١٢ : أنتَ عائلتي

1.2K 97 176
                                    

"هادي، صغيري، اهدأ أرجوك، فأنا هنا، أخوكَ هنا، وهو... أنا... أحبّك كثيراً، أنتَ شخصي المفضّل في هذا العالم".

سكت هادي دفعةً واحدةً وفتح عينَيه على وسعهما، ثمّ انتبه على حَضن جواد له فأراح جسده، وأبقى ناظرَيه على السّقف. لم يعلّق أحدٌ على ما يحصل فكلّ همّهم أن يهدأ الصّغير. لا يعرفون كم انتظر هادي سماع هذه الكلمة، أو كم احتقر جواد نفسه لعجزه عن التّعبير لأخيه عبرها، وهي كانت ملح أحاديث عائلتهم دائماً، وكانت تداوي أوجاعهم كأفضل المسكّنات.

وقف جواد واستأذن من البقيّة ثمّ أغلق باب غرفته وجعل أخاه يستند على إحدى الوسائد على السّرير، ثمّ جلس هو على الجانب الآخر. "أنستطيع أن نتكلّم الآن؟" اكتفى الصّغيرُ بالإيماء "لماذا تظنّ أنّنا لم نعد نحبّك؟" سأله جواد بعد أن استلقى فالجلوس لم يُرضِ جسده المتعب.
-عمّتي، والخالة تغريد، والخالة وداد، ليس أنت... (أخفض رأسه وأخذ يتأمّل يديه) عمّتي قالت إنّ رعايتك لي تتعبك، وطلبت أن أنتقل إلى العيش معهم، رفضتُ ذلك، فصرخت عليّ. خالتي تغريد أخبرَت عمّي أنّها لا تقوى على استقبالي ليلاً أيضاً لأنّ ذلك سيُتعبها. وأنت تعلم ماذا فعلَت خالتي وداد... آسف.
-(أخذ جواد نفساً عميقاً) هل أخبرتك سابقاً عن نيّتي في التخلّي عنك؟
-لا
-إذن هل لكلام عمّتي أو عمّي أو أيٍّ كان أثر؟
-لقد أشعروني بأنّني... عبء عليك.
-ولكنّك لستَ عبئاً، أنت أخي، إن لم أحفظك وآخذ بيدك فبِيَد من آخذ؟ (مسح دموعه بسرعة) ألم نتّفق على أنّ أمّ مهدي كانت غاضبةً ربّما فنفّست عن غضبها في تلك اللّعبة؟
-بلى، ولكن ماذا لو كان الأمر مختلفاً؟
-ليست مسؤوليّتنا أن نفكّر في الأمر أكثر. إذا ما تكرّر فذلك شأنٌ آخر... بالنّسبة إلى زوجة عمّي فهي محقّة، ضياء يوقظها في اللّيل أحياناً، وعليها في النّهار أن ترعى صغارها وتهتمّ بجدّيّ وترتّب البيت وتطبخ... كلّ المسؤوليّات على عاتقها، هي ترتاح فقط في نهاية الأسبوع، لذلك عندما تعتذر عن استقبالك فهذا حقّها وهي لا تُلام. على العكس، أنا أحترم كونها تعرف دورها وقدرتها جيّداً. انظر من زاويتها يا هادي، ماذا ترى؟
-إنّها على حقّ، لكنّ ذلك أحزنني، رغم أنّي لا أريد البقاء هنا... أخي، هل أنا غرضٌ ما حتّى يتباحثوا في أيّ بيتٍ أكون، من غير أن يأخذوا رأيي؟ أنا لديّ بيت، حيث تكون أنت، ولا أريد تركه، لا أريد تركك!
-(اغرورقت عينا جواد بالدّموع) وأنا يا هادي لا أنوي تركك. ابتسِم من أجلي هيّا... هكذا أفضل، عاد وجهك الجميل!
-عيناك الجميلتان!
-(ابتسَم) بالنّسبة إلى عمّتي، فهي أكثر من يحبّك، ولكنّها ربّما أشفقَت على حالي في المشفى وشعرَت بالتّقصير. لم تكن نيّتها سيّئة، لذلك لا تحزن من تصرّفها. لا تنسَ حبيبي أنّ ما نأكله في بيتنا من تحضيرها، هي تطهو لنا بكلّ حبّ، ويتحمّل خالي تكاليف كل ذلك، عدا عن مصروفنا اليوميّ والأدوية وزيارات المستشفى... خالي وعمّي يتقاسمان كلّ شيء. برأيك هل سيقوم أحدٌ بخدمة شخصٍ لا يحبّه بهذه الطّريقة؟
-لا
-إذاً فلنضع النّقاط على الحروف. أوّلاً، لا أحد يكرهك. ثانياً، لا أريدك أن تبكي على كلّ صغيرةٍ وكبيرة من اليوم وصاعداً، كلّمني عندما يحصل شيء ولا تصرف طاقتك، وبعدها خذ قراراً.
-سوف أبذل جهدي، أعتذر عمّا سبّبته من إزعاج.
-انظر إليّ يا صغير، هل طلبتُ منك اعتذاراً؟ أنا أتفهّم أنّ الأحاسيس أحياناً تجعلنا نفقد السّيطرة على ردّات فعلنا. جميعنا نُخطئ، المهم أن نتعلّم من هذه الأخطاء فتغدو تجارب مفيدة.
-سوف أتعلّم!
-(ضحك جواد) وأنا سأكون فخوراً بك. والآن، (مدّ يده ووضعها على صدر هادي) أخبرني، هل يُزعجك شعورٌ ما هنا؟
-(تكلّم بعد تأمُّل) نعم، بسبب رأسي (رفع يديه الاثنتين وغطّى أذنَيه).
-(عقد حاجبَيه) اشرح لي...
-هناكَ صوتٌ يتكرّر في رأسي، ويجعل قلبي يعتصر ألماً... ولستُ أفهم السّبب.
-وماذا يقول هذا الصّوت؟
-(عضّ على شفته وهو ينظر في عينَي الأكبر) أنت... تعرف.
-هل هذا ما يقوله؟
-لا، أنتَ تعرف ما يقول، لأنّه... (تنهّد) سأتكلّم بشرط ألّا تحزن!
-لن أحزن.
-(تكلّم بينما ينقّل بصره بين وجه جواد والفراش) إنّه صوتك أنت... أنساه قليلاً ثمّ عندما يحصل شيءٌ ما... أتذكّره، ولا يتوقّف رغم محاولاتي... وعندها يؤلمني رأسي كثيراً، ولكنّ قلبي يؤلم أكثر...
-وماذا أقول؟
-امم؟
-أقصد صوتي، ماذا يقول؟
-ألا تتذكّر يوم كنتُ في المشفى بسبب حادثة سَلـ... البرميل؟

صغيري عُد إليّحيث تعيش القصص. اكتشف الآن