٥ : عبق الدّيار دواء

1.2K 111 33
                                    

✨️شكراً على متابعتكم وآرائكم المشجِّعة✨️

قراءة ممتعة

✿✿✿

وفى هادي بوعده، وبان التحسّن على حركة قدمَيه من الأسبوع الأوّل. وبعد مضيّ ثلاثة أسابيع على وفاة والديّ عدتُ إلى الثّانويّة، وبعد انتهاء الدّوام مررتُ على مدرسة هادي فطمأنوني أنّه سيُرفّع إلى الصّفّ الثّالث من دون الحاجة ليداوم من جديد أو يخضع للامتحانات النّهائيّة، فمستواه جيّد، ولكنّه يستطيع العودةَ متى شاء إذا رغب بذلك. شكرتهم كثيراً وقد زال همّ تدريس هادي عن كاهلي، فبرنامجي مكتظٌّ وأحتاج لبذل جهدٍ مضاعفٍ لتدارك ما فاتني من غير تقصير.

وصلتُ فاستقبلني هادي عند الباب، كما كانت تفعل أمّي، ثمّ دغدَغت حواسّي رائحةُ الطّبخ، ففرّت دمعةٌ يتيمةٌ مسحتُها على عجَل لطمأنة أخي أنّي بخير. هكذا مرّت الأيّام، هادي يفتح ليَ الباب أو ينتظرني في الحديقة، نتناول طعام جدّتي أو عمّتي هديل، أجلسُ معهم قليلاً بينما نحتسي الشّاي، فهذا يؤنس جدّيّ، ثمّ أختفي في غرفتنا لأدرس. أحياناً يتسلّل هادي لكنّه لا يزعجني، وأحياناً لا أراه حتّى المساء عندما يحين موعد نومه. كان الجميع يعتني به جيّداً خلال النّهار، ولكنّ ثقل حنين اللّيل وذكريات الوسادة كانت من نصيبي.

كنتُ لا آوي إلى السّرير كلّ ليلةٍ إلّا وقد نال منّي الإرهاق، يزحف هادي إلى حضني ثمّ يشرع بالكلام. أحياناً يتكلّم عن والديّ والذّكريات، وأحياناً عن مجريات يومه، وأحياناً يتحدّث بعشوائيّةٍ تامّة فلا أفهم مغزى أيّ جملةٍ يقولها. في البداية كنتُ أنصتُ إليه وأقاوم نعاسي، ومع الوقت اكتشفتُ أنّه يحرّك لسانه ليشغل عقلَه كي لا يقع في فخّ الأرق، لذا ما عدتُ أجاهد لأنصت، وما عدتُ أنتظر نومه، بل أحياناً أغفو بمجرّد أن أضمّه إلى صدري، أمّا هو فلن يردعه شيءٌ عن الثّرثرة.

طبعاً لم يهجُرنا رفيقُ هادي الدّائم: الرّبو. لكنّ زياراته أتت لطيفةً حتّى الآن، فبقاء هادي في المنزل أبعده عن كلّ المثيرات. مهما بلغ مقدار تعبي أو عمق نومي، ينجح صوت سعاله بإيقاظي دائماً. أحياناً أجده قد استعمل المِنشقة بالفعل وينتظر سرَيان مفعولها، فأجلس كما كان يفعل والداي وأمسح على ظهره إلى أن يغفوَ من جديد. وهكذا مرّت اللّيالي.

بعد شهرٍ على وفاة والديّ، زار هادي قبرَيهما للمرّة الأولى، فهو، للهِ الحمد، قد استعاد القوّة في عضلات قدمَيه وعاد كسابق عهدِه. تلونا القرآن سويّاً بعد أن كلَّ من النّحيب، ثمّ ودّعهما ووعد أن يعود للزّيارة كلّ يوم جمعة لاستحباب ذلك.

بعد خمسة أسابيع على وفاة والديّ، قامت عمّتاي بتنظيف بيتنا وتجهيزه لعودتنا، فتفقّدتا المونة وتخلّصتا من الطعام الفاسد، ثم تبضّعتا كلّ ما ينقصنا من أدوات أو مواد، ورتّبتا كلّ شيءٍ في مكانه.

خلال الأسبوع الأخير الّذي قضيناه في منزل العائلة حصل الكثير: فُكّت الجبيرة عن ذراع هادي بعد أن التأم عظمه تماماً، كما استقبلْنا عائلة عمّي سامر، وقد تجدّد الحزن، فزوجة عمّي كانت صديقة والدَتي المقرّبة، ونتيجةَ سفرها لم تكن قد تجاوزت الأمر بعد. من الجيّد أنّ المنزل امتلأ بالأطفال مجدّداً فهذا سيخفّف من وطأة رحيلنا على جدّيّ وعمّتي سماح وعمّي.

خالي وعمّتي هديل عادا إلى بيتهما أخيراً، وهو أبعد من بيتنا، لذا كانا يتفقّدان أولادهما كلّ حين، ثمّ يعودان ليبقيا معنا. ابنتهما لميس تكبرني بثلاثة أعوام، وقد تولّت أمر رعاية أخوَيها جهاد وفؤاد، وهما بعمرِ هادي، طيلة الفترة الماضية. في نهاية ذلك الأسبوع اجتمع كلّ هؤلاء، أفطرنا سويّاً وقضينا وقتاً ممتعا، لكنّه خُتم بالكثير من الدّموع. ودّعتُ وهادي جدّي وجدّتي وشكرنا الجميع على تعبهم وسهرهم، قبّلنا أيدي الكبار وعانقنا الصّغار ثمّ توجّهنا برفقة عمّي وخالي فقط إلى بيتنا.

بعد ستّة أسابيع على إغلاقي لهذا الباب فتحتُه ودخلتُ مجدّداً، استقبلَني عطرُ والديّ ورأيتُهما في كلّ زاوية، تردّدت ضحكاتهما في مسمعي وشعرتُ بقبلاتهما على خدّيّ. هويتُ إلى أرض غرفة الاستقبال، لم أهتمّ لوجود خالي أو عمّي، ولم يردعني قدوم الجيران للتّرحيب بنا عن الانهيار والعويل، لكنّي بعد الانتهاء وجدتُ أنّ حال الجميع يرثى لها.

أوصلتُ الحقائب إلى غرف نومنا ثمّ نزلتُ مجدّداً لأرى هادي يعانق مهدي بقوّةٍ في باحة المنزل وكلاهما يبكيان، وقد انشغل بهما الكبار جميعاً يحاولون فصلهما وتهدئتهما. وبعد أن تمّت المهمّة بنجاحٍ ودّعنا الجميع وشكرناهم. أمسكتُ بكفِّ هادي ودخلنا البيت على مهل، أقفلنا الباب، واستسلمنا لعصف الذّكريات.

استغرقنا باقي النّهار في غرفة والدَينا نتنقّل بين ملابسهما وأغراضهما وألبوم الصّوَر. أمام الصّور جلسنا لساعاتٍ نبكي ونضحك ونروي ما نذكره عن كلّ لقطة. في جعبتي عشر سنواتٍ من الذّكريات أكثر ممّا يمتلكه هادي، ولكنّي وعدتُه أن أخبره بكلّ شيء. تمضية الوقت في غرفة حبيبَينا أراحتنا، وفي النّهاية قرّرنا النّوم على سريرهما.

لم أكن لأتوقّع حصول ذلك، ولكن في تلك الغرفة الّتي تحمل عطر أبي وأمّي، على وسادتيهما، بعد يومٍ مثقلٍ بالشّعور والبَوح والحنين، غفى هادي من غير أن يثرثر، وغفوتُ أنا سريعاً ولم تهاجمني الكوابيس.

ليتَ هذه السَّكِينةَ تستمرّ.

وليتَ "ليتَ" لا تفيدُ التمنّي...

صغيري عُد إليّحيث تعيش القصص. اكتشف الآن