الخريف وصلَ نهآيتـه'

226 24 5
                                    

الثالث من ايلول ،2023
السابعـة صباحاً ..

نهض ليث من سريره بحماس كبير هذا الصباح ، قبّل صغيرته وعدل من غطائها ثم غادر غرفته نحو المطبخ ليحضر لهم الفطور،
انهى استحمامه واختار لقبس ما سترتديه قبل إن يوقظها وهو يدغدغها لتنفجر الصغيرة بالضحك منعشة له صباحه أكثر ، حتى توقف اخيراً لتقبله قائلة " صباح الخير بابا " ، بعد انهاء فطورهم وهي تحدثه بحماس عن فلم الرسوم المتحركة الذي شاهدته مع جدتها -أم نور- بالأمس بدل لها ثيابها وصفف لها شعرها جديلة ، واخذ حقيبتها وحافظة ملفاته وغادروا المنزل ، أوصل الصغيرة حتى روضتها التي بدئت الذهاب إليها منذُ شهر فقط  وأخبرها إنّه سيأتي اليوم ليصطحبها بدلاً من والدته - جدتها - لأن لا عمل لديه بعد الظهيرة ، هتفت قبس بمرح وودعته ملوحة.
وصل بعدها ليث لمكتبه ، ليسلم اوراق القضية التي عمل عليها الليلة الماضية للسكرتيرة ( التي فوجئت بقدومه في يوم اجازته) ويطلب منها ان تضعها على مكتب شريكه - طاهر- ليعرف رأيه بالقضية وان تحدد له موعد مع العميل بعد يومين ويغادر من فوره بينما لا زالت السكرتيرة مدهوشة .. لما هو مستعجل هكذا اليوم ؟
بل كيف انهى اوراق هذه القضية في ليلـة واحدة ! وهي مستعصية عليه وعلى طاهر منذُ مدة .
إنّها المرة الخامسة التي ينظر بها ليث نحو ساعته متنهداً وهو عالق بالازدحام المروري ويفكر انه قد تأخر للغاية .

على الطرف الآخر كانت جُلّنار قد انهت جولة جريها الصباحي وعادت للمنزل منذُ ساعة ، استحمت و تناولت كوباً من الحليب مع العسل واستعدت بعدها للخروج ، ارتدت بنطال عريض من الجينز مع قميص ابيض قصير وواسع الاكمام وصندل اطلالة مثالية بالنسبة لجُلّنار فهي مريحة وتلائم الطقس الذي دل على انتهاء الصيف ، هي ليست ذاهبة للمشفى اليوم بل بموعد !
انتهت من وضع زينتها ارتدت حجابها وغادرت حجرتها .. إنّها التاسعة والنصف ..  والدتها لا زالت نائمة ، تركت لها ملاحظة على باب غرفتها لتراها عند استيقاظها :
" أُمي صباحُكِ سكر ، لقد خمرت الشاي واعددت لكِ الفطور ، تجدينه على المائدة وانا ذاهبة للمتنبي و سألتقي بليث .. اتصلي بي لو أردتِ شي "
عرفنا الان سبب حماس ليث هذا الصباح، سيلتقي بجُلّنار وبعيداً عن أروقة المستشفى وعن مخططات القدر .. يلتقون بطلب من جُلّنار ذات نفسها ومنذُ الصباح ! انه موعد وإنّ لم يكن كذلك هو اراد اعتباره هكذا ، وصل حيث تقطن بعد نصف ساعة من البقاء في الازدحامات المرورية ليجدها تنتظره اسفل البناية ..
ألقت جُلّنار التحية على العم محمود جارها وكان عائداً للتو من عند الخباز وتهلهل وجه الأخير عند رؤيتها ليسألها بعد التحية والسؤال عن الاحوال عن علاج لألم المفاصل الذي يعانيه منذُ سنين ، ضحكت جُلّنار بمرح وهي تجيبه؛
" العراقيون يا عمّ ، ألم المفاصل احد معالم القومية لدينا ! "
ودعت الرجل بعدها وهي تنتبه لوصول ليث الذي ركن بسيارته على الجانب الآخر من الشارع .
غادر الأخير سيارته مرحباً بها بأبتسامة واسعة بادلته إياها وهي تقول ؛
- خمس دقائق فقط .. ليس سيئاً ! صباحُ الخير .
- ماذا افعل تعرفين ازدحامات بغداد !
- معك حق ، انا مرتاحة منها اليوم لأن لا عمل لدي .
دلفت جُلّنار للسيارة وعاد ليث ليجلس خلف عجلة القيادة بينما يقول بحماس ؛
- إذاً اين الوجهة سيدتي ؟
- هل تناولت فطورك ؟
- لا يعتبر .. فقد شاركت قبس فطورها بكوب عصير حتى لا تتذمر وتترك فطورها كالمعتاد.
- أحسنت صنعاً .. من الجيد ان تتعلم الالتزام بوجبة الافطار
- ماذا عنكِ ؟ هل تعلمت الالتزام بوجبة الفطور ايضاً.
تضحك جُلّنار مردفة بصوت درامي ؛
- وانقلب السحرُ على الساحر ! حسناً لا زلتُ غير منتظمة بوقت الوجبة لكني لا اتجاوزها بالطبع .. أحياناً تكون منذُ الثامنة واحيانا في الحادية عشر ..
- يعد تطوراً ايضاً !
- اليوم شربت كوباً من الحليب فقط.
- بدلاً عن القهوة ! هذا تطور آخر
- سأدهشُـكَ بتطوراتي !
يكتفي بتوسيع ابتسامته وهو يركز انظاره على الطريق لتعقب جُلّنار بتساؤل ؛
- ماذا عن تناول الفطور معاً إذاً ؟
- انا جائع للغآية !
- جبنـة بالزعتر البري مع العسل وخبز محمص مع الكثير من مربى التوت وشاي ساخن ؟
- وانتِ .. اوه انه النعيم !
تبتسم وتردف متجاهلة " وانتِ " التي تعمد قولها ؛
- اليوم المثالي ، يبدأ بفطور مثالي أليس كذلك ؟ لكن ليكن مكاناً قريب من المتنبي ..
- لمّا ؟
- لا اسئلة ! عليكِ التنفيذ فقط .. اليوم انا المرشد السياحي للنزهة.
- أمرُكِ إذاً.
وصل بهم ليث بعد برهة الى احد المطاعم الشعبية الصغيرة والتي تفتح في هذه الساعة لأجل وجبات الفطور تحديداً ركن سيارته في مكان بعيد نسبياً عن الشارع الرئيسي وترجلوا منها ، انتبهت جُلّنار اثناء سيرهم للوجوه المبتسمة التي تحدق بهم وهي تصغي لحديث ليث عن القضية الصعبة التي يعمل عليها هذه الأيام حتى استوقفتها اخيراً ابتسامة شابتين يمشون عكس خط سير جُلّنار وليث وهمستا لبعضهم بأمر ما ولا زالت انظارهن مثبتة عليهم ، التفت لتسأل ليث فيما اذا كان شكلها غريب - فقد اشعرتها نظرات المارة بعدم الارتياح- لتنتبه اخيراً الى ما يرتديه ليث عادت تنظر نحو نفسها لتكتم ابتسامتها المحرجة بصعوبة .. أنّهم يرتدون الوان متماثلة ! بنطاله من الجينز ايضاً لكن غامق ولون كنزته ذاته لون حجابها وحذاء رياضي بنفس درجة بياض قميصها التفت تنظر لصورتهم المنعكسة على زجاج محل لبيع الورد مروا بجانبه بينما ليث مستمر بحديثه لتصدر عنها ضحكة مرحة من منظرهم المتشابه وكأنهم توأم مختلف الجنس نظر لها ليث بأستغراب قائلاً ؛
- ما المضحك في جزء الاختلاس ؟!
- لا ليس هذا ..
تتوقف وهي لا زالت تضحك ويتوقف هو متسائلاً معها لتشير له لمحل الزهور بجانبهم ، ينظر حيث اشارت ليردف هو بعد وهلة من التحديق بالواجهة الزجاجية وكأنه لا يفهم رغم انه لمح مظهرهم المتشابه واسعده المنظر ؛
- ماذا أتودينّ ان ابتاع لكِ الزهور ؟؟ حسناً اي نوع تفضلين ؟
- انت احمق !
لا تهتم لنواصل طريقنا .
تردف بأنزعاج من رده الأحمق وتهم بمواصلة طريقها ، لكنها تراه يدخل محل الزهور ضاحكاً .. " أهو جاد ! " هذا ما فكرت فيه وهي تراه يخاطب البائع ويختفون عن انظارها بعدها .. ظلت تنتظر خارجاً دون رغبة بالدخول والاستغراب يعلو ملامحها
ليعود هو بعد دقائق مع باقة صغيرة من ورد التوليب الأبيض لكنها حافظت على انزعاجها ( ظناً منها انه اشترى الزهور لأنّه اعتقد انّها تود - منه- ان يفعل ) وهي تقول بينما ترمق ورد التوليب ؛
- ألمّ تكن لا تعرف أيّ نوع من الورد أُفضل ؟
مد إليها بالباقة مبتسماً ووقف خلفها نسبياً وهو لا يزال ممسك بالباقة - وهم مواجهين للزجاج - نظرت جُلّنارلصورتهم المنعكسة مع باقة الزهور ليقول هو بسعادة ؛
- كنتُ امزح بالطبع ، انتِ تفضلين التوليب واخترته ابيض ليتماشى مع قميصك الجميل ويكمل اطلالتنا المتشابهة ..
- لاحظت إذاً ! يا لسوئـِكَ ..
- وهل استطيع ان اغفل شيء متعلق بكِ ..
تغاضت جُلّنار عن صراحتـه المفرطة حيث بات يكثر من قول اشياء مشابهـة في الآونة الأخيرة وانزلتْ انظارها لباقة الورد مبتسمة بسعادة واخذتها من يده اخيراً وهي تشكره ليواصلوا طريقهم للمطعم ، تناولوا فطورهم والسعادة تكتنفهم فهم يشعرون إنهم مع بعضهم ولأجل بعضهم فقط لأول مرة منذُ زمن طويل .. احساس غريب وكأنهم لا زالوا ليث طالب كلية الحقوق العاشق بصراحة وجُلّنار الغير ممتنة الجالسين يتجادلون على احدى مقاعد جامعة بغداد والتي شهدت على جمال علاقتهم لشهور عديدة !
انهوا فطورهم وغادروا لتنهَ جُلّنار ليث عن التوجه للسيارة مرة أخرى وهي تقول بينما تشير له ليكملوا السير نحو الأمام ؛
- سنواصل سيراً على الاقدام .
- حسناً لكن اين سنذهب ؟
- مفاجأة !
يبتسم ويواصل سيره معها وهذا امر آخر تحبه جُلّنار بليث الذي لا يستعجل معرفة الأمور ابداً ويستمتع باللحظة الراهنة فقط .
انعطفوا نحو المتنبي .. خمن ليث إنّهم سيقتنون الكتب او يصغون لأحدى المقامات العراقية مع عزف العود في زوايا المتنبي.
فهو يعرف ولع الأخيرة بالفن الغنائي العراقي لكن جُلّنار فاجئته بوقوفها امام مقهى شعبية لا يرتادُها غير كبار السن من الرجال - وربما زوار المتنبي لأجل الراحة- وتملأها رائحة الاراگيل واصوات احجار الدومينو والطاولي ، كانت تنظر له بأبتسامة مرحة ازداد اتساعها وهي ترى الدهشة تعلو ملامحه لتقول اخيراً حينما نظر لها بتساؤل ؛
- ما رأيك بلعبة طاولي يكون للفائز فيها حق الكلمة الأخيرة ؟
- عليّ الاعتراف .. انتِ تستمرين بأثارة دهشتي ، لكن موافق.

غـِـمَار حيث تعيش القصص. اكتشف الآن