الثامن عشر ، آب ، 2018
السادسـة صباحاً ..
مضى أربعـة أشهر منذُ عودة جُلّنار لبغداد و اليوم يكون بدآية أجازتها المنتظرة لمدة تقارب العشرة أيام ، وقد قررت ان تقضيها رفقـة عائلتها حيث ستتجـه لمنزل والديها يوم غد أما الآن فهي تعيش أجواءها الخاصـة متناسيـة كُل توتر وتعب .
قامت بتنظيف الشقـة ليلة الأمس و تعمدت الاستيقاظ باكراً هذا الصباح رغم إنّه ليس يوم عمل .. خرجت للقيام بجـولة جري بسيطة في الحي الذي يخلو من المارة في هذا الوقت و اتجهت للبقالة وهي عائدة بعد ساعة لتبتاع بعض التفاح و الحليب ، أنهت استحمامها و صففت شعرها -بشكل مموج- الذي تكتفي بتجفيـفِهِ عادة لكن اليوم كان لديها الوقت والمزاج لتفعل ثم شرعت نوافذ المنزل سامحة لأشعة الشمس ان تلج بكُلِّ حُريـٰة ، عقدت ربطـة صغيرة حول رأسها وارتدت مئزر المطبخ لتُباشر مخططها بأعداد فطيرة التفاح وبعض المعجنات الأخرى الملائمة لوجبـة الفطور .التاسـعة صباحاً '
رن الجرس بينما جُلّنار تُغلق الفرن فأتجهت تفتح الباب من فورها وقد كانت القادمة زينب ، تفاجئت الأخيرة أول ما فُتح الباب من مظهر صديقتها المحبب والجميل فـقد مر وقت طويل منذُ آخر مرة رأتها بطاقـة مماثلـة و بوضع الشيف وقد أكدت ظنونها الروائح التي غزت أنفها ما ان خطت داخل الشقـة وصوت الأغنية الذي يتردد بالمكان ..
- إذاً انتِ حقاً تخبـزين شيئاً ما ، يا للحنين
قالت زينب .
- اين يآمن ؟
- مع أبيـه ، لحظة لما تسألين عن يآمن أولاً وكأني فزاعـة !
أغلقت جُلّنار الباب و كتفت يديها قائلـة ؛
- ما مزاج الشجار هذا ؟ ما الخطب ؟
أجابت زينب وهي تجلس على احد كراسي طاولة الطعام :
- تشاجرتُ مع بهاء وتركتُ المنزل .
- و يآمن ؟
- لينشغل هو به ويشعر بي و لو قليلاً
- فهمت ، جئتي بوقتكِ حقاً .. لنفطر معا
- ماذا صنعتي ؟
- فطيرة التفاح وبعض الدونات مع القشدة والفستق
- أحبها مع العسل
- متوفر .. وخمرتُ شاي الشمر مع الليمون كذلك
- سأجهز المائدة إذاً ، و أعيدي تشغيل الأغنيـة هي حقاً ملائمة للجو .
عقبت زينب قبل ان تنهض مدنـدنة بكلمات الأغنية ؛
- " الحلوة دي قامت~ في البدريـة ~يا الله بنا على باب الله يَ صناعـيا~صباح الخير يَ اسطا عطيّــا .. "
- دعكِ من الأغنية الآن ، هل يعلم زوجكِ إنّكِ هنا ؟ فكما أرى انتِ لا زلتي ترتدين بجامتكِ مما يعني إنّكِ غادرتي المنزل مسـرعة
- وهل تظنينـه قلقاً عليّ ! لا عليكِ ليس وكأن هناك مكان آخر لأقصده سيعرف بطبيعة الحال .. بالمناسبة أنا انوي قضاء الليلة هنا هل لديكِ مانع ؟
- اعتراضي الوحيد هو الصغير الذي أراهن انه سيشعر بالوحدة .
نظرت زينب نحوها وقد لانت نظرتها الغاضبـة وظهرت أخرى نادمـة فأرتأت جُلّنار عدم اشعار صديقتها بالذنب وتركها لتهدأ فـغيرت الحديث قائلـة ؛
- انهضي لغسل وجهكِ وتعرفين مكان الخزانـة خذي منها ما تشائين ، أنا سأنزل قليلاً لأعطاء فطيرة التفاح الأخرى لعائـلة السيد محمود ، اعيدي تسخين الشاي ريثما أعود .
تبعت جُلّنار كلامها بتغليف الفطيرة وارتداء حجابها والمغادرة فعلاً لكن الوجهـة كانت منزل زينب وليس لعند العم محمود ، ضغطت على الجرس مطولاً ولم تمر دقائق قبل ان يُفتح الباب بقوة ، ارتسمت خيبـة الأمل بوضوح على وجه بهاء فمن الواضح إنُه ظن الطارق زينب .. ابتسم بخجل ممزوج بخيبـته وهو يُحيي جُلّنار قائلاً بعدها ؛
- هي أتت إليكِ صحيح ؟
- و ستقضي ليلتها لدي أيضاً
أردف بهاء من فوره :
- لا حق لها بهذا ، لديها منزل لتبيت فيه !
- بهاء أنا لا أطلبُ أذنك ، أنا أبلُغك بقرارها وبالطبع مساندتي له ، كيف حال يآمن ؟
- وهل فكرتْ به وهي تترك المنزل نتيجة جدال صغير لتسأل عنه الآن
تنهدت جُلّنار وهي تسلمه الطبق الذي تحمل وتقول بهدوء ؛
- أعددتها قبل قليل تناولها مع الصغير قبل ان تبرد تماماً ، زينب لم تخبرني ما حدث و كذلك لا تعرف عن قدومي لكني فكرت إنّكَ ستكون قلقاً عليها فأردتُ اعلامك يمكنك ان تحضر يآمن إلينا متى ما أردت هي قلقة عليه أنا ارى هذا لكن هذه الليلة لن تعود وهكذا أفضل ليعيد كلاكما التفكير مع نفسه ، الى اللقاء
- شكراً لتكبدكِ العناء
عادت جُلّنار بعد عدة دقائق وجلست لمائدة الأفطار رفقـة زينب التي تلذذت تماماً بفطورها وهي تقنع نفسها قبل جُلّنار ان هذا تغيير مطلوب لها وهي ليست قلقـة على صغيرها بتاتاً حتى تحدثت جُلّنار بهدوء قاطعـة عليها حديثها المشتت حول تجاربها السابقة في اعداد المعجنات والتي تفشل على الدوام .
- ليس وكأنّكِ مجبرة لتصطنعي الارتياح ، لن يغضب منكِ أحد لو قلتِ إنّكِ تفتقدين ولدكِ
- لا اعلم هل أطعمـه بهاء فطوره جيداً ، هل ألبسه ثياب ثقيلـة فالطقس بدأ يبرد ومن السهل ان يصاب الأطفال بنزلات البرد بهذه الآونـة ..
- لما لا تتصلي للأطمئنان عليه
- كلا ، ليتحمل والده مسؤوليـته قليلاً ويعرف كم الأمر متعب
- وهل لم يكن يفعل من قبل ؟
لاذت زينب بالصمت ونظرة الندم تعاودها ، ابتسمتْ جُلّنار قبل ان تعيد ملأ اكواب الشاي وتسبقها نحو أريـكة الصالة وتخاطبها بينما تخفض صوت التلفاز ؛
- جلسة أستشارة ام اعتراف ، أيهما تفضلين ؟
- ما تكلفـة الاستشارة ؟
علقت زينب وهي ترجع كرسيها للخلف وتتبع صديقتها .
- اعداد الغداء والعشاء
- اختارُ الاعتراف .
أردفت زينب وهي تقابل جُلّنار على الطرف الآخر من الأريكة ، ضحكت جُلّنار قائلة ؛
- بطبيعـة الحال سنعدُه معاً لكن دعنا من هذا الآن
- بدآيـة سيكون من الظلم القول ان بهاء لا يعتني بـيآمن بالصورة المطلوبـة حتى إنّه يتعمد تفريغ نفسه اغلب نهايات الأسبوع -مثل اليوم- ليمضي معه الوقت لكن ...
- لكن ؟
- هو يعتمد عليّ كلياً بتربيـة وتقويم سلوكيات الأخير ، شيء مثل ان اعتناءه به للمرح لا غير .. يلاعبـه يخرجُه للنزهـة يأخذه لمنزل جدتـه ، يجمع معه لعبـة صوريـة ما ، لو تركتـه معه وخرجت لن تتوقف الاتصالات على هاتفي ، كيف أطعمه ؟ هل من الصحيح ان يستحم بماء بارد ؟ اين تضعين جواربه .. إنّه يبكي منذُ ساعة اسرعي بالعودة ! لما حرارتـه مرتفعـة هكذا وانتِ لا تعلمين !- يتصرف أحياناً كما لو ان الأمر فرض وواجب عليّ و وتحنن وأحسان بالنسبـة إليه
- ألستِ تظلميـنه ..
- أنا ايضاً انسان جوجو و أصاب بالأرهاق والتعب ، ثم ليس وكأني تجاهلتُ صغيري تعمداً ، الاطفال فجأة ترتفع وتنخفض حرارتهم ليس الأمرُ بيدي !
- كُل الحق معكِ لكن هذا لا يعني إن تتهمي زوجكِ بالتقصير
- لكن هذا ما يفعله !
- لا ما اراه أنا إنّكم تتشاركون الأدوار وان لم تشعروا
- بل يُقسمها .. أنا نصيبي التربيـة وتحمل كُل القلق وعناد الصغير وهو يدللُـه ويستمتع معه !
- هو يشبع حاجة طفلكم من الاهتمام والحُب عزيزتي وبالطبع انتِ تفعلين بألمامـِكِ بكُل ما يتعلق بالصغير وأضيفي على الأمر التقويم السلوكي ، برأيي بهاء واثق تماماً من كونكِ أم حق وإلا لم يكن ليترك هذه الأمور لكِ دون نقاش ، قد يكون حريص على عدم اعتراض طريقكِ والتسبب بأرباك للطفل أما عن اكتفاءه بجانب المرح واللعب رُبما بسبب كونه يقضي مدة اقل مع يآمن مقارنةً بكِ
- لكني أحتاجـه جُلّنار ، أتفهمـينني ؟
انا في أوقات كثيرة اريده ان يكون جواري ان يخبرني " لا بأس ، كُل شيء سيكون على ما يرام ، طفلنا بأفضل حال " لا إن يدير لي ظهره قائلاً ؛" ما الذي قد يكون أهم لديكِ من طفلك "" لا تسمحي لهذا ان يحدث مجدداً "" مما انتِ متعبـة ، هل مراقبة طفل ذو عآمين هي ما يثقل كاهلكِ الآن " " أنا مغادر ، لو حدث طارىء أعلميني " وكأن لا حق لي بأستنزاف وقتـه إلا لو حدثت مصيبـة ..
- انا افهم .
أنا لا أبرر لبهاء هو مخطىء و هذا لا يقبل النقاش ، فقط أطلب منكِ ان لا تظلميه من ناحية مدى أهتمامه بطفلكما لكن مسألة استخفافه بجهودكِ وان لم يقصد هذا امر آخر بالطبع .
- انا ايضاً في حقيقـة الأمر أدرك بجزء عميق مني إنّه أب جيد وأصل المشكلة علاقتنا نحن كأبويّن رُبما ، للأسف الانسان لا يفكر بمناقشـة امور كهذه و هو مأخوذ بفكرة حياة جديدة ستُضاف لحياته رفقـة من يُحب .. أراهن إننّا فشلنا ان نتشارك بكُل شيء كما وعدنا يوماً ما .
- ليس من حقي ان احكم .. لكن الفشل مبالغـة من زاويـة نظري أنتم فقط بحاجة للحوار أكثر
- انا لم أصمت امام بهاء من قبل وانتِ تعلمين ، هو يجيد أخذ الكلام مني حتى ذاك الذي لا اعرف عن وجوده
- ماذا لو لم يعد يعرف كيف يفعل
- بهاء !
- نعم
- لتجدي شيء اكثر اقناعاً
- لا داعي للدهشـة فأنت لم تعودي زينب احدى زوار العيادة منذُ أكثر من خمس سنوات مضت لو كنتُ اتذكر بصورة صحيحة
- ألا يفهم الزوج زوجتـه -أو شريكتـه- أفضل من صديقتها المفضلة حتى
- برأيكِ ؟ هذا كلام جرائد منمق فقط عزيزتي .
- معكِ حق وإلا لما سأكون جالسـة احتسي شاي الاعشاب الغريب هذا برفقـتـكِ الآن
- لن اسمح لكِ بالاساءة للشآي يا بنت مؤيد !
- عدوى سمر تنتشر ، إنّه مُر !
- حقاً هل استقرت الحمقاء على فستان زفاف أم لا زالت حتى الآن تبحث ؟
- آخر مرة أرسلتِ لي صور واحد ذو اكمام من الريش
- انتِ متأخرة .. تركت الريش والآن تختار بين ان يكون مغطى بطبقة الشيفون او ان يكون بلا اكمام تماماً !
- ليسهل لها الرب .. حماسُ البدآيات مخيف
- بل لـيُصبرْ علي على جنونها
- ماذا تخططين ان تفعلي هذه الأجازة ؟
- سأعود للمنزل
- و ماذا عني ؟
- لم افهم
- أنا ماذا سأفعل مع بهاء ..
- اتفقنا انها ليست جلسـة استشارة اذا كنتي تذكرين، اعثري على الجواب بنفسكِ .. لكن بالطبع يمكنكِ البقاء هنا بقدر ما تريدين .
- وسفرُكِ ؟
- لا يضر لو أجلت امر العودة يوم او يومين مع انّي اشُك إنّكِ ستتحملين كُل هذه المدة بعيداً عنهما .
لاذت زينب بالصمت مجدداً وتفهمت جُلّنار هذا ، تركتها لأفكارها ونهضت توضب المائدة قبل ان تلتفت لأداء بقيـة أنشطتها الصباحيـة .
أنت تقرأ
غـِـمَار
Randomيقطع عثمان الصمت الذي طال بينهما وهو يسألها - هل كان جرحـهُ أكبر من عفوكِ ؟ تبتسم بمرارة مُردفة : " لم يكن جرحاً ، بل كان اليد التي ضمدت ذاكرتي المعطوبة وكنتُ الخنجر الذي تراجع عن طعنه لكن بعد إن عكستهُ المرآة " . . . لم يبدؤوا يوماً لنسأل كيف انت...