الفصل الثامن عشر

37 2 2
                                    

اسفة ع التأخير❤️

الفصل الثامن عشر
"تبًا لعبد لرحيم ولأفعاله...لا أريد أن أسمع أخباره مرة أخرى يا مازن إذا سمحت"
فاستطرد مازن مقترحًا:
"أفكر أننا إن جمعنا أقارب العم سعيد وفتحنا الوصية فسوف نجد دليلًا قويًا يمكننا من استرجاع الشقة لا تنسى أننا سنكشف لهم رسالة ليلى أيضًا"

بينما مسح علي وجهه بكفيه زافرًا بيأس.. فتابع مازن:"يوجد سبب آخر لغضبك أليس كذلك؟ هل هي الجريدة؟ ماذا قرأت فيها؟"

"تفضل اقرأ بنفسك"

التقطها مازن يبحث بفضول عما أثار خاله وبشدة كما يرى وارتفع حاجباه بذهول مع ما يقرأه..
إذ احتل الخبر صفحة بأكملها مذيلًا بتوقيع رزان البلكي والتي كتبت عن تاريخ المصنع ورواج بضائعه وكيف صار من أبرز المصانع رغم موقعه في البلدة..

وختمت تقريرها بعبارة مشوقة: (إلا أننا مؤخرًا سمعنا عن نزاعات الملكية التي نشأت بسببه..ترى ما هي الحقيقة المخبأة خلف الستار؟ ومن هو المالك الحقيقي للمصنع؟هذا ما ستعرضه سلسلة مقالات رزان البلكي كل أسبوع)

"ياله من تقرير! لكنني على العكس أظن أنه يمكننا التعاون معها..."

قاطعه علي بانفعال:"اصمت يا مازن..أنت لا تعرفها..تلك!"

وضرب على مكتبه يحاول مجاهدة غضبه فسأله مازن مستغربًا انفعاله:"وهل تعرفها يا خالي؟"

"نعم يعرفني حق المعرفة"
التفت الاثنان مع الهمسة الأنثوية الماكرة  ونهضا بذهول يشاهدانها تتقدم منهما مختالة معتزة بنفسها حتى جاورت علي وأراحت كفها على كتفه قائلة:"رزان البلكي.. تشرفنا يا سيد مازن"

"إنك تلك الصحفية.."

"نعم أنا هي.. التقينا يوم الحادث"
وعقب علي:"كان لابد أن أعرف حين أخبرتني عنها"

عاتبته رزان :"كنت لتعرف لو أنك تابعت الخبر على التلفاز..أم أنك خشيت أن ترتبك أمام شقيقتك؟"

جال مازن بناظريه بينهما بحيرة فأوضح علي:"رزان زوجتي السابقة"

استحالت ملامح رزان الماكرة إلى أخرى ساخطة وحركت كفها ليقبض على مقدمة قميصه قائلة:"ماذا تعني بالسابقة؟ هل تزوجت بعد انفصالنا؟"

تطلع علي لمازن الذي يناظرهما بتسلية وصرخ به:"ماذا تنتظر؟ هيا انصرف.. أنهيت ما جئت لقوله فانصرف"

"نعم معك حق..أنا ذاهب .."

وعاد يضيف بخبث قبل ذهابه:"أراك مستمتعًا بملمس كفها...."
قطع جملته ما إن حدجته عينا علي بنظرات زاجرة.. فغمزه بعبث وانصرف..

بينما تطلع علي لقبضتها المشتدة على قميصه دون رد فعل وقال:"خيرًا..ماذا تريدين بعد فعلتك المتهورة؟"

"أجبني أولًا..هل تزوجت؟"

"وأنت هل قصصت شعرك؟"

أفلتت رزان قميصه وأجابته بينما تفك عقدة شعرها ليسترسل حتى منتصف ظهرها:
"لم أفعل..في المرة السابقة كنت أضع شعرًا مستعارًا"

عاد علي  للجلوس خلف مكتبه معلقًا  باقتضاب:"جيد"

"وماذا بشأنك؟ ألن تجيب سؤالي؟"

"لا"

"لماذا؟ لقد أجبتك بصدق "
وأمسكت كفه تضعه على شعرها مضيفة:"إنه شعري الحقيقي..تأكد بنفسك"

استعاد علي كفه قائلًا:"قصدت لا لم أتزوج..كما أنني أرفض التلامس يا سيدة رزان"

"سيدة رزان! لقد ظننت.."
قاطعها علي بصرامة:"تعرفين شروطي التي لا تتوافق مع حياتك وطموحك..لذا لا يمكننا العودة معًا قبل أن نصل لحل مناسب يا ..."

فقاطعته رزان بدورها:"لا تقل سيدة! هل جننت؟"

لينهض علي حتى وقف مواجهًا لها فهتف بها :"بل أنت من جننت! كيف تنشرين مقالًا كهذا؟ ماذا تعرفين عن المصنع؟ كيف تخططين للوقوف أمام خليفة وعبد الرحيم؟"

طأطأت رزان رأسها فتأكدت لعلي مخاوفه وقد كان يتمنى لو أنها ردت له سؤاله بمثله وأجابته بما يحجمه!

"رزان..انظري إلي! ألا تعرفين حقًا ما تفعلينه؟"

"تعرفني أتعقبك دائمًا ..وبعد حادثة عبد الرحيم التي شهدتها ومعرفتي بأمر القضية التي ستتولى المرافعة فيها ضده قررت أن أجمع المعلومات بشأن المصنع.. وأجعلها قضية ...رأي عام.."

تلعثمت في جملتها الأخيرة فسألها علي بغيظ:"وهل أنت مهيأة لخسارة عملك الوشيكة؟"

"ماذا تقصد ؟ علي! أريد معلومات لمتابعة السلسلة أرجوك"

"لا أعرف..حتى القضية التي عرفت بشأنها تنازل عنها صاحبها وانتهى الأمر..أي أن ما لدي مجرد أقوال لا أعرف مدى صحتها..ولست مستعدًا لترويجها كحقائق وخداع جمهورك العريض"

مطت رزان شفتيها بحنق قبل أن تقترب منه حتى رفعت يديها تعدل بها ياقة قميصه التي لا تحتاج تعديلًا قائلة بدلال تدرك تأثيره على الرجل أمامها:
"لن تتخلى عني أليس كذلك؟"

"علي..هل قرأت..؟"
قطع عبد الرحيم تساؤله ووقف مبهوتًا بالمشهد الماثل أمام ناظريه.. فقبض علي على كفي رزان يبعدهما عن قميصه هامسًا:"انصرفي دون أن تجعليه يرى وجهك"

"ولكنني لم أحصل على ما جئت لأجله بعد"

زجرها علي بنظرة محذرة فطاوعته مرغمة وتظاهرت بتعديل شعرها تسدل بعضه على وجهها حتى لا يراها عبد الرحيم بصورة جيدة..
وتقدم الأخير يجلس أمام علي ولا يزال الاستغراب يلون ملامحه..
فبادره علي:"لم أتيت؟"

"انتهت القضية أي أننا عدنا أصدقاء"
أومأ علي ساخرًا وأجابه:"نقرر هذا معًا..وأنا أرى أنه لا يمكننا أن نعود للسابق أبدًا..ابحث عن محام غيري وافعل كل ما ترجوه في هذه الحياة..لا أهتم"

"علي! لقد..."

قاطعه علي يواجهه بغضب:"هل تدرك ما تفعله في حياتك؟ أنا لا أسعى لجمع المال أيًا كان مصدره كما تفعل..حتى مجرد معرفتي بك إساءة لشرف المهنة لذا تصرف كراشد وابتعد عن طريقي"

وصم آذانه عن أي اعتراض حتى نهض عبد الرحيم يائسًا..وفكر أنه ربما يعود ليقنعه بحجة جديدة لكن الأمر يحتاج لتفكير طويل..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"ما هذا يا تامر؟ لقد أخطأت رقم الطاولة بلا شك"

ابتسم تامر بسماجة قائلًا:"نعم أعرف طلبت كل الأصناف المحشوة بالنوتيلا ولكن السيد زيد أوصى بهذا الإفطار لك وأمرني أن أعطيك هذه الرسالة"

أومأت هالة بامتعاض فانصرف تامر متثاقلًا كأنه يبتغي معرفة سر الرسالة..
وفضتها بسرعة تقرأ محتواها: (صباح الخير..أنت مدينة لي باعتراف وتحية.. غدًا لدي مباراة مصارعة مع ابن عمي وأرجو أن تحضريها حتى أحظى بفرصة أخرى لإلقاء التحية..أتمنى أن يروقك الإفطار..مع التحية)
دمدمت بغيظ:"مع تحياتي هذا ما يُقال عادة..التحية..التحية..كم مرة كتبها في رسالته؟! أووووف لن أحضر أي مباراة"

وتابعت تناول إفطارها بحنق شديد رغم اعترافها أنه أحسن اختيار الفطور..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
اقتربت أفنان من نوران والتي وقفت تتحدث مع سميرة باهتمام فالتفتت إليها الاثنتان في ذات اللحظة...

ورغم توترها من وجود سميرة قالت أفنان:"أردت إخبارك هذا..لحظة كتبت العنوان في مذكرة الهاتف"

وحين حاولت تسجيل بصمتها لتفتحه رفض الجهاز مرسلًا تنبهيًا أن تنظف المستقبل(السنسور) حتى يتم الأمر..
مما جعل سميرة تناظرها بامتعاض ثم وجهت حديثها لنوران قائلة:"نتحدث فيما بعد"

بينما أدخلت أفنان كلمة السر وقد أصابها الإحراج من رد فعل سميرة إذ أن جميع من يعرفها يدرك هوسها الشديد بالنظافة والنظام ورفضها الصريح التعامل مع من يغفلهما..
"لم نعد نراك مؤخرًا يا أفنان..حقًا اشتقت لك"

دُهشت أفنان من صراحة نوران إذ أنها كانت تشعر بالمثل إلا أنها أسرت شعورها أما الآن فلم تجد بدًا عن إجابتها:
"وأنا أيضًا للأسف"

عقبت نوران ضاحكة:"وتأسفين لهذا! لا بأس.. أخبريني.. ماذا أردت مني؟"

"غدًا تقام مباراة ودية بين زيد وهيثم..وأنا كالعادة كُلفت بنقل الأمر إليك وإخبارك بالعنوان"

وأضافت تمنعها من التعليق:"لا أعرف..هذه مهمتي وفقط ..افعلي ما يحلو لك أنا أديت مهمتي"

حركت نوران كتفيها بدهشة وعادت لغرفة المعلمات حيث وجدت فادي في انتظارها ..فابتسمت تفكر أن لقاء الشقيقين في يوم واحد أمر مجهد!
وبادرها فادي يسألها مدفوعًا برغبته في إرضاء والدته:
"متى يمكننا التحدث؟"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
ذلك المساء..في الحديقة العامة..
"تفضل أخبرني كل شئ .. "
تفحص فادي الوجوه حوله قائلًا:"هل تلتقين بكل طالب يتعثر في دراسته وتهتمين بتوجيهه إلى هذا الحد؟"

ذكرها سؤاله بشقيقه الذي طرحت عليه سؤالًا بلهجة مماثلة وأجابته كما أجابها وقتها:"لا.. لا أفعل...أنت طالب استثنائي بالنسبة إليَ يا فادي وأريد رؤيتك ناجحًا تعتز المدرسة بانتماءك إليها يومًا"

أدار فادي مقلتيه بحيرة وسألها بدهشة:"أنا! تعتز المدرسة بانتمائي إليها؟! يكفي أن تملأ الأستاذة سميرة سجلي المدرسي بأيام الغياب وكل مشاغبة ارتكبتها حتى ترفضني جميع المدراس الثانوية إن فكرت يومًا في الالتحاق بها..بل أتوقع أن أحصل على النجاح لرغبة المدرسة فقط في التخلص من وجودي المزعج داخلها"

ضحكت نوران ووضحت بلطف:"هذا حال جميع زملائك يا فادي..إنها مرحلة مؤقتة تمرون بها جميعًا ..وأؤكد لك أنك ستذكرها فيما بعد كنكات طريفة لإمتاع من حولك"

"لا يهرب زملائي من المدرسة ولا يرفضون الدراسة مثلي..لذا لا أظنها مؤقتة بالنسبة إلي.."

واستطرد بانفعال:"أنا أبذل ما بوسعي حتى يصدر قرار فصلي نهائيًا ..لا أحب المدرسة ولا أريد دراسة هذه المواد! ما الغريب في هذا؟ هذه ليست ميولي.."

أسرت نوران القلق الذي انتابها من اعترافه الصريح وسألته بهدوء:
"أخبرني عن ميولك..هل وضعت تخيلًا لحياتك المستقبلية ووجدت أن الدراسة لن تفيدك فيه؟"

"نعم وضعت! أنا فنان ..أحب الرسم..النحت...كل هذا يمكنني تعلمه ويمكنني قضاء عمري أمارسه دون ملل..انظري"

وأخرج هاتفه يريها لوحة دينا التي أنجزها أخيرًا ..وجدار غرفة كمال الذي أتمه كأفضل ما يكون..ملامح منة التي برع في تجسيدها .. ثم الخطوط الأولية التي وضعها على أحد جدران منزل شقيقة عمرو..

"هذه الأخيرة لاتزال قيد العمل .. وصدقيني صار جميع زملائي في الفصل يطلبون مني شيئًا مميزًا دون تسمية وذوقي يروقهم كثيرًا..أعمل..أجني المال..وإن حصلت على عمل ثابت في أحد الشركات فقد تم هذا الأمر..ماذا أحتاج بعد؟"

ابتسمت نوران قائلة:"هل تسمح لي؟"

والتقطت الهاتف من يده تتصفح أعماله مرة بعد أخرى مما ملأ فادي فخرًا وجعله يناظرها بكبرياء وثقة أنه تمكن من إقناعها..وربما تكون هي مفتاح حريته التي سعى إليها طويلًا..
"أنا خريجة كلية الهندسة إن كنت لا تعلم..وأستطيع القول ببساطة أنك تملك أساسيات الفن كالمنظور وغيره من الأمور الدقيقة التي نتعلمها في سنوات.."
أومأ فادي يجيبها بمنطقية:
"نعم..لم لا أشغل وقتي في تنمية موهبتي إذا؟"

"ولم لا؟ هل نهاك أحد والديك أو أشقائك عن هذا؟"

رمش فادي بعينيه مصدومًا من سؤالها..توقع الرفض القاطع أو الموافقة والدعم الكامل..لا هذا السؤال الغريب  الذي لا يفهم مغزاه!..

"لا..أنا لم أخبرهم..وكنت حريصًا على إتمام عملي دون ملاحظة أي من أفراد أسرتي"

"حسنًا أنا أتفهم رغبتك يا فادي..أنت تخطو نحو هدفك بطريقة صحيحة بعض الشئ..لا تغضب فورًا سأخبرك بجميع تحفظاتي فيما بعد..والآن أريدك أن تسمعني جيدًا ولك حرية الاختيار"

أومأ فادي على مضض يحثها على المتابعة :"المرحلة المتوسطة أساسية لأي طالب ولذا يحرص عليها الوالدين..بعدها يمكنك مناقشة ميولك مع والديك واختيار عدم متابعة الدراسة ..الالتحاق بمعهد لدراسة الفن بتوسع..أنت حر والاختيارات شتى..يمكنك تخير ما يروقك لن يلومك أحد..
أما الآن وإن افترضنا أن والديك غير حريصين على تعليمك فعليك التخرج من هذه المرحلة بأي وسيلة وإلا فإنك قد أضعت عامين من عمرك بلا جدوى..فلا توقفت عند الشهادة الابتدائية ولا تمكنت من نيل الإعدادية"

"نجحت العام الماضي لأنني كنت بين رفاقي وتبادلنا الإجابات بكل بساطة .. ماذا تتوقعين هذا العام؟ لم أدرس أي كلمة منذ بدأ الفصل الدراسي.."

كررتها نوران حتى تسمع اختياره الصريح فلا يتعلل بأنها من أجبرته فيما بعد:
"تخطي المرحلة أم إضاعة سنوات عمرك؟"

"تخطي المرحلة لا شك..أنت محقة.. لا أهمية لنجاحي العام الماضي إن لم أحصل على شهادة التخرج "

ثم تابعت بمهادنة:
"اتفقنا في القسم الأول والآن دعني أكمل عرض صفقتي..إن نجحت هذا العام يا فادي أيًا كان المعدل..سأوصي السيدة جنات بجعل الخدمة الاجتماعية مسئولية الطلاب"

ضحك فادي وسأل باستخفاف:"هل سأذاكر رغمًا عني لأتحمل مسئولية أخرى؟!!"

شاركته نوران الضحك قبل أن تقول بتوضيح:"الخدمة الاجتماعية هي إعادة طلاء جدران المدرسة ورسم رموز ولوحات مميزة عليها..انظر! السيدة جنات اقترحت أن نرسم هذا..ما رأيك؟ لا أرى أفضل منك للقيام بهذه المهمة"

نظر فادي للوحة التي تعرضها عليه ووافقها متحمسًا:"نعم..إنها رائعة.."

"هل يليق أن أعرض على المديرة أن توكل الأمر لطالب راسب؟ ما رأيك؟ هل رأيت هذا مناسبًا؟"

نفى فادي بضيق:"لا وأنا لا أحب أن تُنسب إلي هذه الكلمة"

"إذا ماذا تفعل؟"

"سأبدأ.. الدراسة.."
ضحكت نوران من عبوسه وطريقة نطقه الثقيلة للجملة فأردفت:
"ويمكنني المساعدة إن أردت"

ثم غمزته مضيفة:"أقصد إن وثقت بي"

ضمَ فادي شفتيه حانقًا من سخريتها ثم قال:"حسنًا..لا يمكنني رفض مساعدتك هذه المرة ولكن لا أريد أن يخرج هذا الاتفاق من بيننا"

ضيقت نوران عينيها ثم وضعت ساقًا فوق الأخرى قائلة:"شرط أن ترسم لوحة لي أنا أيضًا..وستكون بالمجان ..أم أنك الوحيد الذي يضع الشروط؟!"

ابتسم فادي وأمأ موافقًا قبل أن يعلق:"تبدين جدية أكثر من اللازم في المدرسة.. لكن المباراة وحديثنا الآن جعلاني أراك بصورة أخرى تمامًا"

قطبت نوران وسألته متوجسة:
"كن صريحًا..هل اندمجت في اللعب كثيرًا وفقدت هيبتي أمامكم؟"

أدار فادي رأسه ودلَ ضغط شفتيه على ضحكته التي يكتمها فضربت نوران على الطاولة أمامها بسخط ليضيف فادي:
"ولكنها على كل حال أفضل من هيئتك وأنت بين أحضان مازن"

احمر وجهها وطفح الغضب من عينيها فنهضت تسأله باستنكار:"ماذا تقول؟!"

لينهض فادي بدوره خائفًا من تحولها إذ صارت كأفنان حين تغضب عليه وأجابها موضحًا:"قصدت حين اضطر مازن لحملك يوم انفجار الشاحنة"

بينما شهقت نوران وأدركت أنها كالعادة لم تدرك ما يدور حولها من الصدمة فمحت ذاكرتها بعض الأحداث..لكن الآن مرت هذه اللقطة أمام ناظريها كحلم بعيد فجزت على أسنانها وغضبها يشتعل بقوة..فجاهدت لكظمه وعادت للجلوس لمتابعة حوارها مع الصغير الذي لاذنب له بتصرفات شقيقه المنحرف..
وأصدرت أمرها فورًا:"إن وافقت على عرضي فيجب أن نبدأ الدراسة من الآن.. تبقى أسبوع واحد على الامتحانات"

ليطغى  قلقه من الامتحانات على الخوف منها فسألها بيأس:
"هل تأخرنا كثيرًا؟"

لم تجبه نوران واكتفت بتعبير وجهها الموحي ليهتف فادي باعتراض:"ولكن جدارية شقيقة عمر يجب أن تنتهي خلال أسبوع"

"هذا خارج اختصاصي...لكن يمكننا وضع جدول دراسة معًا إن أحببت"

"لنفعل أرجوك..."
قطع فادي جملته بعد أن استشعر تناقضها مع كبريائه فاستبدلها :"أقصد لنضع جدولًا بما يناسب وقتي!"

بينما انفجرت نوران ضاحكة حتى أرجعت رأسها للخلف من قوة ضحكها ثم تمالكت نفسها لتجيبه بمرح:"لنفعل يا شريكي وليكن بما يناسب وقتي أيضًا"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
ما إن بدلت نوران ملابسها وكادت تذهب لشقيقتها حتى وجدتها تقف أمامها على وشك دخول غرفتها
وقالتا معًا في ذات اللحظة:"هل تعرفين شيئًا...؟"

قطعتا سؤالهما تتناظران بحيرة حتى قالت نوران:"ادخلي يلزمنا حديث طويل كما أرى"

جلستا متقابلتين على فراش نوران والتي بادرت شقيقتها قائلة:"بالأمس بدوت غريبة.. سعيدة ومهمومة..أظنها المرة الأولى التي أراك تأخذين هذا الوجه الجدي وكأنك تفكرين في أمر مصيري"

"هل يجب أن أخبرك؟"
تلاعبت هالة بخصلات من شعرها بينما تطرح سؤالها العجيب فدفعتها نوران تجبرها على الاستلقاء على السرير قائلة بتهديد:"اعترفي قبل أن أغضب"

ضحكت هالة تجيبها بمرح:"سأقر بكل شئ يا سيدي المفتش..زيد عرض علي الزواج..."

وقاطعتها نوران تهتف بصخب:"مااااااااذااااا؟ متى؟ كيف؟ لم تخبريني ! سأقتك لا مفر لك مني الليلة"

فدفعتها هالة ونهضت تبحث عن مخبئ لها:"بالأمس فقط"

تسمرت نوران مكانها فظنت هالة أنها نالت السماح وعادت تجلس على الفراش فقبضت شقيقتها على قبة منامتها قائلة:"وماذا كان رد فعلك؟ هل انهرت من السعادة في أحضانه؟ انطقي!"

"أوووف لا تكوني سخيفة"
أجابتها هالة حانقة قبل أن تتملص من قبضتها وتريها رسالته..
"تفاجأت بشدة ..حتى أنني لا أذكر ما قلته لأنهي حوارًا كهذا وغادرت الشركة بسرعة"

"امممم..وأرى أنك ندمت على هذا حتى أنك أسرعت لتناول الإفطار في مطعمه في اليوم التالي"

أومأت هالة بارتباك فتابعت نوران بلهجة لينة:"أفنان أخبرتني عن تلك المباراة وأعطتني العنوان..لا أعرف ما يعنيه هذا!"

ناظرتها هالة ببراءة فأسرعت تقول:"لن نذهب ولو وقفت على رموش عينيك"

بعد دقائق..
جلست الشقيقتان أمام والديهما اللذين تبادلا نظرات متحيرة قبل أن يقول طاهر: "أي أنه مركز تدريبي للرجال..مباراة مصارعة بين رجلين..هل تظنان أن بإمكانكما الذهاب؟"

كادت نوران تجيبه بالنفي القاطع إلا أن هالة قبضت على كفها ترجوها ألا تتحدث وقالت لوالدها:"المباراة خارج أوقات العمل يا أبي..كما أن أفنان ستكون هناك أي مؤكد لن تذهب لمكان يعج بالرجال..."

وقطعت جملتها ترمق اتساع حدقتي والدها بترقب قبل أن تتابع :"أقصد أراها مباراة ودية تجمع بين المرح والصداقة والأخوة..."

لكزتها نوران تعقب بسخط:"اصمتي تمامًا.. بأي شئ تقنعينه لن يحدث أبدًا"

لكن هالة رمشت بعينيها وقالت بدلال:"أبي أرجوك!"

وتم هذا الأمر رغم أنف نوران التي زفرت غاضبة ..
فوجه طاهر حديثه لكبرى بناته:"لن أستغرب أن أجدك في مأزق كبير بسبب هذه التصرفات"

وغمزته هالة قائلة بثقة:"بل ستكون نوران من تنظر إليها بهذه الطريقة وقريبًا جدًا هذا ما أشعر به"

شهقت نعمة بينما تناظر طاهر ونوران وكلاهما يحرك رأسه بالنفي أن لا.. لن يحدث أمرًا كهذا بلا شك..وابتسامة هالة تزرع الشك في نفسيهما!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
كان اليوم التالي هو الأخير في الفصل الدراسي وعلى عكس توقع الطلاب اهتمت المدرسة به بشدة حتى أن الاستراحة لم تكن كما اعتادوا..فقد صدر قرار من إدارة المدرسة بجمعهم في الفناء دون سبب معلن وإن سرت شائعات عن كون منة زميلتهم الممسوسة كما يلقبونها سبب هذا الاجتماع..

سيطر الفضول عليهم ليتأكدوا من حقيقة الأمر .. لذا لم يتخلف أحد حين تفاجئوا بنوران تقف جوار مديرة المدرسة التي حيتهم بلطف وطلبت منهم الإنصات لحديث الأستاذة نوران..

كاد البعض يعود للفصول معرضين عن الحديث الواعظ الذي لاشك أن الأستاذة ستلقيه على أسماعهم الآن لكن تقدم سميرة بعصا غليظة تدك الأرض بصوت أفزعهم وأوقف شعر رأسهم وضعهم عند حدهم وجعل كل منهم يعتدل في وقفته..

بدأت نوران حديثها بتحيتهم وقصت قصة خيالية عن شقيقتها التي كسرت ذراعها والمراحل التي مرت بها وكم كانت تتألم وهي تفعل أبسط الأشياء...
وتابعت بتأثر:"كنت أعيش كل لحظة معاناة مع شقيقتي وأتألم لألمها ..ساعدتها في كل شئونها إلا أنني تمنيت أيضًا أن أدفع عنها الضيق الذي تشعر به واستياءها من وضعها.. وهذا ما حدث معكم ..قاست منة بطلة مدرستنا هذه الآلام وتجاوزتها بشجاعة وهاهي تعود للمدوامة في المدرسة مصرة أن تؤدي الامتحانات النهائية في موعدها مع زملاء صفها ..هذه الشجاعة تستحق منا التحية أليس كذلك؟"

صفقت نوران والمديرة والأخصائية مع تعالي تصفيق الطلاب جميعهم ثم قالت نوران:"ولأنني سمعت أشياء غير لائقة قيلت في حق بطلتنا فسأطلب منكم اختيار الطريقة المناسبة للاعتذار عنها وأنا واثقة أن منة ستقبل اعتذاراتكم وتشجيعكم"

"ياله من خطاب مؤثر..وائل ما رأيك ماذا يمكننا أن نفعل لأجلها؟"

تساءل كمال بحماس فلم يستغرق منه الأمر الكثير من التفكير خاصة بعد أن طلبته نوران بنفسها ..وراقب فادي مناقشاتهم بامتعاض إذ يريد حقًا الاعتذار من منة ولكنه يجد الأمر ثقيلًا بعد طلب نوران..

وما إن انتهى اليوم الدراسي الذي احتمله هذه المرة لأجل رفاقه حتى قصد الصالة الرياضية فورًا وقص على مازن كل ما حدث ثم قال:
"نوران تلك!! لا أحبها..مغرورة..تظن نفسها ستصلح الكون.. تحمل إيجابية لا حدود لها وتتوقع أننا تأثرنا بقصتها الزائفة وسنعتذر من منة"

ضحك مازن مطولًا على تعليق شقيقه وضربه بخفة على مؤخرة عنقه مؤنبًا: الأستاذة نوران وليس نوران تلك..احترم معلمتك يا فتى""

فرفع فادي كتفيه بعدم اكتراث وقال:"هيا لنعد للمنزل أنا جائع!"

التقط مازن مفاتيحه وهاتفه وأطفأ الضوء ثم دفع شقيقه خارج المكان قائلًا:"إن كنت جائعًا لهذا الحد لماذا لم تعد للمنزل مباشرة؟"

تململ فادي في وقفته كأنه يفكر كيف يطلب من شقيقه ما يريد وراقبه  يحكم إغلاق الباب ثم يستقر في سيارته ويشغلها بثقة ..
(ليته يحظى بجزء من ثقة شقيقه وقدرته على الحكم على الأمور)
تمنى في قرارة نفسه قبل أن يلتفت مازن إليه..
تطلع الأخير للتعبير الغريب المرتسم على ملامح شقيقه وقال بمرح يشاكسه: "والآن كيف ستعتذر من منة؟"

إذ أدرك من أحاديث فادي أن منة هي زميلته المفضلة التي كان يقضي جل أوقاته معها قبل الحادثة..وربما وصل الأمر لأبعاد أكثر خطورة!!! هذا ما سيسعى لاكتشافه..

بينما علق فادي بدهشة:"كيف عرفت؟هذا ما كنت سأسألك عنه حقًا!"

أغفل مازن إجابة سؤاله وضيق عينيه قائلًا بلؤم:"انظر كيف نسعى لتنفيذ طلبات المعلمة؟"

"أفعلها لأجل منة وليس..."
فقاطعه مازن ضاحكًا:"فهمت فهمت..لا يمكنني المساعدة بما أنك تعاملت معها فأنت أفضل من يعرف ما قد يسعدها..لكن إن دعوتك لتناول الغداء في أحد المطاعم قد يعطيك هذا العون للتفكير"

"هل نذهب لمطعم زيد؟"

"لا..لن تفيدنا المقبلات التي يقدمها مع الحلوى..نحتاج غداءً متينًا..لا تنسى أننا سنحضر اليوم مباراته مع هيثم"

"يا إلهي! نسيت! أفنان أكدت علي أن أذهب باكرًا"

فكر مازن لثوان قبل أن ينعطف بسيارته حيث المطعم المقصود وقال:"أي أنها تعد فخًا لهيثم"

أومأ فادي بقلة حيلة وأجابه:"فقط لو أنني أتمكن من التحرر من سلطتها علي!!"
فقهقه مازن قائلًا:"إنها أمنية صعبة المنال "
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
المركز الرياضي بعد ساعات..
دلفت نوران وهالة مع والدهما الذي سبقهما ليلقي السلام على خالد وسالم بينما لكزت نوران شقيقتها غاضبة:"وكأن والدنا يوصلنا للروضة! هل أنت راضية الآن؟"

"ششش سيسمع أحدهم اعتراضك! ثم أن والدك هو من أصر على مرافقتنا"

"لقد أنار المكان بوجودكما"
وصلهما الصوت المرحب فالتفتت الاثنتان تناظران مازن المبتسم..
وبينما ظلت  نوران على عبوسها .. تقدمت هالة منه هامسة:"أين شقيقك؟"

"يستعد في الداخل.."

وأضاف بلهجة ماكرة:"وصلتني أخبار سعيدة مؤخرًا..أنت صاحبة السمو التي جعلت شقيقي يتحرق للزواج أليس كذلك؟"

رمشت هالة بعينيها بارتباك مصطنع وأجابته:"أوووه..أخبار سارة ..لا أعرف ولكنه أخبرني أنني سأتلقى بطاقة الدعوة الأولى لحفل زفافنا..أقصد حفل زفافه"

قهقه مازن بصخب بينما سارعت نوران تمسك بشقيقتها من مرفقها تسحبها بعيدًا عن مازن إلا أن الأخيرة قاومتها قائلة:"تعالي نتابع الاستعدادات في الداخل"

فتقدمت نوران معها رغم رغبتها الدفينة في تكميم فمها حتى لا ينطق طوال تلك المباراة العصيبة..ورغم إدراك هالة لما يعتري شقيقتها التفتت لمازن قائلة: "أوصلنا حيث أفنان و.. البقية"

فضغط مازن شفتيه يكتم ضحكته حتى لا يناله سخط نوران وأجابها بجدية مصطنعة:"بالتأكيد"

بينما ألقت هالة التحية على والدها ورفاقه عندما مروا بهم..وواصلت سيرها تلقي التعليقات المرحة عن المركز وجودة أجهزته..
"أليس أفضل كثيرًا من الصالة التي تذهبين إليها يا نوران؟"

"طبعًا أفضل إن قررت يومًا أن أمثل دور الرجل "

ولم تعبأ هالة بمزحتها السمجة بل تابعت مغيظة:"نعم يليق  بك دور الرجولة خاصة حين تعودين إلينا في وقت متأخر من الليل بوجه مكدوم وتتعللين بسبب تافه كالوقوع على الدرج"

تقدمهما مازن مبتسمًا حتى وصلا للغرفة الداخلية فكان زيد وهيثم يقفان متقابلين كأنهما يخوضان حربًا وهمية ..
وأفنان تهتف بهما:" ستستخدمان هذه القفازات أليس كذلك؟"
أشارت بقفازات الملاكمة التي وجدتها في خزانة المعدات..

فالتقطها مازن قائلًا:"لا هذه لأغراض أخرى يا صغيرة..اذهبي ورحبي بصديقاتك"
تجهمت ملامحها مستاءة من تعليقه وتطلعت خلفه بفضول تستطلع هوية من معه لتتسع عيناها بذهول حين رأت هالة ونوران..

وتقدمت منهما تهمس:"اسمعا أنا أتجهز لخوض معركة كبيرة"

"أوووه..هل تتصارعين مع أحدهما؟"

تساءلت هالة بحماس وعقبت نوران :"لا أنصحك..لن تحتملي قبضتهما"

وما لبثت أن اتسعت عيني هالة بإدراك متأخر لتقول:"ما نوع الفخ؟ ومن الأفضل أن تخبريني القصة كاملة من البداية"

عضت أفنان شفتها السفلية بارتباك في حين هتفت نوران باستغراب:"ماذا تقصدين؟"

"انتظري هي من ستخبرنا"

مر هيثم وزيد من جوارهن فاستدركت أفنان قائلة على عجل:"لدي ما أخبر به فادي قبل أن يلحق بهما..سأعود إليكما "

"ماذا يحدث؟"
سألت نوران بحيرة لتجيبها هالة:"لاحظت شرارات متبادلة بينها وبين ابن عمها منذ البداية ..أنا متحمسة متحمسة..لن نتابع المباراة وفقط بل سنرى ما يسفر عنه جنون أفنان أيضًا"

"وأنت مستعدة لمجاراتها أليس كذلك؟"

"بالتأكيد..."
والتفتت لزيد الواقف على باب الغرفة يطالعها مبتسمًا كأنه يكتفي بنداء عينيه والذي لبته مبتسمة بدورها..

وصارت الغرفة في هذه اللحظة خالية إلا من مازن ونوران ...
"أردت التدرب على الملاكمة منذ زمن"

قطب مازن مستغربًا قولها فليست نوران من تفصح له عما تحب أو تكره! حاول ان يستشف المعنى المستتر خلف جملتها إلا أنه لم يستطع..

فأبقى على صمته بينما تقدمت نوران منه وأخذت القفازات من بين يديه وارتدتها..
"دعيني آخذك إلى ساحة الملاكمة إذا"

همس مازن بخفوت مأخوذًا بوجودها قريبة منه إلى هذا الحد..فقط لو أنه يتجرأ فينفض هذا القفاز عن يديها ويبقيهما أسيرتي يديه إلى الأبد!

تنهد يناظر رأسها المحني إذ استغرقت وقتًا أكثر من اللازم وهي ترتدي القفازات وتحكمها حول رسغيها..
وتساءل هل ترفع رأسها الآن فتبادله نظرات الافتتان والهيام!..

وكما عهدها رفعت رأسها تدمر كل أحلامه وتخيلاته حين لكمته بقوة في معدته ثم نالت لكماتها ذراعيه وكتفه..

"لا تناظرني بهذه الطريقة..وإياك أن تتجرأ وتحملني مرة أخرى!"

"اهدئي..لحظة! لا يمكننا الحديث بينما أنت عنيفة بهذه الطريقة"

قبض على كفيها المختبأين في القفازات وسألها:"متى حدث هذا؟ تريثي..."

"يوم الحادث أيها ..."

قاطعها مازن قبل أن تلقي بسُبتها قائلًا:"اضطررت لفعلها لأنقذك..صدقيني كأنني حملت شوالًا من الدقيق "

شهقت نوران رغمًا عنها واتسعت حدقتاها مع احمرار وجهها شاعرة بالإهانة.. ليبرر مازن بعد أن تنبه لفداحة قوله:"أنا أساعد زيد عادة في حملها..لم أقصد الإساءة...كنا نحارب الموت ولم يتداخل لدي وقتها أي شعور تجاهك غير القلق "

وعلى الجانب الآخر..
تساءل زيد:"هل لي برقم العم طاهر؟"

اعترضت هالة بمكر:"لم تلق التحية بعد"

"مساء الخير.هل لي برقم ابنة العم طاهر؟"

فانفجرت ضاحكة تحت أنظاره المتسلية ثم أجابته:"وهل تقدر على مهر ابنة العم طاهر؟"

ولم يتسنى لزيد إجابتها حين خرجت نوران من الغرفة وأمسكت بذراع شقيقتها تحثها على السير معها..

ووقف الشقيقان يناظران بعضهما ببؤس قبل أن يقول زيد:"ماذا فعلت؟ الفتاة تبدو كبركان على وشك الانفجار!"

"هل أخطأنا بدعوتهما؟"

"تكلم عن نفسك! هل تفهم الآن من منا لا يملك خبرة في هذه الأمور؟"

لم يشاركه مازن المزاح بل أردف بأسى:"لا أعرف ماذا يصيبني!  ما إن أراها حتى أتسمر أمامها عاجزًا عن الكلام"

ناظره زيد شزرًا قبل أن يدفعه قائلًا:"إذا ابتعد عني حتى لا تنقل إلي عدوى خرسك"

حك مازن مؤخرة عنقه مستاءً ثم لحق بشقيقه حتى يمثل دور الحكم في المباراة.. خاصة أنهم استغلوا إجازة المركز ليعقدوا المباراة وبهذا أتيحت الفرصة لأفنان بالحضور وكذلك نوران وهالة...

صعد الحلبة حيث شقيقه وابن عمه فوقف بينهما يهمس لزيد:"اخلع قميصك"

فلكزه زيد يناظره باستخفاف كأنه يقول: (ابتعد بخيبتك الثقيلة)

وكرر أمره الهامس لابن عمه فاندفعت أفنان صارخة:"لن يحدث!"

ابتسم هيثم بينما ناظرها الشقيقان باستنكار وهتف بها زيد بخشونة:"اخرجي من الحلبة! ماذا تفعلين هنا؟"

فزمت شفتيها تنفذ طلبه إلا أنه سرعان ما أمسك بكفها يسترضيها قائلًا:"شجعيني أنا وليس ابن عمك..هل فهمت؟"

"طريقة غريبة للاعتذار..ابتعد عني! ولعلمك هذه المباراة لن تكتمل"

وسارعت بالنزول عن الحلبة بعد قولها الصادم فتبادل الثلاثة نظرات مستفهمة قبل أن يتجاهلوا الأمر ويعلن مازن بداية المباراة...

وفي صفوف المشاهدين احتل سالم وخالد الصف الأول يجاورهما طاهر..
بينما الفتيات في الصف التالي..هالة تتوسطهن بيدها الفشار تتسلى به وقد حددت هدفها ستركز مع رأس أبيها طوال المباراة حتى لا ترى مشاهد عنيفة أو صادمة..
نعم أرادت الزواج ببطل قوي لكنها تخيلت قتاله لأجلها فقط ولم تتمنى أن يحترف رياضات عنيفة كالمصارعة..
"هل أنت أكيدة من قدرتك على تنفيذ هذا الأمر؟"

أجابت أفنان تساؤل نوران وكلاهما تستند بمرفقها  على فخذ هالة:
"تدربت مرارًا.. فادي ساعدني قبل قدومكما حتى أبدو حقيقية دون اصطناع.."

بينما سألت هالة بفم ممتلئ:"هل أنت واثقة أن هذه طريقة مناسبة لإفزاعه؟ حتى أنا سأستنتج وجود خطأ ما..لن أصدقك مهما تمكنت من تنفيذ دورك"

"مع أجواء المباراة والكلمات التي لقنتُها لفادي سيكون المشهد محبوكًا بدقة وأنا واثقة أنه سيمس هيثم بطريقة ما"

وانصرفت عنهما لتتابع المباراة بينما تنشغل هالة بطعامها وقلقها يتزايد بسبب صرخات زيد..
تعلقت نظرات نوران بمازن واستغربت ما تقوله عيناه..الإعجاب .. التملك وشيئًا من التحدي لا تفهم ما يعنيه هذا المزيج ورغم شعورها بالسخافة مما فعلته قبل دقائق إلا أنها مستمتعة!
كل لقاء يجمعهما يدفع ضربات قلبها لأعلى المستويات حتى أنها تعجز عن تسمية هذا الشعور...ولا تعرف المغزى خلف شعورها باللهفة للقائه مرة بعد أخرى!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
انخرس علي تمامًا مع هيئة رزان التي فتحت له باب شقتها للتو..
شعر مسدل ومنامة كشفت بسخاء عن مقدمة صدرها وبالكاد غطت ركبتيها.. ولم يلبث أن تمالك نفسه ودفعها للداخل مغلقًا الباب بعنف..
"ماذا تفعلين؟ كيف تفتحين الباب بهذه الملابس؟"

بررت رزان ببراءة:"كنت أعرف أنه أنت"

"ومن أنا؟ رجل غريب عنك أيضًا!..تبًا..تبًا..."

أدار رأسه بعيدًا عنها ثم التفت إليها يأمرها بصرامة:"اذهبي لتبديل ملابسك فورًا"

"وكأنه يحق لغريب أن يأمرني بهذه الطريقة!!

عقبت رزان متهكمة ليحدجها علي شزرًا قائلًا:"إذا سآتيك في وقت لاحق..عله يكون مناسبًا أكثر لزيارتي"

لكنها تشبثت بذراعه تستبقيه قائلة:"سأبدل ملابسي...أرجوك لا تذهب"

بانت الصدمة في عينيه فأفلتته رزان تعتذر بارتباك إلا أنه كان مصدومًا من لهجتها الضعيفة الخانعة..لم تحدثه رزان بهذه الطريقة طوال فترة زواجهما بل كانت له الند دائمًا حتى أنهكه الصراع الدائم معها فأقر بفشله وأصر على الطلاق..

عادت خلال ثوان وهي عادة مستحدثة عليها أيضًا لتقترح بهدوء:"قهوة؟"

"لا داعي..."

إلا أنها أصرت مؤكدة صدق دعوتها:"لأجل خاطري"

ابتسم علي بخفة وأجابها بصراحة:"إذا أعدي لنا كوبين من العصير الطازج فأنا في أمس الحاجة إليه"

أومأت رزان مبتسمة وتحركت للمطبخ فأعطت لعلي الفرصة حتى يقصد غرفة المكتب وكان واثقًا أنه سيجد هنا عصارة أفكارها ومخططها لإكمال سلسلة المقالات ..الكارثة التي بدأتها بكل سذاجة!

في فترة زواجهما القصيرة أخبرته عن هذه الشقة ما تبقى لها من والدها المتوفي قبل سفرها.. ولهذا خمن أنها ربما تقيم فيها بعد استقرارها في المدينة...وتأكد له الأمر حين رأى سيارتها تقف على جانب الطريق ورغم هذا لم يتوقع أن يراها بهذه الهيئة..
إنها تشن حربها عليه من جديد..موقنة بانجذابه إليها والذي لا يستطيع مقاومته هاهي تعود لدحر إرادته من جديد وربما تخطط لاحتلال حياته كما فعلت سابقًا..

وهو كظمآن في صحراء قاحلة سيقفز لواحتها حتى لو كانت مقفرة فلا شك أنها تحوي بعض الماء لسد حاجته...

عاد من بوتقة الماضي مستجمعًا تركيزه يتفحص ما كتبته في مسودتها...
مرر نظراته بسرعة ليتأكد له صدقها حين أخبرته أنها لا تملك الكثير من المعلومات ..
وللحق أنها سواء ملكت أو لم تفعل فقد وقعت في ورطة كبيرة..
"افتقدت مراجعتك لكل ما أكتبه "

تقدمت منه تسند حمل صينيتها إلى المكتب وحمل جسدها إليه..وتعلقت عيناه بأحمر الشفاه الفاقع الذي طلت به شفتيها ...

ليزدرد ريقه بصعوبة قائلًا:"صرت تنجزين كل شئ بسرعة..هل كنت تعدين العصير أم تتجملين؟"

"واجهت نفسي بحقيقة وجودك في شقتي للمرة الأولى فأمرتني أن أغريك حتى لا تبارحنا"

"لا أنكر سهولة مهمتك..إلا أن النهاية لن تروق كلينا كالمرة السابقة لذا دعينا لا نكرر التجربة"

"رغم ما يجمعنا؟"

سألته بعينين دامعتين ..فأقر بأسى:"رغم ما يجمعنا"

ثم تراجع للخلف حيث جلس خلف مكتبها وهو أقرب مقعد وجده في طريقه.. وتصفح أوراقها يحاول تنحية تأثره بها جانبًا وتنحنح قائلًا:"كيف تخططين للخروج من مأزقك؟"

"أتعرف أنني لا أخطط لشئ غير العودة إليك؟"

استمر علي محدقًا بالأوراق أمامه وتظاهر أنه لم يسمع قولها ليتابع:"هل بدأت كتابة المقال التالي؟"

"أتذكر كيف شربنا هذا العصير معًا قبل سنوات؟ كانت إحدى لحظات الهدوء النادرة في حياتنا "

أغمض علي عينيه واستطرد:"متى موعد تسليم هذا المقال؟"

وظل كلاهما في واديه فتابعت اعترافها:"لم أعد أشرب العصير منذ فراقنا.. كل حلو صار مرًا بعدك يا علي"

شاركها علي ذات الشعور إلا انجرافه في حديث من هذا النوع سيلزمه شقتها لينتهي الأمر بفضيحة مدوية لذا قاوم بصعوبة ونهض قائلًا:"لا أنصحك بالاستمرار فيما تسعين إليه.."

تعلقت عيناه بعينيها التَواقتين وأكمل:"بشأن حياتك المهنية"

"بل سأنجح في كلا الأمرين..أردت إخبارك بصورة أفضل بعد لقائنا أمام قسم الشرطة أنني هنا..حولك..بحبي وشوقي..بعنادي وسوء خلقي.. أنا كما أنا لازلت أسلك أي سبيل لحصد مبتغاي"

تنهد علي دون رد وتحرك قاصدًا باب الشقة فلحقته رزان تردف بجرأة :
"لولا أنني أعرف كم الذنب والاستياء الذي ستشعر به لقبَلتك وفعلت كل شئ يجبرك على الزواج بي من جديد.."

ابتسم علي دون أن يلتفت إليها إذ لطالما كانت جرأتها متعته في لحظاتهما
الخاصة..ويدرك أن قولها ينبع عن شعورها العميق بالوحدة والذي يوازي شعوره..

لكنه قراره الصعب الذي اتخذه ولازال مصرًا عليه..الفراق حتى إيجاد حل وسط!
لا يجرؤ أن يكون فراقًا أبديًا ..وربما تتحطم قراراته على صخرة عنادها!

سارع يفتح الباب وينزل الدرج دون كلمة وداع أو تحية..
وتمتم متحسرًا:"ستظلين سبب سهادي يا رزان"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
لوى هيثم ذراع زيد هامسًا برجاء:"تظاهر أنني أؤلمك وتوقف عن الزمجرة.. بعض الإنصاف هذه المرة فقط!"
إلا أن زيد تملص منه بسهولة وقال بينما يستعد للإجهاز عليه:"لم يكن عليك خوض ما يفوق طاقتك إذا"

أوقف مازن قبضة شقيقه قبل أن تصل لهيثم بعد أن رأى فادي مقبلًا عليهم.. والذي جال بعينيه بينهم بتوتر ثم اقترب من هيثم يهمس بشئ ما في أذنه جعل الأخير ينتفض مهرولًا للغرفة الداخلية..

تناظر مازن وزيد بحيرة بينما قال فادي:"عدا للمائة قبل أن تلحقا بنا"

وركض يلحق بهيثم وفي حين تبادل الرجال النظرات الدهشة كادت الشقيقتان تنفجران ضاحكتين من جنون أفنان..فنهضا متسللتين تلحقان بفادي بينما ينشغل الشقيقان في إخبار الرجال بغرابة تصرفات فادي..

"أخبرتك ألا تشارك في هذا"

طالعها هيثم لاهثًا من رأسها وحتى أخمص قدمها بذهول وفزع إذ اعتلى وجهها ملامح متألمة وتقدمت نحوه كالمتشردين بجزء علوي مفصول عن ساقيها اللذين أمسكتهما بين ذراعيها..

أدرك أن في الأمر خدعة ما ورغم هذا انتابه خوف شديد وغضب أشد من استغلالها نقطة ضعفه بهذه الطريقة.. لم يعد الأمر مجرد تسلية أو مزاح سخيف يتبادلاه سويًا.. هذه المرة تجاوزت حدودها وأهانته بفعلتها..

لمحت أفنان الشقيقتين تقفان خلف هيثم تناظرانها بضحات مكتومة وكادت تكمل تظاهرها المفضوح غافلة عن الغضب الذي اعتلى وجه هيثم..

إلا أن دخول فادي المباغت قائلًا:"هيا اخلعيها بسرعة..شقيقاك قادمان وربما أتى معهما أبي أيضًا"

ساعدها للتخلص من قميصها الذي علقت أثقال عند حافته حتى يحكم خدعتها وتخلصت من الساقين المزيفتين اللذين أمسكت بهما كأنهما خاصتها المفصولتان عن جزئها العلوي..

بينما جز هيثم على أسنانه وخلع قميصه الغارق في عرقه يلقيه على الأرض قائلًا:"لا تفعليها مرة أخرى حتى لا يبتليك الله بها حقيقة..توقفي عن أنانيتك واستغلال غيرك حتى تستقيم حياتك"

وتحرك بخطوات غاضبة لا يبصر أحدًا حوله بينما عضت أفنان شفتها السفلية والندم يستحكمها..

بعد دقائق
صافح طاهر صديقه قائلًا:"نلتقي غدًا في الشركة"
أومأ خالد مربتًا على كتفه بينما  أضاف سالم:"ستكون أغلب تعاملاتك مع زيد مستقبلًا"

وابتسم زيد يعقب بابتسامة واسعة:"ولن تقتصر تعاملاتنا على العمل فقط يا عمي"

أومأ طاهر بابتسامة مجاملة غافلًا عن المعنى المستتر خلف جملته..ثم استقل المقعد المجاور لنوران والتي انطلقت بسيارتها فورًا فالتفتت هالة تتطلع لزيد الذي يصغر شيئًا فشيئًا مع حركة السيارة..

وتنبه زيد من شروده في هالة على قول والده:"كانت المباراة ممتعة يا أولاد.. وأتاحت لي فرصة لقاء بنات طاهر المتحفظ"

أضاف جملته الأخيرة عامدًا يتطلع لملامح ابنيه بالتتابع فعقب سالم :"فرصة غريبة! لا أعرف كيف تدعو أفنان بنات طاهر لمباراة كهذه؟! ومتى صارت علاقتهن وثيقة لتبادر بدعوتهما؟"

مط خالد شفتيه دون رد مدركًا وجود شئ خفي يدور دون معرفته ثم استطرد مازحًا:"اعتبرنا شاهدنا إحدى المباريات في المقهى بينما نسامر طاهر.. الأجدر الآن أن نسأل أين ذهب ابنك؟ وكيف يخرج هكذا من المباراة؟ هل هذه طريقة مناسبة لإعلان انسحابه ؟!"

فأجابه سالم:"الإجابة لدى فادي الذي اختفى مع ابنتك..بينما بلينا نحن بالبقاء مع هذه التماثيل"
إذ حل خرس غريب على الشقيقين منذ مغادرة أفنان لاحقة بهيثم الغاضب..

قطعه مازن مبررًا:"دهشتنا من تصرفات هيثم الغريبة تجعلنا واجمين كما ترى.. على كل حال أسعدني أن المباراة أعجبتكما..أنا  و زيد لدينا موعد عاجل.. "
وألقيا بتحية متعجلة قبل أن يستقلا سيارة مازن وينطلقا بها..بينما لم يجد الشقيقان تفسيرًا لما أصاب أبنائهما فجأة فاتصلا بالسائق  يتعجلانه الحضور حتى يعودا للمنزل..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أنت هنا كعادتك"
التفت خليفة بعينين حمراوتين وابتسم بسخرية قائلًا:"كما عهدتك..تتصرف بنبل معي مهما فعلت"


#ڤوت
#كومنت

جيران المدينةWhere stories live. Discover now