الفصل الثاني عشر
تنهد خالد بأسى وقد ارتسمت المرارة جلية على وجهه قائلًا:"علم أنني دخلت قسم الشرطة ورغم هذا لم يهتم حتى بمشاركتنا الغداء أو الاطمئنان علي"
لم تجبه علياء وتابعت تمشيط شعرها بهدوء ليستطرد كأنه ينعي حظه:"إن أخبرني أحدهم أن والدي كان على بعد شعرة من دخول السجن ألم أكن لأسارع لرؤيته؟! وربما سأحتجزه في المنزل حتى لا تصل إليه يد الشرطة"
وحين تمسكت زوجته بصمتها ناداها بخفوت:"علياء!"
"إنك تعلم رأي الصريح في هذا الأمر يا خالد ولا يزال إحدى نقاط الخلاف بيننا"
لكن خالد المتشبث برأيه أجابها:"فيما أخطأت أخبريني! لقد كنا لا نفترق منذ عام واحد..أين وقع الخطأ ليعتزلني بهذا الشكل المؤذي؟"
كان خالد قد اشتاق لتربية الذكور حين وُلدت أفنان ومرت الأعوام عليه وحنينه يزداد حتى أنجبا فادي..
فطار فرحًا وصار ملازمًا لابنه الرضيع ..اعتنى به وقربه إليه ..صحبه للجامع.. للمقهي حيث يلتقي رفاقه..لعمله ..شاركه كل تفاصيل حياته واهتم بتعليمه السباحة وكرة السة وغيرها من الأنشطة التي كانت تبهج فادي بشكل خاص لمجرد وجود والده المشجع..
ثم كانت المجادلة التي شبت بينهما وافترقا من بعدها متشبثين بموقفهما..
استرجعت ذاكرة علياء هذا اليوم الذي رفع فادي صوته على والده للمرة الأولى معلنًا أنه خلع ثوب الطفولة ..أن على والده تفهمه وتغيير نظرته إليه..
وقالت:"وقع الخطأ حين نشأ فادي مختلفًا عن شقيقيه ..اعتاد دعمك ووجودك.. اعتاد أن يفتخر به والده..وإذ به يكتشف فجأة أنك حين ترى ولدك قد صار رجلًا تتركه يتخبط في مجاهل الحياة وحيدًا فابتئس بشدة وقد وصلته نظرتك إليه..ابنك يرى نفسه صار رجلًا منذ زمن.. والأولى أن يعمل في هذا العمر عوضًا عن متابعة دراسته التي لا تثير اهتمامه.."
"وما الخطأ في أن أجعل أبنائي رجالًا يعتمدون على ذواتهم؟ على فادي أن يدرك عمره الحقيقي ولا يستبق الأمور..وقبل ذلك يظل مُلزمًا مني ويجب علي إرشاده"
"وأنا لم أعترض على هذا يا خالد ولكن انظر إلى ولديك ..انظر إلى ما فعلت بهما! كانا يواصلان العمل الليل بالنهار ليتمكنا من الاعتماد على نفسيهما واستيفاء نفقاتهما الشخصية.. ألم تشعر يومًا بالشفقة عليهما؟ ألم تراودك رغبة وإن ضئيلة في الاطمئنان عليهما؟.. ماذا يواجهان في عملهما؟ كيف يدبران أمورهما؟"
بُهت خالد من صراخ علياء به ودموعها التي بدأت تروي خديها فهي كعادتها تكتم عنه شعورها حتى يحين وقت الانفجار:"انخلع قلبي قلقًا عليهما طوال تلك الأعوام بينما أنت لا تبالي.. انظر إلى بصمة الزمن التي طبعها عليهما قبل أن يتمكنا حتى من إنشاء عائلتهما الخاصة"
"إنها حياة الرجال كما يجب أن تكون.. لم تذرف أمي الدموع يومًا حين خرجت للعمل في عمر فادي إلى جانب دراستي بل كانت أشد قسوة عليَ من أبي في هذا الشأن"
"وأنا لم أكن أريدهما أن يعيشا هذا..لقد صارا وحيدين .. قد لا يعتزلانك كفادي ولكنهما لا يلجأن إليك لطلب المشورة..بل أشعر أنهما من يتابعان عملك ويخشيان عليك أكثر من خشيتك عليهما"
أدرك خالد أن هذا الجدال إن استمر لثانية أكثر فسيتحول لبركان متفجر خاصة مع غضب علياء الذي تفجر هذه الساعة..
فألان نبرته وسألها بمنطق:"أتفهم وجهة نظرك ..دعينا نؤجل النقاش بشأنهما فيما بعد وأجيبيني بصدق ألم يخطئ فادي في رد فعله اليوم ؟ إذا تغاضينا عن تصرفاته طوال العام المنصرم"
"نعم أخطأ..لكن هذا يعيدنا لذات النقاش يا خالد .. فادي مراهق غير مستقر يستشعر أنه صار رجلًا فجأة ويحق له ما يحق لشقيقيه من الاحترام والتقدير.. لكنه مهما تعثر وانكفأ على وجهه يريدك دائمًا داعمًا له .. ربما لن يعترف بها صريحة ولكنه لا يستغني عن وجودك يا خالد..أقسم لك إنه واجبك أن تقدم أنت على الخطوة الأولى.. ألست والده؟!!!"
وعلا صوتها في سؤالها الأخير مما جعل خالد يستلقي على الفراش مديرًا ظهره إليها وتنفس بعمق ما يعتريه من إحباط وغضب في هذه اللحظة:"ليس بعد..إن ذهبت إليه فهذا يعني أنني أكافئه على سوء أدبه وتصرفاته الغير متزنة"
"بحق الله يا خالد!! هل يتصرف الآباء بهذه الطريقة؟ إنه ابنك مهما أخطأ ألا تضمه لكنفك وتوجهه ليدرك أخطاءه؟"
أطبقت شفتيها تنفث النيران من أنفها ثم غادرت الغرفة حين لزم الصمت فأيقنت أنه مُصر على رأيه وقد أغلق باب النقاش بينهما هذه الليلة..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
استسلم هيثم لأحضان والدته التي تشبثت به قائلة:"كيف تجرؤ على فعل هذا بنفسك يا بني؟ وإن لم تشفق على نفسك ألا تشفق على والدتك؟"
اندس أكثر في صدرها يتشمم رائحتها المحببة إلى نفسه التي اشتاق إليها بشدة ولا يظن أن بوسعه يومًا تعويض خسارته...
واعتذر منها قائلًا:"صدقيني لم أسعى لأي من هذا يا أمي ..سامحيني أرجوك "
أما سالم الذي خرج من الحمام باحثًا عن زوجته الغاضبة تفاجئ بوجودها في غرفة ابنه تربت على رأسه وتلتمس له الأعذار فيما فعل رغم إخفائه الأمر عنها كما تنبأ بدموعها المُعلقة برموش عينيها فاقتحم الغرفة..
وقال باستنكار:"وما الذي يميز وحيدك عني ؟ هل تكافئينه على كتم الأمر عنك وفي الآن ذاته تفرضين العقاب علي؟"
تجهمت نوال التي ابتغت الهروب من مواجهته في هذه اللحظة حتى تقرر كيف تتقبل فعلته...
وقبل أن تنطق بحرف كان سالم يتقدم منهما ويسحب هيثم بقوة من أحضانها رغم مقاومتها ولكمه بقوة في معدته فتأوه هيثم رغمًا عنه ووالده يسدد ضربته بدقة إلى نقطة ضعفه بنذالة...
وصرخت نوال بزوجها:"ماذا تفعل؟ هل ستدفعك الغيرة لقتل ابني؟"
فربت سالم على معدة ابنه محل لكمته بعطف مصطنع:"أعتذر منك يا بني..هل تأذيت؟"
وجاءت التربية الأخيرة على هيئة صفعة متوسطة القوة فسحبت نوال ابنها الضاحك جهتها قائلة:"هيا اذهب لغرفتك حتى أتفرغ لمشكلتك..هيا"
"ولكنني أريد رفقتك الآن يا نجمتي الحانقة"
قالها سالم وهو يحاول سحبها برفق لتغادر معه غرفة ابنهما لكنها صفعت يده متوعدة:"بعد الآن لن تجد من يرافقك غير نجوم السماء أيها الكتوم..لا أريد الجدال معك الآن..هيا اذهب لغرفتك"
"ألن تنامي الليلة؟"
"لا شأن لك..اتركني لحالي"
تنهد سالم بيأس وتحرك مغادرًا الغرفة ولا يزال يتمتم بحنق:"ولكنه كتم الأمر عنها مثلي!!"
أما نوال فقد شعرت رغمًا عنها بالحنق على ابنها بعد حديث زوجها وصرخت به:"أنت أيضًا الحق بوالدك ..ناقشا جميع أسراركما فقد تخلصتما مني الليلة"
"ولكن يا أمي أنا لم..."
"ماذا؟ هل ترفض أن أنام في غرفتك الليلة؟"
نفى هيثم بسرعة:"قطعًا لا.. سأتركك على راحتك الليلة.. لكن أرجوك لا تعاقبيني طويلًا !"
"اخرج!"
رفع هيثم يديه مستسلمًا وغادر الغرفة بينما ابتسمت نوال رغمًا عنها وقررت أن تعاقبهما ليومين ثم تعفو عنهما..
استلقى سالم على فراشه يستعد للنوم على أمل أن يجد طريقة لمصالحة زوجته في الغد ليصل سمعه طرقات متتابعة على باب الغرفة فنهض متحمسًا لاستقبال زوجته إلا أن أمله خاب حين فُتح الباب وأطل رأس هيثم يستئذن بالدخول..
وسرعان ما استحال عبوسه إلى بسمة متوعدة :"أهلًا بك يا وحييييدي!!"
تسمر هيثم في مكانه عند باب الغرفة متوجسًا من القادم:"أشعر أنني في قسم الشرطة وأستعد لتلقي التشريفة!"
استقام والده قائلًا:"أصبت ..هذا ما ستلقاه مني أيها الوغد!"
"لحظة واحدة قبل أن أستسلم لمصيري..أمي غضبت علي أيضًا وطردتني من غرفتي..هل يغير هذا شيئًا؟"
فعاد سالم للاستلقاء بإحباط:"لنفكر في طريقة لمراضاتها إذا"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
في الصباح التالي..
استعد فادي للذهاب للمدرسة وقد بدأت مدرسته الجديدة تنال إعجابه..التخطيط للتخلص من قبضة الأستاذة سميرة والهروب من المدرسة ليحظى بأفضل أوقاته في إنجاز العمل الذي يحب..مراقبة منة ومحاولة التوصل لسبب غرابتها..
"كل شئ على ما يرام عدا رسوبي المتوقع !!"
ضحك بخفة وهو ينحني ليرتدي جوربه في الوقت الذي دخلت أفنان غرفته فجأة ودون استئذان:"فادي هل تسدي إليَ خدمة؟"
استقام بهدوء وقبل أن يجيبها رفعت فلاش ميموري في يدها وتابعت: "ستساعدني رغمًا عنك"
"إن كان الأمر يتعلق بحبيبك فلا شأن لي"
قوست شفتيها بحزن مصطنع قبل أن تستعطفه:"ألا تملك ولو القليل من الشهامة لتساعد شقيقتك؟"
أدار فادي رأسه والامتعاض يرتسم على ملامحه فلكزته أفنان بخفة:"هيا! ستنقل الملف من الفلاش ميموري إلى حاسوب هيثم بسرعة ودون أن يتمكن من كشف أمرك"
"وهل استيقظتي لتجدي الملف قد طار إليك ؟...كم مرة سأقع في المشاكل بسببك؟"
فأمرته بحزم بعد أن نجح في إثارة غضبها:"ستنهي الأمر .. وهذا قولي الأخير.. أما عن المشكلات التي تقع بها فعليك أن تراجع نفسك في مُسببها الحقيقي"
انقطع حوارهما مع طرق الباب ودخول علياء التي تفاجأت بوجود أفنان في غرفة شقيقها في هذا الوقت الباكر..
"صباح الخير..ألن تذهبي للمدرسة اليوم؟"
أمسكت أفنان بكف شقيقها لتضع فيه الفلاش ميموري بالإجبار وأجابت والدتها:"سأذهب للمطعم أولًا "
"زيد لم يستيقظ بعد"
ضحكت أفنان وقالت بخبث:"لا تقلقي دقائق وتجدينه في طريقه للمطعم.. هيا أراكما مساءً"
وغادرت الغرفة لتعلق علياء مبتسمة:"انظر إلى الفتاة وكيف تجد طريقها لاستغلال الجميع!"
ليبتسم فادي بدوره معترفًا أنه لا يستطيع التخلص من سلطة شقيقته مهما حاول وضع الفلاش ميموري في جيب قميصه قبل أن ينحني ليكمل ارتداء جواربه..
مررت علياء أصابعها بحنو في شعره وعاتبته برفق بعد أن أتم مهمته و رفع رأسه إليها:"لم اعتزلت والدك بالأمس؟ هل رغبتك في الاستقلال تفوق شوقك إليه؟"
أغمض فادي عينيه كأنه يكبت شعوره وأجابها بهدوء ظاهري:"لنتحدث فيما بعد فقد تأخرت "
جاهدت لتكتم اعتراضها وتحترم رغبته ..قبل أن ترسم ابتسامة على شفتيها بقوة وعزم رغم رغبتها في البكاء لوضع صغيرها المضطرب وقالت :"لا بأس..أثق بأنك ستجد الطريق الصحيح في النهاية.. تفضل مصروفك اليومي"
ناظر فادي يدها الممتدة إليه واحتار كيف يرفض عطيتها دون أن يجرحها ... إذ أنها تمسكت بالود بينهما ولم تقاطعه تمامًا كما فعل والده ورغم تظاهره بالقوة وتمسكه بموقف الرجال إلا أنه يقدر شعورها ولا يريد أن يُحرم منه..
انحنى يقبل يدها بتهذيب:"آسف يا أمي لا أستطيع قبوله"
هذه المرة سالت دموع علياء وغمغمت بلا بأس قبل أن تخرج من الغرفة مسرعة تاركة فادي يناظر الفراغ بعجز...
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد دقائق قصد فادي شقة عمه ليُتم مهمته قبل أن يغادر المنزل مُتهربًا من والديه كعادته..
وجد باب الشقة مواربًا فدفعه برفق وتحرك بهدوء حتى وصل لغرفة هيثم فطرق الباب..
ثم شعر بالغباء !! إنه متسلل ويطلب الإذن رغم ذلك!!
لكن شعوره استحال للإحراج حين فتحت زوجة عمه الباب ورغم تعجبها رحبت به:"صباح النور يا صغيري...أووووف...آسفة أنت لا تحب هذه الكلمة.. حسنًا..سأنادي هيثم "
"لاااا"
رفض فادي فورًا ثم استدرك الأمر ليضيف:"أقصد لا بأس سأنتظره"
أومأت نوال وغادرته مبتسمة رغم استغرابها..
فدلف للغرفة وأغلق الباب متمتمًا بحنق:"هذه عاقبة الخضوع لجنون أفنان!"
وسارع بإدخال كلمة المرور كما أخبرته أفنان دون أن يمنع نفسه من السخرية منهما معًا:
!! يظنان أنهما في أحد الأفلام .. "my butterfly"
بنقرات سريعة أنهى عمله وسحب الفلاش ميموري قبل أن يسرع بإغلاق الحاسب ليشعر بمن يقبض على كتفيه بقوة فأدرك أنه وقع في الفخ الذي يخشاه...
"وهل تعرف ماذا كان مصير الخائن في هذا الفيلم ؟!!"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
سبقت أفنان شقيقها للمطعم.. إذ تجد المتعة في سلبه المفتاح فيجبره خوفه من مغبة هذا على الاستيقاظ بسرعة واللحاق بها وإلا فإنه سيتابع نومه إلى مالانهاية..
قطبت باستغراب حين وصلها اتصال من فادي:" ألا يفترض أنه في المدرسة الآن؟"
وما إن أجابته حتى قال بصوت لاهث:"أفنان لقد تم كشفي.. حبيبك هذا لص قديم!! دخل الغرفة بينما أنهي عملية النقل ولم أشعر بوجوده إلا بعد أن أمسك بي
مُتلبسًا "
فهتفت أفنان بفزع:"ماذا تعني؟ هل أخبرته بأنني من سرقت الملف دون علمه؟"
نفى فادي وأجابها مدافعًا عن نفسه:"رآني أنقل الملف من تلك الذاكرة اللعينة فعرف أنك من خطط لكل هذا.. صدقيني حاولت النفي لكنه كشف الأمر فركضت إلى المدرسة حتى لا أخضع لاستجواب كامل.. تعبت منكما..تزوجا وارحماني"
"لحظة.. فادي أرجوك! لاشك أن أمي أخبرته بمكاني .. اتصل به.. حاول تعطيله"
"ولكنه الطابور المدرسي كما تعلمين وأنا حريص على حضوره "
"بحق الله يا فادي.. لولا هيثم لكنت الآن في المنزل تتجادل مع أمي بشأن الحضور من عدمه"
أثارت جملتها الألم داخل نفسه فهي لا تعرف أنه يهرب من والدته قبل هيثم ! لكنه سرعان ما نفض هذا الشعور وأجابها بمكر يرد إليها أفعالها:
"ولهذا أخبرك أنني أريد الثمن .. ما رأيك إن سألت أمي ستدافعين عني وتخبرينها أنني ذهبت للمدرسة اليوم؟ ولن تكوني كاذبة إن لم تقولي أنني حضرت.. قولي ذهب فقط والذهاب لا يشمل الحضور"
"فادي!..كفى هذرًا"
"حسنًا يا شقيقتي..أنا طالب ملتزم وغير مسموح باستخدام الهواتف المحمولة في المدرسة"
وأنهى المكالمة فصرخت أفنان بحنق:"الكاذب الخبيث يريد استخدامي لخداع أمي"
طارت بهجتها الصباحية وأخذت تفكر كيف تهرب ؟ مؤكد أن زيد لازال يتناول إفطاره ولاتريد لفت انتباهه خاصة إن كان هيثم يجاوره..
ثم لاح لها طيف هالة تسير دون هدف ناظرة حولها كأنها تبحث عن شئ ما.. فسارعت إليها :"لولو..صباح الخير"
أجفلت هالة ونظرت لأفنان التي أمسكت معصمها على حين غرة وحدثت نفسها: "لولو!! كما تفعل نوران حين تريد استغلالي"
تابعتا طريقهما للمطعم دون أن تظهر هالة أنها كانت تائهة فتابعت أفنان باستعطاف:"أنا على عجلة من أمري.. هل يمكن أن تفتحي أنت المطعم؟ هاهو المفتاح..لن يتأخر زيد في القدوم .. "
"لم أفهم؟!"
"صدقيني الأمر ليس صعبًا.. حتى إن وصل بعض الزبائن اتركيهم مع قائمة الطعام
يختارون على مهل حتى يصل العاملون.. تبقى عشر دقائق على وصولهم أؤكد لك أنهم ملتزمون على عكس شقيقي"
وانصرفت دون المزيد مُلوحة لهالة التي وجدت نفسها تقف وحيدة أمام المطعم وبيدها حلقة من المفاتيح..
حسنًا أظنها أشارت إلى هذا..
أدخلت المفتاح في موضعه ودون أن تنتبه لعدم دخوله كاملًا أخذت تديره وهي تؤكد لنفسها أن اليمين هي الجهة الصحيحة..
طال الأمر فأخرجت المفتاح لتجده ملتويًا على وشك الكسر..فنظرت حولها بتوجس كأنها تتأكد ألا شهود على جريمتها..
لكنها أبصرت زيد يتقدم على مهل جهتها فضغطت شفتيها تفكر في حل لهذه المعضلة..
ثم كررت المحاولة لتأتي على كسر المفتاح تمامًا إذ استقرت رأسه في يدها بينما يتربع بقيته في القفل..
فضربت على مقدمة رأسها بيأس..هذا ما ينطبق عليه المثل القائل(جائت تُكحلها فأعمتها)..وانتظرت بتوجس اقتراب صاحب الشأن منها مستسلمة.. ستقبل بحكمه أيًا كان..
أما زيد الذي تفاجئ برؤيتها أشرقت ملامحه عن ابتسامة رائعة ــ ستنشغل بوصفها والتغزل بها فيما بعد ــ ثم حياها بلطف:"صباح الخير..أراك مبكرة!"
وتلفت حوله مقطبًا باستغراب ثم سألها:"ألم تري أفنان؟ هذه الشقية سبقتني لتفتح المطعم "
لم تجبه هالة بل بسطت راحتها لتظهر مفاتيحه ومن بينها الرأس المسكين الذي ينعي انفصاله عن جزئه المتبقي..
التقطها منها لترفع يدها إلى فمها تعض إصبعها بتوتر فبدت كطفلة مشاكسة تعترف لوالدها بتخريب أوراق عمله المهمة وهي تقول:"آسفة لما حدث .. يبدو أنني أثقلت في الفطور!"
وانتابها الحرج فصمتت منتظرة رد فعله بتوجس لكن زيد فاجئها بأن أغرب في الضحك حتى شكت أنها طريقته في الغضب..
"بل لم تتناوليه من الأساس .. تراجعي خطوة وانظري للأعلى"
فعلت هالة ما طلبه بارتباك لتتسع عينيها غير مصدقة ما تراه..
"أترين؟ سيأتي العم حامد الآن يتهمنا بالسطو على بقالته"
"لكنني..!" اعترضت هالة بخفوت غير مصدقة ما فعلته...عوضًا عن فتح المطعم حاولت فتح البقالة المجاورة فكُسر المفتاح..
"لا عليك.. كان الأمر يختلط علي في بداية عملي أيضًا لأننا وضعنا تصميمًا واحدًا للأبواب"
وتابع مشيرًا للثلاثة أبواب المتجاورة:"واحد..اثنان ..ثلاثة.. محل الحلاقة الخاص بالعم لطفي..محل البقالة الخاص بالعم حامد ثم المطعم على الناصية "
"ماذا ستفعل الآن؟ أنا حقًا آسفة لما حدث!"
اعتذرت بصوت مخنوق من البكاء فبوصلتها ذات الاتجاهات المشوشة تضعها دائمًا في هذه المواقف المحرجة..
لكن زيد على العكس تمامًا ظل مبتسمًا كأن شيئًا لم يحدث وأخبرها بهدوء:"تامر سيأتي بالمفتاح بعد قليل.."
ثم تابع بما جعلها تفغر شفتيها بذهول:"آسف لأننا نجعلك تنتظرين"
"أنا!.."
تلاشت همستها الضعيفة حين صاح زيد فجأة:
"حمدون أيها العجوز!.."
راقبتهما هالة يتصافحان قبل أن يسأل العجوز صاحب العينين الماكرتين:
"زيدون ماذا تفعل في هذا الصباح الباكر؟"
قهقه زيد والعجوز يعري له حقيقته..أنه ما أتى للمطعم في هذا الوقت الباكر إلا مجبرًا ..
وأجابه مبادلًا إياه المزاح:"جئت لتحذيرك..أحدهم حاول اقتحام بقالتك وسرقة بضائعك الثمينة.."
تجهم حامد وتقدم جهة بقالته ليرى المفتاح العالق في القفل فصرخ بزيد:"أيها المعتوه هل تستغل قوة الشباب في كسر المفاتيح؟!!"
"لا تقلقي سرعان ما يهدأ غضبه" شرح زيد لهالة المذعورة من نتاج أفعالها..
قبل أن يوجه حديثه للعجوز:"وكسر الأقفال أيضًا"
واقترب يكسر القفل بقضيب حديدي التقطه من تحت عقب باب مطعمه:"هذه للطوارئ..أحتفظ بها لمثل هذه المواقف"
تابع العجوز إتمامه الأمر ثم قال وهو يفتح الباب الداخلي للبقالة:"أنا من سيشتري قفلًا بديلًا وبالمقابل سأنتظر غدائي عند الواحدة ظهرًا هنا في بقالتي.. هيا أسرع بالكاد تجد الوقت لإنجاز ما أريد"
"آه كلا.."
وتفاجئت هالة به يناظرها فتراجعت خطوة للخلف تبتغي الهرب..
لكنه ابتسم فبانت أسنانه المعدودة التي تكفل الزمن بالإطاحة ببقيتها وقال:"لم يكن يجدر بي أن أفقد أعصابي بسبب تصرفات هذا الأحمق أمام آنسة لطيفة مثلك.. لنعيد تعارفنا أنا حامد وأنت ما اسمك؟"
"هالة"
أصدر زيد صوتًا كأنه يعزم مقطوعة موسيقية مقاطعًا حوارهما قبل أن يهتف بالعجوز:"هل تظن نفسك شابًا التقى بآنسة جميلة فيريدها لنفسه؟"
"وما شأنك أنت أيها العازب الحقود..خذ نسخة مفتاحك الاحتياطية و اذهب لعملك! لحظة ! اعتن بهذه الجميلة أيضًا حتى يأتي لطفي ويشذب لحيتي"
وناظر هالة باعتذار قائلًا:"بالتأكيد لن أجالسك بهذه الهيئة يا هالة القمر!"
راقب زيد بدقة كيف احمرت هالة وحاولت إخفاء إحراجها بقولها المرح:"سأنتظر تعارفنا بفارغ الصبر"
ليودعها العجوز قبل أن يدلف لبقالته ويتجه زيد الحانق للمطعم يفتح القفل ببعض العصبية ..
"تفضلي! ثوان ويكون الإفطار جاهزًا"
"لكن ماذا بشأن العم حامد؟ ما الغداء الذي طلبه منك؟"
اتسعت عيني زيد وصاح بها حانقًا:"يبدو أنه نال إعجابك!"
تفاجأت هالة بهجومه وأجابته:"ما بك؟ أردت المساعدة ليس إلا"
ليتناسى زيد شعوره الغريب بالحنق ويجيبها:"يحب تناول الدجاج على الغداء.. ويكرر طلبه باستماتة وأنا للحق لا أعرف غير إعداد الحلوى .. أحاول مراضاته بدجاجة مسلوقة كل مرة فيصرخ في وجهي ويتناولها حانقًا"
مطت شفتيها بامتعاض وسألته:"دجاج مسلوق؟!! ماذا يعني الدجاج المسلوق؟ هل هذا مطعم أم مشفى؟أنا من سيتولى الأمر!"
"ماذا؟"
"أحضر الدجاج وأنا سأتولى إعداده"
وأجهضت اعتراضه متابعة اندفاعها الذي ستحاسبها نوران عليه طويلًا:"بإمكاني التأخر عن العمل اليوم ولذا فلا أفضل من الطهي لاستغلال الوقت"
ولم تكن هي من منعته الحديث هذه المرة بل معدتها الحانقة التي اختارت هذه اللحظة تحديدًا لتعلن اعتراضها على هذا الحرمان المجحف من وجبة الإفطار..
فعادت هالة للإحمرار وعلقت بخفوت:"أسرع بتجهيز الإفطار ومن الأفضل أن يُحضره تامر حتى أنسى كم الأمور المخجلة التي جعلتك شاهدًا عليها اليوم"
"كما تريدين"
وافقها زيد بهدوء وماهي إلا خطوتين حتى انفجر بالضحك لكن لحسن حظها أنه تابع تقدمه دون التفات إليها ...
فمالت برأسها على طاولتها تجاهد لتقبل هذا الكم الهائل من الإحراج الصباحي..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
وصلت أفنان للمدرسة لتجد الطابور الصباحي لازال مقامًا وهاهي فقرة الإذاعة المدرسية التي جعلتها تعض شفتيها بغيظ لاإرادي حين تذكرت أن نوران ترأست الإشراف على الإذاعة المدرسية الشهر الماضي..
حاولت التنفس بعمق والتخلص من هذا الشعور الحارق لكنه على النقيض زاد حتى بلغ عنان السماء حين أنهتها السيدة جنات بتكريم أفضل المدرسين وكان من بينهم لا شك نوران التي حصلت على الترقية لتصبح مدرس أول الرياضيات في المدرسة..
راقبتها أفنان تتسلم جائزتها بابتسامة واسعة كشفت عن أسنانها البشعة..أووف.. بل براقة يا أفنان.. كل ما بها براق! حتى أنها جذبت إليها زيد المنعزل عن النساء..
وهكذا انتهى الطابور وتحرك الطلبة إلى فصولهم تاركين أفنان متسمرة حيث هي تجز على أسنانها بغيظ لا مثيل له..لقد عملت منذ بداية الشهر لتحصد هذه الترقية لكن بعد استعراض مواقف نوران الشهمة لم يعد لديها أدنى فرصة لتنالها..
تقدمت لتصعد غرفة المعلمات فاعترضتها نوران التي لاحظتها شاردة وحيتها بمودة:"كيف حالك يا أفنان؟ صباحك مشرق بالسعادة"
"طبعًا يجب أن يشرق بالسعادة بالنسبة إليك!!"
غمغمت أفنان بغير رضا قبل أن تستدرك نفسها تجيبها:
"صباح الخير يا عزيزتي ..أرى أن مازن طلب من السيدة جنات ترقيتك"
ضحكت نوران رغمًا عنها وقد بدأت غيرة أفنان منها تصبح مسلية بالنسبة إليها.. ربما كان عليها إفحامها بقول(أن مازن لو فعلها فكان من الأولى أن يطلب ترقيتها هي باعتبارها شقيقته)
لكنها أسرته في نفسها وعلقت بمرح:"دعك من الألقاب وتعالي إلى الأخبار المهمة..أخيرًا وافقت السيدة جنات أن أتولى الإشراف على حصص التربية البدنية..ولأن إسراء تغيبت فسأحظى بفرصة تدريب الأولاد اليوم...أكاد أموت من السعادة"
مطت أفنان شفتيها بسخرية:"ستقفزين معهم كالأطفال! كم هذا معيب!"
واستقرأت نوران رغبة أفنان في فعل المثل فأحاطت كتفها بدفء لتضيف:"تم تعليق جدول الإشراف..ستكونين مشرفة الإذاعة المدرسية هذا الشهر.. أرجوك اهتمي بوضع فقرة الألغاز الرياضية التي لم أنجح في إضافتها الشهر الماضي"
رفعت أفنان رأسها بكبرياء وأجابتها:"بالطبع سأفعل...سنضيف هذا الشهر الكثير ونصحح تقصير الشهر الماضي"
وما إن أتمت جملتها حتى كادت تتعثر في أحد درجات السلم لتسندها نوران ضاحكة:"ضعي نظارات تقيك تقصير عينيك أولًا"
فلكزتها أفنان بخفة ومطت شفتيها قائلة:"غليظة!"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"وماذا بعد يا عرفه؟"
"دعني! لن أفارق قبرها حتى أبرأ من شعوري بالذنب"
قطب هاشم باستغراب يحاول استيعاب ما يقصده شقيقه ولم يجد بدًا من السؤال: "ماذا تقصد؟ أي ذنب ؟"
استقام عرفه من جلسته البائسة أمام قبر ليلى وقد قرر أنه وقت الاعتراف بالحقيقة..
"وجدت رسائلًا من سعيد وليلى في صندوق البريد القابع أمام منزل العائلة القديم.. "
"هل قرأت في الرسالة أنها مريضة؟"
"كانت الرسائل تحمل تواريخ متتابعة ودورية حتى انقطعت ليتبعها رسالة أخيرة أخبرتنا فيها ليلى عن موت سعيد وتمنت أن نحضر العزاء"
تجمد هاشم مشدوهًا بما يسمع وسأل بروية:"أتفهم أنك أخفيت أمر الرسائل نزولًا عند حقدك... لكن الرسالة الأخيرة وصلت بالأمس أليس كذلك؟ أخبرني! لهذا ماطلت في أمر زيارتهما وحاولت إقناع فاروق بالتخلي عن أمنيته برؤية سعيد أليس هذا ما حدث؟"
تهرب عرفه بعينيه فأطبق هاشم شفتيه متمسكًا بكل ذرة صبر يملكها منتظرًا أن يجيبه بنعم رغم أن هيئة شقيقه تتنافى مع رغبته..
"اكتشفت أمر الرسائل قبل فترة بالتحديد يوم وصول رسالة ليلى الأخيرة .. "
وأتم اعترافه :" تغافلت عن رسائلها.. بل أردت أن تقاسي الوحدة والألم اللذين تجرعتهما طوال حياتي"
"هل تسمع ما تقول؟"
سأل هاشم وهو يقبض على مقدمة قميصه يهزه بغضب قلما ينال منه..
"أي قلب تملك؟ بل إنك لا تملك قلبًا من الأساس... ربما هذا ما أدركه عمي ببصيرته فرفض زواجك منها"
ولم يعبأ بالألم الساكن في عيني شقيقه الذي يراه الآن ألمًا مفتعلًا بل تابع: "تعاميت عن طلبها..رفضت أن نمنحها السند والعزوة في آخر أيام حياتها.. أليست تلك ليلى التي لطالما تغنيت بحبها وعزمت يومًا أن تبيع كل ما تملك لتشتري رضا والدها؟!!"
دفعه بقسوة حتى سقط عرفه للخلف جالسًا على مؤخرته فخاطبه من عليَ:"لقد نفضت يدي منك يا عرفه.. ومن هذه اللحظة سأترك عملي في المصنع الذي يجمعني بك وأتفرغ لمعاونة فاروق في أرضه... أما أنت فآمل أن تجد يومًا السلام لروحك التي تعذبها بالحقد .."
أدار إليه ظهره وتحرك بألم .. بخوف من فظاعة تصرفات شقيقه..
لكنه ما لبث أن التفت قائلًأ بسخرية:"كنت لأقول عد إلينا وقتما شعرت بالوحدة لكن أمنيتي الوحيدة هذه اللحظة أن تحضر عزاءي حين يصلك خبر موتي .."
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
في الصالة المغطاة ...
صفرت نوران بصافرتها تنبه الطلبة الذين بدأوا التجمع بعد تبديل ملابسهم..
"أغلبكم يعرفني ولكنني سأعيد تعريفكم بي..أنا الأستاذة نوران مدرس أول الرياضيات ولأنكم محظوظون كثيرًا فقد قررت أن أتولى حصص التربية البدنية إلى أن تعود كابتن إسراء من إجازتها المرضية"
تجهم فادي بينما يسمع ضحكات خافتة من حوله ..تظن نفسها خفيفة الظل!!
"والآن قفوا في صفوف متباعدة بقدر ذراع بين الصف والآخر..سنبدأ الإحماء"
تحرك فادي بتثاقل ينفذ الأمر مع زملائه حتى لا يلفت انتباهها لوجوده .. والتفت لكمال الذي يقف خلفه ..
"كيف ستتولى تدريبنا بقامتها الضئيلة تلك؟"
لكن كمال الذي لايزال خائفًا من أن يكتشف أحد أمر هربهما أجابه هامسًا:"فادي لن نستطيع الهرب بعد هذه الحصة صدقني! الأستاذة نوران تتولى الإشراف على الكثير من الأنشطة وتمتلك سلطة كالأستاذة سميرة وستكشفنا حتمًا"
"كمال وفادي!"
صاحت نوران بعدما سألت زملاءهما عن هويتهما وهما منشغلان بحديثهما الهامس فقبض كمال على قميص فادي الرياضي بخوف بينما التفت فادي يناظرها بتحدي..
فالتمعت عيناها بعدما اتضح لها أي فادي يكون! وفكرت أنها سرعان ما ستصل لهدفها بهذه الطريقة ..
وأمرتهما :"سننقسم لفريقين وأنتما ستتوليان قيادتهما"
سأل فادي بغية التقليل منها أمام رفاقه:"هل يتطلب الإحماء تكوين الفرق؟"
فأجابته بثقة :"هذا ما سنفعله بعد الإحماء يا فادي..لأننا سنتدرب اليوم على الخطوات الأساسية لكرة السلة"
تدلى فم فادي كرد فعل لاإرادي ولم يملك نفسه أن يسأل:"إنك قصيرة! كيف ستلعبين كرة السلة؟"
ساد الهرج بين الجميع متوقعين أن تتحول نوران وتعاقبه على التباسط في حديثه معها لكنها أغفلت الأمر وغمزته بمرح:"هذا ما نسميه تحقيق ما نريد بالطريقة الصحيحة"
أومأ فادي بسماجة ورغبة واحدة تدور في ذهنه:ليت هذه الحصة تنتهي بأسرع ما يكون..
وبالفعل ما هي إلا دقائق وضعت خلالها نوران الشروط واستعرضت التمارين أمام الطلبة ليقرع جرس الاستراحة .. فتطلعت لساعة يدها وقالت:"تذكرت سيتم تقليل الساعات الدراسية اليوم لأنه موعد اجتماعنا بإدارة المدرسة..أعتذر منكم يا أعزائي..لكنني أعدكم سأعوضكم في الحصة القادمة نهاية الأسبوع"
وهكذا تفرق الطلبة بين حانق ومبتهج كفادي الذي سارع بحمل حقيبة ظهره وتحرك قاصدًا وجهة محددة..
"فادي أرجوك دعنا نؤجل الأمر اليوم"
أعطى أذنًا صماء لكمال المرتعب وتابع تقدمه حتى تجاوزا بوابة المدرسة فلحقه زميله بقلة حيلة وعبرا الطريق ليقول فادي:"ما رأيك بركوب سيارة أجرة؟ ستساعدك على الاختفاء في لمح البصر حتى لا يُكشف أمرك"
وافقه كمال دون تفكير أواكتراث بلهجته الساخرة ..
ومن نافذة غرفة المعلمات حيث ذهبت سميرة للقاء نوران بها تطلعت بعينين جاحظتين لمشهد هروب الاثنين وأخذت القرار الحازم بيسر كعادتها.. سيلقيان منها ما يجعلهما يندمان طويلًا!!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"مرحبًا ..مرحبًا بالروائح الشهية! هل صرت ماهرًا في الطهي كمهارتك في إعداد الحلوى؟"
"لا ليس إلى هذا الحد!"
رفع زيد الغطاء ليهب البخار الساخن في وجه حامد الذي قربه بشدة مستمتعًا بالرائحة الزكية التي أسالت لعابه..
"هل تستطيع تخمين من قام بطهيها؟"
"لا..يبدو الأمر صعبًا مع طاقم الطهي المنشغل دائمًا في مطعمك.. ولا أدري كيف أصفها! رائحة هذا الطاجن تشعرني بالألفة كأنها أعدت على طريقة أمهاتنا المحبات"
"أمهاتنا! صرت جدًا وتقول أمهاتنا بعد!"
تجاهل حامد سخريته وفرقع بإصبعيه قائلًا:"هل هي هالة؟"
فضحك زيد وأومأ قائلًا:"نعم إنها هي"
وتذكر إصرارها على إعداد الغداء لحامد حتى استسلم أخيرًا وترك لها ركنًا قصيًا في مطبخ المطعم .. وهاهي النتيجة تستحق كما يرى!
إذ حضرت وجبة غداء من دجاجة واحدة: طبق من الحساء..إلى جانب الشيش طاووق...والحمام الكاذب!
أزاح طبق السلطة الملونة من على المقعد وجلس قائلًا:"سأشاركك الغداء..أرجو ألا تمانع!"
فضحك حامد وبدأ الأكل مربتًا على فخذه:"ألا ترى أنه حان وقت إكمال نصف دينك؟"
انفجر زيد في الضحك بينما يأكل..فسعل بشدة ثم تمالك نفسه ليجيبه:"كشفتني أيها العجوز! لكن قبلًا هناك ما يجب حسمه مع أبي..."
قاطعه حامد ضاربًا على ظهره بتوبيخ:"ليس أشد كذبًا من هذا الحمام الكاذب إلاك!"
عاد زيد للضحك يتابع تناول الطعام الذي نال استحسانه وبشدة محاولًا مراضاة العجوز.. وقد قرر السعي نحو هدفه الجديد..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
راقب هيثم انهماك أفنان في تقليب شئ ما على الموقد وقد أمالت رأسها ليحكم على هاتفها وتابعت محدثة الطرف الآخر :"الحمدلله ليست حياتي"
ضحكت بخفة ثم تابعت:"لا أستطيع مواساتك..فلطالما عانيت منه.. لا يروقني حجابك..زينة وجهك تحتاج للتعديل..بل تمادى ليعلق على شامتي!!"
وجحظت عيناه مع جملتها الأخيرة ليتقدم منها قائلًا:"من هذا الذي يجرؤ على التعليق على شامتك؟من هو؟ أخبريني!!"
أجفلت أفنان من صراخه المفاجئ لتوقع الهاتف أرضًا عندمت التفتت إليه كما صرخت متأوهة إذ لامست يدها الإناء الساخن دون أن تنتبه..
فسألها هيثم بلهفة:"هل أنت بخير؟"
ومد يده بغية استطلاع مدى الضرر الذي لحقها لتصفعها أفنان بحدة قائلة:"هلا تنصرف من هنا؟!"
فتحولت ملامحه من قمة القلق إلى قمة الغضب:"لن أنصرف قبل أن أحظى بتفسير منطقي لتصرفك الأخير!"
فتشت أفنان عن حجة في رأسها فلم تجد..لذا تحركت تضع يدها أسفل ماء الصنبور الجاري قائلة بكبرياء وإغاظة:"لا أريد التفسير الآن!"
"أفنان!"
صاح بها بغضب أخمدته ذكرى بكاءها بالأمس ..
فتابع بلطف:"حسنًا هل لي بطلب؟ هل يمكن أن تقبلي مني غصن الزيتون ونبدأ من جديد بعدما علمت بالتفصيل سبب سفري منذ سنوات؟"
برب الكون !! إنها رغبتها الداخلية التي تجاهد لدفنها وإقناعه بعكسها!
ورغم بهجتها أظهرت له وجهًا محايدًا قائلة:"ماذا تقترح كبداية؟"
ورفعت يدها حيث الحرق تقبله بلطف .. تتصرف بعفوية كعادتها مؤكدة له صدق إحساسه بمشاعرها التي لم تتغير..
"أقترح التقبيل"
همس بشغف جعلها تفعر فمها قبل أن تسأل متوجسة:"عفوًا؟!!"
"التقليب يا أفنان! تقليب هذا الطعام الذي تذرينه للحرق...قررت مشاركتك تحضير الطعام كبداية"
إلا أن عينيه أثارت داخلها التوجس من مدى سلامة نواياه فقالت:"شكرًا لعرضك السخي.. أريد اقتراحًا آخر "
ضحك بخفة قائلًا:"حسنًا...هل نخرج غدًا لوضع النقاط فوق الحروف؟!"
"جيد..نخرج وهذه المرة سأحرص على وضع شروطي الحازمة"
"لك هذا يا فراشة هيثم"
فعقبت بسماجة:"وأول شروطي أن تتوقف عن مناداتي بهذه الطريقة حتى تنال رضاي"
يعلم تمامًا قدر حبها لهذا التدليل منه خصيصًا وأن طلبها نابع من سخطها عليه ليس إلا..فعمد إلى تنفيذ أمرها مباشرة قائلًأ:
"لك هذا أيضًا...لا مشكلة"
سهولة قبوله جعلتها تحدجه بنظرات غاضبة قبل أن تصرخ به:"اغرب عن وجهي أيها المحتال هيا"
فانصاع لأمرها قائلًا بإغاظة:"ولم الغضب؟ أنا ألتزم بشروطك فقط"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
مساءً
دلف عبد الرحيم للغرفة التي عزلت وجدان بها نفسها بعد وفاة ليلى.. وكانت قد قطعت تواصلها معه نهائيا حتى إن صدف وتلاقت أعينهما أعرضت عنه وتمتمت بما لم يصل لسمعه كأنها تتعوذ بالله من رؤيته..
لذا قرر أن يبادر لمصالحتها فمهما حدث بينهما لايستطيع الاستغناء عن وجودها لجواره ومساندتها اللامشروطة..
رفعت وجدان رأسها تستقبل قدومه الغريب بوجوم وما لبثت أن أدارت وجهها لكنه باغتها بعناق قوي وهو يقول:"اشتقت للحديث معك..أين أنت عني يا جوجو؟"
تجمدت وجدان بين ذراعيه دون رد فلم يكن ضمن عاداته المبادرة بالصلح واحتارت بين الاستجابة و الإعراض...
لكن جملته التالية أزالت الحيرة حين قال بعبث وهو يعض طرف إصبعها بخفة:
" انظري ماذا جلبت لتحلو سهرتنا؟..هيا كفي عن التفكير ولنتناول الحلوى.. وربما أنتظر منك بعدها أن تؤدي دور الزوجة الحنون"
فدفعت يده وتحركت مبتعدة عنه قائلة بإدراك :"يبدو أنك تخلصت من كل همومك وجئت للعبث بدميتك التي تحتفظ بها لوقت الحاجة"
اضجع على السرير محتلًا مكانها ودون أن يجيبها بالكلمات أجابتها أساريره المنفرجة التي أعادتها ليوم وفاة ليلى وذكرى أطماع زوجها اللانهائية..
فصرخت به:"ماذا فعلت؟ أخبرني..من الذي أجرمت بحقه وجئت للاحتفال بمعاناته؟"
لم تتحرك شعرة من عبد الرحيم وهو يقول بملل:"لاشئ .. أودعت خالد وطاهر قسم الشرطة ..زعزعت استقرارهما ثم أثرت خليفة ضدهما!..حاولا الاستيلاء على المصنع في الماضي واليوم يخضعان شركة كاملة بصاحبها لسلطتهما.. لا أستغرب أن يتنازل خليفة لهما عن الشركة في المستقبل "
لطمت وجدان وجهها بكفيها وقد عجز عقلها عن استيعاب جنونه كما عجزت ساقاها عن حملها فجلست أرضًا بجوار السرير ورفعت عينين مغرقتين بالدموع .. عينان تستجديان رشده أن يعود خوفًا من جبار عظيم ..
وقالت:" رحيم.. كن رحيمًا.. أنسيت أنك من استوليت على المصنع؟"
فانحنى إليها يمسك بذقنها وقال ناظرًا في عينيها :"أنا عبد الرحيم ..الرحمة صفته وحده لا تنسبيها إلي"
سالت دموعها وأجابته:"الظلم ظلمات يوم القيامة .. إن لم تكبح أطماعك فعلى الأقل تحلى بالرفق ولا تتهم الناس بما ليس فيهم"
أجابها باقتناع تام:"الظلم هو عملهما في الشركة واحتلالهما مكانتي.. "
ثم شدها إليه لتجاوره على السرير قائلا:"توقفي عن الحديث سئمت منه"
ومن هي حتى تقوى على مجابهته ؟
لذا استسلمت لقدرها بهدوء حتى انتهى وصالهما بجملته المحببة إليها:"لا تغضبي مني..أنت وجداني"
كم تحب هذه الجملة التي تجعلها ضعيفة أمامه كل مرة فتسامحه مهما فعل!
تحبها بكلا المعنيين :هي وجدانه.. زوجته التي يشعر جهتها بالتملك ويحب كونها خاصة به وحده..
والمعنى الأعمق الذي يؤثر فيها بالأكثر..أنها وجدانه..شعوره..إحساسه..قلبه النابض الذي يستحيل أن يموت طالما هي معه تسترضيه وتستلينه..
مررت أصابعها الحانية في خصلات شعره بعد أن أخضعه سلطان النوم مع صوت المؤذن... الله أكبر..الله أكبر..
فهمست بتضرع :"أنت أكبر من سلطته يارب...ادحر شره وارزقه الهداية والرضا يارب أنت القادر على كل شئ"
كررت دعواتها وقد قررت ألا تتركه لغيه..ستكرر محاولاتها بصبر وعزم عسى الله أن يمنحها القدرة فتتمكن من تغييره ولو بعد حين!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
وقف خليفة بنظارته الشمسية الثمينة يأمر أحد العاملين بفتح المصنع ثم التفت للبقية الذين أحرقت الشمس رؤوسهم من الانتظار بعد أن وصلهم الإعلان في البلدة باستئناف العمل من جديد..
ليقول باقتضاب:"انصرفوا اليوم وغدًا ستحضرون للعمل وفق لائحة مجلس الإدارة الجديد"
#ڤوت
#كومنت
متنسوش تكتبولي تعليقاتكوا وتوقعاتكوا للأحداث القادمة❤️❤️
YOU ARE READING
جيران المدينة
Romanceرواية اجتماعي..رومانسي..كوميدي.. تناقش عدة قضايا اجتماعية في إطار عائلي درامي انتظروا فصل جديد يوميًا بإذن الله ❤️