الفصل الحادي والعشرون
قصدت منة غرفة الأخصائية الاجتماعية ما إن دلفت للمدرسة في آخر أيام الامتحانات النهائية لهذا العام..
إذ عكفت سميرة على زيارتها مرارًا قبل الامتحانات وأغدقت عليها حنانًا أموميًا تكتم منة أمره إلى الآن فلا تظن أن أحد زملاءها سيصدق الشخصية الحقيقية لسميرة الصقر كما يسمونها..
حتى يوم اشتهت الشمع وطاوعت رغبتها في تذوقه ارتبك والدها عندما رآها تتلوى دون أن يفهم سبب ألمها فاتصل بسميرة فورًا والتي نجحت في استجوابها بحزم وعلمت أنها تناولت الشمع وأصرت أن ترافقهما للطبيب..
وقالت ما إن رفعت سميرة رأسها منتبهة لوجودها:"تفضلي حصتك من الأرز"
أردفت مبررة تجيب نظرات الاستفهام في عينيها:"لا تسأليني..أصر أبي أن أحمله إليك حتى يخبرك كم أنه طالب مجتهد يتعلم دروسه بسرعة.."
ضحكت سميرة بقوة وأجابتها:"بل يصر على معاكستي فقط ربما يرى أن أرزه أفضل من خاصتي.. لا بأس سأتذوقه ولكن لا تنسي إخباره أنه لن يتفوق علي مهما حاول"
ثم سألتها بلطف:"وكيف حالك الآن؟ هل تناولت إفطارك؟"
فعضت منة شفتيها بارتباك دون إجابة لتنتهد سميرة بيأس قائلة:"تناولي ولو ثمرة فاكهة..تحتاجين الطاقة للتركيز في امتحانك"
وأخرجت من حقيبتها قطعة شوكولا فأعطتها إياها محذرة بصرامة زائفة: "تناوليها وإلا ألغيت امتحانك"
فاستسلمت منة مرغمة وأكلت منها أمامها حتى تطمئن ثم ودعتها لتخرج من الغرفة وتدس بقيتها في حقيبتها ..تعدها بمرح:
"سأتناولك فيما بعد إن تذكرتك"
وضحكت بخبث قبل أن تقصد لجنتها الامتحانية متحمسة بشدة لمفاجأة فادي التي يعدها بها منذ بداية الامتحانات..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أدت أفنان صلاة الفجر واستلقت على فراشها عاجزة عن النوم منذ حوارها مع هيثم بالأمس..واسترجعته كاملًا فبعد أن قرأت رسالته العذبة التي يتغنى فيها بحبه اللامحدود لها..باغتها بشرطه التعجيزي أن يعقدا قرانهما ما إن يعود وإلا فليظل مع أصدقائه حتى تقرر موعدًا لعقد قرانهما..
سارعت تبحث عن حجة لاستبطاء الأمر حتى قررت أن تكون صريحة معه وتحذو حذوه معها فكتبت:
"أنا أعاني من مشكلة ..."
ولم تتم جملتها حتى كان هاتفها يومض باتصاله فرفعته مبتسمة إلى أذنها وشرحت له عن غيرتها التي تكاد تصل للحقد على كل من يفوقها في العمل.. الدراسة أو حتى المواصفات الجسدية التي تروقها ويملكها غيرها..
"رأيت نوران..."
"ما بك؟ تابعي الشرح"
لكنها تنبهت أنها ستمتدح نوران وتملأ أسماعه بمميزاتها لذا تراجعت فورًا وجعلت وصفها عامًا أكثر فقالت:"بعض زميلاتي في العمل أكبر مني سنًا أو أقدم في العمل لذا يفوقنني في كل شئ وأنا رغم إدراكي لهذا أشعر بالاستياء الشديد منهن وأغار كثيرًا من نجاحهن"
واستطردت:"أتعرف تمنيت دائمًا أن أحظى بشعر بني كزيد ومازن لكنني ورثت شعر أمي الأسود..حتى ذوات الشعر البني أغار منهن ..تعجبني العيون الواسعة وإن رأيت شخصًا بعينين واسعتين سأحقد عليه..إنه مرض فتاك ولا أجد له علاجًا"
"أنا أتحمل البرودة أكثر منك..وكنت أتفوق عليك دائمًا في حل الألغاز..هل تغارين مني؟"
"ها أنت تستهزأ بي وأنا من شرحت لك مشكلتي وكتمتها عن الجميع حتى زيد خشية السخرية"
ضحك هيثم قبل أن يتنهد ويسترضيها قائلًا:"لا تغضبي..كنت أسألك بجدية يا فراشة هيثم"
وتابع شارحًا مقصده:"تغارين ممن هم أفضل منك شأنًا حسب تصفينك ونظرتك للأمور..إنها غيرة وليست حقدًا طالما لازلت تتعاطين معهم ولم تكرهي أحدهم أو تتصرفي معه بما يشين"
أقرت أفنان بصدق قوله خاصة أنها تحب نوران رغم أنها تتصدر قائمة من تغار منهم..
"وما العمل؟ كيف أتخلص من هذه الغيرة؟ أنا لا أستطيع التعايش معها..إنها تزعزع استقراري النفسي"
"لا أعرف..لو أننا درسنا مع شعبة العلوم في الثانوية ربما تمكنا من دراسة الطب النفسي وحينها يحل كل منا مشكلته..لكن لا بأس يمكننا المحاولة ما دُمنا معًا..لهذا أرجوك وافقي على طلبي..لنعقد قراننا ما إن أعود..أريدك بجانبي يا أفنان دون خوف أو قلق..أحتاج إليك فلا ترفضي"
ومع إلحاحه الشديد قبلت وهاهي نادمة على تهورها..ربما عليهما الافتراق لفترة أطول حتى يحل كل منهما عقدته الداخلية ويصبح مستعدًا للزواج وتكوين أسرة يتبادل أفرادها العطاء والقوة..
غافلها النوم فسكن عيونها ليرتخي جفنيها وتغيب عن محيطها لساعات ثم استفاقت مع رنين هاتفها المحمول فأجابته دون استطلاع هوية المتصل..
"دقائق وأكون في المنزل..استعدي لاستقبالي"
"مرحبًا بك"
قالتها بوهن مغلقة الاتصال..
وما كادت تذهب في النوم مرة أخرى حتى عاد هاتفها للرنين فاستفاقت تمامًا هذه المرة لتصرخ به:"وهل أعمل بوابًا؟ تملك المفاتيح ويمكنك الدخول دون استئذان"
لكن من أجابها هذه المرة لم يكن هيثم بل جنات التي بادرتها بصرامة:"استفيقي يا أستاذة أفنان وتعالي لإنجاز عملك.."
شهقت أفنان وضربت جبهتها تشتم نفسها على تهورها قبل أن تتأكد من هوية المتصل.. وسرعان ما اعتذرت ونهضت بسرعة للاستعداد لعملها..
بعد دقائق
التقت هيثم عند البوابة الخارجية للمنزل والذي كاد يأخذها في أحضانه من شدة اشتياقه إليها..وسألها بلطف ما إن لاحظ تجهمها:
"ما الذي يزعج فراشتي منذ الصباح الباكر؟"
لم تلتفت أفنان لسؤاله وأخذت تتلفت حولها بحثًا عن سيارة العائلة ..
"قولي اشتقت إليك..هيا قوليها بينما تنظرين لعيني.."
"لا أملك وقتًا لك..ابتعد عني"
اتسعت حدقتا هيثم من ردها الفظ وأجابها بصدمة:"أهكذا تستقبلينني بعد ليلة طويلة من تبادل الرسائل الرومانسية؟"
فشعر بقبضة تلتف حول عنقه من الخلف وتعتصر عروق رقبته مع صوت زيد المتوعد له بالهلاك..
لكن أفنان سارعت تفصل بينهما قائلة:"تعالى وأوصلني..لن أضيع وقتي في البحث عن سيارة العائلة وسائقها"
طاوعها زيد جاذبًا المفتاح بخشونة من يد هيثم قبل أن يستقل سيارة مازن مع شقيقته محدجًا هيثم بنظرات متوعدة..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
تصافحت المرأتان قبل أن تجلسا متقابلتين في المطعم الذي اتفقتا على اللقاء به..
وابتدأت رزان حديثها بجرأة كعادتها:"في الحقيقة حين طلبت منك أن نتعارف ونعقد صداقة متينة بيننا كنت أسعى لمصلحتي في المقام الأول"
"وما هي مصلحتك التي أملك مفاتيحها؟"
تنحنحت رزان وانتظرت أن يُتم النادل توزيع الأطباق على مائدتهما قبل أن تقول:
"المصنع..شقيقك يرفض إعطائي معلومات كافية أحتاجها لمقالاتي .. وأعلم أنك على صلة وثيقة بالأمر ..ألست زوجة أحد الشركاء؟"
"لقد انقضى هذا الأمر من زمن ولا أرى داعيًا .."
قاطعتها رزان بثقة:"بل هناك ألف سبب .. عبد الرحيم بدأ من الصفر مع زوجك والسيد طاهر ثم تنكر لهما وادعى ملكيته الكاملة للمصنع..وعاد يتهمهما بوجه جرئ بلا خشية أو ملامة ..ألا تظنين أن بوسعه تكرار ضرباته الظالمة مرة بعد أخرى؟ عليكم اتخاذ الحيطة "
"أرى أنك تعرفين القصة كاملة ..فأي مساعدة تطلبينها مني؟"
"أشكرك لقد أرضيت غروري بحق..أنا لا أعرف شيئًا عن القصة إنها مجرد اجتهادات شخصية ..جمعت معلومات وأقاويل متناثرة ورتبتها بمساعدة حسي الصحفي لكنني حين أكتب مقالاتي أحب تحري الصدق قبل البحث عن الشهرة"
ارتسم التردد على وجه علياء التي لم تُحِرْ جوابًا لرفيقتها ...لذا تابعت رزان: "دعينا نؤجل هذه الأحاديث الجادة بعد الطعام"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أرسلت سيارتك للصيانة ..وتوقف عن إعارتها للقاصي والداني"
أغرق مازن في الضحك على الطرف الآخر وقال:"كما تأمر يا سيدي..ما إن أنهي عملي في المدرسة حتى أوصي عصام بإحضارها"
"جيد..ولا تنس أن تأخذ تحذيري على محمل الجد"
أنهى مازن الاتصال مع شقيقه ضاحكًا وما إن رفع عينيه عن الهاتف حتى لمح نوران تتهادى نحوه برزانة وثبات..
فبادرها ما إن وصلت إليه:"كيف حالك؟"
"بخير..هل تسمح لي بالمرور؟"
إذ أغلق بوقفته طريق الدخول إلى غرفة المديرة حيث الاجتماع المقام بخصوص تنظيم أعمال الكنترول المدرسي والإعداد لامتحانات الشهادة الإعدادية..
وقبل أن يستفهم عن سر جمودها تابعت مبررة بما شعرها حجة مزيفة:"العمل يتطلب الجدية"
فتنحى عن طريقها بهدوء عاقدًا العزم على استجوابها فيما بعد..
إلا أن نوران لم تمكنه من تحقيق غرضه فقد اختفت بانتهاء الاجتماع وحبسه حديثه الذي لم ينته مع جنات عن اللحاق بها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
ناظرت أفنان شقيقها بحيرة إذ أظهر اليوم الهدوء والالتزام على غير العادة و رافقها في طريق العودة للمنزل مناقضًا توقعها بأن يفضل اللهو مع رفاقه على مرافقتها..
وما إن وصلا حيث شقة سالم حتى انفتح الباب وأطل منه هيثم باسمًا فأسدلت جفنيها مرتبكة بعد أن تذكرت موقفها منه صباحًا..
بينما أشار هيثم لابن عمه أن يتركهما على انفراد فغادرهما فادي متأففًا وقصد مرآب البيت بحثًا عن بغيته..
"ألم تسأليني يوم خرجنا ما هي المفاجأة التي أعددتها لك؟ قررت أن أخبرك عنها اليوم ونعوض نزهتنا الضائعة "
أجابته أفنان بدلال تعلمه بموافقتها ولكن على طريقتها المميزة:"دون تعلل بسيارة مازن أو تحكمات زيد"
"نعم..أنا وأنت فقط..لتكن نزهة لإنعاش حبنا"
أومأت أفنان هامسة:"سأراسلك لأخبرك بقراري"
وركضت صاعدة الدرج فضحك هيثم مدركًا خجلها اللذيذ الذي يمنعها التصريح بموافقتها..
وفي الآن ذاته عاد مازن من المدرسة وقصد المرآب حيث عصام فقال:
"عصام إذا سمحت أحضر سيارتي من الصيانة ما إن تنهي عملك ..وبإمكانك أن تترك المفتاح لدى هيثم أو زيد..."
قطع جملته حين أبصر فادي يقف عند باب المرآب ..فتقدم منه قائلًا:"بل اتركه مع فادي.. احتفظ لي بهذه الأمانة حتى أعود يا فادي..اتفقنا؟"
أومأ فادي بلامبالاة ظاهرة فشاكسه مازن مبعثرًا شعره قبل أن ينصرف مبتسمًا.. بينما أعاد فادي ترتيب شعره متأففًا وناظر عصام بكبرياء حريصًا أن يظهر له الفرق بين طبقتيهما..
ففضلًا عن شعوره أنه يعلوه في المكانة الاجتماعية يخشى أن يفسد عليه مخططه اليوم وقد أتاح له مازن الفرصة دون أن يبذل جهدًا وأراحه من هم التفكير والتخطيط....
ولم يعبأ عصام بنظرات الصغير فهو لا يهتم إلا بمعاملة صاحب العمل ولن تدفعه أفعال مراهق طائش لقطع أحد مصادر دخله..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أعاد عرفه قراءة إحدى رسائل سعيد إليهم شاغلًا وقته حتى تحين اللحظة المناسبة لتنفيذ خطته الانتقامية..وكان قد احتفظ برسائل سعيد وليلى رغم نقمته عليهما.. ربما ابتغى اجترار الأحزان..لايدري ولا يعرف سبيلًا لراحة نفسه..
إلا أنه انكب على قراءتها كأنها المرة الأولى محللًا كل ما كتبه ابن عمه ..
إذ كتب فيها:"أن تصبح فردًا من عائلة القتيل يعني العار والفخر معًا..لن تطأ قدمك أرضًا إلا نبذك فيها الجميع كأنك حاصد للأرواح أو شئ مدنس ملعون.. وما إن تعود لمجتمع القتيل حيث العائلة ستبقي رأسك مرفوعًا ليضاهي ناطحات السحاب فجميعنا يدرك قيمة نفسه وسيبقي على أسلوب عائلته أبدًا وإلى أن يلفظ أنفاسه..
لم تشأ أمي لوحيدها أن يعيش هذه الحياة فقررت الانفصال وخاضت حربًا طويلة لتنال حقها في حضانتي.. ثم أوكلت أمر تربيتي للعم عثمان.. لا أعرف من يقرأ رسالتي منكم..لكنني أتمنى أن تقع بين يديك أنت يا عرفه..اسمح لي أن أشرح.. لم أقصد يومًا منافستك أو سلبك ما تشتهيه نفسك..لكنني نشأت هنا وهنا فقط ..لم أعرف أبًا غير عمك عثمان وهو لم يبخل علي بأي شئ وأراد لي الحياة التي كان ليهبها لابنه لو أنجبه...
ولم أدرك متلازمة العار والفخر إلا بعدما بلغت وأصررت على زيارة أبي..ابتغيت التعرف إليه..من هو الرجل الذي هربت منه أمي ما إن لاح لها طيف أمل ظنته مستحيلًا؟!!
وهناك بين أفراد عائلتي عرفته وفهمت السبب ..رجال العائلة يعتنقون تصرفات قريش في الجاهلية.. لا يملكون قلوبًا بل يستبدلونها بالحجارة التي تجعلهم يحقرون بناتهم ويحبسونهن في البيوت..
أليست طريقة عصرية لوأد البنات؟!
هب أنك مقاتل يخضع لأقسى الضغوط طوال حياته وعند أقل خطأ يُرجم..يُجلد بالسياط..يُرمى بأشنع الألفاظ..
أتستطيع تخيل نمط الحياة هذا؟! تلك حياة ذكور العائلة..
وعدت من زيارتي القصيرة حامدًا الله شاكرًا لأمي صنيعها وقررت أمرين..لن أعصى لأمي أمرًا ما حييت ولن أتوانى عن تحقيق مراد عمي عثمان مهما كان
ومضيت أيامي في كنفه وحماه داعيًا الله أن يجعل حاجته عندي علني أرد إليه جزءًا من أفضاله علي..
لذا أعتذر منك يا عرفه إن آذيتك دون قصد باتخاذي القرار الثاني..لك كل محبتي"
ضغط عرفه شفتيه ببعضهما بقوة حتى ابيضتا واكتفى بطي الرسالة وإعادتها للظرف حيث مثيلاتها..
وسأل نفسه العليلة بغلها: (هل أثر خطاب كهذا يحمل الاعتذار بين طياته في حقدك أو هز عرشه المستتب بأعماقك؟)
وكان موقنًا أن الإجابة هي لا..لكأن روحه قد عطبت بعد أن أثقل عليها بمشاعره الحاقدة حتى صارت لا تعرف غيره..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
تسلل فادي إلى مرآب المنزل مستغلًا غياب والديه و انشغال أشقائه وقاد سيارة مازن حيث منزل منة..
إذ قرر أن يصالحها على طريقته كالعادة واختار هذه المرة أن يأخذها في جولة بالسيارة...
وافته منة خلال دقائق واتخذت المقعد المجاور له قائلة:"بالكاد أقنعت أبي أني سأخلد للنوم لأستريح من عناء الامتحان...لكن علينا ألا نتأخر..يجب أن أعود لغرفتي قبل أن ينهي عمله"
التفت فادي إليها وغمزها بمرح قائلًا:"دعي هذه المهمة لملك مضمار السباق"
وانطلقت صرخات منة مع انطلاق السيارة بأقصى سرعة لتخلف عاصفة من الرمال في أعقابها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
افترقت المرأتان بعد أن نالت رزان مرادها وقد وعدتها علياء أن توكل ابنها بإعلامها بأي تفاصيل سقطت منها سهوًا فيما أخبرتها به عن غدر عبد الرحيم بهم قديمًا..
فوقفت ترقب انصراف الأخيرة بهدوء إذ حققت الخطوة الأولى في طريقها إلى علياء..
ورغبتها في الاجتماع بعلي تحت سقف واحد من جديد تحدها للاستمرار حتى يكون إقناع علياء سهلًا فيما بعد..
ركبت سيارتها وقادتها بثقة لخطوتها التالية..ستبدأ جمع المعلومات عن خليفة فقد يكون عدوها الأشد بطشًا في المرحلة القادمة..
وعلى الجانب الآخر لزم خليفة جانب الصمت حتى يجمع قدر كاف عن رزان فيعرف مدى الخطر الذي تشكله على عمله الجديد بالمصنع وفي الآن ذاته لم يصل لقرار فيما يخص علاقته بسالم..
هل يتابع عمله في المصنع فيفقد شراكة السنوات؟ أم يذر الحقوق لأصحابها؟! فهو أكيد أن المصنع لم يكن ملكًا لعبد الرحيم وحده..
وحتى يجد المستقر لحيرته قرر ألا يبادر بالحديث مع سالم في هذا الأمر حتى يبدأه الأخير وحينها لكل مقام مقال..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"ظننت أنني لن أرتاده أبدًا"
صاحت أفنان بحماسة ما إن دلفا للمول الذي تم إنشاؤه حديثًا في قلب المدينة ليعقب هيثم:"لا مستحيل في وجودي يا فراشة هيثم التي يحملها بين راحتيه أينما شاءت"
ضمت أفنان شفتيها كأنها تهديه قبلة دون أن تنظر إليه وبسطتهما بسرعة مبتسمة..
فضحك هيثم بخفوت مستمتعًا بردات فعلها المحببة قبل أن يصحبها إلى واجهة محل بعينه قائلًا:"هنا..رأيتهم يعرضون هذا الفستان على الإنترنت فتخيلتك ترتدينه ...فهلا تقبلين بتحويل الخيال إلى حقيقة؟"
اعترضت بدلال:"لكنه ليس لوني المفضل"
"في رأي أن الأصفر أكثر لون يناسبك يا أفنان.."
أغمضت أفنان عينيها مستمتعة بغزله الرقيق قبل أن تفتحهما على وسعهما تحدجه بحدة عندما أضاف:"يناسب غيرتك الحارقة يا فراشتي"
والتقط قبضتها التي كادت تلكمه بها مستطردًا:"قصدت غيرتك علي..أما بشأن غيرتك من أقرانك فدعينا منها الآن..ركزي معي أنا فقط"
دفعته أفنان وقد شعت وجنتيها احمرارًا إذ انمحت المسافة بينهما فبدت كأنها تسكن أحضانه ثم تنحنحت قائلة:"لك ما تريد..سأحقق لك مرادك ولكن على طريقتي"
"كيف؟"
"أقبل الفستان كهدية منك لكنني سأوجل تحقيق خيالك "
أظهرت ملامح هيثم السخط إلا أنه اقترح بلطف:"ليكن فستان خطوبتنا"
"أوووف...أحرقت المفاجأة..كنت سأفعلها دون أن تطلب"
ولامها هيثم بدوره:"بل أنت من أحرقتها كان عليك التظاهر بالرفض أو الامتناع عن الإجابة.."
تمتمت أفنان بغيظ:"أحمق"
فانحنى هيثم جهتها ممسكًا بأذنه متظاهرًا أنه لم يسمع ما قالته..لتلكزه أفنان ساخطة وتقول بصوت أعلى:"أحمق..هل تظنني أخشاك؟"
وسبقته تتطلع إلى واجهات المحلات باستمتاع..فناداها هيثم مغتاظًا:"تعالي إلى هنا.. يجب أن تتعلمي خشيتي من اليوم"
بعد دقائق
تشبثت أفنان بقميص أزرق وسألت العامل:"بكم هذا؟"
فقبض هيثم على يدها بحدة وقادها بعيدًا عن الرجل قائلًا:"يبدو أنني تسرعت في العودة"
تسمرت أفنان ولم تنطق حرفًا..حتى لو شعر أنها تجاوزته وأخذت مهمته بالحديث مع العامل فهذا لا يعني أن يحدثها بهذه الطريقة أو يضخم أمرًا تافهًا كهذا..
لذا سألته بهدوء:"صارت وسيلتك لمعاقبتي أليس كذلك؟"
حرك هيثم رأسه نافيًا وبرر بصدق:"لا..وليست..."
إلا أنها قاطعته بفتور وقد خبا حماسها وانطفأت بهجتها:" لقد عشت عمري متعلقة بك..جعلتك مركزًا لحياتي درت حوله أنا واهتماماتي وكل ما يخصني.. إلا أننا تغيرنا فلم تعد أنت هيثم الذي يضع حزني في المقام الأول وصرت أنا أفنان التي هجرتها لخمس سنوات كاملة"
لقد استحالت النزهة جحيمًا يبعثر جمراته الحارقة..وأمامه دقيقة واحدة فإما أخمدها أو ربما تعود أفنان لتجاهله كليًا كما فعلت في سنوات غربته.. وقد صار مدركًا أنها أكثر من قادرة على فعلها..
لذا ودون أن يلامسها تجنبًا لإغضابها توسلها قائلًا:"بربك يا أفنان..أرجوك.. لنجلس في مكان هادئ ونتحدث..دعينا لا نفسد ذكرى يومنا المميز.. سأركع لو أردت وأمام الجميع لا أهتم..أنا لا يعنيني غيرك..هل كنت لأطيق سنوات غربتي لولا ذكراك..لا أملك قوتك لأفعلها..صدقيني أنا ضعيف من دونك"
أومأت بعينيها فسارع هيثم يقودها للمطعم قبل أن تبدل رأيها..
وعلى النقيض من توقعه بادرت هي بالحديث قائلة:"هل تظنني أقوى على فراقك حقًا يا هيثم؟"
"لا أنتظر منك إجابة..ها أنا ذا أخبرك وبوضوح..حين أراجع تفاصيل خمسة أعوام من عمري لا أرى إنجازًا غير امتناعي عن إجابة رسائلك..ولشد ما أجهدني تحقيقه"
صمتت سامحة له أن يطرح سؤاله المؤرق:"إذًا كيف؟ كيف وجدت القوة لفعلها؟ أذكر ليال قضيتها أفكر في فحوى رسالتي القادمة إليك..كيف أستثير مشاعرك؟ الغضب..الحب..أو حتى الكره..لم أجد سبيلًا إليك..وظلت رسائلي بلا إجابة رغم إطلاعك عليها"
أطلقت أفنان ضحكة مريرة سرعان ما قطعتها قائلة:"صدقني لقد جعلتني أتعرف إلى جانب آخر مني..حين أهيم بك وأغيب عن الدنيا محلقة بطائرة حبك إلى أعلى السماوات..أسارع لتحطيمها بقراءة إحدى رسائلك التي تثير في الغيظ والغضب.. أو تفجيرها برسائلك المفخخة بالكراهية..
وأحيانًا أخرى أجدني أسلوك بشجار أو مناكفة مع إخوتي.. وربما أفرغت غضبي في إجبار فادي على فعل ما أريد..ثم أستغل عاطفتي نحوك لأحيلها عاطفة نحوه فأراضيه ...
أو أغلق عقلي تمامًا فلا أفكر إلا في العمل..التدريس أو مساعدة زيد في مطعمه.. وحتى تنظيف البيت ومساعدة أمي..
اكتشفت أفنان أخرى...."
صمتت تتطلع إليه..إذ فغر فاه وتحركت شفتيه دون أن تكونا كلمة واحدة كأنه رضيع لا يعرف بعد كيف يتحدث...
ثم تابعت بهدوء:"كنت مثلك منبهرة بي..وكأنني أوجدت سلاحًا محرمًا لا يعرف غيري كيفية استخدامه..متحمسة لتلقي رسائلك واكتشاف طريقة بعد أخرى لدحر مشاعري..وفقط حال رؤيتك انهارت أفنان تلك وعادت التائقة...."
وكأنها وعت فجأة لما توشك على قوله صمتت تمامًا وتظاهرت بتفحص قائمة الطعام لكن هيثم لم يسمح لها أن تحول بينهما طويلًا فسحب القائمة منها بصمت وابتلع رِيقِه كأنما يبتلع الصدمة معه ثم قال:"لم يكذب ظني فيك أبدًا..وأنا أرجوك أن تقبلي بي بعلتي وتعطيني شيئًا من قوتك..ذرات انثريها فوقي أظنها ستكون كافية فلا أتوقع أن أكون يومًا على قدر قوتك"
احمرت وجنتي أفنان من مديحه وأغفلت الإجابة عن طلبه حتى تستعيد ثباتها.. فقالت بارتباك:"هيا اطلب لي شيئًا حلوًا مع الغداء..ألا تملك مالًا؟"
"انتظري دعينا نتحدث بجدية ونهمل المشاعر إلى حين..أريد موافقتك صريحة يا أفنان..لن نطرق باب الماضي مرة أخرى..وسنمضي معًا أبدًا ما قدر الله لنا أن نحيا..هل تقبلين؟"
"أقبل..وأضيف أنني لن أسامحك على تشتت رسائلك إلي.. لا أستطيع أن أصل لأول رسالة من طول المحادثة بيننا..اعذرني هذا ماض لا يُمحى وإن كويته بالنار"
علت قهقه هيثم وأجابها:"رسائلك في الحفظ والصون..جمعتها في ملف حتى أعرف ردك عليها جميعًا وجهًا لوجه..وإن لم تقبلي فلن أسامحك في هذا الأمر"
"هل تظنني لم أكتب الرد أيها الأحمق؟لدي ملف مماثل.. أشبعتك فيه شتائمًا لا تعد ولا تحصى ونقلت إليك ألفاظًا شديدة البذاءة سمعتها على لسان زيد في نوبات غضبه..ثم.."
قاطعها هيثم يصيح بها:"كفى..كفى!! أشقاؤك يعلمونك البذاءة..ويضربونني.. وأخضع لشقاوتك ومزاجك المتقلب أيضًا..وكأنني أجرمت في حقك!! ماذا لو اخترت الرحيل عنكم بإرادتي الحرة؟!! هل كنت ستشاركين إخوتك جلدي والتمثيل بجسدى؟!!"
زمت شفتيها وأسندت ذقنها إلى راحة يدها تجيبه:"ولم لا؟ يقولون أن لحم الإنسان ألذ لحم يؤكل في العالم"
وسرعان ما ضحكت من ذهوله فاستطردت:"تستطيع إنقاذ نفسك بمعاهدتي على ألا تغضبني"
"وهل أجرؤ؟ إليك القائمة اطلبي لنا ما تشائين..لن أعترض"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"الحمد لله اكتشفنا اليوم مقدرتك على تناول المثلجات كالأشخاص الطبيعين"
قهقهت منة كما لم تفعل منذ وقت طويل وأجابته:"بعد أن جعلتنا نتناول أضعاف ما أكلته طوال حياتي.."
"عليك أن تشكري الله أن جعلني سببًا لإفسادك وإدخالك طريق الوجبات السريعة من أوسع أبوابه"
"كل ما أخشاه أن تلفظه معدتي ما إن أصل للمنزل"
نهض فادي قائلًا:"هيا لنكتف من جلسة المشردين هذه ونتابع حديثنا في السيارة"
وافقته منة وما إن استقرا في السيارة حتى قال فادي:" اختبار سريع إلى أن نصل لمنزلك عددي لي كل ما تناولانه إلى اللحظة...وإياك أن تنسي هذا اليوم وتمتنعي عن تناول الطعام مجددًا"
ضحكت منة قبل أن تجيبه:"دعك من الاختبارات وأرنا مهارتك يا ملك مضمار السباق..أبي سيعود من عمله قريبًا"
فرفع فادي حاجبًا ونفض ملابسه بغرور وأجابها:"احسبي عشر دقائق ونكون قد وصلنا عند منزلك"
ناظرته منة بتشكك وأردفت:"لا أظن.. إننا في طريق لا نعرفه وإلى أن تهتدي للشارع الرئيسي سيمر أكثر من عشر دقائق..أظنني سأبيت الليلة في الشارع بعد أن يطردني أبي"
فانطلق فادي بأقصى سرعة بينما تشبثت منة بمقعدها بقلق وهي تتلقى سؤاله:"ألا تملكين مفتاحًا للمنزل؟"
"بلى"
"هل يطمئن والدك عليك قبل نومه؟"
أجابت وقلقها يتعاظم:"بلى"
"إذا فقد ضعنا يا صديقتي"
صاح بها ضاحكًا ... قبل أن تجمد ملامحه ويرتعش قلبه بدقة قلقة حين أبصر سيارة شرطة تقف على قارعة الطريق ومؤكد إن تخطاها بهذه السرعة فلن يسلم من شرهم..وإن حاول الإبطاء فجأة فقد تنقلب به السيارة لذا آثر السلامة وتابع طريقه مغمضًا عينيه ما إن مر بهم..
وتحقق ما يخشاه إذ لحقت به سيارة الشرطة مع صياح قائدها به أن يتوقف فورًا.. فشحبت منة وعلمت أنهما وقعا في مأزق لا مناص منه..بل أكبر كارثة قد تحل على رأسها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أخذتك إلى أفضل مزارات المدينة.. وأنت إلى أين أحضرتنا؟!!"
علق هيثم باشمئزاز بينما يتحولان في أزقة الحي القديم حيث القمامة والعشوائيات
فأجابته أفنان:"أردت استعادة ذكرياتي بصحبتك...انظر هذا هو البيت الذي سكنا فيه قبل أن نأتي للعيش معكم"
"اممممم...لا تأشري جهته يا أفنان"
لم تهتم الأخيرة بتحذيره ومضت تصف شعورها جهة الحي والبيت حتى تفاجآ بنفسيهما محاطين بأربعة رجال خرجوا للتو من البيت.. وكل منهم لا يقل طولًا أو عرضًا عن رفيقه...
فازدرد هيثم لعابه موقنًا أنها نهايتهما حتمًا ..مهما فعل لن يستطيع التصدي للأربعة معًا فأسقط أكياس مشترياتهما التي يحملها وتسمر حيث هو دون أن يأتي برد فعل..
"لقد انتهى عمركم أيها الأوغااااد"
صرخ بها أحدهم وأطلق رصاصة في الهواء مما دفع الرجال الأربعة لمغادرتهما واللحاق به يردون إليه صراخه وسبابه بأفظع منه..
كتمت أفنان شهقتها تراقب رحيلهم بتوتر..وسرعان ما التفتت لهيثم المتجمد لتصفعه برقة قائلة:"أفق يا هيثم.."
وأضافت عندما تلاقت نظراتهما:"في هذه المواقف ليس عليك أن تتسمر بل ضمني إليك ...ولنهرب معًا"
استعاد هيثم أنفاسه الضائعة قبل أن ينفجر بالضحك وأجابها:"ظننتك ستطلبين أن أحميك وأقاتلهم لأحظى بفخرك"
"بل لا أحب أن يكون حبيبي باطشًا بلا عقل..مؤكد سيغلبونك طالما يفوقونك عددًا وأنا لا أريد لك الأذى"
ناظرها هيثم بمقلتين تشعان عاطفة وحبًا عظيمًا لهذه الأنثى التي تسلبه عقله بأقل كلمة ..إلا أن أفنان أنهت حالته الهائمة بسرعة تصيح به وهي تنحني لحمل بعض الأكياس:"هيا ساعدني ..لنرحل بسرعة قبل عودتهم"
انصاع هيثم منفذًا أمرها وما إن ابتعدا عن الحي تمامًا حتى ناكفها قائلًا:"أي أنني أضعت على نفسي فرصة احتضانك..لم لا أستغل وجودك معي فتهديني واحدًا؟"
"قصدت أن تتصرف بهذه الطريقة وقت الطوارئ فقط أيها اللئيم"
"الطوارئ بالنسبة إلي هي نبض قلبي المتسارع بقربك يبتغي الوصال ولا يرضى به بديلًا "
اتسعت حدقتا أفنان وأطلق عقلها صافرات الإنذار إذ تسير وحدها في شارع هادئ مع ابن عمها الذي تجرأ لينطق بعبارة كهذه ولا تستبعد أن يتلوها هجومًا صريحًا لن تستطيع ردعه لذا تركت لعقلها أحقية التصرف وردع قلبها المشتاق...
فزجرته قائلة:"تسارع نبض قلبك لأننا نسير منذ فترة حاملين أغراضنا وفقط.. لا تتعلل بأسباب تافهة لتسلبني عقلي أيها الوقح"
رمقها هيثم باشمئزاز وأعرض عنها يشير لسيارة أجرة حتى تقودهما للمنزل.. وما إن استقلاها حتى غمغم بصوت مسموع:"حسبي الله"
فكتمت أفنان ضحكتها في أكياس مشترياتها التي تحتضنها وربتت على جيبها حيث هاتفها المحمول الذي التقطت به آلاف الصور تسجل كل لحظة من نزهتهما السعيدة..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
رفع خالد كوبه يحتسى الشاي قبل أن يقول:"تبدو مهمومًا"
"وكيف تركتك علياء تقابلني خارج حدود منزلها؟"
"بالكاد أقنعتها أن تترك لنا بعض الحرية..فبعد استجواب طويل أصرت أن تعرف هوية من ألتقيه ثم خضعت لتهديد شديد اللهجة إن لم نلتقي في المنزل لكنها أشفقت علي في النهاية وسمحت لي بالمغادرة"
قهقه علي مستمتعًا بسماع تحكمات شقيقته ثم قال بهدوء حزين:"أخبرني المزيد.. عن علياء أو أولادك أي شئ ..أريدك أن تشغلني حتى أنسى نفسي"
انتاب خالد القلق على صهره لكنه ما لبث أن نفذ له ما أراد واثقًا أنه سيأتي ليخبره عن مصابه فيما بعد..
"أطلعني مازن على نتيجة فادي منذ قليل"
"بهذه السرعة؟ ألم ينه امتحاناته اليوم؟"
"نعم المديرة تعتمد النتيجة غدًا..لكنه حصل عليها من الكنترول.."
"خيرًا؟ ألم ينجح؟"
سأل علي متخوفًا خاصة مع ملامح خالد المستاءة والذي أجابه مطمئنًا:"نجح بفضل الله..إلا أن مستواه تدهور كثيرًا عن العام الماضي..لقد صرت عاجزًا عن التصرف يا علي"
قطع حوارهما وميض هاتف علي باتصال من رقم غريب وما إن أنهاه حتى استقام بفزع هاتفًا بخالد:"إنه فادي..ألقي القبض عليه وهو الآن في قسم الشرطة"
وأسرع بالخروج من المقهى ليلحقه خالد خلال ثوان بعد أن وضع ورقة نقدية تفوق ثمن ما شرباه...
سارت بهما سيارة الأجرة إلى مقصدهما فتزايد قلق علي لحظة بعد أخرى بينما قبض خالد كفيه بغضب فاق كل الحدود..مستعدًا لاستقبال ابنه العاق بما يليق بتصرفاته..
وفي قسم الشرطة..
انخرطت منة في بكاء متواصل ووقف فادي إلى جانبها حائرًا إذ أخبرها أن خاله محام ولاشك يستطيع إخراجهما من هذا المأزق...لكن أي من محاولاته لم تفلح في تهدئتها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"مرحبًا..كيف حالك يا سيد وحيد؟..كنت سأتصل توًا لل..."
قاطعها وحيد صارخًا:
"كيف تخرجين مع ابنتي دون أن تطلبي إذني؟عدت للمنزل فلم أجدها ويمكنك تخيل أين أخذتني أفكاري السيئة فالأسوأ حتى تذكرتك أخيرًا"
تجهمت سميرة وتركته يفضي بما لديه مبعدة الهاتف عن أذنها حتى صمت فأجابته متجاهلة إساءته إليها رغم أنها تذكرها بماضيها البعيد:"أنا في منزلي..رأيت ابنتك صباحًا في المدرسة"
شحب وحيد وقد ظن أنه عثر على ابنته أخيرًا وصمت تمامًا فلا هو قادر على الاعتذار أو التفكير في شخص آخر يسأله عن منة..
لتقول سميرة:" لا نريد تشتتًا أخبرني بسرعة ولننظم أفكارنا..هل تعرف أصدقاء ابنتك المقربين؟ هاتف أي منهم أو عنوانه سيكون مفيدًا"
لم تلق ردًا فنادته بحزم:"سيد وحيد.. استمع إلي..سأبدل ملابسي وآتيك..لابد أن نجد شيئًا في غرفة منة يدلنا على أصدقائها.. سنعثر عليها لا تقلق"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد دقائق...
"الحمد لله..تمت السيطرة على الوضع"
تنهد علي براحة والتفت لفادي قائلًا:"تقود سيارة شقيقك بسرعة قرابة منتصف الليل يا فادي.. دون أن تتأكد من وجود رخصة القيادة..ودون بطاقة هوية حتى! هل يصح ما فعلته؟"
طأطأ فادي معترفًا بخطأه دون أن ينطق .. ثم التفت لوالده يستطلع رد فعله فباغته الأخير بصفعة أوقعته أرضًا من قوتها..
لتشهق منة بقوة بينما حال علي بينهما وأشار لسيارة أجرة دافعًا فادي بسرعة ليحتل المقعد الأمامي إلى جوار السائق..ثم شغل المقعد الخلفي مع منة وخالد يتوسطها ..يشد على ذراع صهره بقوة فيبدو أنه لا يمانع أن يقتل ابنه في الشارع على مرأى ومسمع من الجميع جزاءً على تهوره..
"أخبري السائق عنوان منزلك سيقودنا إليه أولًا"
كانت منة لاتزال شاحبة إذ شعرت ان الصفعة التي تلقاها فادي أصابت وجهها هي ساقاها ترتجفان وصدرها يرتفع وينخفض كأنها حُقنت بالأدرينالين فاختلت استجابات جسدها..
أعرض علي عنها هامسًا لصهره:"اهدأ ..أترى الصغيرة التي ترافقنا أم أن عينيك لا تبصران غير ابنك الذي يستحق القتل الآن كما تظن؟!!"
فتمالك خالد نفسه وأغمض عينيه ينتظر وصولهم المنزل بفارغ الصبر بينما رافق علي الصغيرة حتى باب شقتها الذي رأى عنده رجل وسيدة خمنا أنهما والداها فألقى تحية محرجة واكتفى بأن قال:"لا تقلقا..الصغيرة بخير"
اندفعت منة فورًا لأحضان والدها شاهقة بالبكاء..فشدد وحيد من ضمها إليه ونقل أنظاره إلى سميرة التي سألته بالإشارات:"هل يحتاج مساعدتها أم يستطيع تولي الأمر؟"
فارتسمت الحيرة على وجهه لذا سبقته سميرة تدلف الشقة وأفسحت له الطريق ليلحقها مع ابنته التي قادها فورًا لغرفتها وأجلسها على فراشها لكنها ظلت على تعلقها به دون أن تنطق حرفًا..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
ترجل علي فورًا يجر فادي من ذراعه إلى شقة سالم ولحقهما خالد تحده طاقة عنفه في هذه اللحظة للركض خلفهما حتى يلقن ابنه الدرس جيدًا هذه المرة..
هل يظن أنه بلا رقيب يحاسبه على تصرفاته؟ أم يظن أنه سيسلك درب الانحراف ويتخذه بكامل إرادته كونه صار رجلًا كما يقول ؟!!
"دعه يا علي..لم أنته منه بعد!"
صرخ خالد بينما يقرع علي جرس شقة سالم ويطرق الباب بحدة في الآن ذاته يتعجل الأخير بفتحه..والذي ما إن خرج إليهم مفزوعًا حتى دفع علي بالصغير جهته قائلًا:"دعه يدخل غرفة هيثم حتى يهدأ والده"
"ماذا حدث؟!!!"
تساءل سالم مذهولًا من الحالة التي يرى بها شقيقه بينما صرخ فادي يقاوم دفع خاله:"لن أهرب..دعه يريني أبوته المزعومة"
وكزه علي بقبضته يحثه على الصمت بينما سارع سالم يدخله الشقة وخرج مغلقًا الباب خلفه معقبًا في محاولة لتهدئة شقيقه:
"تصرفات مراهقة طائشة..."
قاطعه خالد منفعلًا:"وكأن دفاعك يلزمه..ألا ترى كيف يتكلم؟!!! ويظن نفسه صار رجلًا؟"
وأعرض عنهما يصعد الدرج حيث علياء والتي لسوء حظها كانت تخرج من المطبخ في اللحظة ذاتها التي دلف فيها من باب الشقة ..وأدركت من ملامحه أن شجارًا قويًا سيشب بينهما في التو..
"ما بك؟ هل أغراك علي بقتلي؟"
ألقت جملتها مدركة أنها ستبدو مزحة سخيفة ثقيلة الظل الآن..إلا أنها قالتها لتُقدر مستوى غضبه بناءً على رد فعله الذي جاءها عنيفًا كما توقعت إذ جرها لغرفتهما دون حديث..
وصرخ بها ما إن أحكم إغلاق الباب:
"هل تلك تصرفات الرجال التي تدافعين عنها؟!لولا بقية عقل لتبرأت منه اليوم قبل الغد"
غطت علياء فمها بيدها مصدومة مما تسمع وسألته:"هل تقصد فادي؟"
فبدا سؤالها بلا معنى إذ تعرف تمامًا حجم الشقاق بينهما وأنه لا يقصد غيره..
"ماذا فعل؟ أخبرني.."
"لا أعرف..التقطه للتو مع علي من قسم الشرطة وهناك عرفنا أن ابنك يستغفلنا فيقود سيارة شقيقه دون استئذان ليلهو في الشوارع مع إحدى زميلاته.."
"قسم الشرطة!!"
"أترين تصرفاته؟أخبرتك علي بقتله ضربًا كل يوم فيبدو أنه لن يعتدل ويكون كإخوته إلا بالعنف..هذه هي العواقب التي توقعتها..أغرقته دلالًا وتفهمًا حتى فسد تمامًا"
دمعت عيناها وبدت لخالد في هذه اللحظة أكبر من عمرها بخطوط الشقاء التي خطها الزمن حول عينيها وفمها..
وما لبثت أن أطلقت شهقة بكاء رغمًا عنها وحاولت التماسك حاجزة دموعها عن الهطول سائلة:"هل ألقي القبض عليه...؟ بربك يا خالد! تنقل إلي هذا الخبر بهذه الحدة وكأنك تنتظر أن أقارعك وأدخل معك في جدال طويل حول من أخطأ منا؟ وأينا ارتكب الخطأ الأكبر؟!!"
أعرض خالد عنها و لايزال الغضب يتملكه فلا تشفع عنده دموعها التي نزلت مدرارًا على وجنتيها شاكية..
"أنا أم ولم أنتزع بعد قلبي من صدري حتى أراك تقتل ابني أمامي وأقف عاجزة لذا فإما تخبرني بوضوح لمَ أُلقي القبض على ابنك وتبحث معي سبل إصلاحه.. وإلا لتتركني أنعي مصابي وحدي عسى الله أن يهديني فآخذ بيده قبل فوات الأوان"
"أنا أيضًا لم أجد الفرصة للسؤال..أترين حالتي؟ أشفقي علي..لا أستطيع إطفاء نار غضبي التي تلتهم أحشاءي الآن.."
وأتتهما النجدة في الطرقات المتتابعة على باب الغرفة ليسارع خالد بالفراروإلا فإنه سيُقدم على قتل ابنه العاق...
بينما تعلقت عينا علياء الغارقتين بالدموع بمازن وزيد...
بادر مازن باحتضانها دون أن يستفهم عن سبب هذه الفوضى المفاجئة إذ وصلتهما همهمات غاضبة في غرفتيهما فخرجا يستطلعان ما يحدث..
وفي الآن ذاته وصلت أفنان المبتهجة مع هيثم فقابلهما علي المنشغل بصهره يشده ويجبره على مغادرة المنزل معه..وتمكن من دحر مقاومته أخيرًا ليغادر المنزل مغلقًا الباب خلفه ...
"هل دق ناقوس الحرب في غيابنا؟!!"
تساءلت أفنان قبل أن تتابع صعود الدرج حتى شقة والدها لتجد الباب مشرعًا وزيد يقف قلقًا عند باب غرفة والديها..
وما لبث أن أبصرهما وخمن ببساطة أنهما خرجا معًا.. لكنه على غير العادة لم يعرهما غير لفتة سريعة وسارع لدخول غرفة الوالدين..
"سأعرف كل شئ من أبي..وأنت ابقي مع أشقائك لتفهمي ما يجري"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
التقت هالة بنفيسة كعادتهما كل أسبوع حيث تجلسان في استراحة الحافلات ذاتها التي التقيا عندها أول مرة..وتنخرطان في حديث طويل تجده كل منهما شافيًا لها معينًا على حمل ثقل الحياة ومسئولياتها..
إلا أن هذه المرة كانت مختلفة إذ بدت نفيسة نزقة وشاردة أغلب الوقت ثم تلقت اتصالًا اضطرها للابتعاد عن رفيقتها حتى تجيبه..
ولما ملت هالة انتظارها ذهبت خلفها لاستطلاع مدى أهمية هذه المكالمة الطويلة..
"أستطيع أن أعيرك المبلغ المطلوب"
شهقت نفيسة وأنهت الاتصال فورًا ملتفتة لهالة بوجه أحمر من الغضب قائلة:
"لا يجوز لك التنصت..هل هذا ما تعلمته من والدك الذي...؟"
قاطعتها هالة بهدوء ودون أن تتأثر مثقال ذرة بحديثها الغاضب:"اعتبريني البنك الذي يقرضك دون ضمانات..وأعيدي لي المبلغ بالتقسيط من راتبك"
"الحياة معركة قاسية يا هالة وأنا لم أعتد الهزيمة في جولاتها...وإلا لن يشفق علي أحد..أمي تحرص على رضا إخوتها وتعد العدة منذ زمن ليوم كهذا.. إن لم نستوف الإيجار المتأخر خلال أيام سيتم طردنا من الشقة وحينها لن يأويني أخوالي ولو وقفت على رأسي"
شدت هالة على كتفها بقوة فلو أنها حاولت احتضانها في موقفها الصعب لعدتها جريمة تستوجب قطع صداقتهما...وقالت بلهجة مشجعة اعتادت سماعها منها وها قد حان الوقت لتنعكس الأدوار:
"لكنك لم تخسري الجولة بعد..أنا معك ..لنجد عملًا آخر يعينك على استيفاء دينك.. سأبحث معك وإن اضطررنا للمبيت في الشارع نواصل البحث دون أن نسأل أحدهم العون"
ناظرتها نفيسة بتردد كان له تأثيرًا صادمًا عليها سرعان ما تجاوزته متابعة:"هيا
قولي أنا مستعدة..أديري وجهك لساحة المعركة وخوضيها بقلب قوي لا يعرف إلا النصر"
"أتظنيننا صرنا كالشخص الواحد ..إنك ترددين نفس كلماتي"
"نعم ما إن اتفقنا في الطريقة التي نريد تسيير حياتنا بها حتى صرنا كيانًا واحدًا"
أومأت نفيسة بصمت ولم تنهض مشتعلة بالحماسة كما اعتادتها هالة بل طأطأت رأسها بأسى قائلة:"أتعرفين شعور فقدان الأب؟ هل جربت آلام العمود الفقري التي تذرك عاجزة عن الحراك؟ إنهما ذات الشعور"
ومضت في حديث طويل مرير تفرغ مكنونات قلبها دون أن تنظر لهالة التي تراودها نفسها بين حين وآخر أن قد أوقعت نفسك في مأزق كبير بهذه الصداقة التي تسلبك بهجة الحياة رويدًا رويدًا..
لن تقوى نفيسة على تحمل ثمن وجبة في أحد المطاعم يوميًا ..وترفض الذهاب لمكان يراها رواده ذات شأن اقل منهم بملابسها المتواضعة لذا وافقتها هالة والتزمت بموعدهما الأسبوعي في الاستراحة وتحملت القيظ لأجلها..
ولا شك أنها بدأت تتأثر بها فتغير تفكيرها وتصرفاتها في الكثير من الأمور لذا حين التقت زيد بعد أيام في مطعمه وأعاد عليها عرضه طالبًا رأيها الصريح..
أجابته بثقة :"أنا لا أحبــــــــــــك"
#فوت
#كومنتايه رأيكوا ف قفلة الفصل🤭🤫❤️
YOU ARE READING
جيران المدينة
Romanceرواية اجتماعي..رومانسي..كوميدي.. تناقش عدة قضايا اجتماعية في إطار عائلي درامي انتظروا فصل جديد يوميًا بإذن الله ❤️