٣ : حضنٌ خانق

1.6K 122 84
                                    

استدرتُ بسرعةٍ لأخفي دموعي عنه، وما خشيتُه حصل. "إذاً أينَ... والداي؟".

طُرق الباب ودخل الجميع في تلك اللّحظة فأنقذوني من الجواب، وعندما انشغل بهم هادي انسحبت، صلّيتُ فقد حلّ المساء بالفعل ولم يوقظوني، ثمّ خرجتُ إلى الحديقة وتمدّدتُ على العشب الرّبيعيّ وأفرغتُ خزّان دموعي. يجب أن نحسب كلّ كلمةٍ وحركةٍ مع هادي، كالماشين على الزّجاج، فخطأٌ واحد قد يسبّب له صدمةً قويّة.

رنّ هاتفي فأخرجته من جيبي، معلّمي مازن يتّصل. "أستاذي؟"
-السلام عليكم عزيزي جواد!
-وعليكم السّلام والرّحمة أستاذي.
-كيف حالك، وكيف أصبح أخوك؟
-أنا بخير، وهادي خرج قبل ساعاتٍ من المستشفى.
-الحمدُ لله على سلامته. إذاً، متى ستعود إلى المدرسة؟... لا أقصد استعجالك، أستعلِمُ فقط.
-ما زلتُ لا أعلم، لستُ... مستعدّاً بعد.
-لا بأس، خذ وقتك، الامتحان الرّسميّ بعد ٣ أشهرٍ و٢٠ يوماً، وأنت مجتهد، لا خوف عليك، لكن، عدني أنّك ستعود، وتخضع للامتحان.
-أعدك سأفعل، فنجاحي سيُفرح والديّ حيث هما الآن... شكراً على سؤالك معلّمي.
-هذا واجبي حبيبي، اعتنِ بنفسك وبهادي، في أمان الله.
-في أمان الله.

عدتُ إلى الدّاخل ووجدتُ الجميع حول هادي يمازحونه ويلاطفونه بينما تحاول جدّتي إطعامه، ولاحظتُ أنّهم قد ربطوا ذراعه إلى عنقه. كانت بعض الدّموع تهرب من عيونهم ولكنّهم نجحوا في إخفائها عنه. بقيتُ مستنداً على إطار الباب الخشبيّ أراقبهم بهدوء، حتّى أنهى هادي نصف الطّبق، وعندها قرّروا المغادرة، وسحبني خالي معه إلى الممرّ، "لقد سأل عن والدَيك فأخبرناه أنّ والدك أُرسل في رحلة عملٍ فرافقَته والدتك، فلتَعتمد نفس القصّة".
-حسناً.
-كيف تشعر؟
-لا بأس.
-إذا ما شعرتَ بالضّيق لأيّ سببٍ نادٍني.
-سأفعل.
طبع خالي قبلةً على جبهتي ثمّ اتّجه صوب غرفة الجلوس، وعدتُ لأجد هادي يحدّق بالجدار المقابل له وكأنّه سيخرقه. أغلقتُ الباب وجلستُ قربه ورحتُ أحدّق مثله.

"أخي؟" تكلّم أخيراً، وعلى الفور شعرتُ بالتّوتّر.
-نعم؟
-هل حقّاً سافر والداي؟
-آه عرفت؟!
-إذاً هل سافرا؟
-وهل نمزح معك؟
-أمّي لا تتركني في الأحوال العادّيّة، فكيف تذهب وأنا مريض؟
-حسناً، لقد اضطرّت إلى ذلك، ففي ذلك المكان لا أحد سيعتني بوالدي.
-والدي رجُل، ماذا عنّي أنا؟
-وهل ما زلتَ طفلاً؟
-لستُ طفلاً؟!
-أخوك هنا أمامك، ألا يعجبك طولي؟ وجدّتي والآخرون، سيعتنون بكَ جيّداً.
-أعلم، أنا فقط... أريد أمّي...
-(أخذتُ نفساً عميقا) أنا أيضاً، أريد أمّي.
-وهل ما زلتَ طفلاً؟
-جيّدة!
-أنتَ، يعجبني طولك وعرضك، ولكن...
-ولكن ماذا يا هادي؟
-(اغرورقت عيناه بالدّموع فحوّل نظره عنّي) لم... لم تحضنّي حتّى...

نظر إليّ مجدّداً بعد أن أنهى كلامه، وكان يعضُّ على شفته السّفلى، ولو أنّ الظّروف مختلفةٌ كنتُ لأضحكَ من لطافته. قبل أن أغيّر رأيي اقتربتُ أكثر وضممتُه بحذر حتّى لا أضغط على يده المصابة، وسرعان ما عدّل جلسته ليحشر نفسه فيَّ أكثر، ثمّ راح يحرّك رأسه يمنةً ويُسرةً كعادته دائماً، وبكى بهدوء. "لا بأس، ابكِ براحة" همستُ، ولكنّي كنتُ أخاطب نفسي، فحرّرنا صوتَينا معاً، وندمت لأنّي فوّتُّ عليّ هذا الشّعور الدّافئ ولم أحضنه باكراً. سندتُ ظهري على الوسائد، ثمّ أرحت رأسي فوق رأسه، وكلانا قد هدأ. لاحظتُ من كتلة جسمه أنّه قد نحف عن السّابق، كان صغير الحجم والآن صغر أكثر، أشعرُ بالشّفقة تجاهه، ليتني أستطيع تغيير الماضي، ليتني أستطيع إخفاء الحقيقة إلى الأبد، ليتني أستطيع إزالة اليتم عنك، وليتني... ليتني أستطيع مسامحتك والتوقّف عن لومك.

صغيري عُد إليّحيث تعيش القصص. اكتشف الآن