الثالث عشر ، آيار ، 2016
الثالثـــة مساءاً ..أنهت جُلّنار ساعات مناوبتها منذُ نصف ساعة وغادرت المستشفى ، وصلت للمنزل مزامنة مع عودة هبـة من عملها لتلتقي الاثنان عند باب المنزل، تذمرت جُلّنار من صعوبة العمل مع مشرفها الجديد وقد بدأت هذا الأسبوع العمل في قسم الطب الباطني بعد ان كانت في قسم الامراض النسائية الأشهر الماضيـة وقد عُيّنَت بالمشفى الرئيسي للمدينة بدآية العام الحالي ، قطع على جُلّنار وصلة تذمرها اهتزاز هاتفها معلناً عن وصول رسالة اخرجته من جيب معطفها الابيض لتتغير ملامح وجهها فور رؤية هوية المرسل ، لاحظت هبة ذلك لتسأل بهدوء ؛
- أهي رسالة جديدة منه ؟
- نعم .
تُجيب جُلّنار متنهدة وهي تعاود اغلاق الهاتف وتقول محاولة تجاهل فضولها لما تحتويه الرسالة هذه المرة ؛
- انا جائعة !
- انا ايضاً ، هيا غيري ثيابكِ و لنسخن الغداء .. أمي طلبت ان لا نوقظها .
- حسناً
تتجه جُلّنار لغرفتها وكذلك هبـة التي تفكر بإنّ على ليث ان يتوقف بالفعل عن هذا ، فإن كان قصده إيلام جُلّنار وجعلها تشعر بالذنب لطلبها منه ان يبقوا أصدقاء فهو بالفعل بدأ ينجح في هذا ! فأختها تزداد عذاباً يوماً بعد يوم ، هو لا يهبـها مساحة لنسيانه برسائله المستمرة والمقلقة هذه .
بعد دقائق نزلت الاثنتان نحو المطبخ و سخنتا الطعام ، رن هاتف جُلّنار منتشلاً إياها من شرودها ، وضعت الطبق من يدها والتقطت الهاتف مجيبـة لُمى التي قالت من فورها ؛- ماذا لديكم على الغداء ؟
ضحكت جُلّنار وقد فتحت مكبر الصوت قائلة ؛
- هل وضعتي لدينا كاميرا تجسس او شيء كهذا
- انتِ لستِ بالعمل صحيح ؟
- ألا تلاحظين ان ترتيبك للأسئلة غريب .. انا بالمنزل ونحن نسخن الغداء الآن
- حسناً انا بحاجة لمغادرة المنزل حاليا أو سأخوض مشاجرة لا اعلم كيف تنتهي ، أخبريني ما غدائكم لأعرف هل آتي مباشرة ام اتوجه لمطعم ما أولاً
هتفت هبـة التي تستمع للحديث بينما تسلم جُلّنار الأطباق الممتلئة وتنقلها الاخيرة حتى المائدة ؛-
إنّه طاجن باميـة باللحم أضافة الى رز مدخن .. هيا لا تتأخري فـتسخينه مرة أخرى متعب .
- أتمزحون ، خمس دقائق وأكون لديكم !
أغلقت جُلـّنار الهاتف ونهضت تضع طبق آخر على المائدة لأجل صديقتها بينما توجهت هبـة لأداء صلاة العصر ريثما تصل لُمى والتي لم تتأخر كثيراً ، رن جرس المنزل بعد ربع ساعـة فنهضتْ جُلّنار لفتح الباب المنزل ودلفت لُمى قائلـة بعد الانتهاء من عناق جُلنار :
- أعلم ان السؤال الآن متأخر لكني أدركت الأمر عندما وصلت عندكم ....
- ماذا ؟
- هل أخويكِ بالمنزل ؟
- إنّه يوم سعدكِ عزيزتي ... ياسر وأحمد وكمال ايضاً يشربون الشاي بالصآلة .
- أنا مغادرة .
قالت لُمى وهي تلتف مبتعدة عن الباب الداخلي نحو الحديقة ، ضحكت جُلّنار بتعب وسحبتها من ياقـة قميصها معقبة ؛
- تعالي .. انا امزح لا أحد سواي وهبـة ، ياسر يتناول غداءه بالشركة و لا يعود حتى المساء وأمي نائمة .
- جيد .
- أهلاً بالهاربـة .. هيا أدخلي .
رحبت بها هبـة وهي تجلسهم للمائدة فردت الأخيرة بينما تتحرر من حجابها ساخرة :
- تعنين المشـردة .. فأي عاقل سيغادر منزله بمنتصف حر الظهيرة هكذا .
أردفتْ هبة بتفهم لسوء مزاج لُمى التي من الواضح إن هناك مشاكل مع عائلتها ..
- أعتبري انها كانت عزيمة غداء منذُ البداية ولا تشغلي بالكِ بالتفاصيل .
- يا للرائحـة الزكية سلمت أيديكم مقدماً
- بالهناء والشفاء
عّم الصمت لمطبخ لبرهـة إلا من صوت الملاعق وحينما توقفت جُلّنار عن تناول طعامها وشردت تقلب الطعام في صحنها قالت لُمى ؛
- من غير اللائق ان تشعريني إني الشرهة هنا ..
وافقت هبة لُمى القول ؛
- وهي التي كانت تصرخ من الجوع منذُ عودتها
- عن ماذا تتحدثون ؟
- انا اقول ان طعام الخالة يفتح الشهيـة من شدة لذته فما بالُـكِ لم تمسي شيئاً يُذكر من الطبق ، كم مرة عليّ أخبارك ان المعدة تأتي في المقام الأول وكل شيء آخر بأمكانه الانتظار مثال أنا ! لم اتوانى عن تناول غدائي حتى في عز استيائي
- انا فخورة بكِ عزيزتي
علقت هبـة مجددا فتنهدت جُلّنار بتعب وقالت منهية سلسلة الدراما خاصتهم :
- كفاكم تهكم ،سأنهي طبقي يكفي ان لا تصدعوا رأسي
- على ذكر الصداع ما أخبار قسم الباطنية ؟
- الجحيم بحد ذاتـه كحاله على الدوام ، ليس من ناحيـة المرضى وكثرة الحالات بل من مدى تدقيق الاستشاريين فيه وتعليقهم على توافه الأمور قبل المهمة منها ! جعلوني اشعر كما لو إنّي لا زلتُ طالبـة في سنتها الثالثة رغم اني لم ارتكب اي خطأ وبالطبع هناك أرهاق ان تكون على اعصابك على الدوام ولا اعرف أحداً من المقيمين الجُدد -مثلي- حقاً لأستعين به فكُل الحالات تتطلب مراقبة على مدار الساعة عكس قسم النسائية والتوليد الذي يملأه الضجيج على الدوام لكن دون خطورة على المحك قد تُفقدنا المريض.
- يا للروعـة .. و كم شهر يجب ان تمضي فيه ؟
- اذا لم تحصل معوقات.. ثلاثـة أشهر
- ليكن الربّ في معونتك .
- بالمناسبـة أيمكنني البقاء حتى المساء أم لديكِ خطط أخرى ؟
- ألم نكبر على هذا السؤال برأيكِ ؟ فلتخجلي من نفسكِ
- ما أدراني .. مضى مدة على تسكُعِـنا معاً
- لا تقلقي لدي خطط رائعة للمساء سأضُمكِ لها !
لُمى بأستغراب ؛
- حقاً ؟ وما هي ؟
- النوم ... وهل هناك خطة اجمل من النوم بعد خفارة وعمل لـ ١٢ ساعة ! وعند استيقاظي سأمّد قدماي واشاهد فلماً مستمتعة بوقت الفراغ ، إنّه النعيم !
- اذا كان هكذا فمعكِ حق ..
أنتهوا جميعاً من تناول الغداء فنهضت هبـة تُعد الشاي ورفعت جُلّنار الصحون مباشرة بعدها تغسلُـهم رفقة لُمى و مولية هبـة ظهرها فقالت الأخيرة بهدوء ؛
- ألّا تفكرين بفعل شيء ما لأيقافه ؟
- لم افهم ؟
- اقصد لما لا تضعين حد للرسائل التي يبعث بها ليث إليكِ ، ما فيكِ يكفيك بالفعل ! ولستِ مضطرة لتحمل تصرفاته اللامنطقية هذه ، لقد مضت ثمانية أشهر !
- ألم يتوقف عن فعل هذا حتى الآن ؟!
تتوقف يدا جُلّنار لبرهة عن غسل الصحن بين يديها وهي تحدق بالفراغ لكنها تتابع بعدها غسل الصحن و تجيب أختها ولـُمى بهدوء ؛
- انا من طلبت منه ان نبقى أصدقاء .
- لكنه لا يتصرف على هذا الاساس ، بل يتعمد ان يشعركِ بالذنب لأجل طلبكِ هذا !
أردفت هبة .
- انه غاضب فقط هبة والأهم مخذول ، بصراحـة انا اتفهم ما يفعله وان كان مؤذياً لي لكن لا بأس ما دام يجعله يشعر أفضل.
علقت لُمى بمنطقيـة ؛
- كان عليكِ ان تُخرجيـه من حياتكِ كما أخبرتيه عندها ، فلا حاجة لكِ بمزيدٍ من الألم ..
- لو كنتُ استطيع فعل هذا صدقوني لفعلتْ من اول يوم نبض به قلبي لأجله ، انا ببساطة لا قدرة لي بأزالته من حياتي كما لو لم يكن فيها يوماً .
يا لجمال التناقض الذي انا فيه أليس كذلك ! لا اجيد تقبل فكرة وجودي معه ولا استطيع بنفس الوقت أزالته من حياتي او حتى ان يعتاد هذا القلب اللعين على ابتعاده ..
تنهدت هبـة بحسرة واضحة على حال شقيقتها بينما قالت لُمى بأمتعاض من الوضع برُمتـه :
- لا اعلم ماذا اقول لكِ ، لكن ليكن الله في عونكِ على فوضى شعورية كـالتي معك ِ ،و ليمنح الربّ ليث قوة المواصلة دونكِ وان كنتُ غير مقتنعة بهذا.
تجفف جُلّنار يديها وقد أنهوا غسل الصحون قبل ان تبتسم إليهم وتتجه لغرفـة الاستقبال تقرأ -ما ان تستقر بمجلسها- ماذا كتب اليها هذه المرة فقد مر أسبوعين منذ آخر رسالة بعثها و التي لم تجبها هي كالعادة ، رفعت هاتفها وفتحت صندوق بريدها :
أنت تقرأ
غـِـمَار
Diversosيقطع عثمان الصمت الذي طال بينهما وهو يسألها - هل كان جرحـهُ أكبر من عفوكِ ؟ تبتسم بمرارة مُردفة : " لم يكن جرحاً ، بل كان اليد التي ضمدت ذاكرتي المعطوبة وكنتُ الخنجر الذي تراجع عن طعنه لكن بعد إن عكستهُ المرآة " . . . لم يبدؤوا يوماً لنسأل كيف انت...