٤ : ذبول

1.4K 117 79
                                    

أحسنتَ يا جواد، لقد نجحتَ في إيذاء أخيك بعد يومٍ واحدٍ على خروجه من المشفى.

_____

جاء الجميع بالتّتالي ليؤكّدوا لي أنّ هادي بخير وأنّه نام بعد أن بكى قليلاً، لكنّ ذلك لم يكن كافيا لتحريكي من مكاني. جلسَت عمّتي هديل واعتذرت عن صراخها، "أعرف أنّك لم تقصد، وأنا كذلك، تفاجأتُ ف...".
-أعرف ذلك، لا عليكِ عمّتي.
-هل ستبقى هنا؟ جدّاك يشربان الشّاي في الحديقة، قم واجلس معهما.
-لا أشعر بالرّغبة في ذلك.
-إذاً هل تريد أن تتفقّد أخاك؟
-لستُ مستعدّاً... ما الخطوة التّالية يا عمّة؟ لقد طرح علينا أسئلةً متوقّعة وبانت هشاشتُنا، فكيف سنتصرّف حين تغدو الأمور أوضح بالنّسبة إليه؟
-في النّهاية سيعرف، نحنُ فقط حاولنا تأجيل الأمر، ويبدو أنّنا فشلنا. عندما يستيقظ سيطلب أجوبةً حتماً، هل نخبره؟
-دعيني أفكّر، وإن لزم الأمر، أنا سأخبره.
-واثقٌ أنت؟ ألم تطلب أن نبعده عنك قدر المستطاع؟
-بلى، لكنّ ذلك مستحيل. جدّي وليّ أمرنا الآن، ولكنّه مريض، وأنتِ وخالي ستعودان إلى منزلكما قريبا، أمّا عمّي فعائلته لن تبقى خارج البلد إلى الأبد، وعمّتي لديها وظيفة... في النّهاية سنعود إلى بيتنا يا عمّتي، وهادي مسؤوليّتي أنا.

استمعَت عمّتي ودموعها تهلّ بهدوء، ثمّ غادرت من غير أن تنبس ببنت شفة. وبعد المزيد من الوقت الفارغ عرفتُ ما أحتاجه: يجب أن أركض. ومثل اللّيلة السّابقة أطلقتُ لساقيّ العنان من غير أن أفكّر بوجهةٍ محدّدة، ولكنّي وجدتُ نفسي بعد نصف ساعةٍ أمام رخامةٍ بيضاء حُفر عليها اسما والديّ. سأتعرّض للتّوبيخ لو علم عمّي أو خالي بقطعيَ كلّ المسافة إلى المقبرة راكضاً تحت الشّمس. من الجيّد أنّها لا تبعد عن بيتنا سوى عشر دقائق مشياً.

سلّمت، ثمّ قرأتُ من القرآن الكريم ما طاب لي، وبعدَها بدأَت جلسةُ البَوح: خلال دقائق قليلة أحدّث والديّ عن أحوالي وهواجسي، وعمّا حدث مُذ كنتُ هنا آخر مرّة وحتّى عودتي. واليوم أخبرتُهما عن عودة هادي وما تلاها، وصولاً إلى زلّة لساني تلك. بكيتُ كثيراً، وفي الختام، ككلّ مرّة، سألتهما الدّعاء. أردتُ النّهوض ولكن غيّرتُ رأيي، فألقيتُ بجسدي على الرّخامة الباردة بفضل الفَيء الّذي توفّره الأشجار الكثيفة هنا، "قليلاً فقط" همست، وغفوتُ سريعاً.

_____

في البيت، فتح هادي عينَيه بهلعٍ بعد وقتٍ قصير، فالكوابيس المتنوّعة لم تتركه يستغرق في نومه، وفي جميعها يسمع صوت جواد يكرّر عبارته "ولكنّها لن تعود". أخذ السّقفُ يتماوج أمام ناظريه بفعل دموعه المتجمّعة "لماذا لن تعود أمّي؟ وماذا عن أبي؟" ثمّ استسلم لمخيّلته، وهو يتصوّر الأسباب، وكلّها كانت سيّئة.

_____

استيقظ جواد على خاله يهزّه بخفّة "خالي!"
-ما الّذي تفعله هنا في هذا الوقت، هل لديك فكرة كم بحثنا عنك؟ على الأقلّ أخبر أحدنا.
-لم أكن أنوي التأخّر صدّقني، شعرتُ برغبةٍ في النّوم فجأة.
-على الأقلّ أبقِ هاتفك مسموعاً من الآن فصاعداً.
-سأفعل، أعتذر بصدق، لم أقصد إثارة قلقكم. هل... هل تركتَ عملك لتبحث عنّي؟
-انتهى دوامي قبل ساعة.
-كيف ذلك؟ وصلتُ إلى هنا بتمام التّاسعة.
-وقد مرّت ستّ ساعاتٍ بالفعل.
-يا إلهي! خالي، هل تصدّقونني عندما أقول إنّي لا أقصد؟ لست أبرّر لنفسي ولكنّي أشردُ كثيراً وأنسى وأفشلُ في تقدير الأمور و...
-مهلاً، مهلاً، نحن نصدّقك، ولستُ ألومك، أريدك أن تنتبه أكثر.

صغيري عُد إليّحيث تعيش القصص. اكتشف الآن