١ : الخبرُ الأقسى

4.5K 169 84
                                    

كان بيتُنا دافئاً، عطفُ أبي، وحنانُ أمّي، وشقيقٌ يصغرني بعشرة أعوام، هادي، الّذي يُشعرني أحيانًا أنّه ابني المدلّل.

كان البيت دافئاً، وازداد دفئاً -ولا تستغربوا- بعد إصابة هادي بمرض الرّبو.

كان بعمر الثّالثة حين فتك فيروسٌ بجهازه التّنفّسيّ، لكنّه نجا. خرج من تلك الحرب مصاباً بالرّبو، لكنّا كنّا شاكرين لله على بقائه حيّاً، وتعاملنا مع مرضه بالصّبر وطول البال. تعرّفنا وقرأنا وتابعنا المستجدّات الطّبّيّة لنرعى هادي من دون تقصير.

في بيتنا الهانئ، في كثيرٍ من اللّيالي، يوقظنا سعال هادي، وكونَ غرفتينا متجاورتين، أسمعه بوضوح. أمّا عن والديّ، فقد ركّبا جهازاً في الغرفتين ليسمعا صوته طيلة اللّيل.

لقد تعلّم هو أيضاً كيفيّة إدارة مرضه: ماذا عليه أن يتجنّب، وكيف يرتاح، وأيّ مِنشقةٍ يستعمل: العاديّة أم المُنقذة الخاصّة بالأعراض الشّديدة.

وخلال السّنوات الأربع الماضية، لم يتعرّض سوى لنوباتٍ خفيفة أو متوسّطة، ولم يحتج للتّدخّل الطّبيّ إلّا نادراً. وعندما كان يعجز عن النوم كان والداي يهرعان إلى غرفته ويجلسان على سريره، وبين الأحضان والأحاديث الحلوة والتّربيت على الظهر ومداعبة الوجنات، كان يغفو مرتاحا ولو بعد حين.

وكنت أشاهد كلّ ذلك رغم النّعاس لأنّ هذا المشهد بالذّات، هذا الاهتمام والتّعاطف، لطف أمّي الذي لا يقلّ نتيجة التعب، وحرص أبي على الحضور رغم حاجته للاستيقاظ باكراً والقيادة لمسافةٍ طويلة، هذه الأصوات المشبّعة بالحنان والأمل والصّبر، بسمة هادي رغم الضّيق والألم... هذه الّتي جعلت بيتنا دافئاً.

هذه الّتي جعلت البيت دافئاً، عندما تغيب، ماذا سيحصل؟
هل سيتحوّل إلى منزلٍ جليديّ؟
وماذا عن روحي، هل تتّخذ اليأس ردائاً؟
وماذا عن قلبي، هل يتحجّر؟
وماذا عن هادي، هل يبتسمُ مجدّداً؟

ليت الزّمن توقّف عندما كنّا مجتمعين في غرفته قبل ليلتين، نتسامر بنشاطٍ لا يشبه السّاعة الثّانية بعد منتصف اللّيل، يتكوّر هو بجسده النّحيل، الأصغر من عمره، في حضن والدي، ويقبض على قميص نومه الزيتيّ بقبضتيه الصّغيرتين، وأتربّع أنا بجسدي الرّياضيّ على الأرض بينما أسند رأسي على رِجل أمّي، آنسُ بها وهي تمرّر أصابعها بين خصلات شعري وأغمض عينيّ مُسترخيا، وكأنّي عدتُ طفلاً ولستُ ابن سبعة عشر ربيعاً.

ليت الزّمن توقّف هناك وهو يشاهدنا: هادي يوقف حديثه الطّفولي مع أبي كلّ حينٍ ليتفقّدني كونه لا يرى وجهي «جواد؟».
-امم صغيري؟ ما زلتُ مستيقظاً.
فيقهقه بسرعةٍ وبراءة، ثمّ يكمل حديثه.

أوْ ليت الزّمن توقّف بعد ساعة حين زالت تلك الحمّى الّتي أرّقَتنا جميعاً، قبل أن ننسحب إلى غرفتَينا ونترك الصّغير المُتعب نائماً بعُمق.

صغيري عُد إليّحيث تعيش القصص. اكتشف الآن