الفصل التاسع

44 2 2
                                    


الفصل التاسع

لحق هيثم عائلته المتعجلة بسيارة مازن وهاهو يقبع داخلها منتظرًا انصرافهم حتى يكشف لأفنان عن فعلته المخزية..
كان هذا عقابه الذي فرضه على نفسه.. فلن يغمض له جفن وحبيبته تقاسي ألمًا سببه لها عن قصد ودراية..صحيح أنه يعلم امتناعها عن تناول الجبن وأطعمة أخرى لا يذكر أغلبها لكنه لم يتعمق أبدًا ليعرف السبب .. طالما أنها ترتاح هكذا فقد تقبل الأمر كما هو وظن بسذاجة أنه لاضير من اتباع لعبتها ومعاقبتها بما تكره..
"أنا آســف..آســـف يا حبيبتي"
كررها مرارًا محدثًا الفراغ..قبل أن يذهب في نوم مضطرب ..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
عاد مازن قرابة منتصف الليل بعد أن حظى بوقت كاف مع نفسه يفكر هل يجوز أن يذهب للعم سعيد ويترك له ممتلاكاته نابذًا عنه تلك المسئولية وما يعقبها ؟
ألا يكون وقحًا إذ يطلب من الرجل مساعدته في أمر عائلته وفي الآن ذاته ينفر من إسداء جميل كهذا له؟!
حتى اتخذ قرارًا وسكنت نفسه إليه..فليذهب إليه راجيًا في المقام الأول الاطمئنان على أحواله ..فإن وجد في نفسه الشجاعة وطرح مشكلته فهذا جيد.. وإلا فيكفي أنه اطمأن على الرجل الذي سانده طويلًا حتى شبَ عن الطوق واستطاع أن يجد طريقه في معترك الحياة..

حينها تراءت  له سيارة العائلة تقترب من الجهة المقابلة..
تقدم منهم وجلًا وأجال ناظريه بين أفراد أسرته الذين ترجلوامن السيارة:"ماذا حدث؟ هل جميعكم بخير؟"

"إنها أفنان..إحدى نوبات حساسيتها المعتادة..وأصرت أن نعود جميعًا للمنزل وإلا ستمتنع عن تنفيذ تعليمات الطبيب"

أجابه زيد حانقًا .. فقطب مازن بين حاجبيه مستغربًا تصرفًا كهذا من أفنان.. حتى أنها رفضت رفقة زيد!!

ومر من جوارهما سالم وزوجته ..تبعه والدهما المبتسم لسبب غير معلوم .. وكذلك علياء التي هتفت بهما قبل صعودها:"مرا على فادي قبل النوم عله يحتاج المساعدة ويرفض طلبها"

"بإمكانك أن تحتفظ بأسرارك كما تشاء..لكن ألن تشرح لي ما يمر به شقيقك المعتوه؟"

ضحك مازن من حمائية شقيقه وحاوط رقبته بذراعه كما اعتاد أن يمازح أفنان قائلًا:"أخيرًا تفرغ كلانا للآخر بعدما غابت شقيقتك"

وشدَد ضغط ذراعه حتى كاد زيد يختنق بحق فركله بكل قوته في ساقه مما جعل مازن يطلق سراحه متأوهًا..
استعاد زيد أنفاسه ليهجم على شقيقه بلكمة في منتصف معدته قائلًا:"إن اشتقت لمصارعتي كثيرًا فها أنا مستعد لك"

تقهقر مازن عدة خطوات من قوة اللكمة وقرر تغيير استراتجية هجومه فتظاهر بأنه لا ينوي إكمال هذا الصراع وصارح شقيقه:"فادي لا يريد متابعة دراسته يظن أنك فركت الفانوس السحري فتم لك ما أردت ونجح مشروعك... المسكين سيموت من صدمته حين يخبره أبي بكل صراحة أنه لا يمول مشاريع كهذه"

ضحك زيد ملئ فمه فباغته  مازن بلكمة طرحته أرضًا وجثم بثقله عليه واضعًا ذراعه عند رقبته كسيف على وشك فصلها عن جسده..

وتلقى زيد هذا الهجوم بصدر رحب متابعًا ضحكه كأنه مستلق على فراشه حتى اطمئن مازن كونه صاحب اليد العليا.. فقبض زيد على مرفقه ولوى ذراعه خلف ظهره محررًا رقبته .. قبل أن يدفعه لتبادل الأدوار فصار هو من يشرف على مازن في هذه اللحظة ويحتجز ذراعه أسفل جسده..

ولم يهتم بتأوه شقيقه بل تابع كأنهما يجلسان بتحضر في غرفة المكتب يناقشان كيفية توجيه شقيقهما الأصغر:"لقد ظننته يعتزل أبي لأنه يعد نفسه رجلًا لا يحتاج لنصحه بعد.. وتبين أن الأحمق اعتزلنا للإعداد لمشروعه!"

لايزال مازن يتألم من الوضعية التي فرضها زيد عليه ورغم هذا أردف:"لقد حاولت مرارًا إقناعه بإتمام دراسته قبل أن يضع خططًا مستقبلية لكنه يرى نفسه ناضجًا بالشكل الكافي لدخول سوق العمل"

وأخيرًا تمكن من دفع شقيقه ليدلك ذراعه فبادره زيد بلكمة أخرى أعادته حيث كان بينما يتساءل:"هل ترى أن علي التدخل ؟"

كان الوضع هزليًا بكل المقاييس فمازن يحاول التحرر من ثقل شقيقه ويخوضان جولة مصارعة في حديقة المنزل..بيد أن المفترض أنهما يناقشان قضية جادة ..

ضحك مازن من وضعيتهما وأجابه:"لم يبق الكثير على الامتحانات النهائية .. دعنا نرى هل سيجتاز هذا العام بنجاح ويتغلب على أفكاره أم أن علينا التدخل بصورة جدية وفرض سلطتنا"

ثم حاوط فخذيه بقوة وصرعه للخلف ونهض ينفض ملابسه..إلا أن زيد سارع بركله ليقع أرضًا من جديد.. وغرقا في موجة لا نهائية من الضحك..

"أتمنى أن يكون جيراننا قد خلدوا للنوم ولم يروا صراع الديكة هذا وإلا فإن هيبتنا قد أهدرت ولن نستعيدها  أبدًا"

ركله زيد بخفة وعقب:"بل عليك أن تتمنى أن تقبل أفنان بغسل ملابسنا التي فسدت بالكامل..وإلا فتحمل غضب أمي حين تراها بهذه الهيئة في سلة الغسيل"

فسأل مازن مستعطفًا شقيقه في مشهد هزلي:"ألم تخبرني يومًا أنك ستدفع عني أي أذى مهما كان مصدره؟!"

ابتسم زيد بحنين وقد ذكره شقيقه بالوعود التي لطالما تبادلاها في بيتهم القديم بالبلدة وأجابه:"وأنت وعدتني أن تلجأ إلي في كل مشاكلك ..لكنني أراك لا تدخر جهدًا في التكتم على ما يصيبك ونقض وعدك منذ زمن محتفظًا بالكثير من الأسرار"

تهرب مازن بعينيه  مما أكد لزيد صدق ظنونه وأردف:"لنغير هذا البند إذا..أنا مستعد للبوح متى ما كنت مستعدًا للبوح بالمقابل .. لا أريد أن أزيد همومك فحسب.. مضى هذا العهد وصرت رجلًا بإمكاني مشاركتك حمل مسئولية العائلة"

اعتدل زيد من استلقائه وصار يشرف على شقيقه في هذه اللحظة قائلًا باستخفاف : "برأيك ألم تتأثر بفادي كثيرًا ؟ حتى أنك تردد نفس كلماته الآن"

ومضى تاركًا مازن يسترجع الذكريات على مهل فقد أنشأهما والدهما على الاعتماد على النفس..وأنه ليس من العار امتهان أي حرفة ليحصدا نفقات دراستهما الجامعية ويبدآ الاستقلال وتكوين مالهما الخاص للزواج فيما بعد ودخول سوق العمل الحقيقي بقوة...

وقد كان له ما أراد فتخرج كلاهما دون أن يكلفاه الكثير وبدآ عملهما الخاص الذي لم يهتم والدهما يومًا بمتابعته  أو سؤالهما عن مصدر دخلهما تاركًا لهما حرية الاختيار مؤمنًا بهما وبتربيتهما السليمة التي حرص عليها بنفسه..
إلا أمر واحد فرضه وبشدة على زيد إذ أراد منه أن يدرس إدارة الأعمال وألح على هذا حتى طاوعه زيد فلم يمكن يميل إلى أي تخصص ولم يجد حرجًا من تنفيذ أمنية والده...
وفي هذه اللحظة راوده شعور أن زيد عاد لهذه الفترة وأن والده يطالبه بأمر ما يجد غضاضة في تنفيذه..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"كيف لم تخطر في ذهني فكرة كهذه؟"

علق فادي مستحسنًا ما يعرضه عليه صديقه الذي تابع:"أنت تجيد رسم الأشخاص واستخدام الألوان الزيتية ..إنك فنان بالفطرة يمكنك ابتكار أفكار أخرى سيرحب الأغنياء من أمثال رفاقك في مدرستك الجديدة بها كثيرًا ويبتغون اقتنائها بأي ثمن"

"إنك محق تمامًا يا سامر..سأضع فكرتك قيد التنفيذ ..."

انتفض فادي مغلقًا المكالمة دون كلمة وداع وهو يرى زيد يدخل غرفته دون استئذان وينظر إليه بتدقيق..

ابتسم بارتباك وحاول استدراك الموقف فسأله:"ما الأمر؟ "

وباغته زيد برفعه من تلابيبه يتشممه بدقة قائلًا:"هل جربت السجائر؟"

تراجع فادي بظهره يحاول التفلت من قبضة شقيقه وأجابه بحذر:"هل هذا عرض أم اختبار؟"

"لا شئ..لا تهتم"

عدل فادي من هندامه بينما يراقب انصراف شقيقه بحيرة.. إن قرر زيد وضع رقابته عليه فلن يكون متفهمًا كما مازن!!

أخرج أدوات الرسم ليبدأ بتنفيذ خطة صديقه وكذلك الاعتذار المناسب لمنة من وجهة نظره فهذا أقصى ما يسمح به كبريائه..

وفي كل هذا لايزال ذهنه متعلق بفكرة الحرية حتى تمنى أن يكون بعمر شقيقيه فيحظى بالحرية الكاملة مثلهما..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
استفاق هيثم مع ساعات الصباح الأولى و شروق الشمس..
وغادر السيارة قاطعًا الطريق الخالي في هذه الساعة من المارة ودلف للمشفى..

"هل أنهيت تكليف الممرضات الجدد بوظائفهن يا هند؟"

أجابتها الأخرى بصوت مرتبك:"نعم ..كل شئ كما طلبت مدام إسعاد"

كان هيثم مجبرًا على التركيز معهما حتى مع عدم استعداده العقلي في هذه اللحظة..هكذا نشأ ! ما يصل لسمعه يحتفظ به عقله داخل صندوق الوارد حتى يتفرغ لتفنيده والاستفادة به..

غادر المصعد وهما لا تزالان على جدالهما حتى وصل غرفة أفنان.. فلاقته إحدى الممرضات التي كانت ترتدي ذات  زي هند المرتبكة..

لذا حين سألته عما يفعل في هذه الساعة ..قطب بين حاجبيه وأكسب صوته صرامة أربكت الفتاة:"بل ماذا تفعلين أنت يا آنسة؟ألا تتحققين أولًا من الطابق الذي كلفتك هند بالإشراف عليه؟"

ارتاعت الفتاة وظنت أنها أخطأت في أول يوم من أيام العمل لذا اعتذرت بسرعة وتركته لوجهته منشغلة بمصيبتها..

فأسرع هيثم يدخل غرفة حبيبته قبل أن يعرقله شئ آخر.. بينما انتفضت أفنان الشاردة من هذا الدخول المفاجئ ..

فضحك هيثم مبادرًا بالاعتذار الذي يبدو أنه سيلازمه في علاقته بأفنان:"آسف لإجفالك.. الممرضة المشرفة على الطابق كانت لي بالمرصاد وبالكاد هربت منها.."

أدارت أفنان وجهها الشاحب عنه دون اهتمام بقوله رغم أنها كانت بانتظاره وطلبت من عائلتها المغادرة خصيصًا لهذا السبب..

استندت للوسادة خلفها مغمضة عينيها  ترفض التطلع إليه فيغلبها قلبها ويغفر له زلاته...

أما هيثم فقد تقدم جهة فراشها ليكون في مرمى عينيها ثم أقر:"ما حدث لم يكن خطأ زيد..أنا من أبدلت البيتزا دون أن ينتبه..أردت أن أنال منك على ما فعلت بي سابقًا"

وما إن طرق اعترافه سمعها حتى فتحت عينيها وناظرته بصمت بينما يتابع:"إنني أستحق أي عقاب تختارينه .. ففي حين تعلمين أدق عاداتي وتحفظينها لم أهتم أنا بمعرفة سبب امتناعك عن تناول الجبن وقمت بخدعة مزعجة كهذه"

لم يظهر أي تعبير على وجه أفنان حتى خال هيثم أنها لم تسمعه .. فكاد يعيد اعتذاره إلا أنها فاجئته بركلة من قدمها في معدته..

صرخ من المفاجأة والألم معًا.. فأردفت براحة:"كنت أجمع طاقتي لأتمكن من إسداء هذه الركلة بالقوة المناسبة..جيد أنك تألمت"

صوت طرق على باب الغرفة دفع هيثم ليبحث عن مخبأ ... بينما سمحت أفنان للطارق بالدخول دون أن تهتم بارتباكه الواضح..بل ليتها تكون الممرضة وتطرده من غرفتها ...وتحققت أمنيتها إذ دخلت هبة تسألها:
"هل سمعت صوت صراخ يا آنسة أفنان؟ .. أحدهم شتتني عن عملي لدقائق فحدثت ضجة كهذه..لو أن مدام إسعاد سمعت هذا الصراخ لأنهت حياتي من فورها!"

ودون أن تسمع رد أفنان تابعت تساؤلاتها:"من أغلق هذا الستار؟ هل معك مرافق في الغرفة؟"

وكم ودت أفنان وقتها لو تكشف أمر هيثم  لكنها قررت عقابه على طريقتها لذا أجابت الممرضة:"لا عليك أنا مرتاحة هكذا.."

أومأت الممرضة باستغراب وغادرت الغرفة فأزاح هيثم الستار متنفسًا الصعداء وجاورها على فراشها قائلًا بمشاكسة:"هلا تحركت قليلًا لأنني أشعر بالنعاس؟"

كافئته أفنان بلكمات عشوائية على ما طالته من جسده مما جعله يتراجع عن مزاحه الجرئ ضاحكًا ويلتزم المقعد المجاور لفراشها :" حسنًا فهمت..سألتزم حدودي !"

وتابع بعد لحظة صمت:"إن كان زيد يكبرني بأربع سنوات ..فبكم سنة يكبرني مازن؟"

وغرق في ضحك لا متناهي مع نظراتها الممتعضة ثم قال:"آسف كنت أختبر إن أثرت البيتزا على عقلك أم لازلت مجنونة؟"

"هل تلاحظ أنك لا تدخر جهدًا لإثارة سخطي عليك أكثر فأكثر بهذه الغلاظة؟!"

"حبيبتي أنت من جعلني  طي النسيان..لم أكن يومًا لطيفًا معك ..وإثارة حنقك هي ما حرك قلبك ليخفق لي وحدي"

أقرت أفنان داخلها أنه محق تمامًا فلطالما كانت لا ينقصها الجنون ولا تفوت فرصة لإثارة غيظه ومشاكسته ردًا على مزاحه السمج.. لكن هو من ينسى الآن أن الوضع تغير بالكامل فلم يعد صديق طفولتها وموطن ثقتها بعد..

"هل تنوي مغادرة الغرفة قريبًا؟ أرغب بنيل قسط من الراحة ومن الواضح أنك جئت للتسلية بعدما  نمت قرير العين بالأمس"

ابتسم هيثم لو أنها تعلم كيف كانت ليلته؟!..

ولم يهتم بإجابة سؤالها بل أظهر الكتاب الذي كان يخفيه في طيات ملابسه وقال بتلقائية كأنهما لم يفترقا أبدًا لخمس سنوات كاملة:"أحضرت كتاب الألغاز الذي تسلينا بفك شفراته في طفولتنا..دعيني أختبر مهارتك في الحساب العقلي ولنرى إن كنت معلمة رياضيات بارعة كما يقولون"

"انتظري! لنبدأ بالأسهل..هيا ما عدد الدوائر في هذا الشكل؟"

أجابته أفنان بضجرمصطنع:"ثلاثة دوائر.. الأمر واضح ولا يحتاج للتفكير"

"كالعادة لا تستطيعين التركيز ورأسك الجميل يعج بالأفكار المشتتة.."

تطلعت أفنان للصورة مرة أخرى قبل أن يشرح هيثم:"نسيت أن تحسبي الدوائر الكامنة في الحروف كذلك..
ما..دوائر..في.. الكلمات الثلاث كتبت بحيث يشكل حرف الميم والواو والفاء دوائر صغيرة .. والآن يا آنستي ما الذي يشغل تفكيرك؟"

حقًا!! ما الذي يشغل تفكيرها؟! هل ينوي أن تكون جلسة مصارحة؟..ليكن ..لابأس بتذكيره بنذالته..

"ألا يزال حل الألغاز هو ما يشغلك وقت فراغك حقًا يا هيثم؟ أم التفكير في كيفية قطع الاتصال بي؟!"

سؤالها بهذه المرارة أثار طعمًا كالعلقم في حلقه وجعل ملامحه تفقد أي أثر للمرح وما كاد يجيبها حتى دخل شقيقاها بهدوء ظنًا منهما أنها نائمة لكن جحوظ أعينهما  نبأها بوضوح أن معركة على وشك الاندلاع في غرفتها..

وخاصة مع قول هيثم اللزج:"جئت أتمنى السلامة لخطيبتي"

سحب مازن الكتاب من بين يديه كخطوة أولى.. وقرأ أول ما وقعت عينيه عليه: "شقيقان دفنا قريبهما ...اممم.. هل تعرف هذا القريب يا عزيزي؟"

وعقبت أفنان بمكر وهي تسترخي في جلستها:"لم أستطع طرده من الغرفة واستغل ضعفي ..."

قاطعها زيد ممسكًا بذقنها ليدير وجهها إليه:"الآن أفهم سبب ضحكات والدي بالأمس.. طلبت أن نعود للمنزل ونستريح لتستطلعي رد فعل هذا الأحمق!!"

نهض هيثم وقد أعطاه تفسير زيد الجرأة ليضرب بخفة على راحة قدمها الظاهرة من الغطاء قائلًا:"أرجو أنني نجحت في الاختبار يا فراشتي"

بينما أغرب مازن في الضحك واحتل مكان هيثم يراقب بتسلية شقيقه يقتاد ابن عمه المبتهج خارج الغرفة..

لتعلق أفنان بسخط:"لا يحق له إحراجي بهذه الطريقة!"

فالتفت مازن إليها وسألها بمكر بينما ينظر في عينيها مباشرة:"حقًا.. ما هي أمنيتك هذه اللحظة يا عزيزتي؟"

رغم أنها مقربة من زيد أكثر من مازن إلا أنها مع مازن فقط تستطيع التخلي عن خجلها الشديد في أوقات نادرة كهذه اللحظة..إذ التمعت عينيها بالمكر الخالص: "أتمنى أن تقل غيرة زيد لأنني أخطط للزواج بابن عمك بعد جلسات تعذيب مكثفة"

وضحكا ملئ فمهما بينما يعلق مازن:"ليت هيثم يسمعك الآن..صدقيني سيستلم للتعذيب راضيًا"

"وهنا يكمن التشويق يا عزيزي"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

شربت ليلى من الكوب الذي ساعدتها وجدان في رفعه ثم قالت بعد أن حمدت الله على نعمته:"عبد الرحيم كان يعرف محاميًا .. لا أذكر اسمه.. أرجوك اطلبي منه الحضور"

نهضت وجدان تعدل الغطاء عليها وأجابتها بهدوء:"سأفعل ما تريدين ولكن بعد أن تحظي ببعض الراحة يا حبيبتي.. كدت أموت من الخوف وأنا أراك عاجزة عن الحراك.. أرجوك اهتمي بصحتك ولا تشغلي بالك بأي شئ آخر"

لكن ليلى أصرت كعادتها:"يجب أن ألتقي بهذا المحامي.. أحتاج لتنفيذ وصية سعيد.. أريد الاطمئنان قبل رحيلي يا وجدان"

عادت وجدان لتجلس جوارها وضمتها بخوف قائلة:"أي رحيل ؟  ستعيشين بعد حتى تتحسن صحتك وتتخلصي من نصائح الطبيب المزعجة.. لم أعد لك بعد المحشو والبط والفطائر..أخبرتني مؤخرًا أنك تشتهين المعكرونة بالبشاميل.."

أبعدتها ليلى برفق وقالت بيقين:" اهدئي يا صغيرتي.. حين يريد الله أن يسترد أمانته فلا راد لقضائه.. فقط افعلي ما طلبت.. أريد لقاءه هذه الليلة"

وخرجت وجدان من الغرفة تنفذ رغبة ليلى ودموعها تغرق وجنتيها دون قدرة على منعها... من قد يواسيها في موقف كهذا؟ .. أرادت ان تتصل بزوجها ليكون عونها في حزنها لكنها لن تجد عنده ما تبغيه من السلوان فهو ينتظر وفاة ليلى بفارغ الصبر...

رفعت يديها بانعدام حيلة تدعو من لا يغفل عن عباده:"أرجوك يا ربي.. أرجوك أطل في عمرها وبلغها مرادها"
وسرعان ما مسحت دموعها لترى من يطرق الباب..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

ابتسم مازن حين رأى هاتفه يومض باتصال نوران ...أوقف سيارته حيث منزل سعيد وأرسل لها رسالة أنه سيوافيها بالأخبار بعدما ينهي لقاءه ..
وصعد الدرج ولا تزال الابتسامة تأخذ مجراها على وجهه .. يعترف أنه يتصرف بنذالة للمرة الأولى فيتخذ المصنع حجة للقائها والتقرب منها عوضًا عن إنهاء الأمر بنفسه أو حتى التوجه لوالدها..لكنه بعد سنوات طوال من العمل لاستيفاء ديونه الكثيرة تجاه العم سعيد يجد في نفسه تلك الرغبة الحارقة للتعرف على أنثى للمرة الأولى ومن يدري ربما يتخذ الأمر أبعادًا أخرى في المستقبل..

استعاد ملامحه الحيادية وطرق شقة العم سعيد ..
دُهش حين فتحت  سيدة أربعينية الباب وناظرته بتفحص مرتاب.. فبادر يعرف بنفسه قائلا:"أعتذر لحضوري دون موعد مسبق .. هل هذه شقة العم سعيد القتيل؟.. هل لي بلقائه؟ أخبريه أن مازن السفيري يرغب بلقائه"

كانت ملامحها شفافة تعكس شعورها فقد بان الحزن عليها حين ذكر العم سعيد ثم الإدراك حين أخبرها عن هويته لتناظره هذه المرة بجزع كأنها تطلب منه الرحيل لسبب غير معلوم .. فعاد يعتذر:"آسف إن كنت حضرت في وقت غير مناسب..."

قاطعته هذه المرة دون أن تسمح له بالمتابعة وأشارت له بالدخول قائلة:"الحاج سعيد توفي قبل أكثر من أسبوع.."

كان قد جلس في غرفة الضيوف حيث أشارت قبل أن تصعقه بهذا الخبر الصادم فنهض بشكل لاإرادي دون أن يسعفه عقله برد مناسب لتكمل:" أرجوك مهما كان غرضك من زيارته اليوم هلا قابلت زوجته وقدمت لها العزاء في فقيدها .. صدقني هذا سيفيد امراة مسنة في مثل وضعها"

كان مازن يحدق بها بذهول كأنها تخبره أن الفضائيين سيحتلون الأرض... فظنت من ملامحه الغير مبشرة أنه سيعتذر منها ويغادر بصمت إلا أنه تنحنح مستعيدًا اتزانه وقال:" بكل تأكيد هذا واجبي تجاه العم سعيد.. "
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
دلف فادي للصف ينظر لزملائه بنظرة مختلفة هذه المرة..إنه الآن يتعامل كصاحب عمل لأول مرة في حياته ويبتغي كسب رضا الزبون ...
لاتزال الثامنة والثلث وقد حرص على الحضور باكرًا قبل بداية الحصة الأولى ..
تنحنح ينبه الجميع للالتفات إليه معرفًا عن نفسه بشكل أنيق:"حسنًا..لم تكن البداية موفقة وأجد أنني نقلت إليكم صورة منفرة عني دفعتكم لتجنبي كما أتجنبكم ...لذا وتصحيحًا لخطأي أريد أن أشارككم هوايتي"

واستعرض ورقة من دفتره تحمل رسمه لفتاة بأدق تفصيلة من ملامحها تجعل من يراها يظنها صورة ملتقطة بكاميرا عالية الجودة  بل ربما هي الفتاة بنفسها تتطلع إليهم بعينيها اللامعتين..

وسط ذهول بسنت ودينا ترددت الأسئلة الهامسة من الجميع عن هوية صاحبة الرسمة الرائعة..وقطعًا لم يدر بخلدهم أنها منة المنطوية على نفسها والتي قلما ينتبه إليها أحد..
"لا تترددوا في طلب رسمة مماثلة إن راقتكم موهبتي"

وتتابع الهتاف المستحسن من الجميع..فابتسم فادي بثقة يعلم قدر موهبته بالطبع ولكن لابأس بخطوة للخلف لاستجلاب اهتمامهم...
وحين لاحت له سميرة من نافذة الفصل المطلة على ممر طابقهم الذي يمتلأ بالفصول أسرع لمقعده قائلًا:
"أووه ..إنها الأستاذة سميرة..سأتلقى طلباتكم في فترة الراحة"

ومر بجوار منة ليعطيها الرسمة هامسًا:"هناك أخرى سأعطيها لك فيما بعد"

انقطعت الأصوات فجأة حين دخلت سميرة تجيل نظراتها الصقرية بينهم في عادة يومية لا تتخلى عنها لكشف من يتمرد عن الالتزام بالزي المدرسي أو حسن السلوك..

وخرجت بصمت فاسترخى الجميع ملتقطين أنفاسهم ... وكذلك كان حال المعلم الذي دخل الصف يلتقط أنفاسه فسميرة الحافظ لا تدع أي شئ يمر تحت عينيها دون انتقاده وربما تشتكي أي معلم للإدارة إن انحرف عن الخط المستقيم المرسوم له...
ومازحهم قبل أن يبدأ الدرس:" نجونا دون مخالفات والحمد لله.."
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
دققت ليلى في ملامح مازن وهي تنصت لحديثه باهتمام حين أردف : "انظري يا سيدة ليلى..أنا لم أتهرب يومًا من مسئولياتي ولا أنوي ترك المدرسة للسيد عرفه ولكنني ضقت ذرعًا بأفعاله.. ربما لا يليق هذا الحديث بعد وفاة العم سعيد ولكن.."

قاطعته ليلى بهدوء قائلة:"اسمع يا مازن.. أنت كنت موضع ثقة سعيد حين أوكل لك هذه المهمة لذا أنا على يقين أنك تستطيع دحر مكائد عرفه دون كلل ..أما عن المال فبإمكانك الاحتفاظ به أو إيداعه  أي مشروع كصدقة جارية لسعيد  إذ أنه رحمه الله لم يذكر لي أنك مدين له يومًا .."

أومأ مازن بتفهم فيبدو أنه لن يتخلص من مسئولياته يومًا بل إنها تستمر في التزايد إذ تابعت ليلى:"دعني أستغل وجودك..قد تجد الأمرغريبًا لكنني لا أريد أن تنشأ النزاعات بين أولاد عمومتي فور وفاتي وأنا واثقة أن عرفه سيفعل.."

وأمام عينيه المتسعتين بإحساس من وقع في الفخ ضحكت ليلى قبل أن تردف بهدوء:" أنصت للأهم يا بني.. هذه وصية سعيد أوصى بتقسيم التركة بالعدل بين أولاد عمه .. لم أطلع على ما جاء فيها ولكنه أخبرني أن هذه الشقة ليست ضمن الوصية تركها لي لأقرر لمن أهبها.. وأنا أريدك أن تشرف على تنفيذ قراري الذي اتخذته بعد طول تفكير و تتابع كذلك إجراءات تنفيذ الوصية مع المحامي..كما كنت موضع ثقة زوجي فمؤكد بإمكاني أنا أيضًا الثقة بك.."

أومأ مازن دون تعليق ومضت ليلى تسرد طلبها على مسامعه حتى نسى تمامًا كل ما يتعلق بالمصنع ونوران..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد أسبوع
هاهي الحياة تبتسم له من جديد فقد مر وقت طويل دون أن يصله خبر من عبد الرحيم ويتمنى أن يكون قد رحل عن المدينة وتركه يعيش بسلام..

ولتكتمل سعادته تواصلت إحدى شركات المنسوجات الكبرى مع مشغله المتواضع وطلبت طلبية ضخمة جعلته يضاعف ساعات العمل ليتمكن من إنجازها وهاهو اليوم سيذهب بنفسه للإشراف على وصولها بأمان ..

دلفت نعمة غرفة النوم تراقب زوجها المبتسم لصورته في المرآة والذي بالغ في تأنقه كأنه مدعو لحفل ...
فتقدمت جهته باسمة وربتت على كتفه ثم قالت:
"ذهبت الفتاتان لعملهما..هيا لنفطر قبل أن تلحق بهما"

فضمها طاهر إليه وقبل رأسها قائلا:"ها قد وصلني نتاج دعواتك يا أجمل نعمة حظيت بها...يا إلهي! لم أشعر بهذه السعادة منذ زمن طويل"

ضحكت نعمة وقد راقها مزاجه الذي لم تعتده مؤخرًا ثم قالت:"الله معنا دائمًا يا عزيزي ..هيا للإفطار"

فتحرك طاهر ولا يزال يحيط كتفيها بذراعه يقربها منه وقال وهما يخرجان من الغرفة:"هل تقبلين اعتذاري اليوم عن الإفطار؟..أعدك أننا اليوم سنحظى بأمسية رائعة على انفراد في أرقى مطاعم المدينة ولكن الآن لابد أن أتأكد من إتمام المهمة على خير ما يرام"

"حسنًا..تناول إفطارك في الطريق إذا ولا تتأخر.."

ارتدى طاهر حذائه والتفت لها باستغراب فقد قبلت باقتراحه دون جدال.. فرفعت نعمة حاجبًا متآمرًا وتابعت:"مؤكد سأحظى بالتعويض المناسب وكلما تأخرت في العودة زاد التعويض"

فشدها طاهر إليه واحتضنها مودعًا ..ثم أجابها برضا تام:"سيكون لك ما تريدين"

راقبت نعمة انصرافه بابتسامة سرعان ما تبدلت عبوسًا حين تذكرت منامها المقبض والذي ستقضي كل دقيقة تتوسل إلى الله ألا يتحقق ويفسد سعادة زوجها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد دقائق
جلس طاهر يتناول إفطاره في مطعم الشركة تشاركه هالة التي تصدر صوتًا مستمتعًا بين كل قضمة وأخرى ثم قالت:"أعشق المخبوزات التي تعدها أمي .. آسفة يا أبي سأقضي على إفطارك.. من قد يرغب في ترك هذه الملذات لأجل حمية بائسة ؟! "

ضحك طاهر وأجابها وفمه ممتلئ بالطعام:"خسئت الحمية ومن يفرضها عليك.. تناولي القدر الذي تحبين يا ابنتي"

وضع الساعي في هذه اللحظة كؤوس العصير فشكرته هالة ثم لمحت خالد رئيسها المباشر في العمل ووالد أفنان فرغبت أن تخبره أنها ابنة صاحب المشغل الذي سيشرف على أزياء قسم التصميم لعام كامل وكم سيكون هذا مدعاة للفخر لها ..
"أبي..أترى..؟"

كادت تشير بيدها حيث وقف خالد لكن والدها نهض عن الطاولة قائلا:"سأتحدث مع السيد خليفة لدقائق وأعود لك يا لولو"

فأومأت بإحباط وتابعت تناول طعامها... كان الأمر غير خاضع لإرادتها فلم يشأ الله بعد أن يلتقي الصديقان من جديد!!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

احتضن وحيد ابنته بحب بعد عودتها من المدرسة والتي راحت تقص عليه تفاصيل يومها الحافل وقد تغيرت حياتها كليًا وصارت تجد بهجتها في المدرسة بعدما كانت تعاني بصمت وترفض مشاركته ما يحدث معها..

ثم غيرت الموضوع وهي تسأله بجدية:"أبي لمَ لمْ نذهب لزيارة العم عبد الرحيم؟ إنه في المشفى منذ فترة.. "

حدق وحيد بوجه ابنته التي تطرح أسئلتها ببراءة.. ماذا سيخبرها؟ هل يخبرها أنه يستشعر ما يجعله يرغب في الابتعاد آلاف الأميال عن جارهم  المتغطرس حتى أنه يكاد يقطع علاقة الجيرة التي تربطه بزوجته فيرفض طلباتها حتى يبتعد عن كل ما يخصه..

"أبي!" قاطعت صيحة ابنته الحانقة بسبب شروده
فأجابها بهدوء:"لنحدد وقتًا عندما أتفرغ يا حبيبتي.. هيا بدلي ملابسك لنتناول الغداء"

نهضت منة وهي تهمس ظانة أن والدها لم يسمعها:"أتوقع أن يكون غداءنا اليوم الأرز المحروق فقد تناولنا الأرز المعجن بالأمس"

فضحك وحيد بمرارة جاهلًا السبيل لإتقان الطبخ.. واتجه للمطبخ بأسى يترحم على زوجته التي يلازمه طيفها رغم رحيلها ..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
في المشفى
استعد عبد الرحيم للخروج وانتظر وصول الشرطة لتأخذ أقواله النهائية بشأن من يشتبه به في تدبير الحادثة..
وحالما سأله الشرطي نطق بثقة ودون أن تهتز له شعرة:"طاهر المغاوري وخالد السفيري هما مدبرا الحادثة"
ليس شكًا أو اشتباهًا بالنسبة إليه بل إنهما المتهمان الأبديان في كل ما يصيبه..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
تقلبت أفنان في فراشها وهي تتذكر ما حدث في المشفى قبل أسبوع..لم تلتقي بهيثم من يومها لأنها لزمت غرفتها وأخذت حساسيتها حجة لتمتنع عن الذهاب للمدرسة طوال هذا الأسبوع...حتى بلغ بها الملل مبلغه..

فنهضت تستطلع ما يفعله زيد..ربما بإمكانه قضاء بعض الوقت معها حتى يجد النوم إلى جفنيها سبيلًا...

وللعجب وجدته جالسًا  على فراشه بصمت في الظلام بدلًا من النوم رغم انتصاف الليل..
فاقتربت وجلست إلى جواره بقلق قائلة وهي تنير الضوء الخافت المجاور لسريره:
"زيد!...ما بك؟"

التفت إليها وقد انتبه توا لوجودها في غرفته فضمها بحنان وهو يسألها عن صحتها:"حبيبتي..كيف حالك؟..لم ألحظ دخولك.. هل تريدين شيئا؟"

"جئت أريد رفقتك فالنوم يخاصم جفوني هذه الليلة.. لكن يبدو أنك من تحتاج لرفقة تبعدك عن هذا الشرود..فيما كنت تفكر؟"

"لاشئ..دعك مني..ماذا تريدين أن نفعل ؟ كيف نقضي هذه الليلة الطويلة؟"

اقترحت أفنان بحماس:"اسمع انا الآن سأكون صديقك .. لنتهور ونسهر حيث تسهر مع رفاقك الشباب. ..هل فهمت ما أريد؟"

داعب زيد شعرها قائلا:"ومنذ متى لا أفهمك يا صغيرتي؟..هيا اذهبي لتبديل ملابسك وأنا سآخذك لمكاني المفضل"

لكنها أصرت قائلة:"أخبرني أولا أين نذهب ..أخبرني!"

"سنتسلق أحد الكباري"
توقع زيد صراخها المبتهج لكنها قالت بفتور:"أووف..الكباري تذكرني بنوران وكونها مهندسة"

وتابعت بغيظ:"اعترف تلك الفتاة شغلتك..هل أعجبت بها؟ خاصة حين سألتك عن الوصفة وقالت بصوتها البشع..لا بهذه الأنانية ستشبه أفنان"

ضحك زيد من غيرتها  وصوتها حين قلدت نوران تمامًا..وقال:"لا أنكر أنها جميلة وجذابة.. لكنها قوية تستطيع مجابهة الرجال والتصرف في أصعب المواقف.. أما عني حين تخيلت زوجتي المستقبلية ..أريدها طفلة  توكل إلي المهام الصعبة و تطمئن بوجودي ومساندتي لها"

ضيقت أفنان عينيها وقد راقها هذا الاستجواب وقالت:"اعترف! أنت تدقق في الإناث من حولك.. كيف عرفت كل هذا عن نوران من جلسة واحدة؟"

"أنا رجل عازب..وهذا لا يروق لي يا أفنان ..مؤكد أبحث عن نصفي الآخر"

"وأنا؟"
سألت أفنان وهي تصطنع الحزن ..
فاحتضنها زيد قائلا:"وأنت ماذا بك؟.. أنت ابنتي وأفضل ما في حياتي..وإن لم تقبلي بمن أختارها فسأتخلى عنها لا تقلقي أنت هي الأساس"

هدأت أفنان وذهبت لتبدل ملابسها براحة بال وزيد لايزال يضحك من غيرتها الغيرمبررة تجاه نوران..

بعد دقائق .. ركض الشقيقان بعد أن ركنا السيارة في مكان أمين حتى وصلا لما يشبه منحدر رملي يفضي إلى منتصف الكوبري...

فقالت أفنان:"لا.. تراجعت ..ما هذا؟..كيف سنصعد شيئًا كهذا؟..دعنا نعود لبداية الكوبري ونصعد كالبشر..رغم أنه للسيارات فقط..لنتهور بشكل مقبول!"

لكنه دفعها جهته وقال:"نتهور بشكل مقبول؟ ما هذه الجملة المتناقضة؟ هيا توقفي عن الجبن سأساعدك لا تقلقي.."

وبدأ الصعود بخفة ودون تردد كأنه يمشي على أرض مستوية ...حاولت أفنان تقليده فصعدت خلفه بقلق ثم  توقفت عن المتابعة وهي تسلم نفسها للهواء وتصيح:"سأقع يا زيد..الهواء يدفعني للأسفل"

فعاد زيد إليها ضاحكًا وأسندها حتى وصلا معًا للكوبري إذ أحيط الكوبري على جانبيه بحاجز من الحديد إلا هذه الفتحة التي صعدا من خلالها..

"انظري إلى نفسك! تُشعرينني أننا نتسلق أحد الجبال"

لكزته أفنان بغيظ فلم ترقها سخريته منها وقالت:"لست متشردة كأصحابك الذين تتسكع معهم"

ثم تنبهت لقولها فسبقته راكضة وهي تكرر اعتذارها لكن زيد لحق بها يبتغي قص لسانها كما يمازحها عادة في هذه المواقف..

لم تركض الكثير قبل أن يتمكن زيد منها فاعترضت ضاحكة :"سيظن الناس أنني أعبث مع صديقي في منتصف الليل ولن يتقدم أحدهم لخطبتي.. هل تخطط لهذا؟"

"نعم لا أريدك أن تتزوجي..لن أجد من يدخل غرفتي ليلًا بحثًا عن الرفقة والتسلية ..من يلاحق خطواتي في المطعم..من يجبرني على شراء الهدايا له..سأفتقد الكثير يا فنه"

دمعت عيناها متأثرة بقوله ولكنها غالبت عاطفتها لتمازحه:"لا تريد زواجي بينما تتحرق أنت لإيجاد شريكة حياتك..يبدو أنك بعد كل شئ تمتلك جانبًا من الأنانية كما قالت نوران..."

ضربها زيد على مؤخرة رأسها بخفة ضاحكًا .. وقبل أن يجيبها كان الحنق يرتسم على ملامحها وهي تشير لسيارة بعينها تقطع الكوبري في ظلمة الليل البهيم: "انظر إلى المهندسة الرجل التي تعجبك!"

التفت زيد ليرى نوران تقود سيارتها وهالة من الغضب تكتنف ملامحها المتشنجة بينما تمسح عينيها كأنها تبكي فنهر شقيقته قائلًا:"هذا ليس وقت غيرتك يا أفنان..إنها تبدو بحال غير سوية .. "

وكان محقًا فنوران لم تنتبه لإشارته وتابعت طريقها بجمود..

"انظر إلى التكبر!!"
لم يعر زيد تعليق شقيقته اهتمامًا بل ربما لم يسمعه وعقله يبحث عن سبب قد يدفع نوران للخروج في وقت كهذا!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
في الصباح الباكر
دخل عبد الرحيم المتكئ على عكازه قسم الشرطة بكبرياء وثقة وفورًا لمح تلك الشابة التي تكتفت وزمت شفتيها جالسة على دكة خشبية كأنها تجاهد ألا تبكي .. فاقترب منها وحياها باستخاف..

وحالما رفعت نوران عينيها ورأت وجهه الساخر اشتعلت نظراتها بالغضب مما أجج فرحته بالانتصار وقال:"اعذريني خفت ألا توصلي سلامي لوالدك.. فأردت تحيته بطريقتي"

لم تتح لنوران فرصة الرد وهي ترى خالد يدخل القسم بوجه متجهم يجاوره أفراد الشرطة ..
فربت عبد الرحيم على كتفه يحييه قائلا:"آه..كيف حالك يا رجل؟.. هكذا تتعب رجال الشرطة في البحث عنك ليلًا؟ "

ثم ترك العيون تقدح شررًا واتجه للباب مغادرًا وهو يقول باستفزاز:"على كل حال سأغادر وأدع العدالة تتخذ مجراها .."
#فوت
#كومنت
اكتبولي تعليقاتكم الحلوة وتوقعاتكوا❤️

جيران المدينةWhere stories live. Discover now