الفصل العشرون

60 1 3
                                    

الفصل العشرون
كان عرض زيد للزواج بالنسبة إليها تذكرة للصعود على متن "تيتانك" الغير قابلة للغرق كما يعرف الجميع لكنها هي تبصر النهاية الحتمية لزواج كهذا..
فإن قبلت عرضه فقد حكمت بغرق السفينة وبنهاية هالة التي ستضحى رمادًا منثورًا يستحيل جمعه ..إذ أنها بزواجها ستستقي شخصيتها منه موكلة إليه كل شئونها فما إن ينهار الزواج حتى تنهار هي بدورها عاجزة عن الحياة..
لا تستهجن الطلب أو تتمنى رفضه بل تراه أبكر في عرضه بما يخالف جدولها الزمني الذي وضعته لبناء شخصيتها وإنقاص وزنها ثم الالتفات لفارس الأحلام..

تصفحت مذكرتها حتى فتحت صفحة جديدة وكتبت فيها تعليقات زيد عن طلاء أظافرها وهو أكثر ما تحب العناية به والتأكد من تناسقه مع ملابسها..
كتبت و كتبت..
ثم نظرت لحروفها المرسومة هذه المرة بألق من السعادة الخجلة التي تجاهد للظهور في حياتها..فما كتبته اليوم يناقض كل ما سجلته هنا سابقًا حيث الصفحات الممتلئة بالتعليقات السلبية المنتقصة من شخصها التي أمعنت في نشر طاقة سلبية داخلها..ستكون عمياء إن لم تلاحظ الفرق ..
وجود زيد يربت على روحها بلطف ويجعلها تستشعر أهميتها وكمال أنوثتها.. أما عن نفيسة فهي دافعها للتغيير وحافزها لخوض معركة الحياة حتى إن خسرت الجولات الأولى فالحرب مستمرة وعليها المتابعة..
"عليك إنهاء هذا الأمر يا هالة قبل تشعبه إلى مراحل أكثر جدية"
أصدرت الأمر لنفسها بقسوة تتمنى أن تتحلى بها لتنفيذه..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"شاهدت (الإنمي) الأصلي دون حذف..هناك الكثير والكثير من المشاهد الساخنة التي تم طمسها ..يكفي أن أخبرك عن المشهد الذي ظهرت فيه البطلة بمعطف يخص حبيبها غير مُزرَّر بالكامل.."

شهقت دينا قائلة:"وماذا بعد؟ هل خلعه عنها نهائيًا؟"

"وكيف عرفت؟ لقد ظننت أنه سيحكم غلقه حول جسدها!"

أطلقت دينا ضحكة ساخرة قبل أن تقول:"أمر بديهي يا عزيزتي..."
صرخت بسنت قاطعة حديثها حين أحست بمن يلامس أسفل ظهرها وما لبثت أن كتمت صرختها خشية الفضيحة وجرت دينا تهرولان بسرعة لقطع الشارع الساكن في هذا الوقت المبكر..

"إنه شريف..كانت الأستاذة نوران محقة.. أمثاله يجب إيداعهم قسم الشرطة"

وعلقت بسنت لاهثة:"لنسرع إذا..إن وصلنا الشارع الرئيسي واختلطنا بزحام الطلبة القاصدين مدارسهم فقد نستطيع الإفلات منه"

"لو أن وائل رافقنا لما تجرأ على التطاول عليك بهذا الشكل"

فزجرتها بسنت بغضب:"لا تربطي بيننا مجددًا حتى في خيالك..إنه مجرد زميل دراسة..بالإضافة أنها ليست إحدى مسلسلاتك المفضلة حيث تمر السنوات بلمح البصر.. يلزمني إتمام دراستي  قبل الالتفات لموضوع كهذا"

"حسنًا..لننقاش هذا في وقت لاحق..انظري خلفك لايزال الخسيس يتبعنا "

"لنعبر الطريق أسرعي"

وكررت الصديقتان عبور الطريق وشريف يلحقهما بإصرار ودون كلل حتى تمكنتا في النهاية من الوصول للزحام حيث زملائهما وبعض طلبة المدارس المجاورة فاختلطتا بهم وتطلعتا للخلف حيث شريف الذي ارتكن بظهره إلى أحد المحال المغلقة يناظرهما بهدوء..

"هل يتوعدنا بالانتظار"

"بالضبط وكأنه يقول لنا لقاء آخر...بسنت أرجوك دعينا لا نعد للمنزل بمفردنا ليرافقنا وائل أو حتى كمال..يمكننا الاستعانة بالأستاذة نوران أو الأستاذة سميرة"

"لنخبر كمال عما حدث.."

"وما الجدوى من إخباره؟ هل استطاع دفع أذاه عنك سابقًا ليدفعه الآن؟!!!!"
وأردفت بسنت بألم:"تمنيت لو أستنجد بأبي في مواقف كهذه..إن أخبرته فلن يجيبني لأن ذهنه مشغول مع صديقاته أو ربما يسمعني فيطالبني بالاستسلام لأنها النهاية الحتمية لكل أنثى"

فربتت دينا على ظهرها بمؤازرة صامتة وقالت:"سنجد حلًا لا تقلقي..حتى إن لم يفلح الفخ الذي أوقعه كمال فيه لردعه ربما ننجح إن كررنا التجربة"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"لو أن أبي أنجب الأولاد لما اضطر لاتخاذ طرق ملتوية لتأمين مستقبلنا"

ألقت روان بشكوتها مبتئسة وأضافت:"هل يأثم المرء إن رأى حياته دون جدوى؟!!!"
ازدرد هاشم لعابه وصمت لدقيقة يتطلع لتقاسيم وجه الصغيرة العابسة المنغمسة في التحقير من نفسها وكينونتها..
ولم يكن صمته لأنه يعجز عن الإجابة بل تفكرًا في حال الدنيا!
فهو العقيم الذي حُرم من الإنجاب طوال حياته يتمنى فقط لو يملك أمر روان وشقيقتها لرعاهما أفضل رعاية وبذل كل جهده في الإنفاق عليهما بالحلال دون اتخاذ حجة ضعيفة كتأمين مستقبلهما حتى يستولي على ميراث العائلة وحده..
وعلى النقيض ابن عمه الذي حظى بالذرية يرى ابنتيها حملًا ثقيلًا..
تمتم بالاستغفار حين خطر بباله أنها الحياة غير عادلة بالمرة!
وعاد يُذكر نفسه بواسع فضل الله ونعمه التي لا تعد ولا تحصى فإن اقتصرت على الصحة فقط فهو شاكر كل الشكر وراض عن حياته..
ثم توجه لروان بالحديث ملاطفًا:"يبدو أنك لا تدرسين جيدًا..هل نسيت الأحاديث التي تتعلمينها في الكُتَاب؟..
أنتن المؤنسات الغاليات يا روان..تجلبن الرزق والبركة للبيوت..لقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بكن و أكد أن جزاء والد البنات الجنة"

"أعرف..وأتمنى أن يتقبل الله تربية أبي لنا قبولًا حسنًا ويدخله الجنة.. لكنني شعرت بأنني عالة عليه وأنه يستثقل مصاريفنا ..لم يكن يحق له بيع منزل العائلة"

"ألم ننته من هذا الأمر؟ لا بأس أن يبحث والدك عن مصدر دخل آخر ليحسن معشيتكن وقد أعطانا نصيبنا من ثمن البيت نقدًا"

اغرورقت عينا روان بالدموع وسألت :"حقًا فعل؟ ألم يوقع أبي الظلم عليك وعلى عمي عرفه بما فعل؟"

"لم يفعل اطمئني واهدئي..أخبرتك مرارًا أن تلتفتي لدراستك وفقط..فرفضت وأصررت على الزراعة وأنا لم أمنعك عن تحقيق مرادك.."

أكد هاشم راجيًا أن يفلح في طمأنتها هذه المرة ..حتى إن انتقص فاروق حقهما وأعطاهما أقل منه بكثير فلاتزال راحة الصغيرة واطمئنان سريرتها أهم عنده..
ثم أضاف بتوعد المربي الصارم الحنون:"والآن ستعدينني ألا تذكري هذا الأمر مرة أخرى وإلا ستتعرفين على عقاب عمك هاشم حين يغضب ولن يروقك أبدًا"

ابتسمت روان وطأطأت رأسها تعده بخفوت مما دفع ابتسامة عريضة لفمه وقد أيقن أنه راض بهذا الدور..وإن كان محدودًا فلا شك أنه له عظيم الأثر في نفس الصغيرة..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
قرر الرفاق إرفاق لوحة منة التي سبق ورسمها فادي  في العدد الأول للمجلة الذي يشرعون فيه ما إن تبدأ الإجازة مع وعد بأن يكتب كل منهم اعتذرًا بطريقته يُسجل في المجلة ويبقى مقيدًا في سجل أنشطتهم في المدرسة كمدعاة للفخر بسلوك فصلهم الذي ينشدون حصوله على جائزة الفصل المثالي واعتذار لائق أمام منة فترضى عنهم الأستاذة نوران والأستاذة سميرة والمديرة كذلك..
أثارت الفكرة حنق فادي في البداية لأنه لن يكون اعتذرًا في الخفاء بل أمام الجميع وبصيغة مباشرة لكنه تحت ضغط زملائه وافق.. وعقد العزم أن يرفق اعتذاره مع اعتذار أي منهم دون أن يسجل اسمه تحته..
أما اعتذاره الحقيقي منها سيكون بالصورة التي خطط لتننفيذها عما قريب ما إن يفرغ من الامتحانات..
وها هي منة صارت فردًا منهم فعرضوا عليها مرافقتهم في طريق العودة لمنازلهم اليوم.. وقد وجدت بسنت ودينا في هذا الخلاص من مطاردة شريف أما فادي فقد تأخر عن رفاقه حتى يسير مجاورًا لمنة..
وسألها بعد تردد عن أحوالها..
"سمعتهم يقولون أن كسر ذراعك بسبب ضعف عام أو نقص تغذية..لا أعرف صحة هذا...."
حدجته منة بغضب لم يبرأ بعد.. إذ أنها توقعت من الجميع الأذى إلا هو لكنه انضم للجميع وصدق عنها ما قيل..وقاطعته قائلة:

"ولم لا تقول أن الجني الذي يقيم داخل جسدي قرر أن يكسره حتى لا أستطيع تولي أبسط أموري بشكل طبيعي"

"لم أقصد..كانت بدايتي للحوار..رغبت فقط في الاطمئنان عليك"
تلعثم فادي مدركًا أن كلمة آسف واحدة كانت لتحل هذه المشكلة لكنه كالعادة لا يستطيع قولها ...

"لا بأس..أنا أيضًا لم يكن علي ذكر هذا الأمر بعد أن قبلت اعتذاركم..أمر بتقلبات مزاجية شديدة أغلب الأيام فالتمس لي العذر"

وبينما سبقهم زملاءهم لشراء المثلجات .. التفت فادي لمنة مستجلبًا تركيزه يدقق في كل ما تقوله فربما عثر على وسيلة لمساعدتها..
"أنا غريبة الأطوار..هل ترى كيف يتهافت زملائي على المثلجات بينما أنا أشتهي أشياء أخرى"

تنحنحت بحرج ورغم هذا كشفت له عن سر غرابتها حين تابعت:"كان أبي يتم عمله بالمنزل منذ أيام فاشتهيت الشمع الذي يستخدمه..انجذبت إليه ورغبت أن أتذوقه..وفعلت!  ما إن انشغل أبي حتى حققت لنفسي مرادها.."

رمش فادي بعينيه يخشى أن يظهر صدمته أو يسخر منها فيجرحها مرة أخرى وفي الآن ذاته ليس عليه تقبل الأمر وكأنه سيعود لمنزله الآن فيطلب من والدته نصيبه من الشمع كغداء مُرض بعد امتحان طويل..
وتشاغل عن قولها سائلًا: ما عمل والدك؟"

"آلمتني معدتني واضطررت آسفة لموافقة أبي والذهاب لأخصائي التغذية أخيرًا..فنصحنا بزيارة طبيب آخر.. لكنني تكاسلت عن الذهاب لقد هدأ ألم بطني وانتهى الأمر..لا أنوي إرهاق نفسي باتباع إرشادات طبيب يجعل من أمر بسيط كهذا مشكلة العصر التي تستلزم العلاج الفوري"

"ماذا عن شهيتك للشمع؟ لا تقولي أنك تتناولينه كمقبلات في العادة"
تابع قبل أن تنطق بحرف:"لا أسخر منك بل أبرهن لك كم أن طبيبك محق وعليك الالتزام بإرشاداته حتى تجدي سببًا منطقيًا "

"جيد..وأنا عند رأي..على كل حال ها أنا أوشكت على بلوغ منزلي..إلى اللقاء"
ولوحت للبقية قبل أن تتابع طريقها وحدها متهربة من إلحاحه..نعم وحدها فقد صارت بالغة لتملك أمرها وتتخذ القرارات بنفسها في كل شئونها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"وهذا المشروع لن يكتمل إلا إن شاركتنا خبرات الدراسة التي تتميز بها عنا.. فضلًا عن ذكائك منقطع النظير"

توتر هيثم ما إن ذكر يحيى أمر العمل وسرعان ما غير الموضوع قائلًا بمواربة وغرور مصطنع يمازح أصدقاءه:"لا أرى إلحاحًا يا سادة وكأن يحيى من يطلب مساعدتي فقط!"

"يطلب مساعدتك! وكأننا ننتظر تفضلك.."

ورفع يحيى حاجبًا متلاعبًأ مقررًا المشاركة في اللعبة:"بالكاد أقنعتهم أن ننتظرك.. وخصوصًا حازم رفض وجودك نهائيًا"

"نعم ولازلت أرفضه..ولنقترع.."
ونهض رافعًا يده قائلًا:"يا رجال من يرفض وجود هيثم في مشروعنا فليصوت بنعم"

ففعل الجميع عدا يحيى الذي تردد لثوان قبل أن يرفع يده بدوره..

توتر هيثم وناظرهم بحيرة قبل أن يقرر الانسحاب قائلًا:"وأنا أيضًا أرى هذا.. أتيت للترويح عن نفسي بينكم واستعادة ذكرياتنا المشتركة..وأتمنى لكم التوفيق في مشروعكم"
فتلقى ضربة على مؤخرة عنقه من حازم الذي يتحرق لفعلها منذ رآه .. ولكم ذراعه قائلًا:"وكأنك لا تعرفنا يا رجل وما هذه الرسمية المملة؟!! هل تظن أننا تكفلنا برحلتك ودعوناك للاستجمام دون غرض..طبعًا ستشاركنا العمل ودون مقابل أيضًا "

قهقه هيثم مع جملته الأخيرة مدركًا الفخ الذي أوقعه به هؤلاء الأنذال..
وصافح صديقه بخشونة قائلًا:"طوع أمرك يا قبطان..لكن تصدق علي براتب بسيط فزفافي يقترب"

"هل هي ابنة عمك؟"
وتغير مسار الحوار تمامًا ليهديه الشباب نصائح عن الزواج وبالمجان كما يقولون..
بعد قليل..
ابتسم هيثم متسليًا حين قرأ منشور أفنان الذي كتبته منذ دقائق وأدرك الرسالة التي تريد إيصالها إليه بالضبط فأراد الإمعان في إغاظتها لذا قفز في البحر بسعادة والتقط صورة لنفسه حريصًا أن يُظهر جذعه العاري بفخر و نشرها على حسابه مرفقة مع قوله"حرًا كطير طليق .. لا حبيب يغار .. ولا عمل ينهار"
ونادى أحد أصدقائه ليلتقط الهاتف قبل أن يتابع سباحته براحة بال..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
في ذات الوقت بينما تتصفح أفنان حسابها على الفيسبوك وردها إشعار بالمنشور الجديد الذي نشره هيثم فسارعت لاستطلاعه..
وأحست أن رائحة غيرتها قد فاحت حتى ملأت أرجاء المنزل كأن والدتها ستأتي الآن تسألها عن مصدر رائحة الحريق..
إذ كتبت منشورًا قبلها تتحدث فيه عن غيرة المرأة وخصت فيه ما يرتديه الرجال للسباحة فقالت أن المرأة حين ترى نظرات الأخريات لجذع زوجها تتمنى لو أن بمقدرتها إحالة البحر لبركان من الحمم النارية فينصهر جسده كسبيكة معدن ويختفي عن عيون المراقبات..
وأيقنت أن صورته ما هي إلا رد على منشورها وطريقته المستحدثة للانتقام منها..

"وتضع (لايك) أزرق بارد أيها الدب القطبي!! ...بارد.. متجمد.. صقيع ..بلا مشاعر"

صرخت بعلو صوتها قبل أن تغير الخصوصية ليصبح المنشور مرئيًا لها وحدها فقد كانت مدركة لجرأتها أثناء كتابته ولكنها الطريقة الوحيدة التي اهتدت إليها لإيصال رسالتها فلو أنها أرسلتها له على الخاص فاحتمالية تجاهلها تكاد تصل للمائة بالمائة..
"ترافق أصدقاءك للشاطئ وتتجاهل رغباتي أيضًا..إنها نهايتك أيها الحقير.. كم أكرهك! .. وكم أحبك!"

ونهضت تبدل ملابسها بحثًا عن طريقة لتفريغ غضبها.. ومن أفضل منه؟!.. شقيقها الخائن الذي يتجاهلها منذ المباراة!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"ترى ما هي الحقيقة المختبئة؟.. مع توضيح شاف لتاريخ كل منهم.."
هتف علي بذهول ما إن قرأ مقال رزان الذي أتت بنفسها تعرضه عليه متعللة برغبتها في معرفة رأيه..
"إن تغاضيت عن ذكرك لصهري وصديقه فكيف ستفلتين بفعلتك بعد أن يعرفك عبد الرحيم؟..ولم أتساءل عن عبد الرحيم من الأساس؟!.. خليفة سيمحو أثرك من على وجه الأرض إن رأى هذه الجريدة..وكيف لا يفعل؟ لديه من ينقل إليه أخبار العالم أفلا يخبره عن صحفية تحشر أنفها فيما لا يعنيها مثلك "

التقطت سيجارة تشعلها ونفثت الدخان بتوتر قائلة:"عرفت أنك تتولى القضايا لعبد الرحيم..وخليفة..."

قاطعها علي جاذبًا السيجارة بقسوة من بين شفتيها ورماها أرضًا يدهسها بعنف:
"لا تدركين عواقب أفعالك أبدًا..ولو لمرة اعترفي بخطئك وتراجعي عن متابعة هذه السلسلة التي ستلتف حول رقبتك قابضة روحك"

لم تفطن رزان لتوبيخه بينما تنشغل بالرجفة التي أصابتها مع لمسة أصابعه الغير مقصودة لشفتيها.. أسدلت جفنيها تحاول كبت شعورها بالدفء جواره..

لكن الأمر كان خارج حدود قدراتها فنهضت تتعلق برقبته قائلة:"لنتزوج حالًا أرجوك"

وتابعت تغريه بالموافقة:"سأوقف السلسلة..أغير الجريدة..أسافر لمتابعة عملي خارج البلاد لكن أرجوك أحتاج إليك..أنا وحيدة بدونك"

تراجع علي ممسكًا بكفيها ليحل تطويقهما لرقبته في الوقت الذي دلفت به علياء المكتب قائلة:"مفاجأة...أردت.."

فأفلت يدي رزان مدركًا أن نهايته اقتربت وستكون على يدي شقيقته كما توقع بينما ابتسمت رزان بثقة وقد طمحت لهذا اللقاء منذ سنوات..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أزياء السُكَري..اكتسبي الثقة وكوني الأفضل"
أنهت هالة تصوير الفيديو الأخير قبل أن تجلس على مقعد قريب منها متنهدة براحة بعد مجهودها المضني طوال الأيام الفائتة..

وحذا زيد حذوها مسترخيًا على مقعد يقابلها قائلًا ما إن انصرف فريق العمل: "شعار الحملة بصوتك  مع ابتسامتك البراقة مزيج مُبهر أثق أنه سيجتذب السيدات"

"أشكرك على الإطراء..لكن متى يبدأ التصوير الفعلي على أرض الواقع؟"

"سبق وقررت أن نجد عارضة أخرى نضع صورتها على المنتج...."

نهضت هالة وانفجرت فيه غاضبة بعد أن سئمت من كبت ضيقها لإهاناتهم المتكررة لشخصها:"كنت أعلم أنك سترفض كالإدارة السابقة تمامًا..وما عيبي أنا؟ لم لا أكون العارضة الأساسية أبدًا؟"

ونهض زيد يقابلها بهدوء وقد ارتسم الحزم على وجهه فتوقعت هالة أن يطردها من العمل فورًا..توقع غير منطقي تنفيه معاملته اللطيفة معها لكن ملامحه في هذه اللحظة أشعرتها بهذا...

"أولًا شعوري الذي أسميته للتو بالإطراء كان صادقًا..أنت رائعة ومميزة وأنا مغرم بكل ما تفعلينه وأظن رغبتي بالزواج منك تبرهن لك صدق حديثي"

لقد ظنت دائمًا أن عليها الإنقاص من وزنها لتبدو مقبولة في نظرات الجنس الآخر فأتى زيد ليناقض هذا مطالبًا إياها بالتفاعل مع غزله الرقيق..وأنى لها أن تفعل؟!!
إنها ليست مستعدة بعد..لو يعطيها  الفرصة ستخبره صراحة عن حلم فارس الأحلام الذي رددته مرارًا أمام عائلتها كمادة للفكاهة بينهم إلا أنها لم تتوقع تحققه!
لقد ظنت أن شظف العيش سيلازمها أبدًا ما حيت وأن وردية أحلامها ستستحيل إلى قتامة ليل بهيم لن يرى الفجر...

"وثانيًا حين تصفحت حسابك على الانستجرام كنت متحمسًا بشدة لرؤيتك تعرضين أزياء شركتنا وقادتني حماستي لوضع الفكرة حيز التنفيذ وإجراء اجتماع عاجل ثم ندمت..."

نعم هذا ما انتظرته.. الآن يكشف وجهه الحقيقي..

"ندمت لأنني أغار..وبشدة.. أرفض أن يكون هذا عمل زوجتي ولست من أنصار الانفتاح الذين يقبلون استعراض جمال وظرافة زوجاتهم"

عند هذا الحد لم تتحمل هالة..أي رجل هذا؟ خفق قلبها بقوة وقرع طبول عاطفتها فهيَجها حتى كادت تخر صريعة أمامه...

تدلى فكها بذهول بينما يتابع:"ارتأيت حينها أن أبحث عن عارضة أخرى تتولى الأمر بصورة رسمية .. وللأسف سأراقبك بينما تصورين وتعرضين الأزياء أمام جمهورك العريض.. لذا رجاء اجعليه عقابًا مخففًا واقصري جمهورك على النساء فقط"

وأضاف بصوت مغو:"يمكنك الآن مكافئتي بإعلان موافقتك على الزواج مني.. وأن تكوني عارضة الأزياء الخاصة بي وحدي"

العون! فليعنها أحد ! لقد استحال غزله من رقيق إلى جرئ!!

احمرت هالة وأطلقت ضحكة محرجة قصيرة باحثة عن مخرج لهذا الحوار المذيب للأعصاب ..الخطر على توازن قلبها..

"تذكرني بقصة قرأتها كان بطلها متملكًا...أقصد..يا إلهي! فلنكتفي بتبادل التحية فيما بعد ولا داع لأحاديث كهذه"
أرجع زيد رأسه للخلف مقهقهًا بانطلاق في الوقت الذي اقتحمت به أفنان الحانقة الغرفة صائحة:"أنت هنا تتسلى بوقتك وتتركني وحيدة لا أعرف ماذا أصنع!"

فاستغلت هالة الفرصة وأطلقت العنان لرغبتها بالهرب..بينما استعاد زيد جديته وعاد للجلوس رافضًا التطلع أكثر لشقيقته وعينيها الذابلتين من كثرة البكاء..

"لماذا لا تكلمني منذ يوم المباراة ؟"

جاهد لاصطناع اللامبالاة وأجابها:" لو شجعتني خلالها لأتيت أشكرك"

لتصرخ به وقد ضاقت ذرعًا بكل رجال عائلتها:"لا تتظاهر أنك لا تعرف مقصدي يا زيد"

وكان صراخها كفيلًا لينفض عنه هدوءه المصطنع ويصيح بها:"قوليها وأعدك أن أقتله لو طلبت..هذا هو التدخل الوحيد الذي أبتغيه في هذه اللحظة"

"أنا.." لم تستطع إخراج جملة سلمية وتحشرج صوتها مع بكائها..
فضمها زيد لأحضانه مشفقًا عليها رغم عجزه عن إيجاد حل لحالاتها المتناقضة..

"هل تريدين تدخلي؟يمكنني أن ألحقه وأحضره مجرورًا إليك..سأسحله على الطريق لا بأس هذا أفضل من قتل سريع"

فضحكت أفنان رغمًا عنها وأجابته بمرح :"دع هذا الأمر لي أنا كفيلة بتعذيبه"

"ولهذا لم أتدخل..كلي ثقة بقدراتك يا شقيقتي العزيزة ولكن ..ها أنا أحذرك..إن رأيتك باكية مجددًا بسببه فلن أكبح جماح نفسي وستخسرين فردين من عائلتك وقتها"

"حسنًا أعدك أنني سأحاول تدراك الأمر.."

وكأنها أدركت ما قاله فجأة فابتعدت عن أحضانه قائلة:"لكن لا تقتله ستحزن زوجة عمي.. لنبحث عن طريقة أخرى لعقابه إن أساء إلي"

ضحك زيد يجيبها:"أساء إليك!! كأنك تتركين له الفرصة ليفعل..اسمعيني الآن يا مدللة عائلة السفيري لقد غيرت رأي..المرة القادمة سأتبين الأسباب والدوافع قبل التفكير في وسيلة لعقاب ابن عمك..وربما أتمكن من عقابك بجدية ولو لمرة في حياتك المترفة هذه"

فعادت أفنان تندس في أحضانه قائلة:"لا تستطيع..سأظل ابنتك التي تدللها وتحبها مهما فعلت"

ابتسم زيد طابعًا قبلة حنون على رأسها وصمت.. إنها الحقيقة ولا يمكنه إنكارها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"رزان..أقصد السيدة رزان  من موكلاتي القدامى تعرفت إليها في الغربة منذ سنوات .."

ابتسمت علياء وتقبلت تفسيره بهدوء مصافحة رزان متغافلة عن شعورها بأن ما تبادلاه يفوق هذا والمشهد الذي رأتهما عليه ما إن دخلت المكتب يؤكد صحة شعورها.. لكنها لا تريد إفساد مزاجها اليوم لذا تغاضت عن الامر وراقبت انصراف رزان دون رد فعل..

ثم قالت:"اشتقت إليك فقررت تناول الغداء معك.."

ضحك علي بتوتر إذ غادرته سكينة نفسه وراحة باله بعد هذا اللقاء الذي خشى منه دومًا.. وقال:"يالها من مبادرة رائعة يا حبيبتي..سامحيني انشغلت عنك"

"لا بأس..أدرك أن عملك صعب ومجهد.."
وأضافت بصرامة زائفة:"سأحدد مواعيد ثابتة للزيارة فيما بعد وأجبرك على الالتزام بها"

"سبحان الله! ظننت أن صعوبة عملي ستجعلك تأمرينني بالراحة"

"وهل زيارتي هي ما تتعبك أيها العاطل؟!"

نهض علي مبتسمًا يكبت رغبته بالانفجار ضحكًا من تناقض شقيقته وقبل أعلى رأسها مسترضيًا:"العاطل لا يجد راحته إلا عندك يا حبيبتي"

"نعم إنها الحقيقة..لا تظن أنني سأرضى عنك.."

قاطعها علي هذه المرة قبل أن تقوده لشجار غير محمود العواقب فجلس مقابلًا لها وقال:"ولكنك قررت تناول غداءك معي لأنك راضية عني.. دعينا لا نذكر التفاصيل ولنشرع في تناول الطعام"

"لا..تعكر مزاجي"
ونهضت أمام نظراته المستغربة مُردفة:"سأتناول الغداء مع الأولاد وخالد..فادي لديه امتحان اليوم ومؤكد يحتاج حنان والدته ..أراك فيما بعد"

فلم يحاول علي تغيير رأيها خشية عقوباتها التعسفية التي قد تفرضها عليه في إحدى نوبات غضبها ونهض يودعها قائلًا:"أنرت المكتب يا علياء..شكرًا على الغداء "
لكنه لم يمنع نفسه من الإضافة مازحًا:"لا تنسي إرسال جدول الزيارات مع أحد أولادك"

أهدته علياء ابتسامة صفراء مزدرية قبل أن تغادر المكتب تبرطم بما خمن أنها شتائم ترفض شقيقته إطلاقها عليه صراحة بدعوى الالتزام بالذوق العام..

فانخرط في نوبة ضحك متسلية قبل أن يتذكر المصائب التي تصبها رزان على رأسه صبًا..
" زوجتي أو طليقتي فأنا المسئول عنها..إلى متى يا ربي سأتحمل هذا العذاب؟!!"

أما رزان التي قبعت في سيارتها بانتظار علياء كانت قد قررت الإجابة...
سيتحملها طويلًا وسيعودان زوجين عما قريب!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
عادت أفنان تتصفح تاريخ طويل من الرسائل الواردة التي طالعتها بصمت على مدار سنوات غيابه دون أن تجيب على أي منها.. وبقدر ما أعانتها هذه الرسائل على تحمل فراقه كانت تزيد من نار بغضها لفعلته وتوعده بالعقاب القاسي الطويل..

التوى فمها في ابتسامة ساخرة قبل أن تقول:"هل ظننت أن بوسعك هجره لخمس أخرى كما فعل؟!!"

نعم كانت تلك هي العقوبة المرضية لها ولكنها لم تجرؤ على تنفيذها..
وبينما ينهكها الحنين ويلعب بها الشوق ضغطت بالخطأ على علامة الاتصال فشهقت بفزع تكاد تقطع يدها على زلتها الفاضحة فقد عقدت العزم ألا تكلمه بعد أن تجاهل رجاءها بعدم السفر مرة أخرى..

"العلامة الخضراء ليست موجودة أي أنه غير متصل بالإنترنت الآن"

طمأنت نفسها بينما تتحرك يدها لإغلاقه فسبقها صوت هيثم الرخيم يلقي التحية..

"لم أعرفك بخيلة..تتصلين عبر (الماسنجر) حتى لا ينفذ رصيدك!!"

"اتصلت بالخطأ..لا تعطي لنفسك الحق بانتقادي فورًا"

قالتها بسخط وذكرى الأوصاف السيئة التي أشجى بها مسامعها ترن في أذنيها...
ثم أضافت متهكمة:"أرجو أنك أرضيت نفسك وانتصرت لكبريائك الرجولي العظيم بتلقي نظرات المعجبات"

لم يهتم هيثم بنبرتها الساخرة مغفلًا إجابتها.. أنبها قائلًا:"وهل يصح أن تنشر آنسة محترمة مثلك هذه المنشورات؟!!"

"أنت تعرف غرضي من نشره..كما أنني استثنيت أغلب أصدقائي من قائمة المشاهدين "

"لا شك أنك استثنيت إخوتك أيضًا..أليس كذلك؟"

عضت أفنان شفتها السفلية معترفة بصحة قوله قبل أن تبرر بضعف:"والآن صار مرئيًا لي فقط..غيرت الخصوصية"

"جيد..وأنا كرجل محترم لا أهتم بنظرات المعجبات وأعرف كيف أقدر خطيبتي حق قدرها..رغم شعوري أنها لا تفعل"

عتابه الرقيق مع تأكيد مكانتها في حياته أوقدا نارًا في قلبها فتصاعد دخان هيامها حتى كادت تختنق من فرطه..

"أحبك..رجاء لا تتأخر في العودة"

"لن أتأخر..انتظري مني رسالة طويلة الليلة يا فراشة هيثم"
أنهت أفنان الاتصال متنهدة واسترخت تمامًا مستلقية على ظهرها تستمع بليونة فراشها مع تخمة قلبها بمشاعرها الفياضة التي تلقى صداها لدى حبيبها..
وللأسف لم تُتح لها الفرصة لتسترجع الحوار من أوله حين طُرق باب غرفتها قبل أن تفاجئ بدخول والدها..
"أبي!"

"ماذا يحدث يا أفنان؟ البكاء وملازمة غرفتك! كأنك فتاة عاطلة متفرغة لتزكية حبها والتأكد أن جذوته لم تنطفئ بعد"

وقبل أن تستوعب صدمة حديثه أو تستدرك إحمرار وجهها من ذكره الصريح لأمر حبها جاورها والدها يشدها من أذنها قائلًا:
"دعيه يشتاق لخدعك..كوني أفنان المشاكسة وقت الحاجة فقط وليس بصورة دائمة.."

"أبي إنك تؤلمني"
اعترضت أفنان بضعف بينما تتلقى توبيخ والدها بهذه الطريقة الصارمة التي نادرًا ما يتعامل بها معها..
ولم يعبأ خالد برجائها الخافت بل تابع وهو يزيد من ضغطه على أذنها:"لا أريد انعزالًا في الغرفة مع مناديلك مرة أخرى..هيا تحركي أمامي سنتناول العشاء هيا"

"حاضر..حاضر..أبي ستخلع أذني.. هل هذا ما يرضيك؟!"

أفلتها أخيرًا فدلكت أذنها متأوهة..بينما برر والدها:"رغبت في إعطائك مصروفك للمرة الثانية هذا الشهر ولذا كان لابد من لمسة الأبوة القاسية حتى لا تجرفك السعادة لما لا يحمد عقباه"
زمت أفنان شفتيها بينما تتلقى منه المال مدركة أنها حجة لاسترضائها بعد عقابه الذي يعد قاسيًا في عرف معاملته لها ..الحانية دائمًا والمراعية أبدًا..
ثم علقت بحنق:
"لحظة سأسدل شعري حتى أخفي آثار الأبوة القاسية قبل أن أرافقك"
راقبها خالد مبتسمًا ثم صحبها للخارج مقبلًا رأسها بينما قررت أفنان أن تضيف هذا في سجل أوزار هيثم..

لن ترد على رسالته الليلية .. وعادت تخفف توعدها الظالم (حتى يخف إحمرار أذني) فهي لن تطيق الصمت أمام رسائله مرة أخرى..

"اللهم بارك..نجحت في إخراج الفراشة من شرنقتها"

أجابته أفنان بحنق بينما تستقر في مقعدها على مائدة العشاء:"الدودة هي من تختبأ في الشرنقة يا سيد زيد"

"لم نعتد انعزالك عنا ..لذا كلما كررتها سنعتبرك دودة ..وحين تخرجين لنشر البهجة بيننا تعود لك كينونتك"

دمدمت أفنان بما لم يصل لمسمعه في حين قالت نوال:"لا بأس يا أفنان أنا من أعطيك الحق هذه المرة يمكنك معاقبته بأي طريقة ولن أبخل عليك بالمساعدة إن طلبت"

"وكأنك لا تنتظرين عودته بفارغ الصبر لتنشرح ملامحك وتعود إليك راحة نفسك"

شاكسها سالم بينما سرت موجة من الضحك بين أفراد العائلة ليضيف زيد:"وأنا أعد لكم مفاجأة أخرى ستجعل الفرحة مضاعفة"

"أوووه..كيف نسيت؟ لقد قرر مازن وزيد أن يتخليا عن عزوبتهما أخيرًا"

"بل زيد ومازن يا فراشة أنا من عليك ابتداء الجملة بذكره"

لكزه مازن بغيظ وعلق باستخفاف محاولًا التشويش على حنقه الظاهر للعيان: "وكأنك ضمنت موافقتها يا حضرة العريس"

"توقفا عن الجدال..من هما؟"
سألت علياء بلهفة..ليعلق فادي الذي وصل للتو وقد قرر مشاركة عائلته العشاء هذه الليلة:"أنا أعرف هوية من يرغب مازن في التقدم لها"

"تعرف ولا تخبر والدتك يا ولد!..لن تفلت مني الليلة"
أطلقت علياء توعدها فناظر مازن شقيقه الأصغر باستخفاف كأنه يقول أوقعت نفسك في الفخ..
وتنحنح خالد يخاطب فادي للمرة الأولى منذ شهور في عُرف الوقت لكنها غدت دهرًا في عُرف فادي..
"كيف أبليت في امتحانك اليوم؟"

"كل شئ على ما يرام يا..أبي"
حل الصمت على الجميع ينصتون للحديث بين الأب وابنه..
بينما أحس خالد بالأسى حين استشعر ثقل نطق كلمة أبي على ابنه أما فادي فقد شعرها تخرج من أعماقه بعد أن حرم نفسه من قولها طويلًا واستلذ نطقها على عكس ظن خالد الذي أضاف:"سأعطيك الفرصة لترتاح بعد امتحانك الأخير ثم يكون لنا حديث طويل في غرفة المكتب"

أومأ فادي بوجه شاحب مستشعرًا خطورة حوار كهذا فخشى أن يسلبه تركيزه ويؤثر على مستواه في الامتحانات القادمة..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد دقائق لحقت علياء بفادي الذي سارع للاحتماء بحصن غرفته وقالت:"تعرفت إلى صديقة جديدة واتفقنا على اللقاء في موعد قريب.."

لاحظت انشغاله باختيار ملابس للخروج فصاحت به:"أعرني انتباهك يا ولد..إنه موعد حديثنا اليومي"

لكن فادي أدرك ما تخفيه خلف طلب النصيحة ستستدرجه كالعادة في حوار طويل ينتهي بالاستجواب ومعرفة أدق أسراره..لذا أجابها على عجالة بغية الهرب:
"قررت الدراسة اليوم مع رفاقي ونحتاج لبذل جهدنا الليل بطوله لذا اسمحي لي هذه الليلة"
إذ أن موعده مع نوران كالعادة عند منتصف الليل لكنه راسلها يخبرها عن قدومه المبكر الليلة..
مطت علياء شفتيها وقالت:"بالتوفيق يا فادي"

وتحركت لتغادر الغرفة مضيفة:"لكنك لن تستطيع الهرب مني مطولًا"

بينما تمتم فادي ما إن أغلقت باب الغرفة خلفها:"توعد أمي مع حديث أبي المنتظر يبدو أنني لن أفلح في التركيز أبدًا"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"عماد اقرأ هذا الخبر على مسامعي..اقرأه فربما تخدعني عيناي "
وضع رأسه بين كفيه بينما ينصت لصوت عماد يسرد تفاصيل المقال على مسمعه..
"كيف؟ خالد السفيري ضحية خداع عبد الرحيم..لم أكن أعرف!! إنه شقيق سالم"
ولم يفهم عماد تمامًا سبب حالته الغريبة!

"سيقطع سالم كل تعاملاتنا هذه المرة وربما يقرر فصل الفرع الجديد عن ماركتنا.. ستكون وصمة عار في تاريخ شركتنا"

"تستطيع إخراسه..إنه عملنا..."
قاطعه خليفة صائحًا به:"اخرس أنت..إياك والتطاول! فضلًا عن أنني لن أتلقى الأوامر منك فإن مقام سالم ومساهمته في الشركة لا يجيز لك الإساءة إليه بأي شكل من الأشكال..هيا انهض..اغرب عن وجهي"

فنهض عماد يحقق له مراده بصمت دون أن يناقش أو يستوعب سبب هذه الضجة..فقد اعتاد أن يبادر خليفة لإبعاد أي شخص قد ينغص عليه راحته أو عمله..
بينما عاد خليفة يدير مصيبته الجديدة في رأسه ويقلبها محاولًا العثور على منفذ لحلها..لا يمكنه أن يجازف بخسارة سالم وشراكتهما الثمينة..

ولا شك أن سالم سيظن أنه تلاعب به كالمرة السابقة ..يا إلهي! كيف غفل عن البحث في تاريخ المصنع والتعرف إلى شركاء عبد الرحيم قبل الاستيلاء عليه؟!
وفجأة نسى كل هذا وأمسك بالجريدة يطالع المقال من جديد..
"قبل مراضاة سالم يلزمني حديث طويل مع صاحبة المقال!!"
وطوى الجريدة بينما تسكن عينيه نظرات التصميم على تحقيق مراده..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"لحظة..لحظة..لا يجوز أن أسمح لك بالدخول"
تدللت رزان في نطق جملتها بصوتها المغناج مما أغضب علي الذي دفع الباب فاندفع جسدها للخلف بتلقائية وعبر إلى صالة المنزل صافعًا الباب بقوة..

"وكأنني لم آتي لمناقشة مصيرك ..أظهري بعض الجدية والاحترام"

أطلقت رزان ضحكة مستمتعة ...رقيعة في عُرف علي الذي أمرها بحزم: "ستوقفين هذه السلسلة وتقبعين في بيتك آمنة هل فهمت؟"

"لا أقبل المزاح يا علي في عملي..أنت تدرك جيدًا أن الصحافة هي شغفي ولا يمكنني التخلي عنه تحت أي ظرف"

"الصحافة أم حياتك؟
تكبرك وغرورك أم الحب؟
معتقداتك الغريبة أم زواجنا؟"
فجر علي تساؤلاته صارخًا في وجهها بكل ما كتمه طوال زواجهما..

"متى تتنازلين فتستقيم حياتك؟"

"أبدًا يا علي لن أتنازل أبدًا..التقينا وأنا فظة متبرجة وقحة بنظر مجتمعك.. سافرت فرارًا من نظراتهم الدونية فالتقيتك وأنت لم تقصر بتذكيري بأفكار مجتمعك ومعتقداتهم حتى أشعرتني أنني مقيدة رغم حريتي..حاصرتني بجهلهم وتخلفهم وأبقيتني أسيرة حبك..وأنا كنت غبية فلحقت بك ما إن سافرت..أردتك وأحببتك رغم كل شئ.."

تراجع علي عن هجومه القاسي وجرفه سيل صراحتها التي تواجهه بها للمرة الأولى لزواج انقضى آنفًا وذكريات حملت السم ممزوجًا برحيقها..

"وحده الحب ما جمعنا يا رزان .. بينما تصادمت تناقضاتنا وكل منا يؤمن بما يخصه رافضًا أن يتنازل عنه أو يتراجع وإن خطوة واحدة لينفك توازي طرقنا فتتلاقى"

"في كل مرة ترفق اعترافك بما ينغص فرحتي باستقباله.. فأعد نفسي أنني سأفرح به في المرة القادمة لكنك لا تنفك تخيب ظني مرة بعد أخرى"

"إنه طريق طويل يا رزان معبد بالشوك يفصل بيننا ويجعل كلانا تعيسًا لا يستطيع التمتع برفقة خليله"

لكنها كما عهدها تشبثت بقميصه تلغي المسافة بينهما قائلة:"ولم نستسلم لتلك التعاسة؟ أنا أخطو إليك فأرجوك إن لم تسع لملاقاتي في منتصف الطريق فقف حيث أنت حتى أدركك..لا تحرمنا متعة الوصال ومتنفس الروح"

"هل رأيت علياء؟ شقيقتي الكبرى والتي أثق أنها لن ترضى أبدًا عن علاقتنا..
أعدك إن تجرأت وطرحت عليها أمر زواجنا فوافقت وقتها سأستسلم لكل ما تريدينه برضا تام"

أفلتته رزان فظن أنها اقتنعت باستحالة زواجهما من جديد..لكن عينيها كذبت حدسه بنظرتهما المشتعلة بالعزم واليقين..
ورغم هذا لم يعقب وغادر شقتها دون وداع ..دون أن يُتم ما أتى لأجله!..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"فادي قف حيث أنت..فادي تمهل أيها.."
قطعت نوران جملتها منتبهة لنبرة صوتها العالية التي لا شك وصلت مسامع الجيران ..وامتنعت عن متابعتها كذلك مدركة أنها كادت تسبه وقد أخرجها عن رزانتها المعهودة أمام طلابها..لا تعرف ما أصابه الليلة فما إن خرجت له حتى راح يتراكض أمامها قاطعًا الدرج بصخب ناسيًا أنه يهدد أحد أسراره المهمة بالانكشاف وليس لأسرته وأسرتها فقط بل لقاطني العقار أجمعين..

وسبقها حيث جلستهما المعتادة فتربع أرضًا وعيناه تنطقان بما يكتمه..
"خيرًا..ما الذي أخرجك عن وقارك؟"

تنحنح فادي محرجًا كأنه تنبه لتصرفه فجأة..لكن بهجته لم تنطفئ رغم ذلك وسرعان ما بادرها قائلًا:"مازن وزيد يتزوجان..أكدا لوالدي أنهما عثرا على ..."

قاطعته نوران وقد أحرقتها الرغبة في تكميم فمه إلى الأبد:"وما شأني؟ هل أحضرت كتبك ام أنك نسيتها في غمرة حماستك لنقل الخبر؟"

بينما استقرأ فادي غيرتها خلف غضبها فمازن لم يعلن بعد هوية الفتاة المقصودة برغبته في الزواج منها..ومؤكد لا تعرف نوران أنها هي مقصد شقيقه وغايته ..وهو على ثقة أنها منجذبة لشقيقه..

لذا اتخذ قراره بخبث ودناءة لن يُتم نقل الخبر بصورته الصحيحة وليتركها تتلظى بنيران غيرتها حتى تحرق مازن..
"أحضرت كتبي..لنبدأ الدراسة ونتجنب إهدار الوقت إذا"
أومأت نوران بامتعاض ورغبتها في ضربه تتزايد..لكنها نفضتها خلف ظهرها بعزم وحولت غضبها طاقة تدفعها للإنجاز فلن تنتهي الليلة إلا وقد أنهيا مراجعة المادة بأكملها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
إنه وقت مطالعتها الليلية..حيث تتصفح الجرائد وتتقصى الأخبار فغايتها لم يكن بالرجل المغمور أو عديم الحيلة لينهار بعد فراقها..إذ أنشأ مملكته الخاصة وتوسع حتى دخل صراعًا على مصنع ما ظهرت أخباره مؤخرًا حين أدركت صاحبة المقال كم الغموض والتشعب حوله..
تحييها على إجادة اختيار الخبر فقد أثارت فضول الجميع بقصتها وطرح معلوماتها رويدًا رويدًا بشكل أسبوعي يجذب القراء أكثر ويثير فضولهم..
تمتمت بسخط بعد أن أنهت قراءته:"لا أستغرب أن تكون جزءًا من سلسال خداع مالكه الأصلي يا خليفة وربما ابتززته ليتنازل عنه..وهل يعرفك غيري حق المعرفة؟!!"

"أمي!"

رفعت أنظارها لابنتها المستغربة والتي أضافت:"هل تحدثين نفسك؟"

ألقت نيروز الجريدة بإهمال ظاهري على طاولة قريبة كي لا تلفت انتباه ابنتها لما تقرأه قبل أن تجيبها بارتباك:"إنها سماعات البلوتوث يخفيها حجابي..كنت أتحدث مع خالك"

أومأت نفيسة بلا اهتمام فالمودة منعدمة بينها وبين عائلة والدتها..
وكادت تغادر الغرفة نحو الحمام لتنزع عنها عناء اليوم لكنها التفتت قبلًا قائلة:
"أخيرًا أقنعت السيدات أن يكون دورنا هو القادم لقبض الجمعية..سأتمكن من دفع إيجار البيت وربما وفرت شيئًا لإيفاء ثمن بضاعة البقالة"

"جيد"
ردت والدتها بلا اهتمام مما أثار استغراب نفيسة فقد ظنت أن تقدم دورهما سيسعدها.. لكنها سرعان ما أدركت أن بالها مشغول بشئ آخر وربما لم تسمع ما قالته من الأساس..
فتركتها لعزلتها ودخلت الحمام تغمغم بكره:"يكفي أن تتحدث مع شقيقها المتذمر ليتكدر مزاجها وتغادرها سكينتها للأبد"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد أيام
طلب علي من صهره اللقاء فلطالما أشعره الحديث معه بالراحة وهي بغيته الآن بعد لقاء محتدم بالاعترافات المؤلمة مع طليقته..

لكن هيهات أن ينال مراده إذ قطع حوارهما اتصال من رقم غريب وعوضًا عن ضغط زر التجاهل تلقى علي الاتصال بغير اكتراث مرحبًا بأي شئ يبعده عن التفكير برزان..

وما لبث أن استقام بفزع بعد أن أنهاه هاتفًا بخالد:"إنه فادي..ألقي القبض عليه وهو الآن في قسم الشرطة"



#ڤوت
#كومنت

جيران المدينةWhere stories live. Discover now