25 ، ايار ، 2012
الحادية عشرة وثلاث دقائق ..
إنّها المرة الثالثة التي تحذف بها جولنار سطورها وتقلب الصفحة ، فهي للمرة الأولى لا تُجيد الحديث ولا تعرف سبيل لبدء ما تريد التعبير عنه ، عن فترة قلبت كيانها رأساً على عقب !
تتنهد وهي تطالع الصفحة البيضاء امامها تحثها على البدء مرة أُخرى لتمعن النظر فيها مفكرة ، نعم هي اليوم تشعر بنفسها كهذه الصفحة بيضاء ومستعدة للخوض في قصص جديدة ومُتصالحة مع كُلِّ ما مضى .. إذاً لما لا تتحدث عن جولنار قديماً بحيادية ! وكأنّها راوية غير مرئية في زوايا مشهد سينمائي ، ينطلق القلم وكأن روحها تتحكم به لا جهازها العصبي .
" لقد وددتُ لو رتبت حروفي هذه في مفكرة قديمة ، في صفحات تعود لسنين قديمة لأقنع نفسي بإنّ فترة كهذه مضت وانقضت بكُلّ ما فيها لكني اخترت سردها كـ أول صفحة في مفكرة جديدة آخر الأمر، لأننا ندرك إن النهايات ما هي إلّا بدايات لحياة جديدة لذا دعوني احدثكم عن ما خلق بدايتي اليوم ..
المـُمسكة بالقلم جُلَّنارالأحمدي ، و اعتادت أ ُمي على مناداتي جُمَّار - على حد قولها " جُمَّار القلب " - وهو اسهل نطقاً بالطبع ، هما الاثنين هويتي .. أتممتُ الاثنين وعشرين عاماً .
لم تكن سنوات تمضي فقط بل كانت مراحل أجرُ انفاسي بعدها متخيلة إن القادم أكثر تعاطف معي او هذا ما كُنت ادعو إن يكون عليه الحال ، لستُ معترضة بالعكس انا مُمتنة واكثرُ الحمّد لأنني
تمكنت في عمر قليل من خوض الكثير ومعرفة ماذا يعني حياة وحين نأتي على ذكر الحياة لابّد إن يحضر الصبر فالحياة لا تحتاج منّا شيئًا كـحاجتنا للصبر معها وعليها .
لكننا بشر بالنهاية وصبرنا يصل يوماً ما الى نهاية او على الاقل لا يكون كافياً - على قدر ما اُستنزف- لنواصل الحياة ، أنا واصلتُ التحمل والصبر وآمنتُ إن حياتي ستواصل على ما هي عليه ما دمتُ متصالحة مع كُل ما جعلني هذه الذات اليوم ، لكن الانسان أحياناً يتجاهل كونه انسان ويتجاهل الضعف الكامن فيه والذي يدفعه لخداع نفسه بمبررات وافكار تكاد تكون غير موجودة ، وفجأة يتعرى أمام هذا الضعف من كُلّ مبرراته وقوته المكتسبة ، يسقط في تيه روحي غير معروف السبب ، ببساطة لأن الاسباب كثيرة !
وسقطت .
سقطت وسقطت وسقطت لمدة شهرين ونصف وانا اواصل السقوط داخل اعماقي دون فهم ودون شعور لدرجة إنّي لم افعل شيء سوى انتظار الارتطام والذي حدث يوم أمس أخيراً .
24/ شباطـ ، 2012
كنتُ يومها فرحة لأنّي انهيت امتحاناتي المختبرية بنجاح وعدنا انا والفتيات للمنزل وباشرنا اعداد الغداء ، قررنا اعداد وليمة احتفالاً بتخلصنا من الامتحانات بعد فترة مليئة بالضغوط والدراسة
الساعة تقارب الثانية والنصف ظهراً ولازلتُ لم اغير ثيابي حتى واسرد لزينب ما حدث اثناء الاختبار وانا اجهز السلطة وكيف ان طالب حاول الغش من صديقه لكن الاخير اعطاه اجابة خاطئة ولاحظهم الاستاذ المشرف وصوت ضحكنا يملأ المطبخ ، لم اكن ادرك وقتها إن ضحكتي هذه ستجلب خبر يقلب حياتي هكذا نحن محدودون حياتنا من الممكن إن تتبدل بين لحظة وأختها لكننا نتجاهل حقيقة كهذه ونخطط لمستقبل ونتخذ قرارات حياة كاملة متغافلين عن حقيقة إن حياتنا ليست بكفنا نحن والامور يمكن ان تنقلب للنقيض او للمجهول في ثانية واحدة ، في رمشة عين ، في لحظة .. بالنسبة لي كانت في مكالمة .
رن هاتفي وكان اسم أُختي يزين الشاشة ، استقبلت المكالمة على مكبر الصوت وانا اتابع تقطيع الخضار
- اهلاً هبة ، اتصلتِ بوقت مثالي انهيتُ اختباراتي اخيراً ورغم كُل التعب وقلة نومي الا اني اشعر بنشاط رهيب الان رُبما من اثر الفرح . كيف حالكِ
- ............
- هبة هل انتِ معي ؟ أتسمعينني ؟
لا زالت هبة صامتة نظرت للهاتف لأتأكد ان الخط لم يُقطع ، لا زالت المكالمة جارية رُبما من مكبر الصوت ، مددتُ يدي لأطفاء السماعة ورفع الهاتف
- لقد توفى والدي اليوم ، وسيُدفن فجرغدٍ .. رُبمّا تودين رؤيته قبلها .
لا زال اصبعي متسمراً قرب شاشة الهاتف ، سقط السكين على ارضية المطبخ محدثاً صوت وحيد أخلّ بالصمت المطبق لحظة ماذا تقول هبة ؟ لما انا لا استطيع تفسير هذه الجملة ؟ انها تحدثني إلا يفترض بي قول شيء ، أودّ رؤية من ؟ لحظة .. متى وضعت لُمى يدها على كتفيّ ، سمر تُمعن النظر بوجهي وزينب تذرف دموعها صامتة ، آه لقد مات نعم هذا ما قالته هبة هو مات !
- حسناً .
كانت الكلمة الوحيدة التي نطقتها واغلقت المكالمة خمس دقائق انظر للفراغ امامي والفتيات تُحطن بي ثم وكأنّ سلكي المفصول أ ُعيد وصله فجأة ، تحركت نحو غرفتي والفتيات تتبعنني ، اخرجت حقيبة صغيرة وفتحت خزانتي جمعت منها كل قطعة سوداء وقعت عيني عليها ومن ثم ارتديتُ حجابي دون القاء نظرة على ما ارتدي حتى واخذت حقيبة يدي وغادرت الغرفة انوي مغادرة الشقة وسط استغراب زينب وصراخ سمر إن انتظر ! وماذا افعل !
- لن تخرجين وانتِ بهذا الشكل ، اجلسي لتهدئي وريثما نطلب سائق يقلكِ حتى المنزل .
كانت زينب واقفة امام باب الشقة تمنعني من المُغادرة بينما انا كنت قد تبلدت وغلفني البرود وكأن الخبر دلو ماء بارد سكب عليّ ، لم تثنني دموع زينب المنسابة عن المغادرة لذا دفعتها من على الباب وانا اقول ببرود
- ليس لي طاقة بالنصائح الان ولا مراعاة قلق احد ، وانا هادئة ابتعدي .
- جُلّنار انتظر...
غاب عني صوت سمر وانا اغلق الباب ورائي ، لم انتبه وقتها لغياب لُمى ولم انتبه لخروجها خلفي لم انتبه حتى رأيتها جنبي على الرصيف تمد يدها توقف سيارة الأُجرة وهي مُتشحة بالاسود ، وددتُ الاعتراض على قدومها معي لكنها امسكت حقيبتي واشارت لي بالركوب دون النظر لوجهي فهمت من هذا إنّها لن تُصغي إلي كما لم أُصغي انا لهن .
غادرنا سيارة الاجرة نحو موقف الحافلات ومن هناك حجزت لنا لُمى مقعدين في اول سيارة متجهة للجنوب ، وصلنا بعد قُرابة الثلاث ساعات واصرت لُمى على مرافقتي حتى المنزل دون الذهاب لمنزلهم .
عند وصولنا لمنزلي كانت الشمس قد غادرت الأفق وباب المنزل الخارجي كان مشرعاً ويبدو إن من عرفوا قد بدئوا بالحضور ، عند حديقة المنزل رأيتُ ياسر وهو يخرج مودعاً احد اصدقاء والدي ، عانقني فور رؤيتي وهو يمسح على رأسي واكتفيتُ انا بالتربيت على ظهره فرُبمّا هو اكثرنا حزناً الان . رحب بلُمى بصوت ملأه التعب ورأيتُ في عينيه حيرة آلمتني ، معه حق! فهو الآن يحمل مسؤولية اسرة بشكل او بآخر مسؤولية لم يطالبه بها احد مسبقاً .
دلفتُ ولُمى للداخل لتعانقني خالتي معزية واتت هبة على اثر صوتي عانقتني هي الاخرى وكلتانا لم تجد ما تقول حتى عانقتها لُمى معزية ،
- متى حدث الأمر ؟
- العاشرة صباحاً ، لم يستيقظ عندما حاولوا ايقاظه .
- واين هو الان ؟
- في غرفة الاستقبال حيث عمي كمال وياسر
- أنا ذاهبة لرؤيته .
- أانتِ متأكدة ؟
سألتني هبة بصوت بارد بينما تطالعني لُمى بهدوء تبحث عن تعبير ما بوجهي .
- اشعر إنّي بحاجة لهذا .
توجهت حيث الاستقبال فكرت بطرق الباب لكني عدلت عن الأمر حينما تراود الى ذهني إنّ ياسر قد يمنعني الدخول ، فتحت الباب ليقف كُل من في الحجرة عند رؤيتي ، كان هناك عدد من وجوه الاقارب التي لم اميزها حاول عمي منعي الدخول لكن ياسر حين رآني احدق بالجسد القابع خلفه دون رؤية اي شيء اخر طلب منهم المغادرة ، انا الان وحدي والرجل الذي كان يوماً ما أبي أمّ عليّ القول جسد أبي . نظرتُ له في وسط الكفن عجباً يبدو مسالماً ، مطمئناً ، بسيطاً يبدو كالموتى !
فـ مهما اختلفت الشخوص والمسميات بين الناس أثناء حياتهم
الّا انهم جميعاً يتشابهون عند نقطة معينة وهي الموت ، الموت حقاً عادل فهو يرسم ملامح الجميع بذات الفُرشاة وذات الالوان التي يزيدها الكفن وضوحاً للأحياء وكأنه يتعمد ترسيخ صورة هذه النهاية المشتركة في اذهاننا.
يا تُرى هل كان يعلم إن ساعتهُ اتت ؟ هل فرح لهذا القدوم ، هل اراد رؤيتي واخوتي قبل إن يغمض عينيه كـكُلّ أب طبيعي أم تمسك بأنانيتهِ حتى النهاية وتحمل الموت وحيداً ؟ هل شعر بالانكسار لأن رغبة رؤيتنا لم تتحقق ؟؟
وعند هذه النقطة لم احتمل وانسابت دموعي ، أهو الندم ام فقط انا مشفقة عليه كأي شخص لا اعرفه لأنّه مات وحيداً خائفاً دون احد يمسك يده ويبتسم بوجهه ويدعو له بالمغفرة ، أم في مكانٍ ما في اعماقي لا زلت اراه ابي !
لا زلتُ غير مستوعبة ورؤيته زادت حيرتي لما انا الان متعاطفة معه ! هل لأنه صامت ، اين ذهب لسانه الذي يؤلم اشد من لدغ الافعى ، اين ذلك الجبروت ، اين تلك الانانية البشعة ! أيجب عليّ الان إن اغفر لك كُل تلك الدموع التي جعلتني اذرُفها حتى جفت وفقدت قدرة البكاء أم اعفو لك كسرة خاطري وقلبي الذي كان يُسحق مراراً تحت وطأة قسوة انانيتك ، هل المغفرة تُنسيني ؟ هل تجعلني اتذكرك بصورة الأب الذي يكون بطل كُل ابنة ؟
تزيدُ حدة دموعي مع كُل فكرة شعور الذنب يتملكني دون إن افهم السبب ، يقيناً رغم كُلّ مساوئه لم اكن له يوماً جاحدة لكني نعم لم اضعه موضع الأب في حياتي لم اكنّ له هذا الحُبّ الذي يفترض إن يكون او هذا ما كنت اعتقده ،
لكني اُفاجىء الان بإنّ الطفلة التي انتزعها مني يوماً ما تعود وتشعر بالخوف من رحيله . نعم هو ذهب ورُبمّا رحيله أفضل واكثر راحة لكن هل هذا ما اردته انا ؟ إن اعيش دون أب أم إن يعود لي أب ؟
سؤال لم يعد الان جوابه مهماً .
جففت دموعي ونهضت اثر دخول عمي الذي قال جملة اعادتني نحو واقعي " ادعي له بالرحمة ، فقد اصبح بين يدي بارئه " .
بقيت لُمى معي تلك الليلة وفي اليوم التالي نُصب العزاء وامتلأ البيت بالمُعزيين كنت اتوسط أمي وهبة ، كانت أمي تذرف دموعها صامتة وهي تسبح ، لم استغرب ردة فعلها رُبمّا لا زالت تحبّه في ركن ما من قلبها او رُبما تبكي عمرها او ببساطة حزينة فمهما ادعت كرهها له نست إن الكره لا يأتي الا من بعد اهتمام بالغ ولأنها اضعف من إن تمحوه من حياتها .
كانت زينب وسمر قد حضرن في اليوم الثاني للعزاء وبقين معي حتى انتهاء العزاء رغم إني لم اكن اظهر اي علامة على الحزن غير ثيابي سوداء اللون وقد غلفني برود لم اعرف له سبب.
بعد اسبوع اغلقت ابواب المنزل اخيراً وخلى المنزل من المعزيين
عادت الفتيات نحو بغداد فقد بدأت الامتحانات النصفية ، كما عاد ياسر وهبة لعملهم أما انا فقد بقيت حيث أنا منذ وقت وصلني الخبر ، نفس البرود نفس العقل المليء بالاسئلة ، نفس العيون التي ترفض اهدار دمعة واحدة ، انا ادرك إنّي لستُ حزينة على رحيله .. وحتى لو كنت مصدومة فحان الوقت لأتجاوز فهذه سُنة الحياة والموت هو الحقيقة فيها .
لكني كنت تائهة واشعر بحزن يخنق انفاسي ويكاد يبتلُعني ، اجلت امتحاناتي النصفية ولم اغادر المنزل منذ دخولي اليه قبل اسبوع ولم اتحدث مع احد من اهلي اكثر من رد التحية عند رؤيتي لهم ، أُمي عادت تمارس حياتها الطبيعية وحاولت اكثر من مرة مواساتي لظنها إني حزينة لكنها تخلت عن ذلك لأني لم اكن اصغي لما تقول ولم اكن احبذ مغادرة غرفتي ، كان شيء اشبه بالاكتئاب.
عند نقطة ما وجدت اني يجب علي الخروج من دوامة التيه والافكار هذه ورُبما الهروب ، كان الفصل الدراسي الجديد قد بدأ عدتُ نحو بغداد لم يختلف الوضع عما كان عليه ، غير إنّي هذه المرة تهربت من كُل ما يُحيط بي حتى وجباتي مع الفتيات بالدراسة كنتُ اهرب من شعوري بالتيه من جهة ومن احساسي بالفشل لتأجيل امتحاناتي من جهة أُخرى ، لا استطيع النوم بصورة منتظمة لذا كنتُ اطيل السهر واقضيه منهمكة بالقراءة ، غادرت لُمى الغرفة التي نتشاركها لتعطيني مساحة خاصة اكثر بعدما يئست هي وسمر وزينب من محاولة الحديث معي او اخراجي من عُزلتي ومساعدتي ، تجنبت الحديث والجلوس معهن لأني لم يكن لدي رغبة بالحديث فأنا لا اعرف ما بي وبالوقت نفسه نظرات الخوف عليّ بأعينهم تخنقني
، عشتُ كشبح بلا روح كـ آلة مُبرمجة رُبما ، انام ساعتين او اربع ، اذهب للجامعة وحدي واقضي استراحاتي وحدي ، استقبل تعزية زملائي وارد عليهم بطبيعية ، اعود لغرفتي واغرق نفسي بالكُتب لا اخرج منها الا للضرورة . مضى اكثر من شهرين على هذه الحال حتى اعتادت الفتيات الأمر واستسلمن له وانا لم تكن لدي ادنى نية بتغيير هذا .
24، ايار ، 2012
السابعة مساءاً ..
كنت اتصفح موقع ما على اللابتوب حين طرقت لُمى الباب وفتحته بعد وهلة مُبتسمة :
- ما الأخبار ؟
منحتها نظرة وعدت للشاشة امامي لتتابع
- ألم تملي من البيت ، مضى وقت طويل وانتِ لا تغادرينه سوى عند الذهاب للجامعة .
- ليس لدي ما افعله خارجاً .
- ما رأيكِ بالذهاب للسينما ، و سمر تقول إن هناك مطعم جديد رائع سنتناول العشاء به بعدها .
- لا طاقة لي اذهبوا انتم .
- والفلم ؟ It's The hunger games لقد كنتِ متشوقة لرؤيته .
- لم اعد مهتمة .
تُصاب لُمى بخيبة امل انها محاولة جديدة فاشلة فحتى فكرة الخروج لأجلهن لم تنجح، تغلق الباب مغادرة بينما اشعر فجأة بالعطش بعد لحظات اتجه للمطبخ وعند عودتي يصلني نقاش الفتيات حول الغاء مشوار السينما لكي لا ابقى وحدي بالمنزل بيننا تقترح زينب على لُمى وسمر الذهاب وان تبقى هي فبكُلّ الاحوال هي ليست مهتمة بالفلم وستعد العشاء من اجلي وهي هنا .
- وهل انا طفلة تخشون تركها لوحدها حتى لا تُختطف ؟!
تلتفت الفتيات على جملتي المتهكمة تردف زينب
- بالطبع لا لكن ربمّا احتجتي شيئاً ما
- أحقاً ؟ مثل ماذا لن استطيع ادارة عين الموقد أمّ ان طولي لن يكفي لأبلغ سلة الصحون .
- كفي عن الاستهزاء
- بل كفوا انتم عن الهُراء
- نحن نعلم انكِ تستطيعين تدبر امرك لكن فقط انتِ لستِ على ما يرام لذا من الافضل عدم بقاءكِ وحيدة وان كنتي تحبسين نفسكِ في غرفتك .
تستفزني عبارة سمر لأصرخ بهن
- كفوا عن معاملتي وكأني قد انتحر في اي لحظة ، لم افقد عقلي بعد !!
- تنتحرين ؟ وهل تحسبين نفسكِ حية بما تفعليه بنفسكِ طوال الفترة الماضية .
نحن لا نخشى انتحارك بل نترقب انهياركِ بأي لحظة ، لأنكِ منذُ شهرين تواصلين الجري ولا نعلم متى ستصطدمين بخط النهاية ، وعندها لا نُريد إن تمدي يدك ولا تجدي من يأخذ بها !
لا تصدمني كلمات لُمى فـ بشكل او بآخر انا مدركة لهذا في قرارةِ نفسي لكني لا اجدُ حلاً اخر لأسكات عقلي ،
- ستغادرن ثلاثتكن ، وهذا اخر ما لدي الا اذا كنتم تودون ان لا اتحدث معكم اطلاقاً من الان فصاعداً .
- لكن ....
- واحضروا لي وجبة عند عودتكم ايضاً .
عدتُ نحو غرفتي ولم اغادرها حتى سمعتهم يغادرون ، رأسي يؤلمني ومللتُ القراءة وبالطبع لا استطيع النوم لذا فكرت بفعل شيء اخر اشغل به نفسي فحقاً الفراغ عدوي كما تخشى الفتيات ، تطلعت بالغرفة من حولي حسناً لا ضيّر من قلبها رأساً على عقب فأنا لم انظفها منذُ شهر وهذا واضح من كمية الاشياء المبعثرة ، بدئتُ بإعادة ترتيب الكتب في المكتبة من ثم منضدة القراءة وغيرت اغطية الاسرة فتحت النافذة ليتغير هواء الغُرفة واخيراً الخزانة الجزء الاكثر بعثرة افرغت جميع ما تحتويه على ارضية الغرفة وجلست وسطه اعيد ترتيب الملابس وفصلها عن بعضها البعض من بين ما أُخرج من الخزانة كان هناك دفتر ملاحظات صغير قد سقط من احد الادراج وقع بين يدي واني اسحب قطعة ثياب من فوقه ، امعنتُ النظر فيه ألا زلتُ محتفظة به لقد نسيته تماماً لقد كان هدية من والدي عندما اتقنتُ الكتابة في الصف الرابع ابتدائي بينما اقلبه بين يدي سقطت منه صورة ولم تكن اي صورة كانت صورة لي معه وانا اختبىء خلفه خائفة من كلب يُربيه عمي كمال وهو يضحك كان عمري في هذه الصورة ست سنوات وكنت اخشى الكلاب وقتها ، التقطت الصورة في احد الاعياد عندها كُنا بزيارة لبيت عمي كمال الذي يمتلك كلباً فهو مولع بالكلاب ، ووقتها كنت العب مع ياسر واحمد -ابن عمي كمال- وحينما هم الكلب بالاقتراب مني هربتُ فزعة نحو أبي والتقطت زوجة عمي الصورة مصادفةً وحصلت عليها انا فيما بعد ، انهمرت دموعي وانا اتمعن بالصورة مات كلب العم كمال حينما بلغتُ الثانية عشر ومات أبي دون إن يعلم إنّي لم اعدّ اخاف الكلاب كما لم يعلم بالكثير من الاشياء عني !
استمرت دموعي تنهمر وانا اتذكر فجأة وبدون مقدمات كُل ذكرى جمعتني بأبي لكن ليس ذكرى قسوته ليس ذكرى تخليّ عنه بل ذكريات طفلة كان لها أب والان فقدته ! فجأة وجدت نفسي تلك الطفلة التي جُردت من حبها لأبيها يوماً ما منه هو ذاته الطفلة التي تشعر بوحشة قاتلة وهي تتذكره الان ، لحظات خوفه عليها ، لحظات فرحته وفخره بها
عدتُ جُلّنار الطفلة التي لا تفقه غير إن الأب حماية والأُم حنيـّة جُلّنار التي لم تفقد طفولتها بعد بين انانية الأب وتعب الأُم وقسوة الشعور بين الاثنين !
بكيت وبكيت وبكيت يومها لم يكن بكاءً قدر ما كان ذوبان وتطهير روح من كُل ما اثقلها ، بكيت الطفلة الفاقدة وبكيت الشابة القوية وبكيت الذكريات الثمينة وبكيت المسامحة التي لابّد من اعطائها ، بعد ساعتين كانت قد خارت قواي ، رتبت ما تبقى من ثياب واعدتها للخزانة اما الدفتر قررتُ رميه ، نعم فلا حاجة لي به ولا بذكرى إن ابي توقف عن الانتباه لي بعد عمر العاشرة والصورة ادخلتها اطار ووضعتها اعلى المكتبة .
وللمرة الأولى حين اطفئت ضوء الغرفة انتابني النُعاس
وكأن لُمى احست بما سيحدث حين اخبرتني ان خط انهياري قريب لكنها لم تخبرني ان انهياري سيمنحني النوم مرةً أُخرى !.
هكذا هو القدر يُفرض نفسه علينا في اكثر وقت لا نتوقعه ، قد يبدو ظُلماً لنا رغم إنّه رحمة وقد يبدو ابتلاء َ لقوة صبرنا رغم إنّه تكفير عن تقصير ما لنا ، قد تتغير زاوية النظر للأمور وقد يتغير الانسان لكن القدر لا يفارق الانسان حتى يسلمه كُل ما له عنده !
رُبّما كانت الحكمة من قدري ها هُنا رغم عذابي هو إن اغفر لأبي تقصيره ، وإنّ اتخفف من عبإ حمل الماضي على كتفي .
لأنّي اليوم اشعرُ إن لدي جناحين وانا مستعدة للخوض في حياة جديدة ما دمتُ املك قلب قادر على المسامحة .
المسامحة لا تُمنح للغير قدر منحها لأنفسنا فالإنسان القادر على العفو انسان قوي لأنه دائماً يملك خيار البدء من جديد ولأن شغله الشاغل نفسه لا اخطاء غيره في حقه . "الثانية عشرة وخمس دقائق ..
تغلق جولنار مفكرتها مبتسمة وهي تشعر الان انها حقاً باتت بخير وتستطيع الاقبال على الحياة بكُل طاقتها كما اعتادت ان تكون حيوية ، فاتنة ، ذكية ومحبة للناس وللحياة .
تنتبه للوقت لتعلم انه لابّد من العودة لتلحق اعداد الغداء للفتيات .
________________
أنت تقرأ
غـِـمَار
Diversosيقطع عثمان الصمت الذي طال بينهما وهو يسألها - هل كان جرحـهُ أكبر من عفوكِ ؟ تبتسم بمرارة مُردفة : " لم يكن جرحاً ، بل كان اليد التي ضمدت ذاكرتي المعطوبة وكنتُ الخنجر الذي تراجع عن طعنه لكن بعد إن عكستهُ المرآة " . . . لم يبدؤوا يوماً لنسأل كيف انت...