الفصل الخامس والعشرون
(عندما يدير العالم ظهره لك..أدر ظهرك للعالم)
وماذا لو أدارت والدتك ظهرها لك؟!!
تساءلت نفيسة بانهزام بينما تراقب خضوع والدتها لسلطة خالها الذي أصدر قراره المجحف ببساطة:
"سأسمح لكِ وحدك بالبقاء في بيت العائلة لكن ابنة هذا الرجل لا نقبلها بيننا كما لم نقبل والدها من قبل..وعليكِ تحمل تبعات اختيارك"
فقط لا يحتاج الأمر لأكثر من ذلك! التلويح بتوفير مسكن عوضًا عن الذي طُردتا منه كان كافيًا لتتخلى عنها والدتها..
التفتت إليها بعد أن غادرهما خالها متأكدًا من قرار شقيقته التي لن تتأخر باللحاق به..وضمتها!
وهل تفيدها نفحة الحنان تلك بعد أن سلمتها وحيدة لعواصف الحياة القاسية؟!
"لهذا أعددتك يا نفيسة..حرصت أن تحبي ذاتك وتعملي لأجلها مهما واجهتك الصعاب..الكفاح وفقط ما ينجيك يا ابنتي"
"ابنتك؟! ليتني متُ مع أبي!"
قالتها نفيسة بعينين دامعتين ولاتزال تنعم بأحضان والدتها!
نعم غضبت منها لأنها قررت التخلي عنها بهذه السرعة لكنها ذكرت الماضي زُلفى علها تعفو عن خطئها الذي لم ترتكبه وتتركها تعيش تحت جناحها..
لكن والدتها أخرجتها من أحضانها قائلة بقسوة:
"لا تذكريه أمامي! اخترته لأهرب من جحيم العائلة وكم كنت واهمة!
كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار فلا أنقذت نفسي من ظلم العائلة ولا نلتُ شفاعة والدك ليشملني بالأمان والاحتواء"
"وأنا؟ لم أنجبتني إذًا؟!! هل تنتقمين من أبي بتخليك عني؟!"
صمتت نيروز تمامًا فاستطردت نفيسة تطرح أسئلتها المستنكرة المشجبة:
"وأنا ذقت جحيم العائلة الذي تتحدثين عنه..عشت فيه معك وأعذرك لهربك بالزواج السريع...لكنك لم تحدثيني أبدًا عنه..عن أبي!
أنا أحبه بالفطرة..أسأل نفسي دائمًا عنه..هل صحيح ما يُقال عن وفاته؟ أم أنه لايزال هنا معنا..قد يلقاني في أحد الدروب فلا يعرفني..قد يبتسم لي بعطف متذكرًا ابنته التي تقارب عمري دون أن يعرف أن كلينا واحد!
وإن مات فلم لا أعرف شيئًا عن عائلته! قد ألتجأ إليهم الآن فيقبلوني كما لم تفعل عائلتك..
لمن أكافح؟أخبريني!! وقد هانت حياتي عليك! على أمي! فلم لا تهون علي؟ لم لا أقتل نفسي الآن فتنسين تمامًا تجربة زواجك وكأنها لم تكن وتعودين لكنف عائلتك..
اضحكي في وجوههم واقبلي تحكماتهم فمن ماتت لا تهمك"
عادت نيروز تضمها فلايزال قلب الأم ينبض داخل صدرها رغم انعدام حيلتها وأجابتها:
"بل لن أهنأ بحياتي يومًا يا نفيسة..لقد كُتب علي الشقاء مذ ولدت هنا بينهم.. لكن صدقيني ما فعلته كان لصالحك..اعرفي هذا فقط ..والدكِ كان الأسوأ! أقبح وجوه العالم وأكثرها قسوة لذا لم يكن أمامي غير الفرار بك وظننتُ أن الارتكان للعائلة سيفيدنا لكن جحيمهم طالك معي رغمًا عني..أنا آسفة..أنا أيضًا الأسوأ كوالدك"
دفعتها نفيسة وركضت بأسرع ما تستطيع هاربة..
من لامنطقيتها! من نداءاتها المشبعة بعاطفة الأم ظاهريًا! من العالم أجمع!
سارت بلا هدى وكأن قلبها قائد الرحلة فأوصلها هنا حيث اسم عائلة أبيها يضئ هذه اللافتة العملاقة.. كانت قد تعرفت لصاحب الشركة حين زار مشغل السيد طاهر رأته مرارًا وحفظت صورته..
لكنه يُدعى خليفة..هكذا يذكره الجميع ويخاطبونه..
لم تعبأ بوقوفها في طريق السيارات بل فتحت حقيبتها الصغيرة التي تحوي أغراضها القليلة وطالعت بطاقة هويتها بأمل..
(فلتكن نفيسة خليفة السُكري..أو ليتبدل اسمه إلى مصطفى بدلًا من خليفة)
هل تكون هذه الشركة بوابتها لعائلة والدها؟!
أخيرًا أعادها بوق سيارةٍ ما إلى الواقع ودخلت مجال بصرها المشوش بدموعها لكنها لم تتحرك..لقد انعدمت طاقتها ولا تجد دافعًا لتقاوم الموت!
لذا استدرات ووقفت في مواجهة السيارة مستسلمة لقدرها..ستموت بفضولها الذي لم تتح له فرصة إشباعه بعد.. لكن لا بأس ربما موتها هي الطريقة الوحيدة للفت انتباه مالك الشركة إليها!
أغمضت عينيها تقتل أي ذرة إحجام قد تساورها فتجعلها تعدل عن استسلامها وتقبلها للموت وخاصة حين مر بخاطرها أن السيد خليفة قد يشفق عليها كحيوان أليف ويأمر بدفنها ببساطة دون أن يلقي نظرة عليها وإن فعل لن يتعرف عليها حتى إن كانت ابنته!
ثم فتحتهما مع صوت مألوف يناديها:"نفيسة!"
هذا ما كان ينقصها! السيد طاهر! والذي ترتبط صورته في ذهنها بتعامله مع هالة ونظراته المحبة الحنونة إليها.. وكانت الذكرى هي القشة التي قصمت ظهر البعير
فانهارت جاثية على الأرض وانفجرت ببكاء هستيري أعجز طاهر عن الإتيان برد فعل!
وتذكر فورًا نوران التي تظهر القوة وتعتنقها كأعتى الرجال لكنها تمر بنوبات كهذه من طول كبت مشاعرها..وأشفق عليها لائمًا نفسه على سوء ظنه إذ عدها خطرًا على هالة!
لم يجد بدًا من مساندتها حتى نهضت عن الأرض قائلًا:
"تعالي سآخذك للمبيت مع البنات..لا تخشي شيئًا..لكل مشكلة حل"
ضغطت جملته على مشكلتها العصية المتعقدة فثار جنونها وأشهرت بطاقة هويتها أمامه قائلة:"أن يكون اسمي نفيسة خليفة السُكري مشكلة بسيطة وحلها أسهل ما يكون أليس كذلك؟ فتاة في ظلام الليل تبحث عن أب وعائلة تتبناها ليست مشكلة إطلاقًا"
وسط فوضى حياتها لم تتنبه أنها تقلل احترام رئيسها في العمل وتحادثه بطريقة غير لائقة فقد انحصر تفكيرها في مصيبتها الجديدة التي يستحيل تخطيها!
"اركبي السيارة"
أمرها طاهر بلطف دون أن يعلق رغم استغرابه ذكرها اسم خليفة! وتنبه للمرة الأولى أن اسم والدها يطابق اسم الأخير ...هل يكون الأمر محض صدفة؟ فهناك من تتشابه أسماؤهم الخماسية دون أن تربطهم أي صلة قرابة..
تغافل عن مناقشتها وهي تبدو بحال غير سوية لكنه وضع الأمر ضمن قائمة أعماله للفترة القادمة..
"حان الوقت لتزوري غرفة صديقتك..هيا لا تتردي"
قالها طاهر حين لاحظ ترددها وانكسارها فهي نفيسة التي لا ترضى بمكافئة على عملها.. أتزيل الحدود وجميعها بهذه السرعة؟!!
"هالة منذ لقائكما الأخير تبكي في غرفتها وتلازمها..ستكون رفيقة مناسبة الآن"
استطرد محاولًا إقناعها..لكنها أعرضت عن السيارة ووقفت بمواجهته قائلة بصوت متحشرج:
"سأجد حلًا.. أعتذر لإزعاجك"
تفهم الآن حالة خالد حين كان يرفض تقارب أسرتيهما في الماضي!وتفهم كم يكون الرفض مثيرًا للجنون وبلا جدوى!
لذا اتخذ موقف صديقه الحازم في هذه المواقف قائلًا:
"سآخذك لصديقتك وستبقين معها وإلا فلا عمل لك في المشغل"
بُهتت نفيسة وتوسعت أحداقها من هول الصدمة!
وأدرك طاهر أن تهديده جاء أكبر مما يستحق الموقف..
تستطيع الرفض الآن بكل بساطة ..هو لا يملك سلطة لإجبارها أو تسييرها وفق هواه..
لكنه رأى فيها ابنته وأراد مساعدتها بحق!
(وما العمل إن رفضت يا طاهر هل ستنفذ تهديدك؟)
تساءل بحيرة بينما يترقب قرارها بتوجس..ونطقت نفيسة أخيرًأ وقد هدها التعب:
"سآتي"
واستدرات تركب السيارة بينما تغمغم:"لا مجال للمقارنة! رفقة هالة أفضل من كلاب الشارع الضالة"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
استفاقت هالة على تنبيه جديد من هاتفها الذي نسيت ضبطه على الوضع الصامت إذ قاطعت رسائل زيد واتصالاته منذ أيام رافضة التعاطي معه بأي طريقة ويبدو أنه يتخذ سياسة النفس الطويل ليقنعها أنه لن يكون متملكًا ومتحكمًا بشكل زائد..
لكنها لا تستطيع!
وجوده يخرج منها هالة المرحة المحبة للحياة وهي لن تكونها قبل أن تتخلص من أزمة حياتها(وزنها الزائد) فزيارتها لدار المسنين ورؤيتها للسيدة العاجزة عن الحركة بصورة طبيعية كانت ضربة قوية لإفاقتها من وهم الحياة الوردية التي تنغمس فيها يومًا بعد آخر بفضل زيد..
أغلقت هاتفها تمامًا ثم نهضت عائدة لغرفتها فصدمها وجود نفيسة جالسة على الفراش جاحظة العينين شاردة في الفراغ كأنها غادرت عالم الأحياء فبدت كتمثال نحته فنان بدقة لا إنسان من لحم ودم!
"أمي تخلت عني..أدركت أخيرًا أن راحتها في طاعة عائلتها لذا لفظتني من حياتها وهي مطمئنة أنني قوية كفاية لأجد طريقي"
بوغتت هالة بجملتها المفاجئة ورمشت في محاولة لاستيعاب فظاعة ما قالته قبل أن تتقدم منها وتأخذ برأسها إليها تضمها بشدة مربتة على ظهرها ففاضت نفيسة بكل ما يعتمل في صدرها وبكت بكاءً مريرًا جعل هالة تشاركها طوعًا...
"قالت أنها حرصت من صغري على غرس روح الكفاح في تعدني ليوم كهذا..و كأنها بهذا قد أبرأت ساحتها من ذنبي!! لماذا أنجبتني إن لم تكن حياتها مع أبي ترضيها؟"
وأمام تساؤلاتها التعسة لم تملك هالة سوى شد أزرها بزيادة جرعة حنانها متخذة قرارها بقسوة مجحفة..(ستبدأ من جديد وتواجه العالم برفقة نفيسة حتى تجد كلاهما أرضًا ثابتة ترسخ بها شخصيتها وكيانها ولتنس تمامًا علاقتها بزيد)..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أجريت الفحوصات والتحاليل بشجاعة فلم طلبت الأستاذة سميرة اليوم تحديدًا؟"
تساءل وحيد بينما يطوق كتفي ابنته بذراعه ويسيران جنبًا إلى جنب قاصدين العمارة السكنية حيث عيادة طبيب الأمراض العصبية والنفسية الذي أرشدهم إليه مختص التغذية..
فأجابته بهدوء يخفي خلفه بركانًا من التوتر والقلق:"لأنها ستحضر معي تمرين الجمباز بعد انتهاء موعدنا مع الطبيب"
أومأ وحيد متفهمًا وأفلت الصغيرة حين أبصرا سميرة على مقربة منهما تاركًا لهما كامل الحرية في الانفراد ببعضهما بعيدًا عنه فيبدو أن منة وجدت عند سميرة ما يدفعها لمصارحتها بأدق ما يخصها كما لم تفعل مع وجدان جارتهم!
كان قد اعتاد التقوقع على نفسه منذ وفاة زوجته فكتم حزنه وحسرته على وفاتها في أعمق بؤرة داخله..يائسًا..بنظرة سوداء قاتمة لا تبصر حولها إلا النهاية التعيسة لكل شئ..فمهما ارتقى الزوجان أعالي قمم السعادة في حياتهما الزوجية يظلان عرضة للتعاسة الأبدية إما بالموت أو تغير الطباع بشناعة كما حدث مع جارته وجدان..
لذا رأى دائمًا أن زواجهما أمر حتمي فامرأة رقيقة كوجدان لن تحتمل صلادة زوجها وخشونته المؤذية وهو سيلتقطها ما إن يلفظها الأخير فيحظيا معًا بفترة نقاهة من الفقد والتعاسة..كما ستتغمد ابنته بجزء من عاطفتها الوفيرة ومؤكد سيكون للأمر وقع أفضل على ابنته بعد أن تستشعر الاستقرار الأسري مرة أخرى فلم تعد وجدان مجرد جارة تشفق عليها وتتفضل عليها بأمومتها التائقة للأولاد بل أم بديلة ارتضت أن تهبها عاطفتها بصدق ومحبة..
لذا تقرب منها وحاول تعرية حقيقة زوجها أمامها لكنها كانت مبصرة عمياء فرؤيتها لفساد زوجها لم تدفعها لتركه بل أزادت تمسكها به كعمياء لاتذر عصاها المعوجة التي تتوكأ عليها ..
كان شمعتها السوداء التي وهبتها من صميم عاطفتها ودفئها ما يشعل فتيلها دون أن تقتبس شيئًا من ظلمتها..لكنها في خضم التفاتها للفتيل لم تلحظ أن الشمعة تزوي وتذوب فيوشك إشعال فتيلها أن يغدو مهمة مستحيلة..
تنبه وحيد من شروده على ضحكات ابنته فابتسم تلقائيًا..إنها دافعه الوحيد للاستمرار في حياته وقتل أفكاره التعيسة بالعمل المكثف..بل يراوده خاطر يكاد يصبح يقينًا أنه ما إن يُتم مهمته بالإنفاق على ابنته حتى تخرجها و زواجها ستنتهي حياته بل ربما يقتل نفسه من بشاعة شعوره الذي لا يجد له علاجًا..
ناظر سميرة المنهمكة في الحديث مع منة فطرق رأسه خاطر أغرب..
هل يمكن لسميرة أن تؤدي دور الأم البديلة؟!!
"منة وحيد القباني"
نادت الممرضة اسم ابنته فاستعاد تركيزه ورافق سميرة مع الصغيرة إلى غرفة الطبيب حيث سرت موجة من التوتر بانتظار الكلمة الفاصلة من الطبيب الذي امعن في قراءة الأوراق أمامه ثم رفع رأسه إليهم وابتدأ حديثه قائلًا:
"أرجو أن تسمحوا لي بحديث خاص مع كل منكم على حدا..وأفضل أن نبدأ بالآنسة منة"
نظر لمنة بابتسامة ودودة فبادلته إياها خاصة بعد أن راقتها منادته له بالآنسة
سألها:"إن كنت ترغبين ببقاء والدتك فلا مانع لدي"
تحرك حاجبا وحيد لاإراديًا لكنه لم يبادر لتصحيح خطأ الطبيب وتركه على اعتقاده ويبدو أن سميرة لم تنتبه لتوصيف الطبيب بقدر انتباهها لرد فعل منة والراحة المرتسمة على وجهها حين ألقى الطبيب عرضه..
انفرجت أساريرها بينما تسمع موافقة منة الصريحة ونظرتها الطالبة للدعم..فلم تبخل عليها وأمسكت بيدها مطمئنة..
ثم وجه الطبيب حديثه للوالد قائلًا:
"سأطلب منك أن تتركنا لبعض الوقت إذا سمحت"
أومأ وحيد وغادر الغرفة بلا اعتراض.. بينما بدأ الطبيب يسأل منة عن عائلتها ..دراستها..اهتماماتها..بأسلوب لطيف كأنه تعارف ودي بابتسامته الودودة ذاتها كتب ملاحظاته التي تركزت حول والدتها المتوفاة وزملاء دراستها ثم قال وهو يعطيها ورقة من دفتره:
"سجلت لك الموعد التالي هنا..يبدو أننا سنكون أصدقاء"
وأدار صورة على مكتبه موضحًا:"أترين؟ إنها حفيدتي تقاربك في العمر ونحن صديقان مقربان للغاية..لذا يسعدني أن أحظى بصديقة جديدة تشاركني اهتماماتي"
أردف مرضيًا فضولها ومربتًا على غرورها الذي انتفش لاإراديًا لكون طبيب بهذه الهيبة والمكانة يهتم بمفضلاتها:
"سجلتها حديثًا في النادي الرياضي الذي تمارسين به الجمباز..وقد تتصادف تمارينكما أيضًا لأنها اختارت ذات اللعبة..سأعتمد عليك لمراقبة تقدمها في اللعبة حتى تصبح ماهرة مثلك"
تحمليها مسئولية كهذه كانت كفيلة لإثارة هلعها في الماضي لكن بفضل وجود الأستاذة سميرة وتشجيعها المثمر تلقت الأمر بابتسامة واسعة قائلة:
"بالطبع أنا متمرسة في اللعبة يلزمني بضع تمرينات حتى أنشط ذاكرة جسدي ثم بإمكاني الإشراف عليها"
"رائع..وأنا سأحرص على إيجاد بعض الوقت لزيارتكما أثناء التمرين في وقت قريب"
وهكذا خرجت منة بنفس مطمئنة مع سميرة وتبادل وحيد معهما الأدوار فجلس أمام الطبيب مترقبًا تشخصيه الذي لم يتأخر:
"قمنا بتعارف بسيط حتى أنال رضا الصغيرة فتقبل بإعادة الزيارة لكنني أردت تنبيهك لأهمية الوضع... منة تعاني من اضطراب فقدان الشهية العصبي وهو ما يجعلها تميل للتقليل من طعامها أو رفضه كليًا في أحيان كثيرة"
"ولكنني لم ألحظ عزوفها عن الطعام..إنه القدر الذي تتناوله منذ صغرها"
"هذا يفسر لي الكثير..منة كانت مقتصدة في طعامها لأنها تمارس الجمباز لكن الأمر استحال لهوس مرضي بعد وفاة والدتها..ذُكر هنا في تقريرها أنها كسبت بعض الوزن مؤخرًا وأراهن أنه بفضل السيدة التي رافقتكم وتحسن علاقتها بزملائها في المدرسة..لكنها لاتزال عالقة في هوسها باللعبة وفقدان الوزن بالتبعية بسبب هوسها بوالدتها المتوفاة"
"لكنها تعود للتو لممارسة اللعبة كانت قد انقطعت عنها لفترة طويلة..."
وأضاف بأسى:"أي بعد وفاة والدتها تحديدًا"
"هنا المشكلة ويبدو أنك أيضًا لازلت عالقًا هنا عند وفاة زوجتك فلم تتيحا لبعضكما فرصة مناقشة مشاعركما معًا..لكن هذا فاق تحمل الصغيرة وتغيرت الكثير من الأمور في حياتها دون أن تلاحظ يا سيد وحيد أو تظهر الاهتمام الكافي لابنتك"
وبدأ يعدد بعضًا من التغيرات التي غفل عنها:
"الاضطرابات الهرمونية التي تجعل دورة الطمس غير مستقرة..تناولها الشمع كما ذكر مختص التغذية نتيجة لنقص الدهون في جسدها فاتجه تلقائيًا للتعويض لذا أحست الصغيرة بشهية غريبة لتذوق الشمع"
بالنسبة لوحيد كان حديث الطبيب بمثابة مدخلات غريبة يتلقاها عقله بإحساس بالفجيعة خشية فقدان صغيرته كما فقد والدتها من قبلها لكنه استحضر جملة واحدة ذكرها الطبيب (أنها استعادت وزنها مؤخرًا بفضل تحسن أمورها )
فتشبث بها كبرهان أمام عقله ليقبل بإعادته لحالته الأولى من غض الطرف عن شئون ابنته فلا تتعلق به أكثر.. وربما نجحت في دفن مشاعرها الفطرية تجاهه حتى لا تأس لأجله ساعة الفراق..
لذا تظاهر بالاستجابة أمام الطبيب والذي أضاف:
"أرجو أن تغدق حنانك الأبوي على الصغيرة وتعطيها من وقتك أكثر خاصة أنها على وشك بدء خطة العلاج وتحتاج للالتفاف الأسري..وبشدة"
وهكذا خرج وحيد لهما بوجه هادئ تمامًا لم يتأثر مثقال ذرة بتهويل الطبيب للأمور إن هي إلا حالة عابرة ويثق أن ابنته ستتخطاها فهي بارعة في كل جوانب حياتها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"قدمت طلبًا لزيارته نهاية الأسبوع"
أجاب علي تساؤلات نوران بما ظن أنه يطمئنها لكنها فاجأته بسؤالها:
"هل يمكنني مرافقتك؟ لابد لي من لقائه بأسرع وقت لقد أخبرني الكثير عن عرفه المحتال وغيره لكنني لا أستطيع استجماع أفكاري بعد والوصول لطرف الخيط.. ومؤكد إن تحدثت إليه سأصل للطريق الصحيح"
"الوضع ليس بهذه البساطة يا نوران..الأدلة مثبتة ولا أعرف كيف يقع الآباء والأبناء في الخطأ ذاته..مجددًا لا عقود تثبت شراكة ولا دليل يقبله القانون!"
صاح علي كمدًا للحال العاجز الذي تضعه به عائلة شقيقته مرة بعد أخرى..
ثم تابع بغضب:
"بالطبع ما إن أفاق عرفه من صدمة موت أقاربه حتى بدأ يحوم حول أملاكهم بحثًا عن نصيبه..."
وهنا التمعت عينا نوران بالظفر كسيف باتر واستوقفته قائلة:
"نعم الأملاك..لنفتح الوصية إنها الطريق الوحيد الواضح المعالم أمامنا الآن"
واستحال موقف علي الرافض الناقم للهدوء التام سامحًا لنفسه بهدنة للتفكير وأجابها:
"وإن افترضنا أن الحاج سعيد ذكر مازن في وصيته فكيف لنا بفتحها يا نوران؟ لسنا من أقارب الدرجة الأولى ..وبأي حق سنطالب أقاربه بفعلها والآن تحديدًا؟"
"لكنك كنت موكلًا بصورة رسمية من المتوفى لتوثيق الوصية...لحظة!"
تبدلت لهجتها التقريبية الهادئة إلى صوت قوي واثق قائلة:
"بإمكاننا زيارة عبد الرحيم والتلويح أمامه بأمر الوصية وتوصية السيدة ليلى أن تورث الشقة بعد موتها لعرفه...مؤكد سيسعى بنفسه لاستجلاب جميع أقارب العم سعيد وفتح الوصية في اللحظة ذاتها"
سرت ثقتها إليه كالعدوى وتحفز لإثبات براءة ابن شقيقته فقال:
"لنفعلها هذا المساء"
وخرجت نوران من مكتبه مبتهجة بقراره الحاسم فارتدت نظارتها الشمسية وقادت سيارتها بحال أفضل..فهاهي أخيرًا أنجزت أولى خطواتها لتبرئة مازن....
تكتمت على أفكارها عند هذا الحد فالصفة التي تريد إلصاقها باسمه لاتزال عصية عليها لتعترف بها!
التقطت هاتفها الذي ومض باتصال من شقيقتها والتي فاجأتها بلهجة رزينة لا تحمل اثرًا لهالة اللطيفة المرحة:
"وصلنا الصالة الرياضية ..هل تأتين؟"
"لا لن أستطيع الآن"
"حسنًا كنت طامعة أن توصليني في طريق العودة"
هذه ليست هالة ..قطعًا ليست هي!
أين التندر على حالها؟!! أين ملاحظاتها الماكرة على وضعها وتوقعاتها المستقبلية؟!! كانت لتمازحها بشان رفضها الزواج من مازن ثم سعيها بكل طاقتها لتبرئته..ربما تجادلها حتى لاتجد مفرًا من مشاركتها التمرين..
لكن الاستسلام وطرح طلبها الصريح بهذه السرعة أمر مستجد وغريب!
"هالة..هل تظنين أن دفن شخصيتك هو الحل للتخلص من أوهامك؟"
"هذه الأوهام كما تسمينها قاتل صامت يتربص بي فذريني لتخبطاتي لربما نجحت في الإفلات منه"
"بإمكاني إنقاذك منه..أو التصدي له معك.."
"عرضها أبي و زيد لكنني سأخوض المعركة وحدي إلى النهاية"
قطبت نوران متساءلة كيف لهالة ان تعلن صراحة تزعمها لأمر ما ؟!وهي من ترفض دائمًا القيادة وتسيد الأمور وحدها!!!
ثم فطنت لأمر هام.. في حين رفضت هالة رفقتها فقد قبلت مرافقة صديقتها التي تلازم غرفتها منذ أيام حتى أنها لم تعطها أو والدتها فرصة للتعرف إليها...
إذًا لاشك أنها سبب تحولات شقيقتها الغريبة التي تنبه إليها والدها من قبلها كما صرحت هالة وقد تكون على درجة من الخطورة ليعرض التدخل..
وعادت تطمئن نفسها بتقبله رفضها أي أن الوضع ليس خطرًا للغاية..
"متى أتعرف إلى صديقتك؟"
"يا إلهي! لا تذكريني بأفعالها لقد أحرجتني أمام والدينا أثناء خروجنا..لنقل انها تملك أوهامًا شبيهة بخاصتي تمنعها من تقبل مساعدة الآخرين ولذا تختبئ بعارها منكم وترفض التعرف إليكم"
لم تستأثر بها مشاعر التعاطف جهة نفيسة بل استحكمتها ذكراه ونظريته المميزة
فقالت:
"أخبريها أنه لاحرج أن تطلب مساعدة الآخرين وقت الحاجة..لهذا نقيم معًا في ذات المدينة"
وجاءت عبارتها الأخيرة هامسة بحيث لم تسمعها هالة التي استغربت صمت شقيقتها ومع ضجيج الشارع حولها ظنت أنها انشغلت بالطريق عنها فقالت:
"سأراسلك ما إن نُنهي التمرين حتى توصليني"
تمتمت نوران بموافقة سريعة وأنهت الاتصال دامعة العينين...كأنها خجلت من نفسها فكفكفت دموعها تهدر بغيظ شديد:
"أعدك ستكون المرة الأخيرة التي تقحم نفسك في أمور كهذه طالما أنا على قيد الحياة"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أبي"
استوقفت أفنان والدها بندائها المستغيث فضمها إليه مقبلًا رأسها قبل أن يسحبها معه حيث جلسا متجاورين فتنعمت بأحضانه وحنانه المغدق اللامشروط ثم تنحنحت قائلة:
"أعرف أن النار المستعرة التي أوقدها حادث مازن لا تنطفئ خاصة أننا عاجزون عن مساعدته ولكنني أرى هذه الخطوة ضرورية أيضًا ومستعجلة"
رفعت رأسها ترقب رد فعله لكنه حافظ على تعبيره الهادئ بانتظار التتمة فأردفت بلعثمة متحرجة:
"عقد القران..لا أرى..ليس من الحكمة تأجيله"
"وأنا موافق"
جحظت عينا أفنان بذهول من موافقته السريعة..هذا ليس والدها الذي لا يقبل بسياسة الأمر الواقع ويستميت في مناقشاته!
"سيكون لك ما تريدين"
سكن القلق قلبها حتى أنها سألته:"أبي! هل تشعر أنك بخير؟ أنت لم تتحدث مع أحدنا منذ...."
عدلت عن ذكر كلمة السجن صريحة لأنها لاتراها لائقة بشقيقها ولا يجوز أن تلحق باسمه حتى في حديثهم! فكيف بقدر الظلم الواقع عليه واحتجازه ظلمًا وبهتانًا بناءً على بلاغ جائر!!
"ربما تحدثت مع أمي..لكنني مستعدة لسماعك لا حرج إن بكينا جراحنا وأحزاننا"
عاد خالد يضمها إليه كاتمًا حسرته ودموعه يجيبها:"أريد أن أبكي فرحًا وفخرًا بكم يا ابنتي.."
ومرت دقائق من الصمت المشحون بالمشاعر الصاخبة التي تحتكم القلوب ويحجزها الكبرياء رافضًا إطلاق سراحها..قبل أن يصطنع خالد المزاح قائلًا:
"هيا اغربي عن وجهي واذهبي لأحضان من فضلته على أسرتك"
فاندست أفنان أكثر في أحضانه وأجابته بصوت ضاحك:
"فضلته لأنه واحد منكم..فمهما افترقنا أراكم فيه دائمًا وأبدًا"
قبل خالد رأسها بمحبة خالصة ولايزال يحتضنها كأنه يعيد شحن طاقته لمواجهة ولديه التي لا مفر منها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
خرجت هالة من الصالة الرياضية لتجد سيارة مازن أمامها..قطبت بحيرة قبل أن ترتسم الجدية على ملامحها ما إن خطت قدمه الطريق وترجل من السيارة واقفًا بشموخ ماثلًا أمامها كأفضل حلم وأكثرهم استحالة!
كانت لتستخدم نفيسة حجة هروب لكنها غادرتها منذ لحظات فقد حانت ورديتها في المشغل..
"كيف حالك؟"
بادرته بارتباك دون أن تعي حقًا لما يجب قوله في موقف كهذا..
لم يجبها زيد حتى رفعت عيناها إليه فقال:
"لو أجبت رسائلي واتصالاتي لعرفت حالي المشتاق المتلهف لكلمة واحدة تخصينني بها"
وتابع بلهجة صارمة:
"والآن يحق لي أن أعرف ما يسرق مني اهتمام خطيبتي ويقض مضجعها"
تلفتت هالة حولها كأنها ستجد حجة هربها بهذه الطريقة ثم سألته بصرامة مماثلة:
"من أعطاك الحق من البداية لتأتيني هنا؟"
"استأذنت والدك فوافق على مضض حين تعللت بقصر المسافة إلى بيتكم لذا لن أتركك اليوم حتى تخبرنيني بالتفصيل ما يبعدك عني"
ازدردت هالة لعابها وركبت السيارة بصمت فحذا زيد حذوها وقاد السيارة بأقل سرعة ممكنة..
فنطقت هالة بأول ما توارد لذهنها:
"لم تلزم جهة اليمين وكأننا سنتوقف في أي لحظة؟!"
"لحسن الحظ لم يشترط والدك وقتًا معينًا لإنجاز الرحلة لذا قررت أن أطيلها قدر استطاعتي ..هيا! بإمكانك شكري فقد أتحت لك فرصة التفكير في الطريقة المناسبة لاسترضائي"
جحظت عينا هالة بذهول من لهجته المرحة ودلالات جملته..وكادت توقفه عند حده لكنها تراجعت متحرجة من نفسها خاصة حين استعرض أمامها عدد الرسائل والمكالمات الفائتة التي لم تجب علي أي منها ولو برسالة صغيرة تعده بشرح الموقف فيما بعد...
"أرأيت؟ نكهة المرح التي تريدين نزعها بقسوة من شخصيتك كانت تنجدك في مثل هذه اللحظات...بطرت النعمة فتخلت عنك وقت حاجتك"
هز رأسه كأنه يتحسر على قصتها المؤثرة مستقيًا منها العبرة والعظة..
فلم تملك هالة نفسها التي أبطلت مقاومتها الواهية وصاحت به بغيظ:
"تتدخل بيني بين نفسي أيضًا! ثم تدعي أنك لست متملكًا وستترك لي حريتي الكاملة بعد الزواج!"
"يا إلهي! هل فشلت أولى محاولاتي لتلجيم نزعاتي التملكية؟"
سأل باستنكار مصطنع وكأنه يعاتب نفسه..
فرمقته هالة بنظرات محذرة..لكنه لم يخضع لسلطتها الأنثوية بل سألها بنعومة:
"ماذا يشغلك عن فارس أحلامك يا قطعة الحلوى البيضاء القشدية؟"
تدفقت موجات صوته من اذنها إلى قلبها مباشرة فتراقص على هديرها مرحبًا بكل ما يصدر من فارسها وغاية أحلامها..
فشدت هالة حقيبتها لتصطدم ببعض القوة بصدرها كأنها تعاقب قلبها على رعونته..بل رعونتها هي!
كيف قبلت به وهي لاتزال غارقة في هذه الفوضى؟!
"لا أقبل المغازلة"
صاحت به أخيرًا وقد شاب صوتها الغضب.. ثم مسحت على وجهها بإحراج وكادت تبكي!
إنها تخوض معركة داخلية فقدت فيها السيطرة على نفسها التي أعلنت التمرد على ما تلقاه من انتقاص وتحقير منها هي هالة قبل أن يكون من الناس لذا صارتا كشخصين:
إحداهما تائقة لزيد..
والاخرى لن تقبل إلا إثبات نفسها وإرضاءها قبل الالتفات لأي أمر آخر..
وكأن زيد شعر بما يعتريها فصف سيارته أمام منزل طاهر ولم تكن هالة قد تنبهت بعض لوصولهم ثم التفت إليها قائلًا بلهجة لينة مستقطبة:
"قلت أن الشئ الأكيد بالنسبة إليك هو كوني فارس أحلامك.. فلم المقاومة؟ اسمحي لي أن أؤدي دوري..ألم يطلق علي هذا اللقب لأنني جئت لأحقق أحلامك وأقدم لك الحياة السعيدة التي تستحقينها؟!"
"لا أستطيع..ما بداخلي لا يُحكى بالكلمات ولا يمكنني مشاركته حتى مع أفراد أسرتي"
أدارت وجهها تمسح دمعة غافلتها بالنزول فانتبهت لوصولها لذا سارعت بالترجل وقد وجدت حجة هربها أخيرًا ..قائلة باقتضاب:
"أراك فيما بعد"
راقب زيد انصرافها متفكرًا وتشبث ببصيص الأمل الذي تركه لها وداعها..
يعد نفسه أن يجد حجة مناسبة لإقناع العم طاهر ولقائها في وقت قريب وحينها لابد من استخدام طرق أخرى لمعرفة دواخل خطيبته الرقيقة ظاهريًا والمعقدة داخليًا..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أنهت علياء أداء فرضها وانخرطت في نوبة بكائها اليومية التي صارت عادتها الجديدة منذ حادث فادي وحادث مازن..أهو الحسد؟ سوء الحظ؟ أم أن الخطأ يقع على أولادها حقًا؟!!
كيف؟!! أولادها هي ..أبناء عائلة السفيري يُلقى القبض عليهم واحدًا تلو الآخر.. وإن وجدت تبريرًا لما وقع لفادي فكيف بمازن؟! رجل البيت الأول في غياب والده المكلف بإدارة مسئوليات العائلة بجدارة..حتى أنها حين التقت رزان ووعدتها أن ترسل إليها ابنها بما نسيته من تفاصيل كانت تقصد مازن لا زيد..
زيد هو الحضن الدافئ..البسمة الرائقة واللسان العذب صاحب اللمسة الحانية ورغم اهتمامه وعطائه اللامحدود لكنه أغلب الوقت منشغل بمسئولياته عنهم ترجح أنه اكتسب هذه الصفة منذ أقنعه والده بدراسة إدارة الاعمال فقد نشأ على الاستقلال كما عوده والده لذا صار صعبًا أن يتقبل تسيير حياته على هذه الشاكلة دون أن يضع بصمته الخاصة متخذًا قراره بنفسه..
فعكف مع نفسه أيامًا وليالي حتى اكتشف شغفه بالحلوى ولمسته الفنية في إعدادها..وهنا عاد إليهم مرة أخرى بلطفه وعذوبة تصرفاته لكن مازن كان قد حمل اللواء أثناء تغيبه وظل مثابرًا على رفعه متحملًا كل ما يلقاه في سبيله..
ورغم نقمتها على ما يحدث لابنها دون أن تملك تغييره كانت متفاءلة وما لبثت أن عادت لهدوئها حين تذكرت الجانب الإيجابي لما حدث..
فقد تغير خالد ..لم يتشاجرا كما يحدث عادة في هذه المواقف بل تقبلا القدر بفجيعة يهونها الرضا والعزم على المقاومة.. كما أقر بأخطائه وهاهو يسعى لإصلاحها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
"أبي"
نهض زيد متفاجئًا من دخول والده غرفته..
فلم يألف زيارات كهذه إذ طالما خصه والده بالحديث في اجتماعات العائلة وفقط دون المزيد..
وقد أشعره هذا في بعض الأحيان أن والده من شدة انصرافه عنه لا يعبأ بالجلوس معه أو سماع أخباره ..لكنه تعود وصار هذا الطابع الغالب على علاقتهما وكذلك كانت علاقة والده بمازن لذا ما إن أتيحت لكليهما الفرصة وعند أول ظهور أنثوي جذاب وقعا صريعي الهوى وشرعا في خطواتهما للاستقلال التام بحياتهما..
ولم تدع له ملامح الانهزام على وجه والده مجالًا للتهكن بالسبب أو انتظاره أكثر فأسرع إليه يأخذ بيده وقبلها مهونًا بقوله:
"لا تقلق يا أبي..أثق أن مازن رجل شريف ولم يأخذ أبدًا ما لا يحق له"
أومأ خالد يوافقه الرأي قبل أن يقول:"لم يخالطني الشك للحظة يا زيد..لكنني جئتك سعيًا للتخفف من أخطائي التي كنت معميًا عنها"
قطب زيد وزاد تجهمه مع سؤال والده التالي..
"هل تظنني أكرهكم يا زيد فأبعدكم عني؟"
"قطعًا لا..لم أسمع عن أبٍ يكره أولاده أو يريد بهم السوء"
"وهذا ما جئت أخبرك إياه..أنا أحبكم جميعًا رغم تعاملي المتباعد المحدود معكم.. أردتكم أن تشبوا رجالًا أشداء يعرفون كيف يستقلون بحياتهم ويهتمون بشئونهم"
"ونحن لا نلومك.."
قاطعه خالد باعتراض:"أصغ إلي ودعني أنهي مهمتي طالما استجمعت شجاعتي..
أعتذر منك لأنني أجبرتك على العمل في الشركة معنا"
مال زيد مقبلًا يده للمرة الثانية وأجابه:"أرجوك لا تعتذر يا أبي.."
فوضع خالد يده على ظهره مربتًا ربما للمرة الأولى منذ سنوات وفي الآن ذاته كان يستقي القوة بفعلته.. هاهو ابنه أمامه شبَ رجلًا مستقلًا بحياته قادرًا على تولي شئونها وإدارتها على أحسن ما يكون .. لا يلومه على أخطائه بل يخبره أنه يسامحه عليها..فاكتنفه الفخر والرضا وإن شابهما شئ من الحزن..
"لقد شعرت بالندم بعد أن رأيتكما تسيحان في أودية أخرى بعيدًا عني..كنت مقتنعًا بنظريتي لكنها ما إن تحققت ورأيتك أنت ومازن رجلين بحق لا ينقصكما شئ وتستعدان للاستقلال عني.."
ضحك بخفة سائلًا:"هل تظنني لم ألحظ من البداية انجذابكما لبنات طاهر؟"
أدار زيد عينيه بارتباك فتابع خالد:"عدت أبحث عن الونس يا زيد..قصدتك لأن تخصصك يؤهلك للعمل معي..أردت الاطمئنان بوجودك تحت طوعي وشعور أنني لا أزال والدك..خاصة مع أحوال فادي"
واستوقف ابنه قبل أن يجيبه مستطردًا:"لكن ها أنا أعتذر منك..وأصر عليك..إن أردت ترك الشركة والتفرغ لعمل المطعم فلك مطلق الحرية...لن ألومك أبدًا"
عانقه زيد دون رد .. فانكمش خالد لبرهة ثم بادر بتطويق ابنه والتربيت ببعض القوة على ظهره..
"آه يا أبي..نعم هذا ما كنت أحتاجه..بين الحين والآخر تلزمني خشونة هذه التربيتة فلا تحرمني منها أرجوك"
كرر خالد فعلته سائلًا بمزاح يترافق مع دمعات لاإرادية:"هكذا؟"
"نعم هكذا" أجابه زيد ضاحكًا محتفظًا بوضيعته لبعض الوقت..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
رغم تنفيذ منة جزءها من الصفقة بأن تذهب للطبيب إلا أنها في قرارة نفسها لم تكن ترى داعيًا لهذا..فقد تحسنت نفسيتها كثيرًا بفضل سميرة وعلاقتها بشكلها المستحدث مع أصدقائها..
لاتزال عادات طعامها الغريبة تؤرقها لذا وضعت علاجات الطبيب في خانة تحسين هذا الجانب رغم أنها لا تفهم بالظبط ما حاجة مختص التغذية للطبيب النفسي حتى يضع لها برنامجًا غذائيًا يناسبها!!
تجاهلت تمامًا أفكارها السلبية وتذكرت تعليق الطبيب على ملامحها الشبيهة بحفيدته لتنشر لوحة فادي مرة أخرى على مدونتها مع عبارات رأتها تصف بالظبط أثر لوحته فائقة الجمال في نفسها..
وبالطبع نشرت اللوحة الثانية التي أعطاها لها وحدها حيث وجهها أكثر نضارة وصحة كما تمنى أن تكون وكما تسعى هي لتحقيق أمنيته..
في الآن ذاته تراقصت فرشاة فادي على جدار الشرفة يضع بصمته الفنية عليها كأنه يسترضيها بعد أن هجرها الجميع وشغلتهم أزمة العائلة الجديدة عنها..
فانفرد هو بها.. يخط بفنه تداخلات مشاعره الحانقة الغاضبة الرافضة لما يحدث لشقيقه فيظن أنها ستخرج مأساة فنية ترفضها عيناه هو قبل الجميع لكن النتيجة تبهره مرة بعد أخرى..
وأمسك بقطع الزجاج التي أعاد جمعها وتشذيبها ..ولونها لتناسب لوحته يلصقها الواحدة بعد الأخرى مرددًا عبارات منة المنتقاة بعناية التي كتبتها مؤخرًا على مدونتها:
نحنُ نردُ القُبح بالجمال، وكلُ جمالٍ مقاومة"
إنّك متى رسمت لوحة أو كتبت قصيدة فقد غيّرت العالم،
لقد صار أجمل بمقدار لوحة!
واعلم أن الجمال أطول عمرًا من القُبح،
تذكر كلّما واجهت ظُلمًا أو قُبحًا
أن تدافع عن نفسك بأن تخترع جمالاً ما،
فإن كلَ حُسنٍ مقاومة"
تميم البرغوثي
أخرجه من انهماكه نداء والده المفاجئ فارتبكت خطواته وحار كيف التصرف!
لقد ارتاح لغياب الجميع وبدأ بتفريغ مشاعره المحتدمة بالألوان فصارت يده ملطخة وأدواته موزعة على أرضية الشرفة كأنها أدلة على جريمته..
ليس بالنسبة إليه فهو لايرى فادي إلا فنانًا لكنها قد تكون كذلك بنظرة والده التي لا يتوقع منها أي قرار لصالحه.. لذا حاول مسح يده قدر استطاعته وخرج فورًا من الشرفة مغلقًا بابها بهدوء لئلا يلفت انتباهه لوجود ما يريب معتمدًا على الستائر الموضوعة على الشرفة مخفية ما يدور داخلها عن أعين الجيران المتطفلين الذين قد يتساءلون عما يفعل أمام أي فرد من أسرته فيأتون على كشف أمره..
"فادي ها أنت ذا"
قالها خالد خارجًا من غرفة هيثم ويبدو أنه كان يبحث عنه هناك..
وأطبق عليهما الصمت! فادي يتكيف مع صدمة وجود والده ويحاول التستر على توتره المكشوف.. بينما يعجز خالد عن إيجاد البداية المناسبة بعد هذه القطيعة الطويلة...
يومًا ما كان فادي بالنسبة إليه كتابًا بحروف بارزة واضحة وسهلة القراءة لكنه الآن مكتوب بشفرة سرية ويظن أنه لا يملك الكثير من الفرص للمحاولة!
واختار الطريقة التي أرشده إليها زيد منذ دقائق فطوق الصغير بين ذراعيه قائلًا:
"فادي أنا أحبك وأعتز بكونك ابني"
تسمر فادي مصدومًا للوهلة الأولى كأنه خرج من صقيع بارد إلى بركان متدفق الحمم فانتفض جسده برد فعل لاإرادي وأفلت نفسه من أحضان والده قائلًا:
"ما غرضك من هذا التصريح؟"
قطب خالد دون أن يجد جوابًا مناسبًا يصف حرقة قلبه على ما آل إليه الوضع بينهما.. هل بالغ في الابتعاد حتى انقطعت حبال الوصل بينهما تمامًا؟!!
"وهل مشاعرك الطيبة ما دفعتك لصفعي أمام منة ومقاطعتي مرة بعد أخرى؟!
كنت أترقب حوارنا بعد الامتحانات كأنه عيد..عيد تحرير غضبي منك"
كان خالد هادئًا تمامًا متقبلًا انفعالات صغيره ومرحبًا بها حتى لو تجرأ أو أساء الأدب فهو موجود ليبرز له الصواب من الخطأ ويأخذ بيده كما طالبته علياء دائمًا..
"ما الجريمة التي ارتكبتها لأستحق هذه القطيعة؟"
أجلسه خالد حيث هو وجاوره قائلًا بصوت ضاحك متسامح:
"ها أنت تناقض نفسك..ألم تكن أنت من اختار قطع صلاتنا الوثيقة وكتم شئونك عني لأنك كبرت وصرت رجلًا كأخويك؟!"
طأطأ فادي بخيبة أمل..نعم سعى لهذا لكنه يعترف للمرة الأولى بخطئه.. إنه يحتاج والده..يريد استشارته في كل شئونه..وأن يكتسب صفات أخويه ذاتها والتي مردها إلى والده مثله الأعلى ومن كان يسعى للاقتداء به دون أن يدري أو يواجه نفسه برغبته الصريحة..
"كان خطأً فادحًا يا فادي ارتكبته عن سبق إصرار وتعمد..وعدت إليكم أطلب السماح"
جحظت عينا فادي وقد تلقى للتو أكبر صدمات حياته!
"قررت تحرير نفسي من شعور الذنب وإصلاح أخطائي.. نعم تركت لأخويك الحرية الكاملة ليتعرفا إلى الحياة بنفسيهما وتعلمهما دروبها معنى الاستقلال لكنني أخطأت بعدم متابعتهما والإشراف على خطواتهما... كان علي أن أشاركهما الطريق وأملي عليهما بعض الإرشادات من حين إلى آخر"
وأمام صمت فادي الذاهل طرح سؤاله بأمل:
"ما رأيك؟ هل تساعدني لتدارك خطئي؟ أريد أن أشاركك الطريق كما لم أفعل معهما وملازمة الصواب معك"
تلبس الغيظ ملامحه خاصة مع استمرار فادي على صمته فضربه على مؤخرة عنقه قائلًا :
"هيا أظهر بعض الحماس يا ولد.. أعرف انك لا تثق بنيتي في التغيير لكنني ساثبت لك"
لم يتغيرعبوس فادي قدر أنملة وأجابه بغرور يناقض الضربة التي تلقاها لتوه وبعثرت برستيجه :
"كبداية أتقبل محاولاتك حتى تثبت صدق نيتك"
دفعه خالد صارخًا به:
"اغرب عن وجهي يا ولد قبل أن أتهور وأفرغ فيك سخطي"
نهض فادي لكنه وقف أمامه بعد أن التمس المزاح في صوته وأجابه محاكيًا مزاحه الغليظ:
"نعم ستعامل كمعلم يلقي درسه للمرة الأولى بعد أن تغيرت المناهج ولا تظن أن أي رشوة كفيلة بجعلي أمتدحك أمام المديرة"
التقط خالد ريموت التلفاز الموضوع على المنضدة أمامه وكاد يلقيه في وجه فادي الذي رفع ذراعه كحاجز لحماية وجهه لكنه عدل عن فعلها ونهض ممسكًا بقميص ابنه عند مؤخرة العنق كأنه قبض عليه متلبسًا بتهمة ما:
"ومن هذه المديرة التي ستمتدحني أمامها؟"
"أمي بالطبع"
أفلته خالد مضيقًا عينيه كأنه يبتغي سبر أغواره ثم قال بتنازل:"لا بأس سأتركك الآن لكننا سنبدأ الدروس من الغد حتى ترضى عني وتقرر أن تتوسط لي عندها"
تبعه فادي يراقب مغادرته شقة عمه وصعوده الدرج درجة درجة كأنه يتأكد أن وجوده هنا وحديثه الحازم الحاني حقيقة لا شك فيها..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
ارتاحت نوران حين لم تجد والدها في المنزل فهو الوحيد الذي لن تستطيع الإفلات منه وحتمًا سيستجوبها ويعرف وجهتها الحقيقية.. ولأنها ترغب في التكتم على الدليل الوحيد الذي اكتشفته مؤخرًا لإثبات براءة مازن كونه لايزال مجرد أمل ضعيف يحثها قلبها على السعي خلفه..
غادرت المنزل متعللة بحجة واهية لوالدتها مستغلة انشغال هالة بصديقتها لتجد سيارتها قابعة أمام البوابة بانتظارها..
هل ذهب والدها أيضًا لقضاء أمر سري؟!!
تساءلت وكل الأدلة ترجح صحة ظنها فهو لم يكن ليتردد في تسهيل مشواره بأخذ سيارتها لذا قادت الأخيرة بهدوء متمتمة بمرح:
"إذاً لاضير أن يكتشف ذهابي دون علمه فهو أيضًا يملك نقطة ضعف"
وأخيرًا أمام شقة عبد الرحيم التفتت نوران لعلي فوجدته يشاطرها ذات التوتر وتفهمت موفقه فقد أخبرها مازن بقراره الصريح لقطع أي علاقة تربطه بعبد الرحيم وإنه لأكثر قرار حكيم قد يتخذه أي شخص يدرك قدر الطمع والسواد الذي يقطر منه..
وبينما يضغط علي الجرس..تخيلت وجه عبد الرحيم كأحد مصاصي الدماء ..ما إن يراهم حتى يستحيل لون عينيه وينقض عليهم ليرديهم قتلى في الحال..
لكن على النقيض من توقعها فتحت سيدة رقيقة هادئة بشكل مبالغ وكأنها في حالة حداد على أحدهم والذي فقدت معه رغبتها في الحياة ..أو ربما هو وقت نومها!
وقالت دون أن تستفهم عن سبب الزيارة:"تفضل يا سيد علي..عبد الرحيم في المنزل لحسن الحظ"
لم تكن بعد قد تنبهت لوجودها وما إن فعلت حتى استفاقت تمامًا وكأن رؤيتها دق ناقوس الخطر داخل عقلها!
ويبدو أنها لم تكن ترغب بإدخالها..قرأت نوران هذا في عينيها لكنها تبعت علي الذي ناداها ينبهها للحاق به..
لم يتأخر عبد الرحيم بالخروج إليهما ورغم استغرابه الواضح رحب بعلي وبها!
وتمنت نوران في هذه اللحظة لو أن هالة بصحبتها.. مؤكد كانت لتقرأ الخدعة الجديدة التي يعدها هذا الرجل خلف هدوئه..
بدأ علي حديثه فتعلقت نظرات نوران بوجدان المتوترة وانتقلت إليها العدوى فأحست لوهلة بالحرارة وأنها أحرجت نفسها قبل أن تحرج علي معها!
ولكن جملة علي التالية جعلتها تحبس أنفاسها من تغير ملامح عبد الرحيم المفزع فما إن قال:
"نريد التحقق من صحة عقد بيع الشقة وأن السيدة ليلى وقعته شخصيًا وبإرادتها الحرة فقد نصت وصيتها أن يرث الشقة أحد أقاربها"
حتى تشققت قشرة الهدوء المخادعة وانتفض الرجل يجر زوجته ببعض الحدة نحو غرفة ما قائلًا :
"سأعود إليك"
سايرت وجدان خطوات زوجها الشيطاني الملامح في هذه اللحظة وطاوعته لتجنب نفسها تبعات غضبه..
كان عليها أن تطرد هذه الفتاة بل إنه المحامي من كان يستحقها بجدارة!
فهو بوابة الماضي وشريك عبد الرحيم الأزلي الذي ألبس أخطاءه لباس القانون!
"بسرعة أخرجيها..هيا"
اجتذبها صراخ عبد الرحيم من حمى أفكارها المرتعبة..متابعًا:"أخطأت بتركك تحتفظين بها! كان علي أن أدرك كون المصائب تأتي من حيث لا نحتسب"
"وإن كانت الشقة من حق احد أقارب المتوفاة فعليك الاعتراف بفعلتك الدنيئة مع العجوز وترك الحق لأصحابه..لن أشاركك..."
كتم عبد الرحيم فمها بيده صائحًا بعنف متفجر:
"اخرسي تمامًا..دعيني أكتشف أبعاد المصيبة بالكامل ثم يحين وقت الحساب"
خرجا لعلي ونوران المنتظرين على أحر من الجمر بظرفٍ مغلق لم يعرفا كنهه حتى فضه عبد الرحيم وقرأ الورقة المطوية داخله التي اتضح أنها مجرد رسالة تشير للوصية الفعلية..
(تم توثيق وصيتي الرسمية يوم...بتاريخ....تحت إشراف علي العدل
قراءتك لهذه الرسالة تعني أنني مت وأنتم مستعدون لقراءة وصيتي،لذا رجاءً أيًا كانت هويتك احرص أن يتم فتح الوصية في حضور مازن السفيري)
وبينما ابتسم علي بثقة إذ تأكد من صدق قوله حين أخبر مازن أن العجوزين ماكران ويجيدان الحفاظ على حقوقهما بطرق ملتوية مشروعة..
عقبت نوران بسعادة غامرة:
"لقد كنت محقة..الوصية بوسعها إثبات الشراكة وبراءة مازن"
بينما تراجعت وجدان وأغمضت عينيها كأنها تبتعد عن خطر فرسها الغير مروض
وصاح عبد الرحيم بأمر إلزامي لعلي:
"ستأتي مع أقاربه ..أحضرهم واحدًا واحدًا لفتح الوصية الرسمية في أقرب فرصة وهنا في منزلي "
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
بعد أن حظى باستراحة قصيرة من عناء العمل طرق هاشم باب بيت فاروق يلوم نفسه على المباركة له بفتور على سلامته وعودته للعمل في أرضه..
وللمرة الأولى كان يجرب شعورًا حارقًا كالذي قاساه شقيقه طوال حياته..لا يمكن ان يكون حقدًا!
أكد لنفسه ينفض عنها التفكير في هذا الشعور البغيض..
نعم استاء من ابن عمه ولم يصفُ بعد جهته لأنه بفعلته آذى روان وجعله يُجمل لها الحقيقة ليقنعها بألا تطيل التفكير في أفعال والدها..
كما أن بخسهما حقهما بهذا الشكل سيكون وقودًا لنار الحقد المكتنفة شقيقه بلا حوافز!!
وقد أيقظت جلساته مع روان خوفه المتزايد على شقيقه الأصغر وكأنه ابنه الذي يريد إلقاء بعض دروس الدين والدنيا على مسامعه عله يعطيه يده أخيرًا فيسحبه من دوامته المميتة للروح..
"عمي هاشم"
تنبه لنداء رنا الخجل فأظهر لها ابتسامة واسعة وحملها بحبور مرحبًا بقبلتها الطفولية المحببة ثم أنزلها قائلًا:
"هيا أخبري والدك عن قدومي"
وما كادت تركض لإحضار والدها حتى خرج من الداخل مرحبًا بدوره..
"أحتاجك في أمر عاجل"
أومأ فاروق وأشار له بالجلوس سائلًا بلهجة مهتمة:
"خيرًا؟لا يبدو أن الأمر يخص الأرض"
لكن هاشم عاد للوقوف مرة أخرى قائلًا بمرح مصطنع:
"لنتمشى بينما نتحدث أم أنك اعتدت الارتكان للراحة؟"
ضحك فاروق ونادى بصوت عالٍ يخبر زوجته أنه خارج مع ابن عمه..
وهناك بعيدًا عن المنزل بمسافة كافية إذ ارتأى هاشم أن يجعل هذه المصارحة بعيدًا عن أسماع عائلة فاروق وبالأخص روان..
ابتدأه قائلًا بقلبٍ صاف لا يعرف الضغائن:
"لقد استأت بشدة من تصرفك يا فاروق..كما ترى فإن نسل أبو زهره يكاد يتلاشى ولم يعد غير ثلاثتنا ومؤكد كان نصيبك من بيت العائلة سيتضاعف بعد وفاة سعيد وليلى"
لم يراوغ فاروق أو يدعي صحة تصرفه بل اعترف فورًا وقد دفعته صراحة هاشم في معاتبته لفعل المثل:
"أعترف أن زيارة عماد وما أخبرني به عن عقود عبد الرحيم المزورة جعلني أتجرأ على التفكير في هذه الخطوة..ثم كانت الحادثة وتوقعي كساد المحصول ككل عام..."
تنهد هاشم بحسرة فمن لا يعرف عماد!!
مدعي العائلة المشردة رغم أنه لايزال أعزبًا الذي يسعى في أي صفقة لينال منها مالًا كمهووس يجمع تحفًا للزينة..
والمحصلة بعد كل هذه الأفعال ثياب رثة ونفس أدمنت الاحتيال!
"لا بأس..تعرف أنني لم أعاتبك إلا لحرصي على الروابط الأسرية بيننا.. وفي الحقيقة جُل ما أخشاه رد فعل عرفه ما إن يصله الخبر..لذا قررت أن نسعى لتقسيم إرث سعيد.. ربما يفلح هذا الأمر في إعادته لرشده وملأ عينيه ببعض الأملاك لينشغل بها"
وافقه فاروق بلا مجادلة قائلًا:"كما ترى..فلنتواصل معه ونبدأ الإجراءات"
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
قصد علي مطعم الوجبات السريعة الذي اعتاد الجلوس به حين يحتاج الشعور بالناس..بعض الونس ولكن من الغرباء!
فلن يتجرأ أحدهم بقطع خلوته أو سؤاله عن سبب شروده كما كانت لتفعل شقيقته لو أنه طرق بابها بهذه الحالة..
رمش بعينيه بلا تصديق مع رؤيته لشعرها المسدل كما يفضله..
(أنت واهم يا علي.. ما الذي قد يأتي بها هنا؟!)
إحساسه بها لا يكذب ولكنه لم يستطع تصديقه ..وذكرى حديثهما الأخير لاتزال تقض مضجعه إلى الآن.. واتخذ قراره بمجالسة هذه السيدة سواء كان رزان أو لا!
وضع أغراضه على المنضدة سامحًا لنفسه بالجلوس قبل استئذانها..
(أنت مراهق يا علي!)
سب نفسه بداخله قبل أن يطالعها سائلًا بلطف:
"هل تسمحين لي بمشاركتك....؟"
غص بتتمة سؤاله حين تأكد له صدق إحساسه..
وعلى النقيض من توقع رزان أن ينهض كالملسوع ويتركها..فقد رشف من كوب الماء الموضوع أمامها قائلًا بصوت يحمل لهفة مستترة في طياته:
"أتصدقين أنني كنت لأجلس مع هذه السيدة أيًا كانت؟! فقط لأنها تملك نفس هيئتك!"
تدفقت السعادة في عروقها بعد أن هجرتها طويلًا ..
لكنها قبضت على انفعالاتها محاولة التستر عليها قدر استطاعتها..فمن يدري؟!
قد يصرح الآن بشوقه وفي اللحظة التالية يصرخ بها ويأمرها بمغادرة طاولتها بكل تبجح!!
وأجابته متهكمة:
"لم تكذب شقيقتك! هذا هو تأثيري المقيت عليك الذي جعلك تتبنى تصرفات متهورة كهذه مستحدثة على طباعك الوقورة المهذبة"
استاء علي لأنه رأى الجرح في عينيها ولا يبدو أنها ستنسى أبدًا ما قالته له شقيقته والتي لم يجرؤ على محاسبتها على فعلتها!
"وخذ هذا الاعتراف أيضًا ضمه لسلسلة انتصاراتك..كدت أموت من شوقي إليك فجئت هنا ألتمس شيئًا منك...ولكن تهمة هوس المراقبة انتقلت مني إليك هذه المرة أنت تدين لي بهذا الاعتراف"
لا يوجد أي شئ طبيعي أو منطقي في حوارهما لكنه وجد نفسه يضحك براحة عادت إليه أخيرًا برؤيتها قائلًا:
"وعلي الذي لم تذري له عقلًا .. يقر أنه كان ولايزال مهووسًا بك"
لكنها لم تشاركه المرح بل جابهته بندية:
"سامحني هذا اعتراف لا يعتد به..تقول أنك لا تملك عقلًا لتعترف بهذا! وأنا لا أقبل برجل غير عاقل"
لم يتأثر قدر أنملة بمحاولاتها لرد اعتبارها بتوجيه إهانة صريحة له..
بل تنهد متنفسًا بعمق قبل أن يقول بجدية:
"أنا على وشك خوض مرحلة مهمة يعتمد عليها مصير شخص عزيز علي"
"وأنا أيضًا ستؤثر خطوتي القادمة على مصائر أشخاص لا شخصًا واحدًا"
نظرا لبعضهما بين التردد والإحجام لينطقا في آن واحد:
"هل يمكنني الاتصال للاطمئنان.....؟"
فأصدرت رزان قرارها بحسم قاطع:
"بعد أسبوعين سنتواصل لمرة واحدة..اتصال واحد وبعدها..."
وتركت التكملة لمخيلتهما فهي سترسم ابشع التخيلات التي لن يجرؤ كلاهما على النطق بها صريحة في مواجهة بعضهما..
"دعيني لا أعطلك إذاً..سأتُم عملي بصمت"
قالها علي أخيرًا متهربًا من صمتها القاسي!
وعكف كل منهما على جهازه ينهي عمله بتركيز متقطع بنظراتهما المختلسة التي تتلاقى رغمًا عنهما فيتعللا أنهما كانا ينظران لوجبتهما!
مديران أعينهما إلى الطعام البارد أمامهما يأخذان منه قدرًا ضئيلًا يتجرعانه كالعلقم ثم يعودان لتكرار الأمر مرة بعد اخرى..
حتى سلما لشوقهما وأغلقا الأجهزة ناظرين لبعضمها بصمت مطبق قاتل بحسرته!
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
لم يستطع طاهر إيجاد صديقه ولأنه يحتاج لمناقشة الأمر فوريًا مع أحد فقد تواصل مع سالم طالبًا منه لقاءه بشكل عاجل..
وذكر أمامه اسمين اثنين:
مصطفى السُكري
نفيسة مصطفى السُكري
أب وابنته فقط..الأمر بهذا الوضوح ..
ولكن كيف؟!
#ڤوت
#كومنت
هستنى تعليقاتكم الحلوة❤️
YOU ARE READING
جيران المدينة
Romanceرواية اجتماعي..رومانسي..كوميدي.. تناقش عدة قضايا اجتماعية في إطار عائلي درامي انتظروا فصل جديد يوميًا بإذن الله ❤️