نهآية حزيران ، 2013
كان ليث ماراً قرب حديقة الجامعة وهو يسير بتثاقل حينما لمح جُلّنار تجلس على احدى المقاعد البعيدة نسبياً في الحديقة ممسكة بكتاب - تطالعه - بيدها اليمنى بينما تتكأ بيدها اليسرى على سطح المقعد ساندة وجهها بوضعية مائلة وتبدو في غاية التركيز ، تسائل لو كان بالامكان مقاطعتها فهو لم يراها منذُ مدة متعمداً ليقنع نفسه بإنّ شعوره تجاهها لا يعدو كونه فضول ورغبة بمعرفة انسان ذو شخصية فريدة حال جُلّنار وظن إنّه نجح بهذا لكن لم يعد متأكداً الان وهو يجد نفسه غير قادر على تجاهل وجودها ومتابعة طريقه ، قادته قداماه حيث جلست ليقول بمرح لا يملكه في هذه اللحظة :
- مرحباً
- ......
- صباح ُ الخير إذن ؟
- ........
- هل نحن متخاصمين .. أم إنّكِ لازلتِ لا تتحدثين مع الغرباء ؟
ترفع جُلّنار رأسها أخيراً عن الكتاب لترد عليه فقد أدركت إنّه هو لحظة وقوفه امامها ، كانت تود انهاء الصفحة قبل ان يقطع تركيزها ، تطفأ الموسيقى من زر التحكم بهاتفها وترجع رأسها للخلف بهدوء وهي تقول
- عذراً ، ماذا كنت تقول ؟
-.....
ترى علامات الدهشة ظاهرة على وجهه لتبتسم ملىء فمها وهي تشير إلى أذنها و تكمل
- انا اضع سماعات الهاتف فلم استطع سماع ما قلت .
- هكذا إذاً ، لا بأس .
أربكتهُ ابتسامَتُها هذه المرة رغم إنّه يراها تبتسم أحياناً
لكن هذه كانت مختلفة وكأنها نابعة من قلبها دون إن تُدركَ هي الأُخرى يكتفي بالجلوس على الجهة المقابلة وهو يلتزم الصمت ، للـحظة لم يعلم ما يريدُ قوله لتباغتهُ هي دون إطالة
- هل تنتظر مني إن اسألك لماذا جئت ؟
- لنقل إنّه كذلك ، هل تسألين ؟
- لا ، الصمت أفضل
- وما ادراك إنني ارغب بالصمت ؟
- أنا فقط افترض ، وكذلك اخبرك إنك حر في التزام الصمت او الحديث لا مشكلة بالنسبة لي في مرافقة شخص صامت
- الأمر يروقك !
- اوه كشفتني .. انتَ ثرثار للغاية وستبدأ بألقاء دروس الحياة لو تحدثت وإنّي يجب ان اكون اجتماعية وبلا بلا بلا ....
يضحك بخفة على ملامحها وهي تحاول إظهار تعابير الملل والانزعاج الساخر ؛
- هل فكرتي يوماً بالعمل ك كوميدية ؟
- ليس من ضمن اهتماماتي حالياً ..
- وبرأيي ان لا يكون ابداً لأنّكِ فاشلة فيه وبجدارة لكن شاكر لكِ احترام صمتي .
تلاحظ جُلّنار نظرة الارهاق والحزن تعود لعينيه ويبدو إن محاولتها لخلق جو مرح ولو للحظات بائت بالفشل ، لا تعلم ما السبب ولا ترغب بالسؤال .. تشعر إنّه من الافضل عدم التدخل بشؤونه لكن ليث كان له رأي آخر حينما قال وهو ينظر على الجانب الاخر وكأنه لا يرغب ان ترى عينيه الان :
- ألن تسألي شيئاً ؟
- لو كنت ترغب بالحديث انا مُصغية .
يتنهد قائلاً بتعب ؛
- هذا غير عادل حقاً
- هاه ؟
- لم انتِ متفهمة لهذه الدرجة ، لم دائماً تحرصين على التصرف بنضج .. كنت اظن إنّكِ مفرطة الحذر لكن اتضح إنكِ حمقاء لا تعي تبعات تصرفاتها هذه !
- هاه ؟! ماذا وهذا الامتعاض ثم لماذا انت منزعج من عدم رغبتي بالسؤال عمّا حدث وانت من ترغب بالصمت اساساً ، هل تعاني متلازمة ثنائي القطب ؟
- انتِ حمقاء .
عاود ليث النظر إليها بقلة حيلة .
" انا لستُ منزعج بل مبهور بما انتِ عليه وقيامك على الدوام بالتصرف الامثل وشعور الدفء الذي بات يجتاحني عند رؤيتكِ مقلق حقاً ! " هذا ما فكر فيه ليث وهو يصفها بالحمقاء ، جُلّنار لم تستطع فهم اي من هذا بالتأكيد بل ولم تعر كل ما قاله أهمية وهي تظن إنّه يحاول اغاظتها لا أكثر لتجيب بملل
- اوه حقاً ، شكراً .. افعل ما تشاء ، سأعاود القراءة .
تفتح الكتاب مرة أخرى وتحاول التركيز بالسطور امامها صارفة نظرها عنه وقد نجحت بهذا بعد برهة ، أنهت قراءة صفحتين ولا زال هو جالساً على ذات وضعه امامها ينظر لها بهدوء وهنا لم تعد قادرة على التركيز مع شعور المراقبة الذي يحاوطها .. دقيقة ..اثنتان .. ثلاث .. حتى طفح بها الكيل اغلقت الكتاب بقوة واضعة اياه امامها ونظرت اليه بحدة بينما رفع هو حاجبيه كتعبير عن الاندهاش ؛
- لقد فعلتها حقاً ! لكن اعترف كنت اظن ان الامر سينتهي بضربي بالكتاب بدلاً من اغلاقه هكذا .
- لو لم يكن كتاب لُمى لفعلت ! حسناً نجحت محاولتك بأشعاري بالذنب .. هيا تحدث ماذا جرى ؟
اراد ليث الحديث بالفعل لكنه تردد خشية إن لا يكون من اللائق التحدث عن هكذا امر معها لذا قال بمرح مصطنع لم يخفى على جُلّنار ؛
- الان و بعد إن فكرت بالأمر أظن اني لن افعل فما جرى قد جرى ولن يغير الحديث بالأمر بالشيء الكثير
تنظر له ببلاهة ؛
- أتعلم بدئت اقتنع حقاً بأنكَ تعاني من متلازمة ثنائية القطب ! ألم اخبرك منذُ البداية ان عدم الحديث افضل لو كنت تشعر بعدم الرغبة ، فما كان الداعي لكُلّ سلسلة الدراما هذه اذاً !
- معكِ حق لكني كنت ارغب بالحديث إليكِ - انتِ بالذات - عن الأمر لا اعلم لمّا لكن أظن إنّي لو فعلت سأشعر بصورة أفضل ..
تتنهد الاخيرة بقلة حيلة متخلية عن انزعاجها و معقبة بهدوء ،
- انا مصغية .
- القصة وما فيها كالآتي ؛
انا لدي خالة واحدة ولديها ابنتين احداهما تكبرني والاخرى تصغرني بأربع سنين .. خالتي هذه تُعتبر أُمي الاخرى، لم اتسبب بزعلها مني يوماً لكن أظن اني فعلت قبل عدة ايام ..
ابنتها الصُغرى تدعى رؤيا وهذه الاخيرة تكن لي مشاعر لا اعلم حتى كيف تطورت لديها فأنا لم تكن لي علاقة شديدة القرب معها مقارنة بأختها الكُبرى ولطالما كانت الاثنتان كأخواتي لا اكثر من هذا وخصوصاً رؤيا لأنها تصغرني لطالما كانت بنظري طفلة صغيرة .
علمتُ بالأمر منذُ مدة ولم اهتم كثيراً بالأمر لكن بات الموضوع مزعجاً مع تلميحات خالتي المستمرة بشأني ورؤيا في الاشهر الأخيرة واخبرت أُمي ان امر كهذا مستحيل لكن قبل ثلاثة ايام صارحتني رؤيا بمشاعرها بدون مقدمات بعد قولها إنّها رفضت عريس تقدم لها لأجلي .
صمت ليث ملقياً نظرة على جُلّنار وقد كان يعبث بيديه طوال مدة حديثه بحيرة ليرى انها تنظر له بأعتيادية مصغية .
- حسناً اين المسبب لزعل خالتك في الموضوع ؟
- في الحقيقة لأني فهمت من حديث رؤيا وتصرفاتها يومها إنّها لا تنوي الكف عن الأمل بشأني وبشأن اني سأتمكن من مبادلتها شعورها يوماً ما اخترتُ إن اكون قاسياً في الرد عليها وان عنى هذا جرحها .
وأظن ان خالتي علمت بالأمر بل بالتأكيد لأنها قدمت لزيارتنا يوم امس ولم تبدي اي رغبة بالحديث معي عند القائي التحية عليها كما إن أُمي كانت حزينة الى حد ما عند مغادرة خالتي وحينما سألتها اذا كان الامر متعلق برؤيا مجدداً ردت قائلة " القلب وما يهوى يا ولدي ، لا عليك " .
- اوه !
نظر لها مستفسراً لتقول بأبتسامة صفراء مغطية بها زلة لسانها :
- اذا لم يكن هناك مانع هل يمكنك أخباري ماذا قلت لرؤيا تحديداً ؟
- حسناً اشياء مثل انا لم ولن اراكِ يوماً بهذه الطريقة وستبقين على الدوام اختي الصغيرة وكفي عن هذه الاحلام الغبية ، حتى اني أخبرتها اني أراها طفلة وليس وكأني سأجعل طفلة شريكة حياتي ، للأسف قلت الكثير واظن اني تسببتُ ببكائها حتى ..
- لتقر عينا والدتك بك !
- لا تقولي ...
- قلتها وانتهى الامر ، بحقك كيف تشعر ؟ وقد جعلت انسانة احبتك بصدق تبكي لأن من تحبه نكل بمشاعرها لهذه الدرجة .
يطلق ليث تنهيدة عميقة وهو يمسح وجهه بكلا يديه ؛
- لا تسألي اشعر إنّي حقير .
- لو نظرنا للأمر بموضوعية .. ليس وكأنه كان امامك خيار آخر فكما فهمت منك انها تحبك حد الهوس ، لكن يبقى التنكيل بمشاعرها أمر خاطىء للغاية وخصوصاً إنّها قريبتك مما يعني صلة لا ينبغي لها إن تنقطع لهكذا اسباب ومن حق خالتك ان تأخذ على خاطرها وطبيعي ان تتخذ جانب ابنتها لكن برأيي لن يدوم الأمر طويلاً فهي بالنهاية تدرك إنّ أبنتها التي عليها تحمل تبعات شعورها وليس انت .
هي تعلم انكَ ترى ابنتها كأخت صغيرة لا اكثر أليس كذلك ؟
- بالطبع ولطالما كانت تقول ونحن صغار رؤيا انتِ محظوظة لأمتلاك اخ كهذا واشياء من هذا القبيل .
- حسناً يبدو إنّها بشكل او بآخر ساهمت بتنمية حبّك في قلب ابنتها وبالعودة الى رؤيا اراهن ان عدم امتلاكها أخاً يتواجد معها على الدوام ويعرفها بصعوبة وارهاق امتلاك اخ ذكر .. وظهورك انت في الصورة كل ما استدعى الامر لأجلها جعل منها تخلق لك صورة فارس الاحلام ومن تعتمد عليه طوال حياتها وهذا بالطبع مع تقدم العمر يتحول الى حب ومشاعر اقوى مما هي في الطفولة هي ليست ملامة على شعورها بالطبع لكنها تُلام على محاولة فرض هذه المشاعر ولو جبراً على الطرف الاخر و بخلاف ذلك تتصرف كما لو كانت ستنهار حياتها ، برأيي لا تعر الأمر كل تلك الاهمية فأنت قمت بما عليك حين اخبرتها بأنك لا تبادلها الشعور .
- انا فقط اخشى ان تتأزم العلاقة بين أُمي وخالتي نتيجة ما حصل ..
- لا تقلق لن يستغرق الأمر طويلاً قبل ان تعود المياه لمجاريها بينهما فوالدتك تدرك ان حل الأمر ليس منوط بك او برؤيا انما بتقبل خالتك وابنتها لحقيقة ان امور كهذه تحصل بالرغبة المتبادلة وليس بالاقناع والمسايرة .
- بالفعل .
......أتصدقين لقد اريتني زاوية اخرى للنظر للموضوع وأنا كنت طوال الوقت انظر من زاويتي الخاصة و اتسائل ما خطب رؤيا ولما لديها هذا الهوس تجاهي وإنّها معتوهة لكن عند النظر من زاويتها ربما يكون الأمر طبيعي .. فهي رُبما لم تفهم معنى وجود الأخ منذُ البداية .
- أخبرتك لو فعلت لما فكرت بذرة من الافكار التي لديها تجاهك الان .
- أرى إنّكِ تتحدثين بأمتعاض عن موضوع الأخ كما وصفتي قبل قليل وجود الأخ بالإرهاق فكم أخاً تملكين وهل الأمر بهذا السوء ؟
- ياسر يكبرني بثلاث اعوام ، ليس لدرجة الاستياء بالطبع لكنهم مدعاة للقلق .
تواصل جُلّنار بنبرة طفولية متذمرة ؛
- كما إنّهم جاحدون لم يتصل بي منذُ شهر اعتقد وبصورة عامة النشأة في بيت واحد مع اخ ذكر تعني سنيناً من المعارك وعدد لا يحصى من نوبات الشيزوفرينيا والنرجسية .
- انا طفل وحيد فلم اجرب الامر لكن اراهن إنكِ تبالغين وتظلمينه
- لستُ ابالغ لكن بالطبع وجوده شيء فريد لا يعوض فكُل هذا وان بدى مزعجاً لكنه يشكل ذكريات ثمينة ويقوي لديك ثقة خالصة و حقاً يشعرك بوجود سند لن يخذلك يوماً .
يرى ليث في ابتسامتها العذبة عند الحديث عن أخيها - رغم نبرتها المنزعجة - مدى حُبها له ليعقب بهدوء ؛
- حفظه الله لكم .
- آمين .
ينساب الصمت بينهما بعدها هو يفكر بكُل ما قالته عن موضوع رؤيا وكيف إنّها اضفت له شيئاً من الاطمئنان و لم تبخل او تتردد بلومه على سلوكه السيء وبشعوره الغريب بالراحة الان وهو الذي ظن ان الحديث سيكون مضيعة للوقت.. وظنونها كانت إنه لا زال قلقاً لكن لا يوجد شيء أكثر لقوله وبالنهاية هذه مشاكله الخاصة وهو اعرف بكيفية التصرف معها ، بعد عدة دقائق بات الصمت بينهما مريباً جُلّنار تفكر " هل سيغادر " وليث مقتنع إنّ عليه المغادرة لكن بدلاً من النهوض وجد نفسه يقول :
-هل نحن أصدقاء الان ؟
أنت تقرأ
غـِـمَار
Diversosيقطع عثمان الصمت الذي طال بينهما وهو يسألها - هل كان جرحـهُ أكبر من عفوكِ ؟ تبتسم بمرارة مُردفة : " لم يكن جرحاً ، بل كان اليد التي ضمدت ذاكرتي المعطوبة وكنتُ الخنجر الذي تراجع عن طعنه لكن بعد إن عكستهُ المرآة " . . . لم يبدؤوا يوماً لنسأل كيف انت...