11

101 8 11
                                    

بيتٌ قديمٌ مهترئ الجدرانِ غيرُ مسقوفِ الوسط ، وجدْتُ ذاتي واقفةً في فسحتِه على حينِ غرّة ، و غابَتْ عن ذاكرتي كاملُ الأحداثِ التّي تسبقُ استفاقتي فيها ، كما لو كانَ محضَ كابوسٍ اعتياديٍّ عابر ، غَيْرَ أنَّ المختلفَ فيه عن طبيعةِ الكوابيسِ كانَ إحساسي ، إذ أنبأني بأنَّه حقيقةٌ مثبتة ، و لا يتبعُ أبداً للمنامة.
تقدَّمَتْ منّي امرأةٌ عجوزٌ بيضاءُ الشّعر ، تحملُ أوراقاً ، و تنظرُ ذاتَ اليمينِ و ذاتَ الشّمالِ تلفتُ نظري إلى بقيّةِ الحاضرين معنا ، كانوا عشرين أو أكثر ، جميعهم تائهون كمثلي ، و ينقّلون أنظارهم كمثلي.
نادَتْ على شابٍّ كانَ واقفاً إلى قربي ، و سألته الالتحاقَ بالغرفةِ رقمِ سبعة ، و آنَ تلكّأ في الحراك ، أظهرَتْ في يدِها سوطاً من العدم ، و ضربَتْ به على الأرضِ تحثُّه على الحراك.
انتقلَتْ منه إلى غيره و غيره ، حتّى وصلَتْ نداءَ فتاةٍ أعرفُها..
يا إلهي! تلك ريوجين!
صرخْتُ في داخلي ، و جعلْتُ أشاهدُ صديقتي تتحرّكُ إلى الغرفةِ التّي فُرِزَتْ إليها مطأطئةَ الرّأس ، و أنا لا أجرؤُ على تحريكِ ساكن ، أكتفي بأن أرجو لها الرّحمةَ دونَ لفظ.
في لحظةٍ مفاجئة ، نظرَتِ المرأةُ نحوي ، و نادَتْ عليّ تأمرُني بالذّهابِ إلى الغرفةِ رقمِ ثلاثة ، فأسرعْتُ التّنفيذَ لئلّا تؤذيَني.
فتحْتُ البابَ المطلوب ، و إذ بي أدخلُ غرفةً ضيّقةً ملؤها الأسرّة ، و يتوزّعُ فيها النّيامُ بشكلٍ عشوائيّ.
وقفْتُ أحدّقُ في طريقةِ توزّعِ الأسرّةِ الغريب ، أربعةُ أسرّةٍ أرضيّةٍ يفصلُ بينها حاجزٌ هوائيٌّ ضئيل ، و تعلوها بالتّوازي أربعةُ أسرّةٍ علويّة ، و على كلِّ سريرٍ نائمان أو ثلاثة.
أحسَسْتُ بغتةً بأنَّ هنالك ما يمسُّ كتفي ، فاستدرْتُ على استعجالٍ أتحقّقُ منه ، كانَتْ يدَ امرأةٍ غريبةٍ تقفُ بجوارِ الباب ، و ترتدي خماراً أسودَ يغطّي شعرَها و نصفَ وجهِها ، و يماثلُ في لونه و مظهرِه بقيّةَ ملابسِها.
قرأتُ في عينيها ما أهابَني حدّاً خُدِّرَتْ فيه أحاسيسي ، قرأتُ بالغاً من قلقٍ أو إشفاق ، واحدٍ منهما ، و في حالِ أيٍّ منهما ، فأنا إذاً على مشارفِ موتي.
وضعَتْ كفَّها الأيمنَ على وجنتي من بعدِ ما نقّلَتْها على رأسي و داعبَتْ خصلاتِ شعري ، ثمَّ و آنَ مرَّ إلى سمعنا صوتُ حركةٍ طفيفٌ أنزلتْها ، و أخذَتْ تبتعدُ عنّي

_"يحقُّ لكِ يا تيا لمسُ من تريدين ، و فعلُ ما تريدين دون التّفكيرِ في العواقب ، حتّى لو قتلتِ أو سرقتِ ، ما من أحدٍ سيحاسبكِ"

نظرَتْ في لبِّ عينيّ ، و رفعَتْ حاجبيها على استعجالٍ تدحضُ سابقَ قولِها ، و تحجزُ بفعلتِها عقلي في عينِ متاهةٍ ذهنيّةٍ لا مبصرَ فيها.
أكانَتْ تحذّرُني و تتمرّدُ على قوانينِ هذا المكان سرّاً؟ أم أنَّها تحاولُ إيهامي؟
تساءلتُ في غيرِ وعيي إلى أن اكتشفت ، أنا أضعفُ حتّى من تحديدِ رأيي كما سبقَ و قالَ تايهيون

_"اذهبي إلى السّريرِ الأوّل"

دفعَتْني أمامَها نحو السّريرِ المذكور ، فخطوتُ حيثُ أرادَتْ بعضَ الخطو ، ثمَّ عُدْتُ ألتفتُ نحوها أبحثُ عنها ، فما وجدْتُ لها أثراً.
غابَ ظلُّها و اندثرَ بشكلٍ مُرعِب ، غَيْرَ أنَّ المشاعرَ التّي خلَّفَتْها ما ولَّتْ ، و قولَها ما غابَ مطلقاً برفقتِها ، ظلَّ صداه يتردّدُ ما بين جدران الغرفةِ و وسطها حتّى بعدَما نفّذْتُ كلامها ، كما لو كنّا نخوضُ مشهدَ رعبٍ في فيلمٍ قديم.
تخيَّرْتُ طرفَ السّريرِ الأقربَ إلى البابِ مجلساً ، و رُحْتُ أتفقّدُ برويّةٍ الجالسين إليه ، كانَ من في الطّرفِ الآخرِ شابّاً عصريَّ المظهر ، تجاورُه فتاةٌ كمثله ، و من يجاورُني أنا رجلٌ في متوسّطِ عمره.
لم ينظر الشّابُّ إلى أحدِنا ، بل و غطَّ في تأمّلِ فتاةٍ أُخرى تجلسُ في السّريرِ المقابل ، و مع أنَّها ما أعطَتْه انتباهاً ، و أنَّ الفتاةَ التّي تجلسُ بجانبه ما انفكَّتْ تراقبُه و تعبّرُ بوقاحةٍ عن إعجابِها به.
و بعدَ مرورِ برهةٍ وجيزةٍ يئسَ و نظرَ إلى الفتاةِ الأُخرى ، هذا ما توقَّعتُه لأكونَ صادقة ، لكنَّ ما لم أتوقّعْه كانَ أن ينغمسَ معها في وقاحتِها دون سابقِ إنذار ، و ينظرَ إليها كمثلِ ما كانَتْ تنظرُ إليه و أكثرَ قرفاً.
و في غضونِ دقائق ، اقتربَ الاثنان من بعضِهما كحبيبين قديمين ، و راحا يلامسان بعضهما كأنَّهما اعتادا على أن يفعلا.
أشحْتُ بوجهي فوراً لئلّا أشهدَ قبلةً أو ما شابه ، فصُعِقْتُ بأنَّ كلُّ من في الغرفةِ باتَ يتبادلُ الملامساتِ ما لم يبادلِ الصّفعاتِ و الضّحكاتِ و المشاجرات ، إلّا أنا و الرّجلَ إلى قربي ، بقينا محايدين تماماً.
خالي كانَ يمنعُ عنّي الكتبَ و البرامجَ العاطفيّة ، و لم يكن يسمحُ لي بالاطّلاعِ على شيءٍ ما لم يطّلع عليه هو أوّلاً و يكتشفَ فيه الملائمَ من غيرِ الملائم ، لم يتخلَّ عن هذه الطّباعِ أبداً ، و حتّى بعدما أصبحْتُ في الثّانويّةِ و أصبحَ سوبين و بومغيو يشاهدان و يستمتعان بما يريدان ، أرى هذا سببَ خوفي في هذه اللّحظة ، فأنا لا أفهمُ شيئاً ممّا يحدثُ فيما حولي و ما تمعّنتُ فيه من قبل.
تنفّسْتُ بعمقٍ مغمضةً عينيّ ، رأيتُ في هذه العزلةِ الكذوبةِ شيئاً من الرّاحة ، بَيْدَ أنَّها ما طالَتْ ، إذ دمّرَها إحساسٌ بشيءٍ يلامسُ وجهي.
فتحتُ عينيَّ من فوري ، و إذ به الرّجلُ ذاتُه قَدِ استمالَ الانخراطَ في الأحداثِ من حولِنا ، و بدأ يمسكُ وجهي لسببٍ من الأسباب.
دفعتُ يده عنّي بسرعةٍ و ركضْتُ نحو بابِ المدخل ، وجدتُه موصداً ، فأخافَني الأمرُ أكثر ، خاصّةً آنَ اتّحدَ مع أصواتِ النّداءِ من الدّاخلِ و خيالاتِ شكلِ الرّجل.
استجمعتُ قوَّتي بعد لحظات ، و شرعْتُ أصرخُ و أضربُ على البابِ غائباً عنّي وعيي ، لا أرى سوى رغبتي في النّجاةِ من هذا المأزقِ مع كلِّ تهذيبٍ يكابدُ خالي الحفاظَ عليه

مُحِقُّ الأمنيات ~ TXTحيث تعيش القصص. اكتشف الآن