١٥ : فراشةٌ في الشِّباك

1.1K 101 244
                                    

"أخي؟" همس هادي بتردّدٍ عبر الهاتف.
-سلام حبيبي.
-وعليكم السّلام... هل أنتَ بخير؟
-أنا بخير، ومشتاقٌ إليكَ كثيراً.
-أنهَيتَ دروسك؟
-(لو تعلمُ كم آلمَني هذا الدّرس!) نعم، لقد درست.
-إذن أراك غداً؟
-(لا أريد أن أكذب، لا أريد) ادعُ لنا أن تسير الأمور بسرعة.
-ظننتُ أنّك ستتأخّر لساعتين أو ثلاثٍ فقط... لقد تمّ خداعي.
-(حتّى في الحزن يا هادي أنتَ طريفٌ) آسفٌ صغيري، من أعماق قلبي... لم أقصد خداعك.
-حسناً، سامحتُك.
-(هل سوف تستمرُّ في مسامحتي؟) أحبّك.
-أحبّكَ أكثر.
-تصبح على خيرٍ يا قلبَ أخيك.
-وأنتَ من أهل الخَير...

لديه المزيد ليقوله، أشعر بذلك، ولكنّه احتفظ به. لقد وعدتُه أن أقضي معه ما تبقّى من النّهار، وها أنا مستلقٍ على السّرير كالعجوز أفتح عيني بصعوبة. لقد تهوّرتُ، شخصٌ مثلي لديه أخٌ ينتظرهُ وجب أن يُبعد نفسَه عن الخطر، ولكنّ النّدم لن يُجدي نفعاً. لن تعود عيني كالسّابق قبل أسبوعين أو ثلاثة، ولكنّي لن أنتظر أكثر من أسبوع، يكون لونها قد تحسّن قليلاً وقد خفّ الورم، وأستطيع فتحَها وإغلاقها بسهولةٍ ومن دون ألم، وعندها يمكنني إقناع هادي أنّها مجرّد لسعة حشرةٍ سيزول أثرُها مع الوقت. آمل أن يصبر إلى ذلك الحين.

_____

لن يكون هادي مستعدّاً في يومٍ من الأيّام لمفارقة جواد دون مقدّمات، فصدمة فقدان والدَيه قد زرعت في عقله فكرةً سوداء قاتمة: الغياب المفاجئ يعني مصيبة، فقد، موت، فراقٌ أبديّ، حزن، لوعة، ألم...

مهما أكّدوا عليه أنّ أخاه بخيرٍ وأنّ سبب غيابه طبيعيٌّ فإنّ عقلَه لن يصدّق، سوف يُزعجه بأسوأ السّيناريوهات، ويؤرّقه بسبب أفظع الكوابيس. عقله سوف يشنُّ عليه حرباً، وهو سوف يستسلم لها ويغرق بأضرارها، فليس يجيدُ التّعامل بعد مع اضطرابات نفسه، وجواد ليس هنا ليحاوره ويُخرجه من دوّامة عقله.

أغلقَ الصّغيرُ السّمّاعة وتنهّد بحُزن، يرجو أن يكون جواد بخيرٍ حقّاً وأن تمرُّ السّاعات التّالية بسرعةٍ كي يطمئنَّ عليه بأمّ عينيه ويُهدّئ قلبه الجزِع بضمّة قويّة. أخذ يربّتَ على صدره بسرعةٍ يستجلبُ بعض المواساة إلى أن ظهرَت سماح أمامه بفُستان نومِها المزركش بالورود "احزر إلى من اشتاق سريريَ الكبير؟" تكلّمَت بحماسٍ وقوّسَت عينَيها بانتظار إجابته.

أضحكَهُ شكلُها، فتح ذراعَيه فحملَتهُ ودارت به، تشبّث بها جيّداً وأخذ يضحك بقوّة، وبعد أن توقّفَت سألَها بصوتٍ ضعيف: "هل اشتاق إليّ أنا؟".
-حتماً! هيّا ننام لأنّكَ ذابلٌ.
-هيّا

كان ذابلاً من النّعاس ومن شوقه إلى جواد، هل يخبرها؟ أحضرَت له بيجامة نومٍ لطيفةً من غرفة والدَيه ثمّ دثّرته كي لا يُصاب بالبرد وحضنته. "هل أحكي لك قصّة؟" سألَته بينما تمسح غرّته أفقيّاً.
-أريد نشيداً.
-امم دعني أستذكر شيئاً.
-عمّتي...
-نعم، عصفوري
-هل جواد بخير؟
-نعم حبيبي، جواد بخير.
-حسناً...
-اسمع هذه التّرنيمة:
قمري الصّغيرْ، ينامُ في السّرير
إلى جانب قلبي، يغفو بقُربي
عيناه نجمانِ، سقطا بأحضاني
والوجه قمحيٌّ، حلوٌ وبهيٌّ
أنفاسه لحنٌ، أحضانُه أمنٌ
أحبّه أهواه، وكُلّي فداه
قمري الصّغير، ينامُ في السّرير

صغيري عُد إليّحيث تعيش القصص. اكتشف الآن