بروحها..إذ شعرت فور رؤيتها أنها تطالع صورتها في المرآة وأخذتها منه قائلة:
"أنا منبهرة..فخورة بك..وسعيدة بهذا التقارب بيننا يا فادي..لوحتك من أفضل الهدايا التي تلقيتها في حياتي"

طأطأ فادي متحرجًا قبل أن يرفع نظراته إليها قائلًا:
"وأنا ايضًا سعيد..بت أثق بك"

لكزته نوران ضاحكة وقالت:"وأحب غرورك المقيت!"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
تجاهلت هالة شعورها المدغدغ الذي يحثها على قراءة رسائل زيد إذ استأذن والدها بمراسلتها وأغرقها برسائله ما إن غادر منزلهم فأجابت بعضها وأجلت إجابة البعض متظاهرة بدور الرزينة التي تمتلأ حياتها بالمسئوليات..

ضحكت بسخرية من حالها قبل أن تضغط زر الاتصال بنفيسة وقد أعطاها جلوسها مع العم حامد في المطعم فكرة للعمل الإضافي الذي يمكن لصديقتها تأديته دون أن تقصر في عملها بالمشغل..
"لقد بحثنا في كل الأماكن عن دوام يناسب وقتك لكننا نسينا أسهلهم"

"ماذا تقصدين؟"

"أقصد دار المسنين المجاور لمشغل أبي.."
قاطعتها نفيسة قبل سماع أية تفاصيل:"إنك تعرفينني ربما أكثر من نفسي..أنا لا أملك طاقة لمساعدة غيري يا هالة"

"لا تقاطعيني رجاءً..ماذا ستخسرين إن جربت؟! ربما تكون وظيفتك مجرد عمل مكتبي أو تنظيف للمكان..ولا تقلقي بشأن مجالستهم إن كانت من متطلباتك وظيفتك فأنا سأساعدك في هذا"

"وهل راتب دار المسنين هو ما سيجعلني أسد احتياجات المنزل وإيجاره المتأخر؟!!"

سألت بصوت يقطر مرارة أعجز هالة عن إيجاد رد مناسب...وجاءها صوتها خافتًا بعد لحظات من الصمت لتقترح:
"هل جربت يومًا أن تسألي عن عائلة والدك؟نعم توفي منذ صغرك حتى أنك إن رأيت صورته لن تتعرفي إليه ولكنني أرى أن تبدأي البحث يا نفيسة..يراودني شعور أن هذا طريق خلاصك"

"أمي تتكتم على أخبار عائلة أبي بشكل مريب كما أنها لم تحدثني يومًا عنه أو عن ذكرياتهما معًا..أنا أقدر توقعاتك يا هالة وحدسك الصائب دائمًا لكنني لن أخدع نفسي بالتأمل في أشخاص لا أعرفهم فربما يكونون أسوأ من عائلة أمي"

"نفيسة.."
قاطعتها المعنية بالنداء بصوت باكٍ ذكرها بشقيقتها حين تغص بما يضايقها وتبقي على غصتها فترفض لفظها وإظهار ضعفها أمام أي شخص مهما كانت درجة قرابته..
"سأحدثك فيما بعد..ودعينا ننسى أمر العمل الإضافي..لقد هيأت نفسي سأتقبل قدري أيًا كان"

ودون أن تتح لهالة أي فرصة للرد أنهت الاتصال تاركة صديقتها بوجه بائس وكأنها هي من تترقب الطرد من المنزل كل ثانية..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أعادت نوران الاتصال بشقيقتها فور استيقاظها واستشفت تغير مزاجها الغريب لكنها أجلت سؤالها حتى عودتها..فالاستجواب مع هالة لابد أن يكون وجهًا لوجه حتى لا تجد سبيلًا للهرب..

"ساعديني..لا أملك طاقة للإشراف على الطلبة..في كل عام يستقر التصويت علي دونًا عن مشرفات المدرسة مع أنني أرى سميرة الأجدر بهذا الأمر"

غمغمت هالة بصوت ساخط لم يصل مسامع شقيقتها:"جميع من أحدثهن اليوم لا يملكن طاقة!!"

ثم أجابتها:"وهل شعبيتك بين الطلبة تجعلك مستاءة إلى هذا الحد؟!! أم أنك لا تريدين الخروج لسبب معين؟!"

"نعم تعرفين أنني لا أريد الخروج لوجود شخص معين..ولا أستطيع تقبل ما حدث!"

ضحكت هالة من حال شقيقتها إذ ضاقت ذرعًا بوضعها إلى حد مصارحتها بهذه السرعة...ثم أصغت لتساؤلها المتردد:
"هل يجوز أن أنهي الخطبة فور عودتنا من الرحلة؟ ورجاءً يا هالة حدثيني بلغة البشر لا لغة الغيبيات دون أن تسرحي بمخيلتك في وضع تصور لمستقبلي السعيد!"

"حسنًا لا تغضبي..لن أخبرك أي توقعات لكنني أرى أن تختلي بنفسك هذا المساء وتسأليها عن رغبتها الحقيقية..انسي الأقوال وما يمليه عليك الواجب..لا تحتاجين توصية بهذا الشأن فأنت تعودين إلينا شخصًا جديدًا في كل مرة بسبب هذه الليلة"

أجابتها نوران بصوت ضاحك:"معك حق..كنت أتمنى أن ترافقينني هذه المرة"

"وأبيت ليلتي في العراء بانتظار انتهاء تسلق الجبل! لا شكرًا أفضل قضاء ليلتي على فراشي الناعم في أحضان زوجي السري"

وأغرقتا في الضحك حين استرجعتا ذكريات الرحلات الآنفة حيث ينتهي حجز الفندق بانتهاء الليلة الأولى إذ ينص جدول الرحلة على قضاء الليلة الثانية في تسلق جبل موسى والوصول لقمته مع شروق الشمس لرصد هذا المشهد المميز من القمة ..وتكون رحلة التسلق عذاب من نوع خاص لأغلب المشاركين في الرحلة..

"السيدة جنات لا تتعب نفسها بالمحاولة..وفي كل مرة تعلن استسلامها بصراحة على عكس من يتظاهرون أنها هوايتهم حتى نكتشف حقيقتهم أثناء رحلة التسلق"

"ولو أنني مكانها لفعلت المثل..الجبل الوحيد الذي يمكنني المخاطرة بتسلقه هو جبل الحلوى في مصنع تشارلي "

قهقهت نوران حتى دمعت عيناها متخيلة شقيقتها أحد الأطفال الذين حظوا بالبطاقة الذهبية في هذا الفيلم الكرتوني.. وقالت بصوت متقطع إذ تغالبها رغبتها في الضحك فلا تستطيع متابعة جملة مفيدة مرة واحدة
"انتظري... سأستغل مازن.. سأجعله يتولى دوري في الإشراف مع أفنان... وأقضي نهاري في هذا الحديث الممتع معك"

"أجل افعلي..اسمحي لنفسك براحة طويلة حتى يصفو ذهنك لقرارات المساء"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
في طريق العودة..أصرت نوران ألا تسمح لمازن بإيصالها لمنزلها وراقب فادي وأفنان بضجر انتهاء الشجار السخيف..
إذ صرخت نوران أخيرًا بعد أن طفح كيلها من أصراره:
"لن توصلني للمنزل..لقد أقسمت"

فجابهها مازن بعناد لم يتزحزح قيد أنملة:
"أقسم ألا أصعد للمنزل حتى أوصلك"
وقبل أن يتدخل الشقيقان باقتراح مقبول ينهي الشجار..تحقق قسم مازن بأبشع الطرق فتقدم منه أحد أفراد الشرطة وصاح به بوجه متجهم:
"مازن السفيري؟...أنت مستدعى للتحقيق في البلاغ المقدم ضدك"





#ڤوت
#كومنت

ده تعويض عن فترة الغياب وان شاء بكره فصل جديد ونرجع لمواعيدنا ثلاثاء وجمعة مساء❤️

جيران المدينةWhere stories live. Discover now