الفصل الثالث والأربعين

36 2 0
                                    

جلال عبد المقصود.

أنهيت صلاتي وأورادي للفجر، وحتى أشرقت الشمس، وأرسلت رسائلها القرنفلية الدافئة عبر النافذة معلنة بدء يومٍ جديد. تعالى صداح النوارس المبشر بالخيرات ممتزج بهدير الأمواج المتلاطمة على شط أجمل البلاد.

ملئت عيني من وجه زوجتي الساكن الصبوح، ثم أيقظتها للصلاة التي أدتها على عجالة وعادت للنوم وتركتني وحيد. خرجتُ للبلكون لأتنسم هواء الإسكندرية البارد المهدئ حتى بشهر مايو، و بوادره بصيف ساخن للغاية، رئتي استساغت رائحة باليود، وطالبت بالمزيد فطالت مراقبتي للنوارس التي تنزل عن السماء للرمال الرمادية باحثة عن إفطارها بين طرح بحر أمس.

كانت ليلة أمس مرهقة على الجميع، هنا فقدت أعصابها وانهارت باكية، إثر تخوفها من امتحان اليوم، كنت أعلم أن الهندسة مجال مضني يصعب على فتيات اجتيازه بسهولة وإن كن بنبوغها فقد نطقت إسمي وهي لم تكمل سبعة أشهر، وعلمت أنني أبيها لما أكملت السنة، ودارت بينا المجادلات وهي بعمر السنتين وثلاثة أشهر.

أخويها الغبيين حتى بعد أن بلغا مبلغ الرجال لا يملكان رصانتها. عوضت بـهنا ما فاتني من شرائع الأبوة مع ولداي، فزوجتي الأولى كانت تبعدهما عن طريقي على الدوام، وتهتم بشئونهما منفردة ظنًا منها إنها ترخي عن كاهلي الأعباء، على النقيض من فدوى، فهي من دفعت هنا دفعًا إلي حتى تنعم بالتجربة التي لم تنعم بها أمها، لأن أبا فدوى تخلى عنها منذ الصغر.

بلغت هنا الهندسة كما أرادت إنما ليست سعيدة، دائمًا شاردة، تبتسم بالكاد فرجحت أمها إنها مثقلة بالمواد الدراسية الجديدة، ومتخوفة من أن تخذل أبيها الذي تحدته أن تكون من المتفوقين بهذه السنة.

لم تتحمل جدتها توسلاتها لتكون معها، وسارعت إليها، وتركوني وحيدًا مع الغبيين، الأبله الأكبر متعثر ببعثته بنفس الوقت الذي يسجل به الطبال الماجن ابن العربيد بالستين من عمره براءة اختراع هنا الرابعة، ويلح علي بخطبة ابنتي الوحيدة، فأرجأت هذه المحادثات حتى عودته النهائية لمصر، ومالك لا ينوي عودة بحمد لله.

أما الأبلة الأصغر هو من سوف يتسبب بموتي بلا أدنى شك، حياته الملاهي الليلة والنساء، خاصة لما توطدت علاقته مع صاحب عقار الإسكندرية الذي اشتريت به الشقة لتدرس بها الصغيرة؛ مراد المنشاوي العربيد العجوز.

لم أقرب الخمر طيلة حياتي، وعلاقتي بالنساء حُصرت في زوجتاي؛ بينما وولداي عاقين، فاشلين، أما ابن العربيد يتقلد أعلى المناصب ويحوز على الأوسمة، ويرسل لي لاستلامها عنه شكرًا وعرفانًا بجميلي لما كنت معلمه بينما يلقبني بعرابه كما يردد. حسبي الله ونعم الوكيل تكفيني الصغيرة قُربا.

استيقظت فدوى من النوم أخيراً وقالت متسائلة:

- بتحسبن على مين على الصبح؟

سوء توقيتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن