19

70 7 5
                                    

استقلَّ بومغيو سيّارةَ أُجرةٍ إلى أقصى شرقِ المدينةِ حيثُ طلبَتِ السّيّدةُ مين لقاءَه ، لم يتردَّد و لو للحظةٍ في الذّهابِ إلى هناك ، و على الرَّغمِ من أنَّ سائقَ السّيّارةِ رفضَ متابعةَ الطّريقِ معه و عرضَ عليه إعادةَ أموالِه مقابلَ أن يتركَه قبلَ العنوانِ المُحدَّدِ بخمسين متراً على الأقلّ.
وافقَ بومغيو على الشّقِّ الثّاني من الصّفقة ، و تركَ للسّائقِ الجبانِ حصّتَه من المال ، فهذا حقُّه حتّى لو كانَ لم يقم بواجبِه على أكملِ وجه ، كما أنَّ الخوفَ على حياتِه حقٌّ كذلك ، و لا يُلامُ عليه.
ترجّلَ بومغيو من السّيّارةِ و ألقى على المكانِ نظرةً ماسحةً جعلَتْه يدركُ خطورةَ ما يفعل ، لا أحدَ يقربُ هذه المنطقةَ أبداً ، و يبدو أنَّ السّيّدةَ أرادَتِ اختبارَ عزمِه ، أو إجبارَه على التّراجع.
طرقَ سائقُ السّيّارةِ على الزّجاجِ يلفتُ انتباهَه ، ثمَّ فتحَ البابَ من جهتِه و أشارَ له كي يقترب ، قطبَ بومغيو حاجبيه شبهَ منزعج ، ثمَّ دنا منه بغيةَ سماعِ ما لديه

_"لا تخاطر بنفسِكَ أيُّها الشّابُّ و عُدْ معي ، الأمرُ ليس مزحة"

_"تماماً ، ليس مزحة"

أغلقَ بومغيو بابَ السّيّارةِ و أشارَ للسّائقِ بأن يتحرّك ، فتنهّدَ الأخيرُ مستسلماً ، ثمَّ غادر.
بومغيو يعبثُ بعدّاداتِ حياتِه و يحسبُ نفسَه في رحلةٍ في مدينةِ ألعاب ، هذا ما يفكّرُ فيه السّائق ، و ليسَ كلُّه غيرَ صائب.
التقطَ بومغيو نفساً عميقاً ، سارَ من بعدِ ما حرَّرَه باتّجاهِ المكانِ المُحدَّد ، بوّابةِ مقبرةِ آلِ مين التّراثيّة.
لم يقابلْ مخلوقاً في طريقِه إلّا الفراشاتِ تتنوّعُ ألوانُها و أحجامُها ، تتراقصُ في السّماءِ و تتهادى فوقَ الأحجارِ و الأعشاب ، لم يكن عددُها بالكبير ، لكنَّها استطاعَتْ و بسهولةٍ احتلالَ المشهد ، لغرابةِ تواجُدِها ها هنا بدلاً من الغربان ، و لاضمحلالِ خشيتِها المُعتادةِ من البشرِ أمامَ بومغيو.
و على الرَّغمِ من كلِّ هذا ، لم تبلغ لا هي و لا وحشيّةُ الوحدةِ أن استجذبَتِ اهتمامَ بومغيو طوالَ الطّريق ، فجلُّ ما كانَ يفكّرُ فيه نجاةُ تيا ، و لأجلِ هذا ، كانَتْ صلواتُه وحدَها في ازديادٍ مع تعمُّقِه في الطّريق ، و دون أن يزدادَ برفقتِها شيءٌ آخر.
لاحَ له خيالٌ أسودُ من بعدِ ما لاحَتْ له البوّابة ، فأسرعَ الحذوَ نحوه حتّى بانَ له أكثر ، هذا الخيالُ هو رداءُ السّيّدةِ التّي تنتظرُه.
أشارَتْ له بأن يتوقّفَ قبل البوّابةِ ببضعةِ أمتار ، ثمَّ تحرّكَتْ بنفسِها إليه ، لم يرهبه شيءٌ في حركاتِها و على الرَّغمِ من محاولاتِها ، فهو مصرّ ، و إصرارُه لن يتوقّفَ عندَ أمورٍ تافهة ، كحياته مثلاً

_"أنتَ بومغيو؟"

_"هو"

انحنى بومغيو أمامَها يعبّرُ عن احترامِه ، فتبسّمَتْ له ، و ربّتَتْ على كتفيه تردُّه عن الانحناء ، بدَا وجهُها جامداً بالنّسبةِ إليه ، و قَدْ تقصّدَتْ إبداءه على هذا النّحو ، فهي و قبلَ أن تتأكّدَ من إصرارِه و حسنِ نيّتِه ، لن تكشفَ أمامه فخرَها بقدومِه السّريعِ و المترفّعِ عن أيِّ تردّدٍ أو خوف ، ففخرُها لوحدِه كنزٌ لا يدركُ الكثيرُ أهميّتَه ، و لا يستحقّه أيٌّ كان

مُحِقُّ الأمنيات ~ TXTحيث تعيش القصص. اكتشف الآن