الفصل الرابع
"ألم أطلب منك أن تجالسي ليلى عوضًا عن مرافقتي بغير جدوى "
قالها عبد الرحيم بسخط حين فُتح باب غرفته في المشفى ودخل أحدهم فظن للوهلة الأولى أنها زوجته..
"معك حق.. أي عمل سيكون أجدى من مرافقتك "
لهجة خليفة الحاسمة جعلته يفتح عينيه ويعتدل في جلسته حتى أطلق تأوهًا سرعان ما كتمه وبادر يتعلل بأي شئ يبرر إهماله:
"ها أنت ترى حالي يا خليفة.. كدت أعيد إليك مالك حين أدركت عجز عمالة المصنع عن إنجاز طلبك في الوقت المحدد .. وللأسف كنت مجبرًا على الاختيار"
وأشار بمسكنة لقدمه المجبرة.. ثم أضاف:"كدت أُحرم من نعمة السير مجددًا.. أنا آسف.."
ضيق خليفة عينيه كأنه يستشف صدق حجة عبد الرحيم من عدمه ثم قال:"هل تريد هذا المصنع ؟... لما لا أضع شخصًا يعينك على إدارته ؟"
وافق عبد الرحيم من فوره :"هذا سيكون رائعًا.. المصنع..."
ثم قطع حديثه ونظر لخليفة يتحقق من الاستنتاج الذي توصل إليه.. فابتسم الأخير وسأل:"ماذا؟ ألم يخبرك السيد علي عن شرطي للتغاضي عما فعلت؟....أريد المصنع .. ماذا قلت؟... لن أحرمك العمل فيه ولكن يفضل أن تؤول الإدارة إلي خاصة وأنا أرى تخبطك وعجزك"
لكن عبد الرحيم رفض بشكل قاطع عرضه قائلًا:"ماذا تظن؟ هل ربحته في اليانصيب لأتركه لك بهذه السهولة؟... لا أوافق قطعًا ولأجل الصداقة القديمة سأتغاضى عن هذه الإهانة الصريحة"
وأدار وجهه يفكر فيما قد يجعل خليفة يتراجع عن المطالبة بماله لبعض الوقت .. لكن خليفة كان الأسبق حين اتجه لباب الغرفة وقال منهيًا الحديث:"أنت وما تريد!... ستنتهي المهلة بنهاية الأسبوع ."
تنفس عبد الرحيم بعمق مدركًا حجم التهديد الذي يواجه المصنع ومعترفًا لنفسه أنه لم يتخيل هذه النهاية حين قرر استلام الطلبية من خليفة لأجل المال ..
حيث اقتضت خطته أن يأخذ المال ليعيد صيانة الآلات أو يشتري بديلًا عنها ثم يجد طريقة لإجبار طاهر على دفع دينه الذي سدده سابقًا ويتم العمل.. لكن خليفة تصرف بسرعة كما عادته وطالب بماله فوقعت الكارثة..
"لم العجلة؟ كنت في طريقي لإقناع طاهر واستغلال خوفه"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"هذا الوغد سعيد تمكن من الإفلات مني حين باع الأرض لهذا الفتى الغر.. يرتفع ضغط دمي حين أسمع عن نجاح صالته الرياضية وشهرته كمستثمر لأنه صار مالك المدرسة أمام الجميع"
أردف هاشم معقبًا على تذمر شقيقه:"وأين هو سعيد الآن؟ سمعت أنه ترك منزله القديم واشترى شقة عصرية في أرقى أحياء المدينة "
فأجابه عرفه بغل دفين وحسرة:"أتذكر حين كان صعلوكًا لا يجد قوت يومه؟.. لكن مكره جعله يتقرب من عمك عثمان حتى زوجه ابنته وجعله يعمل مقاولًا .. وها أنت ترى خطأ عثمان الصغير هذا أحال سعيد لصاحب عقارات يتغنى الجميع بنزاهته "
اضطر هاشم لإعادة سؤاله مخرجًا شقيقه من بؤرة الحقد التي تزداد رسوخًا داخله مع الأيام:"لم تخبرني أين هذه الشقة؟"
"وماذا تريد بها؟.. الطريقة الوحيدة لاستعادة حقوقنا من سعيد ستكون بقتله لأنه لن يتنازل أبدًا عما يملك "
"اسمعني يا عرفه.. سعيد ابن عمتنا ويعرف حقوقه وواجباته .. ولم يرفض بيع الأرض لك إلا لأنك لا تملك حتى عشر ثمنها بينما كان يخطط هو لمشروع أكبر يناسب هذه الأرض تحديدًا .. وكما ترى باعها لمازن ليستكمل الإشراف على بناء المدرسة دون تدخلك.. ولا تنسى أنه عرض عليك شراء أرض أخرى تناسب إمكانياتك المادية "
لكن هذا لم يرق لعرفه ولم يجده سبب كافيًا لفعلة سعيد لذا قال:" أنت ستظل هكذا تحب تسليمهم مؤخرة عنقك ليوشموها بصفعاتهم .. وما تفسيرك لزواجه من ابنة عمك.. كان معدمًا مثلي فنال رضا والدها بينما قابلني أنا بالطرد ... لماذا؟ لا تملك تفسيرًا أليس كذلك؟"
ربت هاشم على كتف شقيقه وقال بمؤازرة دون أن يتأثر بسخريته اللاذعة منه:"طالما أنك تعرف عنوان شقته لنذهب لزيارته ربما يريحك هذا.. وصدقني هذا الحقد لن يفيدك يا أخي"
لم يجبه عرفه إنما نهض بصمت وغادر المصنع بأكمله..
وكانت وجهته هذه الأرض الشاسعة ..إرث عمه عثمان الذي تركه كاملًا لسعيد فباعها للغرباء حتى ينقل أعماله للمدينة..
انحدرت دمعة يتيمة على خده وهو يستعيد ألعاب الطفولة التي طالما تشاركها مع سعيد وأبناء عمومته على هذه الأرض مرتع طفولته ومنبع ذكرياته .. ليت عثمان تركها ملعبًا لكرة القدم ولم يضعها ضمن إنشاءاته قط... بل ليته بقى طفلًا كل غايته أن تدخل كرته مرمى سعيد دون هذا الحقد الذي يتملكه تجاهه..
سار بروية يتطلع لبنائها الشاهق حتى بلغ بيت العائلة المهجور.. رحل عمه عثمان وعمه صادق..وتبعهما والده حتى عمته نظيرة رحلت وكان يوم العزاء هو آخر لقائه بسعيد ابنها..
ثم ولى وجهه شطر المنزل الصغير الذي جاور بيت العائلة .. حيث يسكن فاروق الابن الوحيد لعمه صادق والذي رضى بحياته البسيطة مع أسرته .. حتى في عمله المتواضع كمزارع يبيع حصاد أرضه كان سعيدًا مرتاحًا وهو ما يحسده عرفه عليه..
فهاهو يعمل مع أخيه في أفضل مصانع البلدة بل والمدينة أيضًا بعد الرواج الذي حققه مؤخرًا.. لكنه أبدًا لم يشعر بسعادة فاروق.. لقد صارت أمنيته أن يحظى يومًا برضا فاروق وراحة نفسه ..ويبدو أنها أمنية بعيدة المنال!
ابتسم عرفه بسخرية ثم ضرب بيده على صندوق البريد الذي يقف بمحازاته ليخرج بعضًا مما يملأ قلبه من غل وسواد .. حين كشف الصندوق عن رسالة نظيفة بيضاء وسط كومة من رسائل متربة لم يفكر أحدهم في استكشاف ما حوت..
فضها بروية بغية إلهاء نفسه عما يموج داخل رأسه من أفكار لكنها لم تكن وسيلة للإلهاء بل للشقاء..
((توفي سعيد إلى رحمة الله تعالى والعزاء يوم...
مذيلة بتوقيع ليلى مع ملحوظة غريبة (أنتظر استقبال تعزيتكم ردًا على رسالتي .. وألا تلقى نصيبها من الإهمال كغيرها من رسائلنا إليكم)
فدس يده يخرج محتوى الصندوق بترقب!!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
استيقظت أفنان من نومها وقررت الاستغناء عن الإفطار مع العائلة اليوم حتى تهرب من لقاء هيثم.. فتجهزت وارتدت ملابسها وكادت تتجه للمنزل حين أمسك بها فادي وقال:
"إلى أين تتسللين هكذا كاللصوص يا أفنان.. أو ربما تفضلين أن أناديك بالفراشة؟"
اغتاظت أفنان وأزاحت يده عن كتفها قائلةً:
"أبعد يدك هذه .. ما شأنك بي ؟.. اذهب لترى ماذا ستفعل أو الحق بي لنذهب معًا للمدرسة .. ألم ينقلك مازن إليها؟"
"أفنان.. رفع الصوت حتى تهاجمي الخصم!.. تلك الطرق اندثرت منذ زمن.. أخبريني بالمستجدات هيا.. كيف كان شعورك حين عاد؟"
دفعته أفنان ونزلت الدرج مسرعة في محاولة للهرب لكنها وجدت هيثم يخرج من باب شقتهم في الطابق الأول وحين لمحه فادي الذي لحقها أسرع بالصعود بعد أن أشار لهيثم ضاحكًا..
فهمست لنفسها بغيظ: (وقعت في الفخ يا أفنان.. لا شك أن هذا الأحمق أخبره عن نزولي فاستعد السيد و تأنق ظنًا منه أنه سيسلب عقلي!)
لذا فقد حاولت الهرب بشجاعة .. وقالت بلطف زائف:
"صباح الخير يا هيثم.. عن إذنك"
ابتسم هيثم المدرك لما تحاول فعله وقال:
"صباح الجمال والأشواق يا فراشتي.. لما العجلة ؟ دعيني أوصلك في طريقي"
"لا.. لا أريد تأخيرك عن وجهتك .. سنلتقي بعد العمل .. إلى اللقاء"
تابعت أفنان نزول الدرج دون التفات لهيثم الذي لحقها قائلًا:
"أفنان .. انتظري يا أفنان"
وصلا معًا لباب المنزل الخارجي فحاولت أفنان الخروج دون التفات له لكنه استوقفها قائلًا:
"أفنان أنت تعلمين كل شئ .. وأنني كنت سأتقدم لخطبتك قبل ذهابي لكنني أجلت الأمر لحين عودتي حين علمت أنك لا ترغبين بالزواج وقتها.. على الأقل لنعد صديقين كما كنا"
التفت أفنان وقالت بسخط:
"اترك عنك الأحاديثك الفارغة.. إن كنت حقًا تهتم بي كما تدعي لأخبرتني عن سفرك قبلها بوقت وإن كنت مهتمًا بصداقتنا لحاولت التواصل معي عندما وصلت وجهتك.. لكن فات الأوان سيد هيثم .. اذهب وأنشأ صداقات مع آخرين"
وانصرفت بعد أن ألقت ما بجعبتها غير عابئة بهيثم الذي وقف حائرًا لا يدري كيف يرضيها وقد أجل التفكير بالأمر حين ظهرت والدته على الدرج قائلة:
"قال فادي أنك غادرت المنزل .. ماذا تفعل هنا يا بني ؟ تعال وأفطر معنا قبل أن تخرج"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعدما علمت السيدة جنات بما حدث مع نوران وما أخرها عن موعدها يوم الحادثة اتصلت بها وأعطتها مطلق الحرية إن أرادت أن تحظى بإجازة تستريح فيها ولكن نوران رفضت وعادت للعمل وحتى الموجه الذي قيم شرح أفنان المرة الماضية عرف بشأن الحادثة وأبلغ السيدة جنات أنه سيأتي من جديد ليلتقي بنوران..
تابعت أفنان بغيظ كل ما حدث..صحيح أنها صارت مكافئة لنوران في العمل والراتب ..لكن إعجاب الموجه بشجاعة نوران حين أنقذت عبد الرحيم وإعجابه بشرحها جعلها حديث المدرسة بعامليها ومدرسيها وطلابها لفترة لابأس بها قضت على أي أمل في أن تحبها أفنان أو تتخلى عن غيرتها منها..
خاصة وهي تراها تدلف لغرفة المعلمات ككل يوم رافعة رأسها بهذا الغرور وملقية التحية بمودة زائفة..زفرت أفنان بضيق ثم استغلت خروج زميلاتها لشرح دروسهن واقتربت من نوران قائلة:
"حين رأيت الخبر على التلفاز أخبرت مازن أنك تعملين معي في المدرسة"
تفاجئت نوران من قول أفنان والتفت لها مبتسمة قائلة:
"مازن؟..هل تقصدين السيد مازن الذي أوصلنا يوم الحادثة؟هل تربطك به صلة قرابة؟"
قالت أفنان بضيق :"نعم إنه شقيقي ومالك المدرسة بالمناسبة..أرسل لك هذه معي"
قلبت نوران الدعوة في يدها باستغراب وقالت تشاكس أفنان التي لا تدخر جهدًا في إظهار كرهها لها :"هل يتزوج؟"
أظهرت أفنان أسنانها في ضحكة سمجة وقالت:"لست ظريفة أبدًا.. حين تقرأين المكتوب ستفهمين لم الدعوة"
وعادت لمكتبها بغيظ بينما قالت نوران :"اشكريه على دعوته وأخبريه أنني لا أحب أن أتواجد في مكان يكرهني أصحابه"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
سيطر الشعور بالوحدة على ليلى خاصة حين لم يأت أي من أقاربها للعزاء .. فمضت ليلتها تتحسر على حالها حتى أشرق الصباح وهي عازمة على زيارة عبد الرحيم في المشفى
حاولت وجدان مهادنتها قائلة:"سيدة جميلة مثلك تنتظر قدوم الآخرين لزيارتها وهي في مملكتها معززة مكرمة.. لا تقلقي لن يمض الكثير حتى تجدي رحيم يجالسك ويتناول الطعام معك وحينها أخبريه بما تريدين يا حبيبتي"
"لكنني أريد أن أشكو له تخلف أولاد أعمامي عن حضور العزاء.. أهكذا يقابلون رسالتي ؟!!... ماذا فعل سعيد ليتخلفوا عن جنازته ؟ لم يجرم يومًا بحق أحد"
"ولكن الطبيب..."
قاطعتها ليلى غير عابئة باعتراضها وحاولت مغادرة فراشها وهي تستند إلى ما حولها بوهن .. فاضطرت وجدان لمجاراتها ومساعدتها في تبديل ملابسها
ثم قالت بلطف:"هل سنذهب للتمشية قليلًا؟"
لكن ليلى المدركة لمحاولة وجدان لإثنائها عن عزمها قالت آمرة:"ناوليني تلك العصا كي أتوكأ عليها.. وهيا بنا إلى المشفى"
بعد دقائق
أمسك عبد الرحيم يد ليلى وقبلها قائلًا:"كيف حالك يا ليلى؟ اشتقت إليك""
فقد اعتاد أن يناديها باسمها وتقبلت هي منه ذلك بسعادة واعتبرته كابنها الذي لم ترزق به ومن طول معرفتها به وأنه حين تزوج لم ينسها وأحضر زوجته لتؤنس وحدتها وتعتني بها وثقت به ثقة عمياء..
ثم داعبها قائلًا وهو يجلسها جواره على سرير المشفى:" تبدين اليوم موردة ومشرقة...هل جئت للشماتة بي وساقي معلقة هكذا كطفل ينتظر تأديب والديه؟"
ضحكت ليلى وربتت على كتفه قائلة:"حماك الله يا بني.. تحمل بضعة أشهر وتعود لتنير منزلك.. "
ثم سالت دموعها حين تذكرت زوجها الراحل وقالت:"لم أرك منذ وفاة المرحوم.. فقررت زيارتك و الإفضاء لك بما حدث"
احتضنها عبد الرحيم وقبل رأسها واستمر في تهدئتها والإنصات لكل ما يضايقها ثم قال:"الآن لا تهتمي بكل هؤلاء يا حبيبتي .. ها أنا ذا حبيبك الوحيد اهتمي بي فقط ولا تلتفتي لغيري"
فعلقت وجدان الصامتة منذ قدومها مازحة:"وماذا أيضًا؟ يبدو أنني سأغار.. هل ستخبرني الآن أنك ستطلقني لأنك اكتشفت أنك تحب ليلى أكثر مني؟"
ضحك زوجها وأجابها :"ولم لا؟ بل سأكون أكثر من راض إن قبلت بي هذه الجميلة؟"
فلكزته ليلى بخفة في كتفه وقالت:"كفاكما مزاحًا .. سنتركك الآن لترتاح .. عدني أنك لن تتأخر علي وستلتزم بإرشادات الطبيب"
زمجر عبد الرحيم باعتراض :"ليلى! ولكنك أكثر من تعرفين كم هي خانقة!!"
أومأت ليلى عابسة
والتفت الاثنان لوجدان التي رفعت حاجبها كمعلمة تستعد لتأنيب تلاميذها المشاكسين .. فسارع عبد الرحيم يمنعها من تقديم النصيحة قائلًا:"لن نلتزم بما تريدين حتى تشاركينا هذا الطعام وعلى قدر التزامك سنكون نحن"
وضرب كفه بكف ليلى سعيدين بما توصلا إليه وما سيجعل وجدان تكف تمامًا عن إجبارهما على ما لا يطيقان..
وكانت المفاجأة حين قبلت وجدان التحدي قائلة بعزم:"سأريكما كيف يكون الالتزام"
التفت الثلاثة على طرق مهذب ودخول فتاة في مقتبل العمر حاملة باقة ورد بيضاء والتي حيتهم بهدوء ثم عرفت بنفسها!
فاتسعت عيني وجدان بإدراك لهويتها .. ثم فوجئت بإشارة عبد الرحيم المتوارية لها بأن تغادر مع ليلى .. لكنها لم تمكنه من مراده فقد خرجت مع ليلى بهدوء ظاهري ثم تركتها تحتسي كوبًا من الشاي مع سيدة عجوز في مقهى المشفى وصعدت من جديد لتعرف ما يخطط له زوجها!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
حين عادت نوران للمنزل كانت قد قررت رفض دعوة مازن للحفل المقام في منزله فلا سبب يدعوها للذهاب كأنها تبتغي التقرب منه بعدما عرفت بامتلاكه لمكان عملها..
جلست على مائدة الغداء بصمت ولاتزال تستغرب صمت والدها فلايزال يحتفظ بسبب انتقالهم لنفسه ولا يخبرها به هي وشقيقتها..لكنها قررت الانتظار حتى يخبرها بنفسه والاستمتاع بقرب المنزل من مكان عملها..
نظرت لوالديها الشاردين ثم قالت بعفوية قاطعة الصمت:
"لقد زرت اليوم السيد عبد الرحيم ..قال الطبيب أنه يتماثل للشفاء بسرعة..لكن الغريب أنني حين جالسته قليلًا سألني عنك يا أبي ..وأرسل سلامه لك"
راقبت نعمة تحول ملامح طاهر.. كاد المسكين أن يصاب بأزمة قلبية فقد أعطت نوران فرصة للرجل كي يهدد والدها على طبق من فضة..
ولم تكتف نوران بل تابعت :
"كنت قبلها أدلي بأقوالي في مركز الشرطة وعرفت أن الشرطة تبحث عن المشتبه بهم وأن السيد عبد الرحيم أكد لهم أن من دبر الحادثة له علاقة بحادثة مصنعه قبل سنوات حين أراد أحدهم سلبه ملكية المصنع"
احمر وجه طاهر وقد عجز عن البلع بعد كل ما ألقته نوران في وجهه بعفوية وراح يسعل بقوة ونعمة تربت على ظهره بقلق ..حتى استطاع أن يسحب نفسًا عميقًا وشرب كوبًا من الماء..
ثم نظر لابنتيه القلقتين وقال:
"بعدما قلته يا نوران يجب أن أخبركما بكل ما حدث..عبد الرحيم كان صديقي المقرب "
ارتسمت الصدمة جلية على وجه الفتاتين بينما تابع طاهريسرد لهم قصة الصداقة القديمة وأدركت نوران خطأ تصرفها وأنها كانت عونًا لعبد الرحيم على حساب والدها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
لم تنم وجدان تلك الليلة بل استعادت وجه زوجها مرارًا إذ تهرب من إجابتها عن سبب تهديده المبطن لوالد نوران.. وسألها بجدية عن رأيها بشقة ليلى!!
وتذكرت ما أخبرها به وحيد ذات مرة عن كون عبدالرحيم طامعًا في شقة ليلى لكنها لم تصدق كلامه حينها.. أما الآن فيبدو أنه كان محقًا..
فرحيم لم يدخر جهدًا لإقناعها ومضى يعدد لها مميزات الشقة قائلًا:
" انظري إلى مساحة الشقة وعدد غرفها حتى المطبخ واسع كما كنت تحلمين دائمًا ..وأنت معتادة على الحياة فيها .. الجيران يعرفونك ولا يضايقونك.. المنطقة هنا نظيفة والشقة تطل على شارعين رئيسيين ..ألم تري كيف يغمرها ضوء الشمس صباحًا؟..إنها مملكة يا وجدان وأنا أريدك سيدتها..فهل سترفضين ونعود لشقتنا المستأجرة التي تبدو كجحر الفئران؟"
استرجعت باقي الحديث حين سألته:"ماذا عن ليلى ؟إن افترضنا أنها قبلت أن تبيع لنا الشقة..أين ستعيش هي؟"
فأجابها بقسوة:"عن أي ليلى تتحدثين؟إنها امرأة فانية ..يومان وتلحق بزوجها ولكنني لن أتركها تموت قبل أن توقع عقد بيع الشقة"
ولكم أخافتها إجابته!!حين ترى كم تثق به ليلى وتحبه وتشكو له كل ما يؤرقها .. وعبد الرحيم يظهر لها كل الود ويحدثها بصبر ولا يضايقها أبدًا واتضح أنه يخطط لخداعها!!
وحين عرضت عليه أن يبحث عن شقة بنفس المواصفات أو يعودا إلى البلدة حيث المصنع ثار واتهمها بالجمود والرغبة في معارضته ليس إلا.. وكان قراره الأخير أنه سيصل لما يريد مهما كلفه الثمن..
سالت دموعها بحسرة على حال زوجها الطامع:
"يا الله!ليتني ما عشت حتى هذا اليوم "
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
دخلت نوران المدرسة صباح الأربعاء بعد أن قطعت الطريق القصير الموصل بين منزلهم الجديد والمدرسة سيرًا فوجدت الجميع في حالة اضطراب وبعض المعلمات في الغرفة الخاصة بهن قد عكفن على دفاترهن يحضرن ويكتبن الدروس التي سيشرحونها بضمير منقطع النظير حتى السيدة جنات كانت تخرج من غرفتها بتوتر لإلقاء بعض الأوامر على العاملين أو المعلمين ثم تدخلها مرة أخرى ولا تلبث أن تعود للخروج وقد تذكرت شيئًا جديدًا..
في وسط كل هذه الأجواء المضطربة كانت أفنان تنام بهدوء على منضدتها الخاصة في غرفة المعلمات فبدت الشئ الساكن الوحيد في هذه اللوحة المتحركة
ولأن نوران لم تجد تفسيرًا لكل ما يحدث فقد جذبت مقعدًا واقتربت من طاولة أفنان مضطرة وقالت:
"أفنان.. آسفة لإزعاجك ولكن هل تعرفين سبب كل هذه الفوضى؟"
رفعت أفنان رأسها وقالت بفتور:"لا تهتمي سيأتي شقيقي لتفقد أمور المدرسة لذا الجميع قلق .. "
وكان شعور نوران مماثل لشعورها فالمعلمات كأنهن صعقن بالكهرباء وهن يتحركن بهذا النشاط الزائد..
صمتت أفنان لثوان ثم أضافت:
"اسمعي أصر مازن أن أحسن علاقتي بك ولكنني لا أرغب بهذا حقًا ولا أهتم به ولكن ما رأيك بحضور الحفلة التي تقيمها عائلتي غدًا لعودة ابن عمي من سفره الطويل..لقد أرسل لك الدعوة منذ فترة ..لا تكوني لئيمة واحضري حتى لأجلي لأقنعه أنني أصلحت علاقتي بك"
ابتسمت نوران بخفة وقد بدت لها أفنان في تلك اللحظة شبيهة بفادي وقالت:
"هل تلاحظين أن هذا أطول حديث توجهينه لي منذ عرفتك؟... في الأصل لا أفهم إطلاقًا سبب العداء بيننا .. لم تنظرين إلي كعدوة لك؟"
فأجابتها الأخرى بحنق:"هذه فطرتي لا أحب أتعامل مع من أراهم يملكون شيئًا أفضل مني"
ولم تكن نوران لتسأم فتلك طبيعتها تحب الشرح وتوضيح الأمور :"لكن هذا تصرف خاطئ يا أفنان .. مؤكد ستشعرين بالغيرة إن أحسست أن هناك من هو أفضل منك لكن يجب أن تتصالحي مع هذا الشعور وتعرفي كيف تجعلين ردة فعلك إيجابية .. مثلًا هل فكرت إطلاقًا أنني لست أعلى منك في شيء؟ ها أنت تشرحين عددًا من الدروس مساو للتي أشرحها... وتحصلين على راتب مساو لراتبي..."
وبسأم قاطعتها أفنان:"يا إلهي!تشبهين مازن تماما ..توقفي عن المواعظ .."
ضيقت نوران عينيها وكأنها تقول لها إن لم تتحدثي معي بطريقة جيدة فلن أحضر
فأردفت أفنان:"حسنًا .. حسنًا.. أعدك أنني سأحاول تحسين موقفي معك ولكن على شرط أن تحضري غدًا"
نهضت نوران لاستكمال عملها وهي تقول:"سأستأذن عائلتي وأرى إن كان بإمكاني القدوم .. لا تنسي أن تخبريني العنوان"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
في مطعم "نكهة يومك"
كان زيد قد قرر العمل اليوم في المطبخ رغم أنه مالك المطعم لكنه قرر المشاركة لأن أحد الطباخين تغيب عن العمل في هذا اليوم وقد صادف أن يتوافد الزبائن بكثرة فلم يجد بدًا من المشاركة خاصة أنه يحب إعداد الحلوى كثيرًا وهو اختصاص مطعمه الأساسي مع أطباق أخرى بسيطة من المطبخ العربي..
كما اضطر أن يشاركهم التقديم أيضًا فبدا لمن يراه نادلًا رفيع المستوى أو ربما لا يؤدي وظيفته فبنيته وملامحه لا تدل على أنه صاحب هذا العمل رغم ملابسه..
دخل المطبخ يتابع نضج قالب الحلوى الذي وضعه في الفرن منذ وقت واتصل بأفنان يضايقها قليلًا فلم تتسنى له الفرصة أن يستجوبها عن التوتر الناشئ بينها وبين هيثم..
"مرحبا بالشيف العزيز.. هل قررت أن تجعلني أتذوق الحلوى هاتفيًا؟"
كبت زيد ضحكته وقال مصتنعًا الغضب:
"صار لديك عمل بدوام كامل وتهربت من مساعدتي في المطعم ثم تسخرين مني حين أتصل بك..ترى ماذا أفعل بك؟"
"يا إلهي! لست حملًا لغضبك الآن .. سأسأعادك مساءً"
أمام لهجتها الخائفة لم يملك زيد إلا أن يضحك ويكشف خدعته قائلًا:
"اتصلت فقط لأطمئن عليك فقد صرت تذهبين لعملك باكرًا قبل استيقاظي.. وهذا الأحمق هيثم شغلنا عنك كذلك.. بين الإشراف على تجهيزات الوليمة غدًا وما يخططه لعمله القادم"
أجابت أفنان بارتباك لأنها تريد معرفة المزيد عما يفعله هيثم لكن استجوابها لزيد أمر خاطئ لأنه سيكشفها حتمًا:
"أخبرني مازن أنه سينشئ شركة تختص بالبرمجة والحواسيب"
رد زيد:"نعم هذا ما أخبرنا به ..حتى أننا سنذهب اليوم لرؤية المكان الذي اختاره لإقامتها.. ما رأيك أن تأتي معنا ؟"
وبرفض قاطع قالت أفنان:"لا ..لا أظن أنني أستطيع.. آه يبدو أن مازن وصل لمدرستنا.. سأكلمك فيما بعد"
أغلقت أفنان الخط بسرعة مما زاد ريبة زيد ..وهمس لنفسه وهو يخرج قالب الحلوى:
"لا هذه ليست أفنان.. كانت تقضي الساعات تتحدث معي في هذا الهاتف وتفرح حين أتصل بها.. يجب أن أعرف ما علاقة هيثم بارتباكها هذه الأيام"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
غادرت هالة المنزل بعد إصرار من والدتها التي استاءت من ملازمتها المنزل بينما شقيقتها تعمل ولا تعود قبل الثانية ظهرًا...
وأشارت عليها بالذهاب للنادي والاشتراك في نشاط ما لكنها رفضت الأمر تمامًا في قرارة نفسها وقررت موافقة كسلها والعثور على مطعم قريب تتناول فيه وجبة لا تنسى وفعلًا وجدت المطعم الملائم أمامها حين قرأت الاسم الذي دون على اللافتة التي تشير إليه "نكهة يومك" مع مجسم لكعكة الشوكولا اللذيذة التي تهواها هالة وملحوظة أسفلها "أضف نهكة الحلوى لطريقك"
وقررت فورًا أن تكون نكهة الحلوى هو الشئ الذي تضيفه لطريقها وأقنعت نفسها أنها غادرت المنزل لتناول وجبة دسمة من حلواها المفضلة!
وبيتما هي على وشك دخول المطعم اصطدمت بسيدة خارجة منه والتي كانت تتحدث في الهاتف غاضبة فأخرجت غضبها بهالة وقالت:
"ألا ترين أمامك يا هذه؟ المدخل لن يتسع لكلتينا وأنت بهذا الحجم"
احمر وجه هالة لأن صوت السيدة كان عاليًا نسبيًا بحيث سمعه بعض رواد المطعم المزدحم في هذا الوقت.. ونظرت للمراقبين وهي على وشك البكاء.. حين اقترب زيد قائلا:
"مهلًا يا سيدة.. كيف تتحدثين بهذه الطريقة مع أحد الزبائن؟ لو سمحت هلا اعتذرت منها؟"
وكأن زيد لوح بقماشة حمراء أمام ثور هائج فقد صاحت به:"أنا أعتذر من هذه!! مؤكد جننت .. أين هو مالك هذا المطعم ليريك مقامك؟"
دار زيد بعينيه في المكان بسأم ثم قال:"هل انتهى صراخك إذًا أم ستستمرين بعد؟"
توقف الجميع عن تناول الطعام والتفتوا جميعًا للمشهد المشوق عند مدخل المطعم النادل يتحدث بهذه الطريقة إلى أحد الزبائن..!
سألت السيدة وقد اتسعت عيناها من وقاحة النادل:"أنت كيف تتحدث معي بهذا الشكل؟"
أجابها:"ماذا تتوقعين إذًا ؟ هل سننادي مالك المطعم ويقرر طردي لأنني أنصحك باحترام الغير؟"
وبكل كبر أجابته:"نعم ويجعلك تعتذر مني وتقبل يدي أيضًا"
ارتاعت هالة من تأزم الموقف وكادت تطلب من النادل المسكين ألا يستمر في مجادلتها فهي تبدو سيدة مجنونة حين اقترب أحد النادلين وقال بحرج مما يتعرض له رئيسه..
"سيد زيد إذا سمحت هلا عدت لمكتبك ونحن سنتكفل بهذه المشكلة؟"
أجابه زيد بحزم:"لحظة واحدة يا تامر.. أنا مالك هذا المطعم يا سيدة ويفضل ألا تعودي إليه قبل أن تحظي بقدر كاف من احترام الغير"
فتحركت وهي تردد بغضب:
"ومن سيفكر في القدوم إليكم من جديد؟! أليس هناك مطعم يعد حلوى بجودة مطعمكم ؟"
لم تزل متشبثة بأكياس المطعم والوجبات التي تملأ يديها الاثنتين بينما حشرت هاتفها المحمول بين وجهها وحجابها وتستمر في الصراخ والتنديد في مشهد هزلي أثار سخرية من حولها!!
فأعرض زيد عنها والتفت لهالة بعد عودة النادل الآخر لعمله وقال:
"رجاء يا آنسة لا تأخذي على خاطرك من مطعمنا وأنا أعتذر منك نيابة عنها"
ثم رافقها لطاولة تقع في ركن مميز من المطعم وقال بعد أن سحب لها المقعد:
"رجاء تفضلي واطلبي ما تشائين وستكون كل طلباتك على حساب مطعمنا اليوم اعتذارًا منا عن هذا الخطأ غير المقصود"
وكان خطأه ..معاملة هالة بكل هذا اللطف وهي التي تبحث عن بطلها المزعوم فأجابته وقد بدأت القلوب الحمراء تملأ عينيها:"شكرًا لك.. حقًا لا داعي لهذا.. لم يكن خطأك وأنا سأدفع ثمن وجبتي"
لكن زيد أصر قائلًا:"تلك زيارتك الأولى .. دعينا نرحب بك كما يجب بعدما حدث .. فقط اطلبي ما تشائين والحساب على المطعم"
شكرته هالة فانصرف تاركًا لها قائمة الطعام تختار منها ما تشاء .. بينما حدثت نفسها بحماس:
"كم أنت رائعة يا أمي!!من الجيد أنني أتيت لهذا المطعم.. مدير وسيم ومتواضع ويدفع الحساب .. يا ويلي!! سأتصل بنوران لتحظى بهذا العرض معي"..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
زار علي عبد الرحيم ليسأله عما ينوي فعله حيال تهديد خليفة.. فبادره الأخير بتأنيب غير مبرر:"كيف لم تجد حلًا لهذا الأمر يا علي؟هل سيتم إيقاف العمل في المصنع وأنا هنا عاجز عن التصرف؟!!"
زفر علي بغضب وصل مداه وأجابه:"معك حق.. أنا الملام لأنني توليت قضاياك بينما يتلافى زملائي التواجد حيث تكون... هل تريد أن تعرف كيف شعرت حين هددني خليفة في مكتبي وقال أنك تسئ إلى نزاهتي؟!!.. وتصحيحًا لخطأي الذي لا يغتفر سأغادر وأترك لك معركتك مع خليفة.. اهنأ بها"
حاول عبد الرحيم إخفاء ضيقه من صراخ علي به وتمتم:"حسنًا فهمت أن هذا الأمر لا يحل بالقانون"
ضيق علي عينيه محاولا فهم مقصده.. فلطالما كان لعبد الرحيم أفكار غريبة لا يطلعه عليها لكن جملته التالية شغلته عن التدقيق أكثر حيث قال :"أريدك أن تحدد لي موعدًا حتى نذهب للشهر العقاري ونوثق الشقة باسمي"
تأفف علي بملل من قضايا صديقه المعقدة وأجابه :"نحدد الموعد حين تحضر لي عقد البيع موقع من الحاجة ليلى "
فأجابه عبد الرحيم بارتباك:"الحاجة مريضة كما تعلم ولا تستطيع أن توقع العقد"
نهض علي مغادرًا وقال منهيًا الحديث بما جعل عيني عبد الرحيم تلتمع بخطة جديدة:"قد نستطيع الإمضاء عوضًا عنها إذا وكلت أحدنا"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
#فوت
#كومنت#اكتبولي توقعاتكوا❤️
YOU ARE READING
جيران المدينة
Romanceرواية اجتماعي..رومانسي..كوميدي.. تناقش عدة قضايا اجتماعية في إطار عائلي درامي انتظروا فصل جديد يوميًا بإذن الله ❤️