طبيب نفسي

555 33 3
                                    

حل اليوم التالي ووسط قلق الجميع وترقبهم قدم الطبيب بهاء عند الرابعة عصراً لرؤية زينب .
جهزت الفتيات زينب وألبسوها حجابها ومن ثم أعادوها لسريرها كانت كدمية بلا روح تتحرك كيف ما حركوها من دون اي استجابة او تأثر بما حولها ما ان وصلت لسريرها حتى اسندت رأسها على دعامته وعادت تشخص نحو النافذة الواسعة التي تسمح لضوء الشمس بأختراق الغرفة ، النافذة التي لم تكن زينب تسدل ستارتها ابداً حتى عند نومها ومهما كان الطقس ، عادة حفظتها لها الفتيات لكن لم يتسائلوا يوماً عن السبب ورائها ..
- يمكنك التفضل حضرة الطبيب .
وضع بهاء كأس العصير من يده - الذي ضيفته به السيدة ابتهال - اثر عبارة جُلّنار ونهض مستأذناً من والدي زينب ، رافقته جُلّنار حتى غرفة زينب بينما غادرتها لُمى وسمر وهمت جُلّنار بأغلاق الباب وقبل ان تفعل انتفضت زينب من مكانها عندما احست بوجود بهاء وهي تطالع الباب بذعر .. خمن بهاء سبب ذعرها بينما استغربت الفتيات تصرفها فهي لم تتحرك  منذُ ايام
التفت بهاء نحو الفتيات قائلاً بهدوء
- اتركوا الباب مفتوحاً ولتبقوا معنا ،
دلفت الفتيات للداخل وجلسوا متجاورين على السرير الاخر بالغرفة بينما ادار بهاء كرسي منضدة القراءة وجلس عليه مواجهاً لزينب قرب النافذة بينما عادت هي لوضعها تشخص للنافذة ، كانت لُمى حدثت بهاء عن حديثهم معها بالأمس عند عودتهم وقد اثنى على ما فعلوا فمخاطبتهم لها امر جيد وان لم تبدي استجابة ، فهذا سيعزز من بقاءها مرتبطة بالمحيط من حولها وان كانت تنغلق على نفسها في اعماقها ، ليتحدث اخيراً بأبتسامة هادئة بعد دقائق من مراقبتها ؛
- كيف حالكِ زينب ؟ انا بهاء صديق الفتيات
لقد حدثوني عنكِ كثيراً واحببتُ ان اتعرف بكِ لذا كانوا لطفاء ودعوني لزيارتكم ، اسف اذا كنت ازعجتك بدخولي دون اذن قبل قليل .
لم تبدي اي ردة فعل ولم يستغرب بهاء تصرفها ليتابع بذات هدوئه
- ارى انكِ لا ترغبين بالحديث ، حسناً معكِ حق فما تشعرين به اكبر من ان تستطيعي تجاهله ولن يفهمكِ أحد لو تحدثتي ، هم جميعاً اقتنعوا انكِ بخير .
انسابت دموعها بصمت ليعرف بهاء انه على الطريق الصحيح بينما تبادلت الفتيات النظرات بقلق ..
- لماذا لا ترغبين برؤية والدكِ ؟ هل لأنّه ظن إنّكِ بخير ايضاً في الوقت الذي لم يجب ان يفعل ؟ ام انكِ تكرهين وجوده لأنه كان السبب بما حدث لكِ وانتِ صغيرة ؟
تزداد حدة دموعها ليقول بهاء من فوره ؛
- ماذا حدث في المصعد زينب ؟
تنتفض مرة أخرى لكن صارخة هذه المرة تفزع الفتيات ويحاولن الاقتراب منها لتهدئتها لكن يمنعهن بهاء بأشارة من يده بينما يتابع
- هل انتظرتِ طويلاً وصول أبيكِ ؟
ازداد بكاءها وهي تصرخ" كلا كلا ابعدوه عني" " ابعدوه عني "
كان والديها قد اتيا على اثر صراخها وحينما رأت والدها اصبحت تمسك رأسها وهي تصرخ بحدة اكبر ليغادر بهاء الغرفة مع والديها غالقاً الباب خلفه تاركاً للفتيات امر تهدئتها ، بينما يطمئنهم ان ما يحدث امر طبيعي فهي ستصرخ وتبكي وتصبح عنيفة كل ما ذكرها احد بما حدث وحاول مساعدتها ، انتظر بهاء في الصالة حتى هدأت نوبتها بعد ربع ساعة لازمتها لُمى وسمر بينما توجهت جُلّنار لتفهم من الطبيب ما يجري ، هي تتفهم صعوبة العلاج النفسي لكن الم يكن قاسياً معها !
- دكتور بهاء ما الذي يجري بالضبط ؟
تطلع بهدوء نحو جُلّنار القلقة ليجيب
- الحادثة التي مرت بها وهي طفلة تركت صدمة بالغة الضرر في نفسها وتجاهلتها وهم تكمل حياتها و خوفها من الخروج لوحدها دليل واضح على هذا ، أيمكنني ان اسألكِ لما نافذتها مشرعة رغم برودة الطقس ؟
- حسناً هي لا تقبل ان يغلقها احد ولو كنا في تموز !
- نعم حتى بالمنزل عندما كانت صغيرة هي دائماً تترك نافذتها مفتوحة و تغضب مني لو اسدلت الستار عليها .
- هي بالفعل لا تخشى الاماكن المغلقة كما قلتم لكنها تخاف الظلام وتخاف الاحساس بالوحدة لذا تترك نافذتها مفتوحة دائماً حتى يصلها الضوء وحتى تشعر بأنها ليست بمفردها عند سماع الاصوات في الخارج ، واعتقد ان هذا ايضاً له علاقة بالحادثة
- لكن ما علاقة هذا بأنهيارها الان ؟
تسائل السيد مؤيد ليطالع بهاء جُلّنار التي فهمت الامر بشكل ما وهي تجيب السيد مؤيد
- عمي يبدو انها قبل انهيارها علقت بالمصعد وكان المصعد مظلماً .
يتابع بهاء بهدوء ؛
- ولم تكن بمفردها وقتها فهي فزعت عند رؤيتي بغرفتها لوحدي والباب مغلق مما يعني انها تذكرت اخر ما جرى معها وهو انها حُبست في المصعد وكان هناك رجل معها ولابّد انه حاول تهدئتها حينما انتابتها نوبة هلع وقد فزعت منه لذا سمعتوها تصرخ " ابعدوه عني " حينما اتيت على ذكر المصعد ..
- ماذا سنفعل إذاً ؟
- انا لن استطيع علاجها تماماً حتى تفتح لي قلبها وتحدثني عن كل ما خلفته الصدمة بها ، لا اريدُ منكم ان تقلقوا فأمر المصعد ليس غير حادث عرضي فتح عليها المواجع واعادها لنقطة الحادث ، إنّها تعيش صدمة متأخرة وهي نفسها لا تعرف ماذا يحدث معها .. وانا بحاجة لبناء ثقة معها اولاً حتى ترتاح وهي تصارحني بما تشعر ، سيأخذ الامر بعض الوقت فهو مرتبط بها هي ورجائي منكم خلال هذه المدة ان تتعاملوا معها بصورة طبيعية كما اعتدتم وان كان هذا صعب ، لا تجبروها على الحديث لكن لا تكفوا عن التحدث معها وكأنها تصغي لكم وتتفاعل معكم ، حاولوا اخراجها من المنزل وان رفضت لكن لا تتركوها لوحدها حتى لا يعاودها الرهاب
- ألسنا هكذا ندفعها لأن تتظاهر بنسيان ما حدث مرة أخرى ؟! وهذا سيؤذيها
يبتسم بهاء بينما يجيب جُلّنار بنبرة عملية ؛
- انه العلاج العكسي انسة جُلّنار ، انتم ستضغطون عليها بالاهتمام وانا سأضغط عليها بصراحة وبالنهاية ستجد اني اتفهم ما تشعر به لذا ستقول ما يعتمر في صدرها ، إنها طريقة شائعة وناجحة في العلاج النفسي ..
- حسناً .
- سأحرص على زيارتها كل يومين حتى تتحسن ، والان استأذنكم .
رافق السيد مؤيد بهاء حتى اسفل العمارة مودعاً بينما اعاد الاخير طمأنته على ابنته الواضح - لبهاء - كم هو يحبها ويخشى عليه وركب سيارته مغادراً .
تابعت الفتيات حياتهن اليومية رغم قلقهن الواضح على زينب ، يذهبن صباحاً نحو الجامعة وهو الوقت الذي يقضيه العم مؤيد برفقة زينب وان كانت لا تهتم بوجوده او اي احد اخر معها بالغرفة ومن ثم تتولى والدتها اطعامها ومجالستها تحدثها عن شتى الامور علّها تجذب اهتمامها بشيء ما ، تعود الفتيات في الظهيرة احياناً مع سمر واحياناً دونها يجلسن معها بالساعات يحدثنها عن ما جرى وربّما ما لم يجري خلال يوم كُل منهن ثم ينمن بجانبها ، احياناً تستسلم للنعاس وتغفو وسط الدفء الذي تحيطها به لُمى وجُلّنار واحياناً تبقى شاخصة ببصرها نحو النافذة ، تأتي سمر بين الحين والاخر احياناً تبدل لها ثيابها وتخرجها لأي مكان قريب واحياناً تجلس هي والفتيات حولها وتتحدث الثلاثة مع بعضهن مع ترقب ردود فعل زينب والتي تقارب الصفر ..
استمر بهاء بالقدوم عند موعده كل مرة لشقة الفتيات مع وجود السيد مؤيد ، وتتناوب الفتيات على البقاء معهم اثناء الجلسة لكن دون ان يتدخلوا بشيء .. بعد مرتين او ثلاث لم تعد زينب تفزع حين بقاءها بمفردها معه لكنها لم تكن تتحدث وفقط تصغي لما يقول وادركت منذ ثاني زيارة له انه طبيب نفسي وهو هنا لمساعدتها .. احياناً يسألها عن يوم الحادثة قبل اكثر من عشر سنوات لتنتفض بهلع واحياناً يحاول التنديد بتصرفات ابيها وانه هو الملام ليعلو صوت بكاءها
في زيارته الخامسة حاول اغلاق النافذة واسدل ستارها لتبدي ردة فعل جديدة غير البكاء وهي تقول بصوت غاضب " افتحها " وحينما لم يستجب لها وبقي واقفاً مكتفاً يداه ينظر لها نهضت من مكانها وفتحتها بنفسها ومن ثم عادت تجلس
مضى ثلاثة اسابيع منذ انتكاستها اول مرة قرب المصعد ، ثلاثة اسابيع احس بها المقربون من زينب وكأنّها ثلاثة سنين لشدة ما كان مضيها بطيئاًومتعباً ، فحينما ينتظر الانسان وقوع امر ما يصبح مهتماً بالوقت للغآية وفجأة يبدو الاخير متثاقل الخطى بطيئاً جداً في مروره ،
إنّها الجلسة السابعة لبهاء مع زينب وقد حضر متأخراً اليوم لأن لُمى اتصلت به ظهراً تسأله فيما اذا كان لا بأس اخراج زينب لمكان عام رغم رفضها وان يأخروا الجلسة قليلاً ، اخبرها ان هذا سيكون ذا نفع " لكن دعوها تخرج هي ووالديها فقط " كي تضطر للتعامل معهم وتكف عن صمتها ، تردد السيد مؤيد فهو لا يريد ازعاج طفلته لكن شجعته الفتيات ووالدتها بإن هذا لمصلحتها ، عادوا عند السادسة وكانت زينب تبدو منزعجة دلفت لغرفتها دون قول كلمة واحدة ، وحضر بهاء عند السادسة والنصف استقبله والد زينب ورافقته الفتيات حتى الغرفة وهم يخبروه بالذي حدث اثناء المشوار مع والديها - حيث اخبرتهم السيدة ابتهال - ليقول قبل ان يدلف لغرفتها غالقاً الباب ؛
- حسناً ، هذا يعد تقدماً بحالتها لا تقلقوا .

غـِـمَار حيث تعيش القصص. اكتشف الآن