الفصل التاسع عشر

55 2 2
                                    

جبتلكوا فصل طويل يدفيكوا ف البرد ده🥶❤️

متنسوش بعد ما تستمتعوا بيه تكتبولي تعليقات حلوة زيكوا🤗❤️




الفصل التاسع عشر

تبادل زيد ومازن النظرات المختلسة بينما يقود الأخير سيارته وقال قاطعًا الصمت بينهما:
"تركت أفنان تلحق بهيثم دون أن تتدخل!"

"فادي معها..ولا أخفيك سرًا أنني أتهاون مع أفنان كثيرًا لذا تركت لهيثم فرصة إعادتها لرشدها هذه المرة"

ابتسم مازن يؤكد قوله:"حتى والدك استنتج أنها قامت بإحدى خدعها في هيثم ويبدو أنها تجاوزت حدودها لتُغضبه إلى هذا الحد"

"نعم والدك...هل نخبره عن رغبتنا بالزواج الآن؟"

"ولهذا عجلت بهربنا كى لا نخضع لاستجوابه.."
أقر مازن بسخرية ثم مط شفتيه قائلًا:" برأي أنه لا داعي لتعجل الأمور.. لو تقدمت لنوران دون مقدمات فربما ترفض .. إنها متذبذبة في علاقتها معي تارة تكون لطيفة وأغلب الوقت عنيفة حانقة"

أومأ زيد بتفهم و قال:"أما عني فسأقوم بهذه الخطوة قريبًا ..."

قاطعه مازن يلكم ذراعه بغيظ فأغرب زيد في الضحك قائلًا:"وهل رأيت والدك بالأمس حين اتصل به العم طاهر يطلب مشاهدة المباراة معه؟"

شاركه مازن الضحك وأردف:"بدأت من تحدي سخيف بينكما لتصبح مباراة عالمية يحضرها والدك وحموك"

واستطرد زيد مازحًا وإن شاب صوته بعض الفخر:"أجدنا اختيار العائلة بحق"

"ورغم هذا فقد تخيلت المباراة بشكل آخر"

"لا تتحدث عن التخيلات فلدي منها الكثير"

ضيق مازن عينيه والتفت لشقيقه قائلًا:"سأخبر العم طاهر حتى لا تتم هذه الزيجة..ما هذا؟ وتعترف بصراحة وكأنه نيشان معلق على صدرك !"

أحنى زيد رأس شقيقه يضربه بالمقود قائلًا:"قصدت أنني كنت لأستغل المباراة في عرض الزواج على هالة بصورة...لمن أشرح؟ ستظل فاسقًا طوال حياتك!"

ثم أضاف بصرامة بعد أن حرر رأس شقيقه الضاحك:" هيا قد بنا إلى المطعم.. أحتاج مساعدتك في حمل المؤن وتنظيمها"

توقف مازن عن الضحك مستبقيًا ابتسامة واسعة على فمه إثر تخيلاته التي لم تفارقه منذ تعرف إلى نوران...وما لبث أن انتبه لما قاله شقيقه فأجابه متذمرًا:
"وكأنك لا تستطيع توظيف من يؤدي هذه المهمة؟!"

"تعرف أنني أحب الإشراف بنفسي على وصول طلباتي آمنة "

لم يجد مازن حجة يتهرب بها فعاد يقول بابتسامة واسعة:"طلبت الدقيق أليس كذلك؟ أنا من سأحمل أشولته"

فناظره زيد مستغربًا قبل أن يقول:"لك هذا"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"هذا يكفي! لم نعود للمنزل سيرًا بل ركضًا خلف هذا الرجل؟"

زمجر فادي بغضب يوقف أفنان عن اللحاق بهيثم وتابع:"ركضنا خلفه من المركز وحتى هنا..وكما ترين فهو مصر على عدم الالتفات لنا ويتظاهر أنه لا يسمع نداءنا..هيا لنأخذ سيارة أجرة للمنزل"

وما إن التفتت إليه بعينيها الدامعتين حتى تنهد مستسلمًا وسبقها يعترض طريق هيثم قائلًا:"انتظر.. تحدثا أولًا قبل أن تصدر حكمك الأخير"

"تنح عن طريقي يا فادي..لا طائل من حديثنا الآن"

فاقتربت أفنان منهما تكتم شهقات بكائها قائلة:"لنتحدث حتى لو اقتصر حديثك على الصراخ بي..افعلها لا بأس..أخرج كل ما يعتمل داخلك وأرح قلبك"

"وهل تركت  لقلبي الراحة بفعلتك؟"

"لم أقصد سوءًا..لطالما تقبلنا هذه الخدع وطبقناها على بعضنا..أنا لا أفهم سر غضبك"

جلس فادي على عقبيه على أحد الأرصفة يتابع شجارهما بملل..غير مكترث بما يدور بينهما أمسك هاتفه يتصفح مدونة منة التي لم يجد فيها جديدًا ثم أجاب رسائل سامر والذي أخبره بإتمامه مهمته فنقل الخبر للمجموعة التي أضيف إليها مؤخرًا ....
فوجدهم يناقشون أمورًا بشأن الامتحانات العملية والتي لم يدرس شيئًا منها فكتب رسالة مستعجلة لنوران يسألها هل كان عرض مساعدتها يشمل الامتحانات النظرية فقط؟ أم يمكنها مساعدته أيضًا في الامتحانات العملية؟

وفي الآن ذاته صرخ هيثم بابنة عمه:"ولن تفهمي أبدًا! لم يعد الأمر ممتعًا ..لقد عمدت لهذه الخدعة تحديدًا ولقنتي فادي كيف يثير قلقي وهلعي عليك.. أنا أخبرتك أنت فقط بنقطة ضعفي وهذا ردك يا أفنان..نعم سأعمل على تقويهما ولن تكون لي حياة سوية قبلها لكن هذا التصرف لن أغفره لك أبدًا"

سالت دموعها بعد أن عجزت عن حجزها أكثر وبررت:"لا..لا تقل هذا..لم أقصد.. كل ما أردته ألا تكتمل المباراة فهداني عقلي إلى هذه الخدعة.."

"تصرفاتك كلها تنم عن أنانيتك المطلقة..بت أتساءل حقًا يا أفنان هل تحبينني أم تجدين التسلية في التظاهر بهذا وابتكار الخدع لإزعاجي... وخلع قلبي؟"

نفت أفنان بلهفة وهي تتشبث بمقدمة قميصه:"أحبك وأتحرق لاجتماعنا تحت سقف واحد..كيف تفكر أنني بهذا السوء؟..لو أن غيرك من قالها يا هيثم!!"

قاطعها هيثم بصرامة:"كفى..وتعاتبينني أيضًا! لقد فهمتني بصورة خاطئة تمامًا! أنا هنا الرجل ومن يتحكم في سير علاقتنا..قلب الأدوار والتظاهر أنك مستاءة مني وأنني كسرت بخاطرك لن يفيد لمحو ما فعلته.."

ثم نفض يديها عن قميصه قائلًا:"ابتعدي عن طريقي ولا أريد رؤية وجهك في هذه اللحظة"

شهقت أفنان بصوت عال وانخرطت في بكاء عنيف لم يكن كافيًا لترقيق قلب هيثم الذي تقدم في طريقه دون التفات بينما نهض فادي يهدئ من روعها محاولًا استيعاب سبب حالتها الغريبة..فأسندت رأسها إلى كتفه تستكمل بكاءها بأسى..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"مرحبًا من معي؟"

"هل أتحدث مع السيد وحيد القباني؟"

"نعم أنا هو..كيف أستطيع خدمتك؟"

وصله الصوت المتردد عبر الأثير:"أنا سميرة الأخصائية الاجتماعية من مدرسة منة..هل أستطيع زيارتها؟"

"بالتأكيد..تفضلي على الرحب والسعة..هل تعرفين عنوان المنزل؟"

"فضلت أن تصفه لي بعد أن توافق على الزيارة"

بعد نصف ساعة..
عاد وحيد لمنزله فطرق باب غرفة ابنته وما إن فتحته حتى بادرها:"بسرعة يا منة أخبريني ماذا نضيف معلمتك؟"

"أي معلمة يا أبي؟ هل عدت توًا من العمل؟ متى نتناول العشاء؟"

أخبرها باختصار عن اتصال سميرة فشهت منة تنظر للشقة المبعثرة من حولها:
"لقد وقعنا فيما يشبه كمائن الشرطة وسنأخذ مخالفة من الأستاذة سميرة بل قل مخالفات!"

لم يفهم وحيد مقصدها إلا أن رد فعلها جعل توتره يتزايد أكثر..كما لم تتح له الفرصة للمزيد من الحديث فقد قرع جرس الباب...

"ستفتح الباب يا أبي ريثما أبدل ملابسي..على الأقل أبدو بصورة جيدة وسط هذا الدمار"

تقدم وحيد من باب الشقة متمتمًا بحيرة:"كنت أسألها ماذا أحضر على العشاء لاستضافة معلمتها! ما علاقة هذا بملابسها؟"

ولم يتسن له النطق بحرف حين شهقت سميرة ما إن رأته وضربت على صدرها مشدوهة ...

فتساءل بارتباك:"ماذا؟ ...ماذا حدث؟"

تطلع لصورته في المرآة الموضوعة بالقرب من باب الشقة فلم يعثر على  ما يشين في هيئته..

عاد يناظرها مستفهمًا فبادرته سميرة :"هلا أخبرتني ما هو عملك؟ ما هو عملك الذي يجعلك تمشي في الشارع وتقف أمامي بهذه الهيئة؟"

"أنا فني معمل مختص بتركبيات الأسنان الثابتة والمتحركة...أستخدم الشمع والأكريل و...."

قاطعته سميرة:"وما المشكلة؟ هل يعني انهماكك في العمل أن تعود لابنتك بهذه الهيئة كل يوم؟! ومن يتولى تنظيف ملابسك؟"

ظهرت منة في هذه اللحظة لتنقذه من توبيخ سميرة الذي رآه غير مبرر..فوجهت إليها الأخيرة حديثها قائلة:"كيف لا تنبهين والدك للفرق بين ملابس العمل وملابس الخروج الطبيعية التي يمشي بها بين الناس؟"

"فعلت..أقصد سأفعل..."
تلعثمت منة بينما تتلقى النظرات المستهجنة من والدها ومعلمتها معًا ثم قالت:"تفضلي..لم تقفين عند الباب؟"

تنهدت سميرة وأبعدت ناظريها عن وحيد قبل أن تدلف الشقة ويتدلى فكها السفلي بصدمة أعجزتها عن النطق ...

ثم تنبهت للنظرات التي يتبادلها الأب وابنته كمشتبه بهم ينتظران إعلان براءتهما فبررت :"آسفة..أنا مهووسة نظام ونظافة ولن أستطيع الجلوس في مكان كهذا.. أعتذر إن ضايقكتكما بملاحظاتي ولكن..."

قطعت جملتها لا تعرف كيف تشرح أن الأمر خارج إرادتها..قد تكون مبالغة في رد فعلها لكنها طبيعتها...

وقبل أن تكمل تبريرها اقترحت منة بعد أن استشعرت نيتها بالمغادرة: "تستطيعين دخول غرفتي يا أستاذة سميرة.. وبما أنك أتيت لزيارتي في المقام الأول فلا أظن أن هذا يزعجك"

"بالتأكيد شكرًا لك"

بعد دقائق..
كان وحيد يتناول عشاءه وحيدًا في صالة المنزل التي تبدو كالأحراش بأثاثها المتناثر والملابس الملقاة هنا وهناك..بعض الكتب..أدوات يستخدمها في عمله.. وغيرها من الكراكيب التي تملأ منزله ولا يجد غضاضة في وجودها إذ ندر تنظيف المنزل بعد وفاة زوجته..

واجتمعت سميرة مع منة في غرفتها يتشاركان العشاء.. تظاهرت سميرة بالأكل بينما تراقب حركات منة الشاردة وانصرافها الواضح عن الطعام ..
"يبدو أنك سبق وتناولت عشاءك "

ألقت سميرة بملاحظتها ترقب ردة فعل منة باهتمام والتي ارتبكت قائلة:"نعم.. هذا ما حدث"

"تعالي جواري يا منة..لا تخافي..لست هنا الأستاذة سميرة الصارمة..اعتبريني أختك الكبرى أو صديقتك المفضلة"

لم تنتظر منة أكثر ودون أن تطلب تأكيدًا نهضت إليها وارتمت في أحضانها شاهقة قبل أن تجهش بالبكاء...
"امتنعت عن تناول الطعام منذ الأمس..لا أحبه..وحين يجبرني أبي على تناوله أعود لأجبر نفسي على الاستفراغ..حتى كلت نفسي مني ..أنا متعبة وبائسة.. أمقت نفسي وحياتي"

ربتت سميرة على ظهرها بهدوء رغم القلق الذي اعتراها خشية ألا تستطيع احتواء انفجار هذه المراهقة... وأشفقت عليها مما تحياه فلا شك أنها تعاني الاكتئاب بسبب وحدتها ومعاملة أصدقائها المنفرة في مدرستها...

"لا بأس..إن لم يروقك الطعام الذي يعده والدك فتعالي نعد معًا ما تشتهين..."

وسرعان ما أبعدتها عن أحضاتها وتابعت:"انتظريني هنا دقائق وأعود.."

راقبت منة بحيرة مغادرتها الغرفة وعادت تنظر ببؤس لأطباق الطعام أمامها..

أما في صالة المنزل..
أجفل وحيد مع نداء سميرة له وحك شاربه الكث بتوتر يترقب إفصاحها عما تريد..
"هل أستطيع اصطحاب منة معي؟.."

ومع تقطيبته المنذرة بالاعتراض أوضحت:"إنها حبيسة المنزل فارتأيت أن التمشية وتنفس بعض الهواء  قد يفيدها.."
ودون أن تنتظر رأيه أصدرت القرار الأخير:"لن نتأخر وابقى أنت إذا أردت لا شك أنك مرهق من العمل.."
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
تنشقت منة الهواء وعبت منه كأنها جرعتها الأخيرة فسرى الانتعاش في أوصالها بإحساس سمكة عادت للماء ناجية من شباك صيادها!
تقدمتا بروية حتى قطعتا مسافة كبيرة نسبيًا عن المنزل فتوقفت سميرة فجأة وارتعدت فرائصها مستعيدة ذكرى هذا اليوم تحديدًا وصوته الصارخ في أذنها:
"قتلت ابنتنا..قتلتها!"
نكست رأسها وأخذت تدلك جبهتها في محاولة لتسكين حمى ذكرياتها القاتلة..بينما تنبهت منة من نوبة سعادتها أنها صارت تسير وحيدة فالتفتت لسميرة تسألها بقلق:
"ماذا حدث؟"

"لاشئ..دعينا لا نبتعد أكثر عن المنزل.."

وأشارت للرجل البسيط الذي يقوم بشي أكواز الذرة:
"لنشتر كوزين ونتسلى بهما أثناء حديثنا"

أومأت منة توافقها الرأي رغم استغرابها إذ ظنت أنهما ستقصدان مكانًا بعينه..
وهو بالفعل ما انتوته سميرة لكنها تراجعت عن خطتها حين نغزتها الذكريات فخشت تأثيرها على منة..

وأخرجتها الأخيرة من شرودها قائلة:"إن خرجنا من هنا سنصل للميدان ونستطيع الجلوس على أحد المقاعد مع عامة الشعب"

"هيا بنا.." وافقتها سميرة ضاحكة وما استقرتا أخيرًا حتى بادرتها:
"كنت اتمنى أن تحضري اليوم إلى المدرسة وتشاهدي ردود فعل زملائك حين طالبتهم الأستاذة نوران بالاعتذار منك"

أجابتها منة ببؤس:"أنا لا أكترث..سأدخل الامتحانات حتى لا أهدر مجهودي طوال السنة لكن علاقتي بالمدرسة انتهت للأبد..وإنني لأستثقل عودتي إليها فلا أحد يحبني هناك! حتى أقرب زملائي خذلوني وصدقوا تلك الشائعة الغريبة التي انتشرت عني"

"لهذا ليس عليك أن تكوني مسالمة في كل الظروف..للحياة جانب متوحش عليك بمقاومته قبل أن ينهشك ويصل لقلبك.."

رمشت منة بانبهار وفغرت فاها كأنها تستوعب الدرس الجديد الذي لم يمر عليها في سنواتها الدراسية!
بينما ضغطت سميرة على صدرها بقوة وقد أُخذت بقولها! هذا درسها الذي تعلمته بأسوأ الطرق ولم تتقنه إلى الآن بشكل كامل..
"أحبي طبيعتك المسالمة ولكن تعلمي الذود عنها في هذه المواقف..خوضي الامتحانات وأظهري قوتك لزملائك..اقبلي اعتذاراتهم بشجاعة إن شئت أو ارفضيها إن ارتأيت أنك تستطيعين تطبيق قرارك بالانعزال عن مجتمعهم"

مر بخاطرها اجتماعات زملائها ..تخطيطات فادي للهرب وتكبره بينما يتلقى طلبات زملائه برسمهم..تنافسها الغير معلن مع بسنت ودينا على المركز الأول..كانت متفاعلة سلبية مع جميع أنشطتهم لكنها أحبتها..وترى أن الحياة المدرسية بلا معنى إن لم تحظ بأصدقاء يبادلونها مشاعرها الطيبة ويهتمون لأمرها..
"انخرطي بينهم وافرضي شخصيتك..ألا تظنين أنها أمثل طريقة لصنع ذكريات لا تنسى عن حياتك المدرسية؟"

"نعم..سأفعل"
بادلتها سميرة الابتسام وتمنت لها التوفيق في تنفيذ قرارها وألا تطبع قسوة التنمر أثرها عليها..أرادت لها النقيض لكل ما مرت به لذا قاومت ترددها واتصلت بوالدها من البداية حتى توصل إليها رسالتها بنفسها..
تنهدت براحة وأسندت ظهرها إلى المعقد قبل أن تقول:"هيا أخبريني عن اهتماماتك"
وانخرطتا في حديث هادئ أشاع السرور في نفسيهما..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أنت هنا كعادتك"

التفت خليفة بعينين حمراوتين وابتسم بسخرية قائلًا:"كما عهدتك..تتصرف بنبل معي مهما فعلت"

"وما أدراك ربما أتيت لاستغلالك في لحظة ضعفك اليتيمة؟"

ضحك خليفة ضحكة مريرة قبل أن يقول:"اشتقت إليها يا سالم"

واعتراهما صمت طويل وكلاهما يسترجع هذه اللحظات ...كانت أسرة خليفة أحد ضحايا الحادث الأليم قبل سنوات وبداية عملهما المشترك الذي راج وانتشر فصارت الحادثة علامة فارقة في حياتهما بجانبها السلبي والإيجابي..
"وأنا أيضًا لا أنسى هذا اليوم الذي طبع بصمة قاسية على ابني"
"اشكر لله على وجوده  حتى الآن في حياتك سليمًا معافى حتى وإن صارت روحه معطوبة....ضُم هذه الروح وأحسن إليها فلا تدري ما هو عذاب فقدانها"
ابتئست ملامح سالم وتمتم بدعاء صامت أن يحفظ الله ابنه ولا يريه فيه سوءًا ثم قال مواسيًا:
"كل عام تشعر بالراحة ما إن تسرد على مسامعي ما حدث هيا افعلها الآن أيضًا ..دعنا نتشارك هذا الألم كما تشاركنا النجاح طوال الأعوام الخالية"
فرك خليفة شعر رأسه بقوة كأنه يبتغي اقتلاعه ثم أنشأ يسرد قصته بملامح خطتها الأيام بالبؤس والكدر رغم نعيمها..شاردًا في الفراغ راجيًا أن يبتلعه فيغادر هذه الحياة لاحقًا بفقيدته:
"فقدت زمام الأمور كليًا بعد أن حوصرت سيارتنا وفي لمح البصر كنا ضمن الضحايا..لو أنني مت أو حتى فقدت الوعي لكان أهون علي من شهادة عذابها.. كنت عاجزًا عن تحريك إصبع مني ...استجمعت قوتي مرارًا دون جدوى.. فقد غادرتني لتذرني أراقب متحسرًا ألم ابنتي وبكاءها.."
اكتنف العذاب ملامحه وصارت عيناه كجمرتين لاهبتين إلا أنه لم يذرف دمعة واحدة وتابع:" فقدت عقلي في المشفى ما إن رددت والدتها كلام الأطباء بأنها ماتت.. كيف تموت دون دواع؟ بل كيف تموت وأنا حي أرزق؟ أنا أول من حملها وأطعمها.. جمعت كل مالي لأجلها..تخيلتها أمامي سعيدة مشعة تعبق بالحياة والأمل قبل أن أغادرها وحتى في لحظة احتضاري سأوصيها أن تبقى على حالها فلا تبكيني ولا تأس لرحيلي..فقط تبقى هانئة النفس مرتاحة عابقة بالحياة"
ماذا يُقال لتعزية إنسان فقد جزءًا من روحه؟
تساءل سالم مكررًا ذات تساؤله لنفسه كل عام..ولما لم يجد إجابة ككل مرة فقد اكتفى بالصمت مراقبًا تعبيرات خليفة المفجوعة كأنه فقد ابنته للتو.. ثم هدأت تدريجيًا ليستعيد طبيعته رويدًا رويدًا..
"تفضل"
نظر سالم للشيك في يديه مقطبًا وسأله بحيرة:"ما هذا؟"
فبرر خليفة بسخرية مريرة:"أُصلح خطأي إذ يصحو ضميري فجأة في ذكرى وفاة ابنتي .."
وتابع بتوضيح:"أنا استعدت حقي كاملًا وكما يرضيني من عبد الرحيم..وأنت تستحق هذا مني تكفيرًا عن خطأي في حقك.. تعويض لما أنفقته لإصلاح تلفيات الفرع الجديد..كانت مسئوليتي وأنا تهربت منها ..أعتذر منك"
"ياللهول!تعتذر مني! جعلتني أتحرق لمعرفة الخطأ الذي تصلحه كل عام"
قالها سالم ساخرًا بينما يلتقط الشيك من يده فعقب خليفة مبتسمًا:"عفا الله عما سلف"
"لا تظن أن هذا التعويض سيعطيك صلاحية المشاركة في الإدارة"
تلقى خليفة تحذير شريكه بضحكة ساخرة وأردف:"لم أعد مساهمًا فيه للأسف.. ودعني أهديك هذه النصيحة..لا تهمل المقر الرئيسي وجهدنا المشترك لسنوات لأجل فرع صغير .."
"الصغير يكبر وطالما يحمل الفرع ماركتنا فنجاحه يزيد من نجاحنا و ربما نتأثر إن فشل أيضًا"
"أتفهم هذا..لكنني مدرك أيضًا أنك كلفت شخصًا موثوقًا بإدارته لذا لا داع لوجودك هناك ولنركز في عملنا.."
"لا بأس أتمنى أن تلتزم أنت أيضًا بنصيحتك ولا تبارح الشركة كالماضي"
أجابه خليفة بحسم:"خلال أيام سأكشف لك عما يشغلني..ومؤكد لن يخرج عن نطاق العمل تعرفني لا أهدر وقتي إلا فيما يزيد مكانتي في السوق"
تقبل سالم تبريره متوقعًأ أنه أوجد طريقة مبتكرة لتوسيع عملهم ولم يدر بخلده بتاتًا أن خليفة صار المالك الجديد للمصنع وسالب حق أخيه خلفًا لعبد الرحيم..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"نفيسة!"
نادتها هالة بينما تمسح عرقها ثم صرخت بها ما إن التفتت إليها:"لماذا تقضين طلباتك الآن تحت هذه الشمس الحارقة؟ مم صُنعت؟ لا أستطيع مجاراتك!!"

"لو أنني لم أتصل بك لبقيت نائمة حتى الظهيرة..استفيقي الحياة لا تنتظر أحدًا"

جحظت عينا هالة بصدمة وجابهتها مستنكرة:"أرافقك حتى لا أنام.. وما عيب النوم حتى الظهيرة؟!!!! حتى شقيقتي بكل تجبرها لم تجرؤ على أن تفعل ما فعلته..كيف أوقعت نفسي في هذه الصداقة التعسة؟"

التفتت نفيسة متابعة طريقها كأنها لم تسمع شيئًا وأمرتها بحسم:"الحقي بي حتى ننهي عملنا بسرعة"

فانصاعت هالة متذمرة تلوم نفسها على ما جنت !! وسألت:
"هل تتسوقين لعام؟ هذا يكفي!"

"أتسوق لأسبوع كامل لأنه اليوم الوحيد الذي أتفرغ فيه صباحًا .."

"سأجعل أبي يعطيك إجازة غدًا أو حتى يقتطع ساعتين من عملك الصباحي الثمين ولكن أرجوك هذا يكفي"

توقفت نفيسة عن السير ملتفتة لرفيقتها التي ظنت أنها نالت شفقتها إلا أنها خيبت ظنها بقولها:"أنت طلبت أن تعيشي حياتي ليوم كامل لذا لا تعترضي وأكملي ما بدأته..كوني شجاعة ولا تتراجعي أبدًا عن الطريق الذي اخترته"

ثم أعرضت عنها تتابع سيرها فزمت هالة شفتيها بقهر وقبضت كفها متساءلة عما سيحدث إن وجهتها  لظهر نفيسة ثم فرت راكضة..

"هالة! توقفي عن التصرف كطفلة تجهد والدتها وهيا تحركي"

زفرت هالة مع توجيهات صديقتها وتقدمت خلفها قبل أن تتذكر فجأة فتصرخ بها:
"لحظة! لا أعرف عمرك حتى الآن..ماذا لو أنك تصغرينني بالعمر حينها لا أسمح لك بتوجيه الأوامر إلي"

ابتسمت نفيسة وارتأت أن تهدي صديقتها حافزًا للمتابعة فقالت:"لنقارن أعمارنا فيما بعد..رافقيني  لأنهي شراء أغراض البيت حتى نتفرغ لاختيار ملابس جديدة..."

وفورًا قاطعتها هالة بحماس:"أوووه..اختيار موفق لن تجدي أفضل مني ليساعدك في انتقاء ملابسك..هيا هيا لننجز المطلوب بسرعة"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أنت وحدك من تقبلينني كما أنا"

ملست وجدان على رأسه المستقر في أحضانها وأجابته:"الله يقبلك أيضًا يا رحيم.. انتظم في صلاتك وراقبه في أفعالك حتى يجعل لك القبول ويسدد خطاك"

"حين أكون معك وروحك حولي أصلي وأسمح لطيب نفسي بالاستئثار لكنها حالة مؤقتة لا تلبث الكثير قبل أن تغادرني فلا أدع شيطانًا يوسوس لي بل أكون أنا الشيطان"

سارعت وجدان ترفع رأسه تحيطها بكفيها تحثه بلهفة:"هذا ما أدعوك إليه.. كن معي واسمح لي بلمس روحك ورعاية كل جميل فيها..أرجوك اخرج من دائرة المصنع ..اطو هذه الصفحة فلا تعد إليها..واختر عملًا آخر شريفًا تكسب منه رزقك بالحلال وتعود لأحضان زوجتك فليتمس كلانا حاجته لدى الآخر وتستقر حياتنا"

انقبضت عضلة في وجهه كأنه يحاول مجاملتها بابتسامة زائفة لكن ملامحه ظلت على جمودها وأنزل كفيها عن وجهه ببرود.. فأيقنت رفضه واستحالة مطلبها

أغمضت عينيها تقاوم إحباطها الدائم بسببه ثم قالت بابتسامة متكلفة:"هيا لنغلق هذا الموضوع..إنها ساعتي الصباحية وعليك أن تسمع ما أريد قوله"

فطن عبد الرحيم لمشاعرها المتضاربة وقرأ الضيق خلف ابتسامتها ..فسايرها فيما تريد مسترضيًا..وقال يمازحها:"اتفقنا على نصف ساعة فقط.. تعرفينني لا أستطيع تمالك أعصابي أكثر من ذلك"

مطت وجدان شفتيها متحسرة وأجابته:"نعم نصف ساعة ودعنا نلتزم بالقواعد ونتكلم بهدوء..ولا أسمح بإنهاء جلستي بطريقة المرة الماضية هل تفهم؟"

"عُلم ويُنفذ يا سيدي"
شاركته وجدان الضحك لثوان قبل أن تلتبس الجدية ملامحها وتقول:"إن أرجعتُ استيلاءك على المصنع لسوء طباعك التي غرسها فيك والدك فبم تبرر استيلاءك على مال البلدة الذي كان حصيلة سنوات ؟!..
أنت لم تكون يومًا بحاجة للمال يا رحيم وهذا لم يكن أبدًا من حقك.. حتى أنك لم تشارك به!..
وإن أسندته لسوء خلقك..لم هددت صديقك حتى يقطع علاقته بصديقكما الثالث؟رغم أنه استوفى دينه!"

تابعت دون أن تمنحه فرصة الاعتراض:"لا تغضب ولا تدافع ..أنا لا أهاجمك الآن بل أطلب منك النقاش بهدوء..لنضع تصورًا آخر للمشهد..لو أنك تابعت العمل مع أصدقائك وسعيت للتواصل مع شركات أكبر وزيادة إنتاجية المصنع ألم يكن أفضل من تعريضه للإفلاس مرتين وخسارته لصالح مطامع غيرك؟!!!"

"ها أنت قلتيها..خسرته ..حتى علي رفض مساعدتي لاستعادته.. وتلقيت تعويضًا بائسًا من..."

امتنع عن إطلاق سبته البذيئة لوجود زوجته وتابع:"كأنني موظف أُحيل للمعاش"

"توقف توقف..قبل أن تدخل هذه الزوبعة أجب سؤالي..لو أن هناك طريقة لاستعادة المصنع وهاهو طوع يديك الآن..هل كنت لتعتذر من أصدقائك وتعيد لهم حقهم في الشراكة أو حتى تعطيهم تعويضًا كموظفين أُحيلوا للمعاش؟"

استخدمت ذات تعبيره ساخرة وتنكيس رأسه يعطيها الإجابة المتوقعة لتكمل:"إذًا توقف عن الشكوى يا رحيم..وهذا الرجل الذي سلبك المصنع رأى أنه الأحق بامتلاكه وإدارته..لا تسأل عن الأسباب طالما لا تجد أسبابًا تجيبني بها...هو أيضًا وافق هوى نفسه وأرضاها غير مكترث بك"

"كلماتك كسوط لاسع..وماذا بعد؟ ماذا تريدين من استعادة الماضي ؟ تعرفين أنني غير نادم ومستمر في طريقي"

"أريدك أن تنظر بعين أخرى إليها..استرجعها  بعيني أنا وتخيل أنك تصرفت كما أريد حينها ستدرك ما أعنيه يا رحيم..استغلال من حولك وإضرارهم لتحقيق مصالحك لن يمنحك إلا نشوة مؤقتة سرعان ما تتلاشى وتذرك وحيدًا كما الآن"

شدها عبد الرحيم لتسكن هي أحضانه هذه المرة وقال يستعطفها:"لم لا ننهي جلستنا عند هذا الحد؟ سأبقى معك ولكن دعينا نُغير الموضوع.. مثلًا أخبريني كم تحبينني! وكم تحرصين علي!"

ضحكت وجدان حين راح يمرر ذقنه على خدها الناعم يدغدغها وأجابته:"وكأنني لم أظهر حرصي عليك منذ وضعت قانون جلسات لا للغضب"

"شعارات زائفة..إنها جلسات لجلد الذات ومحاولة إحياء ضميري الميت.. دعك منها وأحبيني أنا"

وغمستهما العاطفة لدقائق  في بحرها مترامي الحدود قبل أن تقول وجدان بحنين: "أحببت دومًا حياتنا في البلدة..دعنا نغادر هذه الشقة ونعود لحياتنا القديمة هناك"

ناظرها زوجها متفكرًا بحيرة وسألها:"حين اشترط والدك أن نسكن في البلدة إن وافق على زواجنا..."

فقاطعته تؤكد ظنه :"نعم أنا وضعت هذا الشرط وطلبت من أبي أن يخبرك به دون أن ينقل إليك أنه شرطي..كنت أعرف أنك لن توافق وربما تخدعني بالموافقة ثم تنفذ ما بدا لك"

"وغادرنا البلدة بعد وفاة والدك..هل ظننته خالدًا ليحميك ويحقق رغباتك؟!!"

دفعته وجدان ونهضت ثائرة تلسعها الدموع لذكرى وفاة والدها وفي ذات الوقت يحرقها الغضب من أسلوبه:"كيف تتحدث ببرود هكذا عن وفاة أبي؟ أتعلم كم تزيد ندمي كل لحظة على مخالفة أمره؟"

نهض عبد الرحيم بدوره وناظرها باستهانة قائلًا:"أنت أيضًا طاوعت هوى نفسك.. وتعرفين ما يعنيه مجانبة الصواب لتحققي إرادتك"

حدقت به ذاهلة لا تستوعب ما يقول أو الأصح أنها لم تتوقع يومًا ...!
"إنك...أي حجة ! أي برهان تقدمه الآن؟ إنك تقر أن زواجي بك خطأ  ارتكبته بإرادتي وأنا راضية!!!! ليكن أنت محق يا سيدي..لكنني لا أسعى لتبريره وألعنه في اليوم آلاف المرات داعية الله أن يخلصني منه أو يخلصني  من حياتي البائسة معك..لم أتخيل أن أتمنى الموت كل يوم لأنني ارتضيت الزواج بك"

مع حركة صدرها صعودًا وهبوطًا فثورتها لاتزال قائمة.. ولمعان الغضب في عينيه كأنه يسعى لقهرها وجعلها ترضى بالإهانة..أعرضت عنه صافعة باب غرفة النوم في وجهه..
ليهنأ بحياته كما يحب..لقد أجهدت نفسها فوق طاقتها دون أن تلقى منه تقديرًا لما بذلت..
سجلت هذا في ذاكرتها.. كلها مسامير يدقها زوجها بسرعة وحرفية في نعش زواجهما .. فليستعد لدفنه قريبًا لأن طاقة مسامحتها لن تبارح الصفر حينها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"ألم أطلب منك أن يبقى هذا الأمر سرًا بيننا؟..كيف تحضرينني حتى منزلك؟!!"

زمجر فادي في الهاتف بينما يقف أمام شقة نوران والتي فتحت الباب فورًا تشير له بالصمت هامسة:"اصعد أمامي بصمت"

ولحقته بهدوء حتى وصلا للسطح فقالت:"بحثت عن مكان سري فلم أجد أفضل من هذا"

جال فادي بعينيه في المساحة الشاسعة أمامه وسألها :"ماذا لو صعد أحد السكان؟"
هزت رأسها بالنفي مؤكدة استحالة حدوث هذا وأشارت له أن يلحقها حتى دخلت ما يشبه غرفة ضيقة لها باب خشبي...

"أجرنا هذا الجزء حتى نضمن ألا يقطع الإرسال عن التلفاز مرة أخرى"

تابعت وهي تزيح الأتربة جانبًا بطرف الحصيرة قبل أن تبسطها مُردفة:"وهذه وضعتها في وقت سابق حتى لا تفسد ملابسنا"

ثم تربعت عليها ورفعت رأسها لفادي الذي تسمر في وقفته مشدوهًا :"ماذا؟ آه تذكرت أنت ترى نفسك فوق مستوى البشر ولن تجلس على حصيرتي اللطيفة"

لكنه خالف ظنها وتربع مقابلًا لها ثم قال:"لا افهم شيئًا!"

"تقصد أمر التلفاز..لقد قُطعت أسلاكنا مرتين تباعًا ولأننا لم نتوصل للفاعل فقد ارتأينا أن نأخذ حذرنا منهم وبنينا هذه الغرفة الصغيرة ..."

ومطت شفتيها تتابع:"شقيقك يعتبر كل سكان المدينة جيرانًا له !!! فليأت ويرى ما نعانيه من جيران عقار واحد حتى يقلع عن نظرياته الغريبة"

كتم فادي ضحكته وتفسيره الخبيث لنظرية شقيقه وقال:"لننس نظريات مازن وأمر جيرانكم المزعجين ..علينا أن لا نتأخر..أريد العودة للمنزل قبل أن يطلع النهار "

"بالتأكيد سنفعل..أحتاج للنوم بعد فلدي يوم عمل طويل غدًا..ولكنك من تأخرت وهذا سيجعل جلستنا اليوم محدودة"

استعاد فادي محاولاته الفاشلة للهروب من مجالسة والدته الليلية واستسلامه لها حتى تأخر عن موعده مع نوران ودون أن يصرح لها بهذا السبب قال:"أفضل.. أنا شخصيًا لن أطيق الدراسة لأكثر من ساعتين وهذا إكرامًا لضميري..."

قاطعته نوران ساخرة:"رجاءً قلل الوقت أكثر إنها المرة الأولى لك في الدراسة.. هل تجادل أحد الباعة في ثمن بضاعة تريدها؟!!! إنه مستقبلك ودراستك ! الضامن الوحيد لنجاحك"

"وها أنا أمامك وهذا أقصى سعي"

تنهدت نوران بيأس قبل أن تتناول منه كتبه قائلة:"لنبدأ يا صاحب السعي الدؤوب"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
لم يشفع بكاء أفنان أو توسلاتها لإقناع هيثم في الإقلاع عن مخططه بالسفر وكذا والدته التي انهارت باكية بدعوى أنها لم تشبع بعد من وجوده ليقرر مفارقتها  مرة أخرى..

"صدقيني يا أمي لن أتأخر...لن يمر أسبوع وستجدينني في أحضانك مرة أخرى..هيا أعطيني قبلة الوداع"

أعرضت نوال عنه غير عابئة بمبرراته التي كررها مرارًا على مسامعها فجثى هيثم على ركبتيه أمام مقعدها قائلًا:"يا أمي إنها رحلة سريعة مع رفاقي القدامى ولن أتأخر..أقسم لك لن أغادر البلاد ولن أقطع الاتصال بك"

ورغم ممانعتها بدعوى الغضب تمسك بوجهها مقبلًا وجنتيها وجبهتها مسترضيًا

"هل ترضين لي السفر دون أن أنال حضنًا واحدًا منك؟ هيا يا نبع الحنان تغمديني بعطفك"

بينما عقب والده ضاحكًا :"الفتى يشحذ عاطفتك حرفيًا..هل أنفقت عليه و ألحقته بأفضل الجامعات ليصبح شحاذًا في النهاية"

"جبر الله بخاطرك يا أبي..مداخلة رائعة تستحق التقدير.."
وتوجه لوالدته بالحديث:"أترضين لي الشماتة يا أمي؟"
لم تكترث نوال بمناكفتهما المعتادة وتابعت نحيبها تضم ولدها إليها بصمت..

ولما يأس هيثم من إقناعها بالعدول عن حزنها وكآبتها لم يجد بدًا من المغادرة كما خطط ملقيًا بوعوده التي يشك أن والدته قد سمعتها وأوصى والده ألا يتركها لهذه الأجواء ثم غادر الشقة..

أودع حقيبته في المقعد الخلفي للسيارة قبل أن يتجه لمقعد القائد فوجد زيد يستند على مقدمة السيارة  ومازن يراقب عابسًا ويداه في جيبي بنطاله..

"سأرحل وحدي..اشبعا بشقيقتكما"

وكزه مازن بسخط قائلًا:"وكأنك تقوى على فراقها أيها النذل!"

وأردف زيد:"إلى متى سأراقب بكاء شقيقتي لأجل سيادتك؟!"

"إلى اللقاء اعتنيا بها حتى عودتي"

واحتل مقعد السائق يدير السيارة مستعدًا للرحيل ولم ينس أن يلقي بجملته المغيظة لابني عمه:"لا تنس أنك تعمل في أملاكي الآن فابذل جهدك وتوقع زيارتي التقيمية في أي لحظة..وأنت يا مازن اعتني بجاسوسي الصغير حتى أعود"
وانطلق بالسيارة قبل أن يتمكنا من إعطائه الرد المناسب..
فقال مازن وقد تملكه الغيظ:"لابد من تأديبه..لقد استعار سيارتي ورغم هذا يتكبر علينا ويعطينا الأوامر!!!"

لم يوافقه زيد الرأي هذه المرة إذ يرى أن فعلة أفنان الأخيرة جعلتهما أمام اختبار حقيقي كأنهما يدرسان ارتباطهما بجدية لذا بقى على حياده دون تدخل موقنًا أنهما سيصلان للطريق الصحيح بعد هذه الهدنة..

"أتعلم أفكر أن نقيم في غرفة هذا النذل حتى عودته فلا نرى أفنان..سيكون هذا أفضل لأن رؤيتها بائسة ستودي بنا لعواقب وخيمة..لا أعرف كم سيبلغ قدر غضبك لكن أنا أعرف نفسي سأقتل هيثم إن رأيت مدى عذابها "

جلجلت قهقهة مازن الصاخبة ثم قال:"وإن أردت تعال نقيم في شقتي الغير مجهزة.. لا أريد أن أقضي الباقي من عمري أزورك في زنزانتك"

لكمه زيد بخشونة في ذراعه معقبًا بسخرية:"أتعرف أنني دائمًا توقعت لك هذا المصير بعد أن صرت غنيًا فجأة؟"

اتسعت عينا مازن وتابع ضحكه قائلًا:"لا تقلق كله بالحلال..بالحـــــلال..ولكن قد يُلقى القبض علي بتهمة التحرش بإحداهن إن لم أتزوج في القريب العاجل"

"أيها المسكين هل تجعلك نوران فاقدًا لعقلك لهذا الحد؟"

أومأ مازن وقال ببؤس:"وتفرض حظر لقاءات أيضًا بعد أن دعوتها لحضور مباراتك..ولا أعرف متى أراها من جديد"

التفت زيد عائدًا للمنزل دون أن يعبأ بشكوى شقيقه فقال يغيظه:"سأستعد للذهاب للعمل مع زوجة المستقبل..احتفظ بعقلك حتى عودتي أيها المحــــــروم!!"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
انخرطت هالة في عملها دون تذمر محاولة تناسي عودة هايدي وكونها زميلتها في فريق العمل إذ قررت مؤخرًا انتهاج أسلوب حياة نفيسة فربما تكون هذه هي الطريقة الصائبة للحياة..
الجدية..تجنب إضاعة الوقت..وإثبات ذاتها وكفاءتها في العمل حتى لو اضطرت لمهادنة أبغض الناس إليها..أن تصنع حاجزًا بينها هي هالة الفتاة الحالمة المرحة وهالة الكئيبة التي ترثو حالها..والشخصية الجديدة التي تسعى لفرضها هالة العملية المتقنة لعملها ...

وبينما هي في حرب أفكارها مر زيد مُلقيًا التحية فردتها بخفوت دون أن ترفع أنظارها عما تفعل..فتابع زيد طريقه ظانًا أنها تتصرف بصورة طبيعية أمام زملائها حتى لا تلفت الأنظار لعلاقتهما الوليدة..
وعاد يزجر نفسه متمتمًا: (أي علاقة وهي لم تعطك موافقتها بعد يا زيد؟ اعترف أنك بائس كمازن ولم تنل مرادك بعد)

ثم لاح له والده على مقربة فتقدم إليه يستشيره فيما يخطط له..
بعد دقائق..
طرقت هالة باب غرفة الاجتماعات  وتقدمت بتؤدة تتطلع لزيد الذي يدير ظهره للباب منخرطًا في حديث جاد مع والده الذي رحب بها فور أن رآها قاطعًا حديثه مع ابنه..
"وها هي صاحبة الشأن قد أتت"

"صباح الخير يا سيد خالد"

ارتفع حاجبا خالد مستعجبًا نبرتها الرسمية بينما استدار زيد بمقعده يتأكد أنها هالة من نطقت جملتها بهذه الرزانة...

وقبل أن ينطق أحدهم بحرف ارتفع رنين هاتف خالد فأشار لهما أنه سيعود فور أن ينهي مكالمته..

بينما تقدمت هالة وشغلت أحد المقاعد حول الطاولة..
نظرت لزيد بارتباك لتجده لايزال على ذات نظرته إليها منتظرًا تبريرها الذي لم تتأخر بتقديمه:"بدوت مفتعلة أليس كذلك؟"

ضحك زيد براحة قائلًا:"التفت لأتأكد أنها أنت رغم أنني أحفظ صوتك..ورغم هذا يمكنك افتعال هذا الدور بين جدران الشركة لا بأس..لكن بين جدرانها فقط اتفقنا؟"
تعقدت ملامحها فبين عتبها على نفسها كسر هالة الرسمية وميلها الفطري لمجاراة المزاح كانت ترزح في معركة داخلية لم يفطن لها زيد بينما يستطيل بجسده مستندًا على الطاولة الفاصلة بينهما هامسًا:

"اسمعي سيعود أبي مع الموظفين خلال دقائق حيث نعقد اجتماعًا هامًا.. لذا علينا استغلال الوقت قبل عودتهم..."

رمشت هالة تستعيد شخصيتها المرحة حتى تتهرب من إجابته التي يطالب بها منذ أيام:"عن نفسي أفضل استغلال الوقت في تغيير لون طلاء أظافري إذ اكتشفت أنه لا يليق بنهار عمل طويل"

"هل ستضعين الأرجواني الباهت الذي يبدو كلون طبيعي لأظافرك؟"

اتسعت حدقتاها لتذكره تفصيلة صغيرة كهذه عنها ..وصدمتها الأكبر لمعرفته درجة اللون عكس أغلب الرجال الذين يرون الحياة بلون واحد..

"أخبرتك أنني أطلب الزواج منك..أي أنني مستعد لدراسة كل لمحة تهدينها لي عن طيب خاطر أو أكتشفها بنفسي عنك.."

عاد يسترخي مستندًا على ظهر مقعده وأضاف قبل أن يلج أحد من الباب فتنتهي خلوتهما:"حصلت على رقم هاتفك من نهلة وأنا متحمس لاستخدامه ما إن أطلبك من والدك"

دقائق مرت دون أن تفطن حقًا لسبب الاجتماع الدائر حولها وأرادت لو تنفرد بنفسها بأسرع وقت داخل غرفتها مع مذكرتها فهو الشئ الوحيد الذي سيفيدها في هذه اللحظة المشوشة بمختلف الأحاسيس..

وحين رفعت عيناها إلى زيد وجدته يحدق بها بدوره منتظرًا إجابة ما... وتساءلت هل سيكون الأمر أكبر منها كطلبه للزواج؟!

"هالة ما رأيك؟"
سأل خالد فنقلت نظرها إليه تستحث سرعة بديهتها أن تخرجها من هذا الورطة.. أما زيد الذي فطن لشرودها أضاف موضحًا:"هل تمانعين أن تعرضي منتجات شركتنا على حساب الانستجرام الخاص بك؟"

لم تجب بادئ الأمر..فتابع:"وجدت أنه من غير المنطقي أن نحصر جميع السيدات في صورة العارضة رشيقة القوام التي تضع قوامها أولوية قصوى في حياتها .. ففكرت أن إضافة أزياء أنيقة تليق بالسيدة ممتلئة القوام..بالأم التي طبعت أمومتها بصمتها على جسدها سيكون رائعًا..اختيار الزي المناسب الذي يليق سيجعلها أكثر ثقة وقوة"

(ياله من خطاب حماسي حتى هي بكونها إحدى سيدات الفئة المقصودة تأثرت لكن هذا لا يعني أن تصدق على قوله)

"إذا هل سأعرض صورًا للعارضة على حسابي؟"

"ومن قال هذا؟ إنني أطلب منك أن تكوني أنت العارضة..ستعرضين منتجات شركتنا بين جمهورك الذي يثق بذوقك"

"ماذا عني؟"
تساءلت هايدي مستاءة فأجابها زيد:"سيدات المجتمع تنقسمن إلى فئات .. ما يناسب واحدة لن يليق بالأخرى وأنا أقترح إضافة فئة أخرى إلى جانبك..فتصبح منتجاتنا أكثر شمولية وتصل لعدد أكبر"

توقعت هالة جدالًا كهذا وتمنت لو أنها تستطيع مغادرة غرفة الاجتماعات في هذه اللحظة ولكنه تصرف غير لائق ولا يتماشى مع الذوق العام الذي لا تمانع هايدي لو أنها خالفته..إذ أطلقت ضحكتها الساخرة المعتادة وأردفت:"إنك تقصد تقليل مبيعات الشركة..من قد يلتفت لعارضة بدينة؟"

"لا أتفق معك..شركتنا لا تنتج أثواب السهرات فقط بل إننا نختص كذلك بالملابس اليومية لذا حين أخص الفئة الكادحة التي تملك مسئوليات أخرى غير الاهتمام بقوامها ..أو اللاتي خلقن بقابلية الزيادة السريعة فتبدو الرشاقة حلمًا مستحيلًا بالنسبة إليهن..أخصهن بتصاميم منفردة تظهر أناقتهن وتدعم ثقتهن فيسعين لتحقيق أحلامهن بهدوء ودون اضطرار لتلقي التنمر ممن حولهن "

وأضاف بتحذير مبطن:"لم أحبذ الطريقة التي تحدثت بها أمام زملائك..وكما أعدك ألا يتأثر راتبك إن خسرت شركتنا في هذا المشروع وهو أمر مستحيل فأتمنى أن تعديني أيضًا بالتزام اللباقة في الحديث"

وعدل عن إضافة(أو تعلمها) إذ بدت له مندفعة تفضل الهجوم دون مناقشة الآراء التي لا توافق هواها..

وأضاف منهيًا الاجتماع:"سنقيم اجتماعات أخرى بعد لمناقشة الفكرة بشكل موسع ووضع خطة لبدء العمل"

وكانت هالة أول من غادر الغرفة مغمغمة بتحية باهتة لزيد ووالده...
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
على فراشه حيث يقيم مؤخرًا في غرفة مؤجرة بأحد الفنادق بمبلغ زهيد..
تفرغ عرفه لمتابعة  أخبار مازن ورصد كل ما يتعلق بالمدرسة...وعمل ابن عمه الراحل الذي أوكله إليه..
وتوصل أخيرًا للطريقة المناسبة للنيل منه..

"استعد لتلقي ضرباتي القاضية يا سيد مازن"


#ڤوت
#كومنت

جيران المدينةWhere stories live. Discover now