الفصل الثالث

84 3 1
                                    

الفصل الثالث
بعد ساعات من التوتر واحتدام الأحداث عاد مازن للمنزل مباشرة بعد أن أوصل هالة و نوران إلى محطة لسيارت الأجرة تحت إصرار الأخيرة التي بدت شديدة التحفظ كأنها انتبهت فجأة لوجودها مع غريبين في سيارتهما.. ونسى تمامًا في خضم كل ما حدث موعد وصول هيثم اليوم..
وما إن دلف من مدخل المنزل حتى كان هيثم يصطدم به ورأى خلفه كل أفراد أسرته تقريبًا..

فدلك  صدره  وقال بمزاح مصدومًا لوجود هيثم :"ربما يجب أن تعاقبني على نسياني الموعد ولكن بهذه الطريقة ستكسر أضلعي وهي لم تذنب"

كان فادي قد وقف خلفه متململًا بتعب لذا قال ضجرًا :"ليس وقت المزاح هيا لندخل"

لكن أفنان وعلياء اندفعتا إليهما وقالتا معًا بقلق :"هل أنتما بخير؟"

بعد دقائق
دلف زيد شقة والده ليجد  شقيقيه فقط من يأكلان بينما يتحلق حولهم باقي أفراد الأسرة بشكل مريب..حتى عمه وزوجته هنا ... وهيثم!
"هل عدت أخيرًا؟"
ناظره هيثم بكبرياء قائلًا:"نعم عدت! أعرف الطريق وحدي ولم أحتج توصيلة من أحد"

"لكنني لم أكن أعرف موعد طائرتك..لم أعرف حتى أنك تخطط للعودة في وقت قريب"

أدار هيثم وجهه بغير اكتراث بينما سارع زيد يغسل يديه ويخلع سترته وعاد ليشارك شقيقيه المائدة فأمام الطعام تتراجع أي اعتبارات أخرى..
ثم سأل وفمه ممتلئ بالطعام:"ماذا يحدث بالظبط ؟لم تجلسون بقلق حولهما؟"

شغلت أفنان التلفاز والذي كان يعيد إذاعة الحادثة وحديث الصحفية مع مازن مرفقة بصور للشاحنة المحترقة ..ففهم زيد ما يحدث وقال:"الحمد لله أنكما بخير..هل تأذى السائق كثيرًا؟"
أجابه مازن:"أظن أن وضعه جيد مقارنة بحجم الانفجار ..بل الأولى أن نقلق على ركاب السيارات الأخرى التي تضررت من الانفجار..حقيقةً لا أستطيع تخمين سبب واحد يجعل رجل أعمال يقود شاحنة في هذا الصباح الباكر بل ويحمل معه كمية من البنزين !!"

كان خالد هو أكثرهم تأثرًا وهو يمعن النظر في عبد الرحيم المحمول على الناقلة وفكر أنه على العكس من ابنه يستطيع تخيل عدة أسباب وليس سببًا واحدًا يجعل عبد الرحيم يحمل هذا القدر من البنزين فليس الأمر غريبًا عليه.. لقد سبق وفعلها حين أتلف منزله..لاحظت علياء ما يعتريه وربتت على ذراعه بصمت فيبدو أنهما لن يتخلصا أبدًا من تأثير هذا الرجل على حياتهما..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أمام المشغل..
أسبغ طاهر في شكر السائق الذي رفض أن يأخذ مقابلًا لإيصالهم وانصرف قائلًا أنه يؤدي عمله فقط  ..فقرر أن يشكر صاحب العمل الذي أشار إليه السائق فيما بعد.. ترجل من السيارة  مع زوجته  ثم مد يده لها بمفتاح الشقة الجديدة قائلًا:"انتظري الفتاتين في المشغل يا عزيزتي.. وخذيهما للشقة وأنا سألحق بكن بعد قليل"

فأخذت نعمة المفتاح قائلة بتردد:"هل سنعود..؟"
فقاطعها طاهر بجدية:"قطعًا لا لن نعود اليوم.. لا شك أن الفتاتين متأثرتان بالحادثة .. ربما أعود أنا لحزم الأغراض فيما بعد..سأشتري طعامًا جاهزًا يكفينا يومين و بعض الملابس حتى نبيت ليلتنا هنا..وإن اكتشفت شيئًا ناقصًا أبلغيني"

تنهدت زوجته بقلب مثقل وتشبثت بيده تطلب دعمه:"طاهر.."

فأحاط طاهر كتفيها بذراعه قائلًأ:"لا تهتمي يا حبيبتي.. فقط تفحصي الشقة  وحضري قائمة طويلة بما ينقصها"

وقرص خدها بمداعبة متابعًا:"تخيلي أنك عروس تتجهز للمرة الثانية واطلبي ما تريدين وتدللي.. انسي الهموم وارميها على كتفي وأنا كفيل بها  يا نعمتي"

لم تملك نعمة إلا أن ترتمي في أحضانه براحة دائمًا ما أشعرها بها مهما تكالبت عليهما من أزمات قائلة:"لا حرمني الله من سعة صدرك وتدليلك لي وجعلني عونًا لك يا حبيبي"

قبل طاهر رأسها بمودة ودفعها بلطف وقال ممازحًا:"هيا ادخلي حتى لا نُتهم بفعل فاضح في الطريق العام"

بعد قليل
                                
"برأيك لماذا كانت أمي ترافق أبي للمشغل؟"
لم تتعب هالة نفسها في التفكير وأجابت شقيقتها ببساطة:"ربما لم تحب أن تجلس بمفردها في المنزل بعد أن رافقتك"

لكن نوران أصرت على تشككها قائلة:"لا .. هناك سبب ولابد أن أعرفه..أمي لم تبدو بمزاج جيد صباحًا وأظنها دفعتك لمرافقتي لسبب أيضًا"

فتأففت هالة وهي تترجل من السيارة مع شقيقتها أمام المشغل وقالت :"أنت تصبحين مزعجة حين ينتابك الشك.. لا أعرف ما حبك في حمل الهموم وتحمل مسئوليات تفوق طاقتك؟! إن رأى والدينا أنه لا ينبغي أن نعرف الآن ما يحدث فلا شك أنهما محقان"

"إذا تستشعرين وجود خطأ وتتغافلين؟! لا أوافقك حتمًا سيستريحان حين يفضيان إليَ وهذا ما أنوي طلبه منهما الآن"
                                                                   
استقبلت نعمة ابنتيها بقلق وتفحصتهما باهتمام وصارت تضرب كل واحدة على ذراعها أو ساقها  فجأة وتراقب بدقة ردة فعلها..
كن قد جلسن على أريكة ضخمة في مكتب طاهر وحين تكررت ضربات نعمة لابنتيها لم تملك الاثنتان إلا أن تضحكا وتندسا في أحضانها بحب..
وقالت نوران:
"صدقيني يا أمي نحن بخير تمامًا وهذه الطرق التي ترينها في المسلسلات لا تنفع لاكتشاف إن كنا مصابين أم لا ..افترضي  أنني مصابة وبضربتك تلك زاد الألم"

فضربتها نعمة على رأسها بخفة وقالت:
"اصمتي يا حمقاء .. فليحفظكما الله ولا أراني فيكما سوءًا أبدًا"

وعلقت هالة بحالمية على هذا الموضوع المثير بالنسبة لها:
"تلك اللقطة مفضلة لدي حين يقوم البطل ببطولته لإنقاذ البطلة وتأتي هي لتمسك بذراعه بجهل دون أن تعلم عن إصابته فيتأوه المسكين بخفوت..
ثم تكشف البطلة عن ذراعه المجروح وتصر عليه أن يذهب للمشفى رغم اعتراضه وإصراره أن الجرح لا يؤلمه"

ربتت والدتها على رأسها بحنان وقالت:
"رزقك الله بزوج أفضل من هذا البطل الذي يعجبك يا حبيبتي"

أجابتها هالة ولا تزال غارقة في فقاعة أحلامها: "آمين.. أريده أن يقوم ببطولة أعجز عن وصفها ويضحي في سبيلي ويفعل المستحيل لإنقاذي"

وكم سعدت نوران  بتفجير تلك الفقاعة  قائلةً بإقرار:
"لا يوجد مثل هؤلاء الرجال وأنت لست بطلة مسلسل ما لتكوني في موقف درامي يحتاج الإنقاذ كما تتخيلين"

كانت الفتاتان قد استلقتا على الأريكة وكل واحدة تضع رأسها في حجر والدتها وتحاول دفع رأس الأخرى لتستأثر بأحضان والدتها وحدها لكن هيهات أن تسمح لها الأخرى فهي تدفع رأسها بالمقابل .. ووالدتهما تكتفي بالتربيت على رأسيهما في حنان وتستمع لجدالهما بصمت..
فعقبت هالة بعزم على حديث شقيقتها المحبط :
"بل سأعثر على بطلي يومًا ما  ... وحينها أيضًا سأكون قد تخلصت من وزني الزائد..
ثم لماذا تقولين أنني لن أحتاج للإنقاذ ؟ ها نحن ذا كنا قريبتين من الخطر وقد رحمنا لله أن كنا بعيدتين عن الانفجار .. آه وهذا .. ماذا كان اسمه ؟"

"مازن"أجابت نوران بشرود:

أردفت  هالة بخبث : "انظري يا أمي تقول اسمه بشرود .. حتى أنت يا نوري تحبين أن ينقذك البطل لكنك تنكرين"

اغتاظت نوران واحمرت وجنتيها  ودفعت رأس شقيقتها قائلة:
"لم ينقذني أحد يا حمقاء .. أنا من أعطيته الإشارة لينتبه ويعدل عن أخذ الملف في هذا الوقت وكنت أنا أيضًا من أخرج المصاب من سيارته..هو فقط قاد بنا بعيدًا عن موقع الانفجار"

ضحكت هالة ونعمة التي قالت بتسلي:
"ولم صار وجهك أحمرًا هكذا ؟!! يبدو أنك وجدت بطلك"

فأجابتها نوران بحنق:"أمي .. لا تتحدثي كهذه الحمقاء.. هل سأتزوج برجل قابلته لأول مرة لأنه أنقذني كما تدعيان ؟!!"

ارتفعت ضحكات هالة وقالت:
"انظري يا أمي .. لقد قررت الزواج به أيضًا "

شاركت نعمة ابنتها الضحك ثم قالت مصطنعة الجدية:
"يكفي يا ابنتي لا تضايقي شقيقتك ..لا تدفعا بعضكما .. كل واحدة تضع رأسها على فخذ "

بعد أن هدأت ضحكات هالة و خف حنق نوران أردفت نعمة: و
"إذًا  أخبراني كل شئ بالتفصيل عما حدث وعن هذا الشاب الذي أوصلكما .. كدت أموت قلقًا حين لم أجدكما في السيارة ..لولا سائق هذا الشاب الذي شرح لنا كل ما حدث وأنكما بخير"

أجابت نوران والدتها:
"أجل هذا ما يجب أن تخبرينا به أولًا يا أمي .. لماذا قررت مرافقة والدي اليوم؟ ولماذا طلبت منا القدوم للمشغل بدلًا عن العودة للمنزل"

تنهدت نعمة بهم وقالت:
"حين يصل والدكما سيخبركما بكل شئ"
ثم أردفت ببهجة مصطنعة:"ألم تلحي على والدك للانتقال إلى المدينة حتى تكوني قريبة من عملك؟ ها قد قرر أن يحقق لك رغبتك وهكذا تستريحان من عناء السفر يوميًا"

استغربت نوران أن تخفي والدتها عنهما شيئًا .. فلم يكن بينهن من أسرار.. حتى أنهما دائمًا تأتيان من الخارج فتجلسان في أحضانها بهذه الطريقة وتتناقشان في كل ما مر بهما وتقف والدتهما كالحكم الذي يعلق على تصرفاتهما..
  هل يعقل أن تكون رغبتها هي سبب هذا الانتقال المفاجئ؟!

فاكتفت بابتسامة هادئة بينما هللت هالة بحماس طفلة تستقبل هدية من والديها وضمت والدتها بسعادة بالغة..
ارتبكت نعمة من نظرات نوران التي تخبرها بوضوح أنها لم تصدق ما قالته فنهضت قائلة:"هيا بنا سنستلم الشقة التي استأجرها والدكما حتى عودته"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أجريت العملية بنجاح لكن الطبيب أكد ضرورة بقاء عبد الرحيم في المشفى لبعض الوقت قبل أن يعود لمنزله..
دخلت وجدان الغرفة أثناء تفكيره في تلك المحنة التي عرقلت مخططاته:
"اتصل بك المحامي ..لا أدري لم لا أستريح لهذا الشخص؟"

أجابها عبد الرحيم بابتسامة ذئبية:"دعك منه أنا سأتحدث إليه ولا داعي لتعاملك معه إن كنت لا تحبينه يا عزيزتي..لكن انتبهي لما أريده منك الآن"

وضعت وجدان رأسها بلطف على صدره وقالت:"اطلب كل ما تشتهي يا حبيبي..لو تعلم كم اشتقت إليك!"

ربت عبد الرحيم على رأسها وقال بلطف مصطنع:"تعلمين أنه بعد وفاة الحاج سعيد لايمكن أن نترك ليلى تعيش بمفردها لذا أريدك أن تنقلي أغراضنا الأساسية لشقتها كي نهون عليها تلك الأيام"

اعترضت وجدان قائلة:"لكنك تحتاج إلى من يساعدك ..هل نسيت أن الطبيب أصر على بقائك في المشفى؟"

أجاب عبد الرحيم وفكره يشرد لنقطة أخرى بعيدًا عن اهتمامه المصطنع بليلى:"أنا سأتولى الأمر هنا لا تقلقي علي..فقط اهتمي بليلى وابقي معها إلى حين عودتي"

مؤخرًا في تلك الليلة .. حين تمكن من الاتصال بعلي الذي أعلمه بزيارة خليفة..
دار في خلده أمر واحد أنه استبق الشر حين أخبر طاهر عن إفلاسه المزعوم .. فتحقق الكابوس وصار حقيقة !!
"هل عليك أن تكون بهذه اليقظة دائمًا يا خليفة؟!!"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعدما استقر المبيت بأسرة طاهر  في الشقة الجديدة وجلست العائلة لتناول غداء متأخر .. قالت نوران بإلحاح:"أبي هلا أخبرتني ما يحدث؟"

تبادل الوالدان نظرات حذرة ثم أجابها والدها مبتسمًا:"ماذا يحدث يا صغيرتي؟ هل من الخطأ أن أدللك ؟!"

و أردف بغضب مصطنع:"هيا أخبراني.. من هذا الشاب الذي أوصلكما للمدينة؟ كيف تركبان مع الغرباء؟"

فاندفعت هالة تجيبه:"أبي!! لا شك أن أمي أخبرتك عن شهامته .. أما الآن ما يهمني هو أن أرافقك غدًا لإحضار دفتر مذكراتي"

"حسنًا يا لولو غدًا نذهب .. كم أنا محظوظ بوجود ثلاثة أميرات في منزلي يتدللن علي !!"

شاركت نوران والدتها وشقيقتها الابتسام لكنها أبدًا لم تقتنع بسبب انتقالهم والمرح المصطنع الذي يظهره والدها.. إنه يواجه مشكلة عسيرة ويرفض الإفصاح عنها!
بعد قليل
داخل الغرفة التي اختارتها نوران لتكون لها..صاحت هالة وهي تتابع حدثًا حماسيًا كما يبدو على شاشة هاتفها:"يال حظي الرائع!! أحب أمي كثيرًا.. دائمًا تقودني لما يفيدني"

تأففت نوران التي تحاول التفكير لكن هالة تشتتها بصياحها..

فسألت:"ماذا حدث يا لولو؟؟
برغم عدم اهتمامها الآن بما يحدث مع شقيقتها لكنها سألت لتتيح لها الإفضاء بما داخلها فربما  تهدأ حينها أو تغادر الغرفة وترحمها من إزعاجها فتتمكن من  استنتاج سبب توتر والديها ...

أجابتها هالة وكلها يفيض بالحماس:"ألم تكن أمي من طلب مني الذهاب معك؟ انظري إلى النتيجة.. نشرت الفيديو الذي تسألك فيه الصحفية على حسابي.. الإعجابات تتزايد حتى أن قائمة المتابعين قد زادت.."
تفحصت نوران حساب شقيقتها على الانستجرام من هاتفها وتفاجأت من عدد الذين تفاعلوا مع الحدث..
أعادتا تشغيل الفيديو وكل منهما تشاهده من منظارها الخاص هذه المرة..
فقطبت هالة وقالت بعبوس:"انظري إلى حماقتك! سيعرض هذا الحديث على التلفاز وما يهمك هو السيدة جنات  والموجه فقط! حقًا مغفلة!"

أجابتها نوران:"في الأوضاع الطبيعية لم أكن لأفتح فمي بكلمة..لكنني كنت مشوشة وقلقة من ضياع موعد حصتي ..دعك مني ..لحسن الحظ سحبت الفتاة مكبر الصوت قبل أن تنطقي بجملتك الغبية.. ماذا يعني أنه أول ظهور لك على التلفاز؟! لقد كدت أفقد عقلي بسببك.. كنت تبكين فزعًا قبلها بلحظات ثم استفقت فجأة لتبدأي الترويج لحسابك"

أخرجت هالة لسانها تغيظ شقيقتها وعلقت:"سيظهر حسابي لعدد أكبر وتزداد المتابعة أضعافًا..كما تخبرني حاستي التي لا تكذب أنني في القريب العاجل سأتلقى عرضًا للعمل في المجال الذي أحبه"

وهذه المرة لم تستطع نوران الاعتراض فهي تدرك تمامًا ماذا يعني حدس هالة الذي يستشعر الأمور قبل وقوعها وقالت:"أتمنى لك التوفيق في عملك القريب إذا"

فجثمت هالة على شقيقتها المستلقية قائلة بطفولية:"سأنام معك الليلة ولن تتخلصي مني..كما أنوي ألا أدعك لأفكارك الأنانية التي تريد الاستئثار بك"

ضحكت نوران من تعبيرات شقيقتها ودفعتها بخفة:"سأختنق يا ابنتي..وعلى كل لا مانع عندي من استضافتك الليلة في غرفتي لكن بشرط.."

استلقت هالة بجوارها وتابعت بدلًا عنها:"لا بأس سأخرج من عالمي الافتراضي اليوم وأشاركك العالم الحقيقي .. آه كم تمنيت أن أكتب في مذكرتي الآن"

"أووف..دعك منها.."
ولم تملك نفسها فسألت بفضول:" أخبريني بم شعرت حين رأيت مازن وشقيقه؟"

"شعرت أن لقاءنا بهما لن يكون الأخير"
أجابتها هالة قبل أن تضيق عينيها تناظرها باتهام ..

فلكزتها نوران وأمرتها أن تغيرا الموضوع..
وهكذا أمضت الفتاتان ليلتهما في حديث لا ينتهي..

بينما في صالة المنزل
شغل طاهر التلفاز واضجع على الأريكة مسندًا رأسه في حجر زوجته قائلًا:" كيف وجدت الشقة...؟"

ولم يكمل سؤاله واعتدل في جلسته متجمدًا يراقب المشهد أمامه (عبد الرحيم محمول على ناقلة ويتم إدخاله سيارة الإسعاف)
علقت نعمة بصدمة:" يا إلهي ! هل كانت الشاحنة المنفجرة تخصه ؟"

وأجابها طاهر بانفعال:"اسمعي ما تقول..كان يحمل قدرًا من البنزين ..لقد هددني بالأمس وجاء لهذه المدينة تحديدًا ..لا أتوقع إلا أنه كان ينوي إحراق المشغل ..ألا تذكرين ما فعله بمنزل خالد ليضطره لمغادرة البلدة مع عائلته؟"

نظرت نعمة له بأسى وربتت على كتفه قائلة:"لا أدري متى نتخلص منه..لقد نال جزاءه هذه المرة لكنني أشك أنه سيتوقف عن محاولة إيذائنا"

نهض طاهر وأغلق التفاز بانفعال ولحقته نعمة لغرفتهما مغلقة الباب فالتفت لها قائلًا:"غدًا.. لن أنتظر أكثر يجب أن أبلغ الشرطة عن تهديده حتمًا..يجب أن أحمي المشغل ..لست مستعدًا للبدء من الصفر من جديد..لسنا عبيدًا لديه ليحركنا طوع إرادته"

فجلست نعمة على الفراش وقالت بحسرة:"كنت أتمنى أن أشجعك على ما تنوي وأن أطلب منك الذهاب دون تردد..لكن مؤكد الشرطة ستستجوبه وسيريهم الوصولات  التي تثبت أنك لم تدفع دينك له..قد يتهمك أيضًا أنك من دبرت له هذه الحادثة حتى تهرب من تسديد الدين"

التمعت عيناها بالدموع وهي تكمل:"ألم تسمع ما قيل عن كون الحادث مدبر؟.. إنه يحكم لف قيده حولنا في كل مرة فلا نستطيع فعل غير ما يبتغيه "
جلس طاهر مجاورًا لها وقد وضع رأسه بين كفيه بقلة حيلة ولم يعد بوسعه غير انتظار ما تحمله له الأيام !
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
منزل عائلة السفيري..
كان الشباب قد حظوا بقدر وافر من النوم والراحة حين اجتمعت العائلة في شقة سالم –الأخ الأكبر لخالد- لكن فادي تغيب عن الاجتماع واستكمل نومه كعادة مستحدثة لديه تدفعه لتجنب اجتماعات العائلة والانفراد بنفسه عوضًا عن ذلك..
لم يكن اجتماع العائلة بشئ غريب لكن الغريب هو ما قاله خالد والذي يسمعه الشباب لأول مرة..حيث قال:
"لقد كنت نويت أن آخذ تلك القصة معي للقبر لكن بما أنك التقيت بالرجل يا مازن وربما تعرف بشكل أو بآخر ما حدث فيجب أن تعرف من والدك"

نظر لعلياء والتي أومات له بتشجيع ثم عاد للمتابعة:
"كان عبد الرحيم من أقرب أصدقائي وقد أنشأنا معًا ومع صديق قديم آخر مصنعًا للغزل والنسيج في بلدتنا القديمة.. كان المصنع يدر إنتاجًا هائلًا بسبب خبرتنا نحن الثلاثة وقد سعدنا بهذا النجاح
هل تذكر انتقالنا لهذه المدينة يا زيد عندما كنت في المرحلة الإعدادية ؟ سكنا شقة صغيرة في الحي القديم وقد أثار تحول مسار حياتنا فجأة ضيقك.. لكنني لم أخبرك وقتها.. ساندتني والدتك ووقف عمك بجواري..و أجبرني أن أسكن  معه هنا رغم اعتراضي في البداية"

قال زيد بتذكر:
"نعم استغربت فجأة تركي مدرستي في البلدة وأصدقائي.. لكن الأمر مر عليه الكثير من السنوات وكنت قد نسيته تمامًا..أذكر أن  مازن كان قد أنهى المرحلة الابتدائية والتحق بالصف الأول الإعدادي في المدرسة الجديدة لذا لم يتأثر بانتقالنا كثيرًا مثلي "

تابع خالد:
"لقد طمع عبد الرحيم في كل إنتاج المصنع وقرر أن يستأثر به لنفسه .. لذا حين ذهبت للمصنع صباح أحد الأيام وجدت رجالًا يمنعونني من الدخول و قد استولى عبد الرحيم على المصنع وادعى أنه ملكيته وحده
ولم يستطع رجال الشرطة أن ينفوا إدعاءه بعد أن قدم أوراقًا تدل على ملكيته للمصنع بمفرده!!
لم أفهم تمامًا كيف حدث وامتلك مثل هذه الأوراق؟ لكنه تحدث عن توقيع بتنازلنا أنا وصديقنا الثالث وهكذا صار المصنع ملكًا له بجرة قلم مزيفة"

ارتسم الأسى على وجه هيثم كأنه قد خبر هذا الجشع سابقًا..
بينما قال مازن بضيق وذهنه يستعيد قصة مشابهة:
"كيف ذلك؟ هل تركت مصنعك وبلدتك يا أبي ؟ هل أجبرنا هذا الرجل حقًا على تغيير حياتنا؟"

أجابه والده بهدوء:
"لقد اتضحت حقيقته يا بني .. ولم يكن بيدي شئ لأفعله وقتها وقد بدأ يضيق علينا ويرسل رجالًا يتهجمون على منزلنا و خفت أن يصيبكم مكروه .. كما كانت أفنان في عمر العاشرة  ولم أرد أن تنشأ في هذه البيئة المتوترة.. أو أن يقرر زيد في مراهقته أن يدافع عن العائلة فيصبح من أصحاب السوابق"

ضحك الجميع رغم أن القصة لا تدعو للضحك لكنهم تذكروا مراهقة زيد وكم كان عصبيًا يحب العراك!
وتابع سالم عوضًا عن أخيه:
"كان خالد حكيمًا حين قرر الانتقال بكم ... صحيح لم يخبرني في البداية وقرر أن يتدبر الأمر بمفرده.. لكنني علمت بالأمر حين اتصل بي أحد سكان البلدة يسألني عن حال أخي وأين ذهب بعدما أحرق عبدالرحيم منزله؟
وكأخ أكبر استخدمت سلطتي و أجبرته على السكن معي في منزلنا الجديد الذي كنت قد اشتريته عندما رزقنا بهيثم قبل عام من ولادة أفنان وعرضت على خالد وقتها أن يشاركني في ثمنه ويترك البلدة لكنه تمسك بشراكة أصدقائه وإنشاء المصنع"

ضحك مازن وقال:
"طبعًا أبي لا يحب أن يعاتبه أحد على تصرفاته الخاطئة لذا رفض أن يخبرك يا عمي حين تعرض للخداع من صديقه..وربما لولم يحترق منزلنا في البلدة لكنا عدنا إليه دون أن تدري "

صاح به خالد بسخط:
"اصمت يا ولد"
لكن علياء أخرجت حنقها من الموقف القديم وقالت:
"ولم يصمت؟! هل يقول شيئًا خاطئًا ؟ ألست أنت من أصررت أن نؤسس حياتنا في تلك البلدة ورفضت الانتقال مع أخيك للمدينة .. حتى فادي أصبح مثلك يصر على قرراته الخاطئة ثم يغضب حين يعاتبه أحد بعد ذلك"

ضحك الجميع وقال خالد بصدمة من صراخ علياء به:
"وقتها قالت والدتكم فداك ألف مصنع يا خالد أنا معك في السراء والضراء .. انظروا كم كانت تكبت داخلها!!"

تحولت تلك الذكرى السيئة إلى جلسة للتندر على عيوب ومميزات كل شخص في العائلة فبعد أن تحسنت أحوال خالد المادية بمساعدة أخيه لم يعد هناك داع للحقد على عبد الرحيم أو غيره بل تمنى خالد أن يشفى عبد الرحيم وأن يعيش هو وصديقه الآخر الذي لا يعلم عنه شيئًا الآن في سعادة كسعادته التي يحظى بها مع عائلته وإن كان عبد الرحيم قد خدعه يومًا ما فليحاسبه الله فهو لن يسعى أبدًا للانتقام منه أو الشماتة في مصابه حتى منزله الذي أتلفه استعوض الله فيه متيقنًا أنه سيعيد له حقه يومًا..

تساءل مازن فجأة:
"لكنك لم تخبرنا يا أبي عما حل بصديقك الآخر؟"

ابتسم خالد بحنين وقال:
"لقد أخبرني طاهر يومها أنه يجب أن تفترق طرقنا بعدما فعله عبد الرحيم أقرب أصدقائنا فما الذي يجعله يثق أنني لن أفعل المثل ؟ و غادر منزله بابنتيه وزوجته دون أن يخبرني عن وجهته و طلب مني ألا أتصل به من جديد"

علقت أفنان بحنق:
"كيف ينهي صداقتكما على افتراض أنك ستكون خائنًا كهذا الرجل؟"

فأجابها  مهدئًا من غضبها:
"لا تغضبي هكذا يا صغيرتي.. كان الرجل خائفًا على عائلته .. فقد كانت خسارتنا وقتها هائلة.. هل سيكفينا العمر أن نبدأ من جديد كل مرة؟ فلو أن أحدنا تُوفي وقتها بعد تلك الكارثة فماذا كان سيحل بعائلته؟.. أنا كان لدي أخ أكبر مستعد لدعمي أما هو فلم يتسنى لي يومًا أن أعرف عن عائلته .. ربما كان وحيدًا"

سأل هيثم :
"ألم تحاول يومًا أن تسأل عنه يا عمي؟ أو تزور البلدة القديمة؟"

أجابه خالد بعجز:"حاولت لكنني لم أعثر له على أثر خاصة أن الفرصة لم تسنح لي لزيارة البلدة مرة أخرى "

أردفت علياء بغيظ:
"لا تقل أنك فكرت في زيارتها!! ولأي شئ قد تذهب؟ أخوك هنا وأقاربك في مدن أخرى .. لمن ستذهب بعد أن فقدنا منزلنا هناك؟"

علق زيد بمرح:
"يبدو أن أمي لم تكن تحب الحياة هناك"

وأردف والده:
"بل قل يبدو أنها كانت تخدع والدك.. كانت تظهر أنها سعيدة ومرتاحة ولا تشتكي مطلقًا"

مالت علياء على كتفه وقالت  لاسترضائه:
"فقط لأنني كنت أعيش معك يا عزيزي كانت حياتي جميلة  وكنت راضية"

فقبل خالد رأسها وقال :" وهذا أكثر ما أحبه بك يا حبيبتي"
وضع زيد يده على عيني أفنان وقال بصيبانية:
"هذا غير مناسب لعمرك يا صغيرة"

فدفعت أفنان يده بضيق بينما نظر خالد لابنه بعدم اكتراث واستئذن مع زوجته حتى يخلدا للنوم .. و قبل رأس أفنان قبل أن يخرج من الغرفة في عادة يومية لا تتغير..
وكذلك قال سالم وهو ينهض مع نوال التي احتضنت هيثم وأشبعته تقبيلًا قبل مرافقتها لزوجها:
"نحن أيضًا سنخلد للنوم .. أفنان لا تجلسي مع هؤلاء طويلًا يا ابنتي وإلا قد يصيبك أحدهم بسوء وهو يمزح معك"

ضحك الثلاثة وحاوط مازن رقبة شقيقته بذراعه العضلي مازحًا وقال:
"لا تقلق يا عمي لن تتأذى نهائيًا"

علقت أفنان بمرح وهي تتألم من ضغط ذراعه:
"سأموت فقط يا عمي لا تقلق"

أبعد مازن ذراعه بعدما غادر سالم وزوجته بينما قال هيثم بضيق:
"لا تفعل هذا مرة أخرى يا مازن.. انظر إلى ذراعك يا أخي .. قد تختنق الفتاة في يدك"

أجابه مازن بلامبالاة:
"وما شأنك أنت؟"

تأفف هيثم بضيق وغادرت أفنان الغرفة فجأة مما أثار ريبة زيد.. وقد قرر استجوابها فيما بعد..
عاد بانتباهه لهيثم فسأله:"وأنت متى اتخذت قرار العودة المفاجئ؟"

"بعد ثلاث..أقصد خمس سنوات دراسة تخوفت ألا تقبلوني بينكم من جديد"
استهجن زيد مزاحه في أمر كهذا واستشعر مازن ارتباكًا غريبًا في ابن عمه حتى جملته تبدو كغطاء لسر ما...

ونطق الاثنان بنفس السُبة في وقت واحد..
فأغرب هيثم في الضحك قائلًأ:"حقًا اشتقت إليكما"

بقي الثلاثة يتسامرون حتى مطلع الفجر .. وقضت أفنان ليلتها ساهرة في غرفتها وقد حرمها وجود هيثم الجلوس مع شقيقيها حتى أنها كانت ترتدي الحجاب طوال السهرة
"أوفف.. هيثم إن كنت قد اعتدت على غيابك فلم تعود؟"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤                              

قراءة ممتعة❤️

#فوت
#كومنت

جيران المدينةWhere stories live. Discover now