آيار .. 2014
ها هو صباح متعب آخر ، بالكاد تمتلك به جُلّنار ساعة وحيدة شاغرة بين المحاضرات المكثفة لليوم .
إنّه يوم يجب ان تقضيه في الجامعة بدلاً من المشفى لذا يكون مليء بالمحاضرات النظرية المزعجة ، واحدة عن اخلاقيات المهنة واخرى عن الاجهزة الطبية وثالثة عن القانون ...الخ ، وبالطبع يحرص ليث على رؤيتها اثناء تواجدها بالحرم الجامعي وان كان الاخير منشغل للغآية لأنه اخر فصل دراسي له قبل التخرج ..
تنهدت جُلّنار بتعب وامتنان حينما اغلق الاستاذ المحاضر حاسوبه الشخصي قائلاً " هذا كُل شيء لليوم " غادرت القاعة وهي تنظر لساعة يدها ، اخيراً انها الحادية عشرة ممّا يعني ان لديها ساعة كاملة شاغرة .. تشعر بصداع يُنذر بأنخفاض ضغط دمها حسناً انه نهار طويل وهي لم تأكل شيئاً منذُ ليلة امس لذا تغادر مبنى كُليتها و تتجه نحو مطعم الجامعة - على مضض- حاملة لحاسوبها الشخصي معها ، كانت قد طلبت فطيرة بالجبنة والزعتر مع الشاي اضافة الى قنينة مياه واتجهت تجلس على طاولة خارجاً تناولت قطعة من الفطيرة بينما تفتح حاسوبها الشخصي وتجيب على مكالمة ليث الذي سألها اين هي واخبرته بالقدوم للمطعم .. انهمكت في العمل على حاسوبها حتى انها تناست الفطيرة والصداع ، انه بحث يجب ان تسلمه بعد يومين ولا زالت لم تنهتي منه حتى الان وتصّر على انهاءه بحلول الغد لتتخلص من عبئه وتتفرغ للدراسة لأمتحانها العملي بعد ثلاثة ايام .
لم تنتبه لمرور ليث بجانبها حتى انزل الاخير شاشة الحاسوب - تقريباً اغلقها- من امام وجهها وهو يجلس مقابلاً لها ويحمل كوب قهوة جاهز .
- بربّك ! دعني اعمل .. انه تقرير مهم يجب الانتهاء منه .
- انهي طعامكِ اولاً ، هل وضعته على الطاولة للمنظر ؟!
تنتبه تواً انها بالفعل لم تأكل شيء يذكر وقد تناست امر الطعام ، تناولت قطعة أُخرى من الفطيرة لتقول بعدها بينما تعاود رفع شاشة الحاسوب :
- كيف كان اداؤك في الاختبار ؟
- لا بأس به ..اعتقد
- تعتقد ؟ انه فصلك الدراسي الاخير اذا كنت تذكر ! لذا عليك ان تكون حريصاً اكثر .
- وهل أستطيع النسيان وانتِ تذكريني في كُل ثانية !
- لا تبدأ رجاءاً !
- ألم تنتهي حتى الان ؟
- بالطبع لا ، لا زال هناك عشر صفحات متبقية ..
- هل يجب تسليمه اليوم ؟ لدرجة انكِ تعملين عليه الان
- كلا ، بعد يومين لكني لن ارتاح مالم اسلمه غداً .
ينظر نحوها ببلاهة وهي لا زالت تركز في الشاشة امامها
- انتِ حقاً ماركة في الجنون !
اردفت بعدم اهتمام ؛
- شكراً .
- أتعلمين هذا الوضع يُعجبني ..
- أيّ وضع ؟
- حينما تكونين منهمكة بفعل أمر ما وتلجأين للردود المقتضبة بدلاً من المُنمقـة ومحاولة قلب الطاولة .
- أوه يبدو إن أحدهم يفتقد ردودي المعتادة !
قالت بأبتسامة جانبية وهي تواصل تحريك اصابعها على لوحة المفاتيح مولية شاشة الحاسوب تركيزها ليعقب ليث من فوره بضحكة :
- بالضبط هكذا ، أتريّن ها انتِ تحاولين قلب الطاولة عليّ الان !
- الردود القصيرة وأنا اعمل تجنبني عناء اصلاح سوء الفهم لاحقاً .
- كيف هذا ؟
- لأن الانسان يميل الى التركيز بأمر ما اكثر من الاخر دائماً لذا عند وقوع أمرين معاً ومحاولة اداء الاثنان بالوقت نفسه سيؤدي بالنهاية الى غلطة او هفوة في احداهما ، أنا اتجنب هذه الهفوات التي تستنزف الوقت أفهمت ؟
- تقولين يجب إن ابقي نفسي دائماً بمنطقة آمنة يعني ، وهذا أكثر ما يعجبني بكِ ، محاولتكِ الدائمة لعدم ترك ثغرة ..
- هممم أكثر ما يعجبكَ ؟ أيعني ان هناك قائمة طويلة لما يُعجبكَ بــ ..... !!!
لم يعد يصلهُ صوت النقر على مفاتيح الحاسوب وقد تجاوز صدمته من السؤال وهو الان بالكاد يكتم ضحكته بأبتسامة هادئة ، أي حماقة هذه التي تفوهت بها الان جُلّنار لا تريد التفكير حتى هي فقط تتمنى ان تتمكن شاشة الحاسوب - التي تختبىء خلفها - من اخفاء احراجها !
ليقول ليث بنبرة أدركت انه يخفي ورائها ضحكته الان ؛
- أظن اني فهمت الان لما الردود المقتضبة أفضل لكِ ..
- أصمت .
اطلق ضحكة مدوية ليعقب بعدها بهدوء ..
- يمكنكِ اخراج وجهكِ من هناك ، سأتظاهر بعدم سماع شيء مسبقاً لا عليكِ .
- فقط أصمتْ !
رفعت جُلّنار وجهها تعاود عملها على الحاسوب بعد ثوانٍ بجبين مقتضب دون النظر لليث المبتسم بأستمتاع ليقول مشاكساً ؛
- هذا الجبين المقتضب موجود بالقائمة ايضاً لعلمكِ .
تُمسك قارورة المياه بجانبها بسرعة وهي تقول بغيظ من تحت اسنانها ؛
- ما رأيك بدخول المحاضرة القادمة بقميص وشعر مبلل ؟
- مجنونة وتفعليها ، اشكر لكِ عرضك لكن سأختار الصمت .
- انا فخور بكِ ! فلقد جعلتي الكُل يقتنع بجنونك بالنهاية !
التفت ليث وجُلّنار من فورهم ناحية صاحب الصوت الثالث والذي بالتأكيد لم ينتبهوا له مسبقاً ولا لمروره سريعاً جانبهم ومن ثم عودته حينما لمح جُلّنار فالأخيرة منشغلة بحاسوبها وليث يحدق بها متناسياً كُل ما حولهم ، نهضت جُلّنار من فورها معانقة صاحب الجملة المتهكمة - تحت انظار ليث المستغربة - وهي تقول بفرح صادق :
- أحمد !
بادلها أحمد عناقها وهو يقول بأبتسامة هادئة ؛
- لكِ وحشة يا مجنونة !
ابتعدت عنه واقفة بالقرب منه بينما تقول بذات نبرة الفرح
- ماذا تفعل هنا ؟
- بل انتِ ماذا تفعلين هنا ؟ انا اتيتُ لرؤية صديق
- بربك ؟ أنسيت اني ادرس هنا !
- لا لكن ظننتُ إنّكِ ستكونين طوال الوقت بالمشفى هذه السنة .
- لدي يوم أو يومين في الاسبوع تكون فيه محاضراتي هنا ، دعكّ من هذا .. رؤيتك الان مفاجأة رائعة !
- أحقاً هي كذلك ؟
قال أحمد جملته بهدوء وهو يحول نظره لليث الجالس يراقب ما يحدث بصمت ، كانت جُلّنار من فرط فرحتها برؤية احمد قد تناست وجود ليث - وجلوسها معه بحرية قبل قليل - أهي بموقف حرج ؟ فمن الواضح من نبرة احمد انه متوجس من الموضوع لكنها لم تفعل شيء خاطىء وأحمد ك ياسر بالنسبة لها لذا أردفت من فورها - وهي تنقل نظرها بين الاثنين - بينما تحتفظ بنبرتها حتى لا تُشعر احمد بأنها فهمت تلميحه ؛
- اوه لفرط حماسي نسيتُ ان اعرفكم .... ليث زميلي .
وتابعت مشيرة لأحمد ؛
- احمد اخي وابن عمي !
نهض ليث من مكانه بملامح باردة وبعد ثوانٍ من التواصل البصري بين الاثنين توجست منه جُلّنار للغآية ، صافح ليث أحمد ليقول الأخير ؛
- تشرفنا ليث ..
- سررتُ بلقاءك احمد ..
استغربت جُلّنار نبرة ليث الجادة والحادة الى حد ما وقد اصبح وجهه غير مقروء بالنسبة لها لكنها تجاهلت الامر للوقت الحالي وقالت بحماس قاطعة تحديق احمد وليث ببعضهم والذي اصابها بالتوتر ؛
- طمني أحمد كيف حال كمال وخالتي ؟
سحب كُل من ليث واحمد ايديهم ليقول احمد وهو يعاود النظر لجُلّنار بجانبه ؛
- أُمي تبعث لكِ بالسلام اضافة الى حافظة بلاستيكية مليئة بالكعك الذي تحبين ...
قاطعته وهي ترفع حاجبها الايسر وتقول بحدة مصطنعة ؛
- واين هي العلبة ؟ لقد قضيت عليها بالطريق أليس كذلك !
- كشفتني !
يردف متصنعاً الصدمة ليتابع بعدها ضاحكاً ؛
- المهم ان كمال آخذ على خاطره منكِ ، يقول إنّكِ لا تسألين عليه كالسابق زيادة على انه لم يراك في اخر زيارة لكِ
- أدرك هذا ومعه حق بالفعل انا مقصرة وللغاية !
يخرجها من اسفها تجاه عمها قائلاً بخبث ؛
- لا تراوغي بتصنع الحزن وتنسينا الموضوع الاساسي ! لا تظني انّي سأعود دون عزيمة غداء او عشاء ..
- غداء وقد اكلت الكعك خاصتي !
- لم افعل للأسف ! فلا ارغب بتوبيخ من أُمي وهي أعدتها خصيصا لكِ ، اضافة الى ان والدتكِ ارسلت لكِ ايضاً بعض الاشياء ، كنتُ انوي المرور بكِ مساءاً لأعطائهم لكِ لكن سأغير رأيي اذا لم يكن هناك عشاء ...
تضحك وهي تردف بأستسلام ؛
- حكم القوي على الضعيف ، ماذا افعل ! الغداء صعب فلا زال لدي محاضرتين لكن العشاء ممكن مع إنّك لا تستحق .. لم تكلف نفسك عناء الاتصال تبلغني بقدومكَ حتى !
- حسناً بات واضحاً انه من الافضل ان اهرب الان .... أراكِ مساءاً يا مجنونة .
تضحك ليلتفت احمد نحو ليث وهو يحافظ على ابتسامته قائلاً برزانة تعاكس ذلك المشاكس - الذي كان عليه - منذُ قليل :
- الى اللقاء ليث .. اتمنى ان نلتقي مرة أخرى .
يغادر أحمد وتلوح له جُلّنار مودعة وهي تستشعر نظرات ليث عليها بالأحرى تحديقه الثاقب ، حافظت على ابتسامتها مدعية عدم الانتباه وعادت تجلس تنوي اكمال كتابة تقريرها لكن وجدت ان حاسوبها قد نفذ شحنه وانطفىء ، لعنت بداخلها واغلقته بعنف نظرت لليث وهي في الحقيقة لا ترغب بالنظر لأنّها فهمت من هالة الصمت الرهيب المحيطة به انّ هناك امر ما سيحدث بعد قليل دون ان تعرف السبب ، ارتشفت الماء وهو لا زال ينظر نحوها بذات الطريقة ، نظرت نحو ساعتها لا زال هناك بعض الوقت حتى المحاضرة التالية ، ادخلت حاسوبها في حقيبتها ولا زال صامتاً لكنه ابعدَ نظره عنها هذه المرة وراح يعبث بساعة يده مقطباً حاجبيه لتقول بتسائل بعد ان فهمت انه لن يتحدث لو لم تفتح فمها هي ؛
- ما بك ؟
اكتفى بالنظر نحوها ولا زالت ملامحه غير مقروءة بالنسبة لها لتتابع ؛
- كف عن النظر إلي هكذا لأني حقاً لا افهم ما الذي يزعجك فجأة ! ولن افهم حتى لو بقيت تنظر لي هكذا حتى الغد !
يجيب ببرود غريب عليها هي ترى منه هذه النبرة في الحديث لأول مرة :
- اتعلمين ماذا .. كنتُ سأترككِ معه واغادر لو لم يكن هذا سيضعكِ في موقف محرج .
لا زالت جُلّنار غير قادرة على الفهم لكنها تردف بحدة ولدها اسلوبه - الذي لا تجد له سبباً - هذا ؛
- اوه شكراً لإنّك تفضلت ولم تفعل إذن !
- أتسخرين ؟
- الا تسمع نفسك ماذا تقول ! بحق الجحيم هلا قلت ما تود قوله بصراحة ..
- هل انتِ دائماً ودية هكذا مع أحمد ؟
يسأل ببرود لتنظر نحوه بأستغراب " ما علاقة احمد الان ؟ " هذا ما فكرت فيه لتردف بنفس الاستغراب ؛
- نعم ؟
- لقد سمعتني .
- اعلم وانا اقول لك " نعم " .
تجيبه بذات بروده ليردف بغضب لم يتمكن من اخفاءه
- لدرجة العناق ؟!
- أنّه اخي !
- تقصدين " ابن عمك " !
هنا فقط فهمت جُلّنار ما يحدث وسبب انزعاج ليث ، فطبيعي ان يستغرب ليث تصرف كهذا من جُلّنار لمعرفته الجيدة بها وبألتزامها الديني كذلك لذا هي لن تُقبل على فعل امر مماثل الا مع احد تعتبره مميزاً وتثق به للغآية ولم يكن في خضم صدمته - وهي تعرفه بأحمد - ليفكر انّهم كالأخوة بالفعل ، على الرغم من اعتقاد الأخير فور رؤية احمد وطريقة حديثهم انّه أخاها ياسر .. تخلت جُلّنار عن حدتها واستغرابها وهي تشرح له موضحة ؛
- لا اعتقد إنّي مضطرة لقول هذا بالدرجة الاولى لكني سأخبرك لتكف عن تهكمك .. انا وياسر واحمد تربينا مع بعضنا البعض رغم فرق السن واعني الكلمة حرفياً مع بعض ، كنتُ كالولد الثالث بينهما . لم يكن لأحمد اخوة او اصدقاء لذا كان دائماً يبقى معنا ومنذُ نعومة اظافري وحتى المدرسة الإعدادية نحنُ الثلاثة المشاغبين معاً وهبة العاقلة فينا والتي توبخنا احياناً ، لذا نشأنا تربطنا علاقة وثيقة ليس كأبناء عم بل اربعة اخوة ونحن جميعاً متفقين على هذا ، ما أعنيه انا وهبة لا نملك ياسر فقط بل ياسر واحمد لذا عناقي له او تأبطي ذراعه ليس بالأمر الجلل !
أنت تقرأ
غـِـمَار
Aléatoireيقطع عثمان الصمت الذي طال بينهما وهو يسألها - هل كان جرحـهُ أكبر من عفوكِ ؟ تبتسم بمرارة مُردفة : " لم يكن جرحاً ، بل كان اليد التي ضمدت ذاكرتي المعطوبة وكنتُ الخنجر الذي تراجع عن طعنه لكن بعد إن عكستهُ المرآة " . . . لم يبدؤوا يوماً لنسأل كيف انت...