الفصل الحادي عشر

48 4 1
                                    

[ أمل قاسم راجي (غالية) ]

لم تزدحم الكرادة بروادها بعد فلا يزال الوقت مبكراً. قبل الغزو كانت تفتح المقاهي ومحال الطعام أبوابها بعد صلاة الفجر مباشرة، إنما الآن ارتبطت ميقاتها بمواعيد الغزاة.

بعد الغزو الأمريكي أمست المحال جاهزة لاستقبال روادها ما بين السابعة صباحاً للتاسعة، وحينها يبدأ الزحام والتزاحم على محال الأطعمة والمقاهي بشكل خاص. ما أجمل محال الكرادة خاصة مقاهيها. كنت بالسابق أرقبها وأنا بطريقي لجامعتي، علني أصادف نفراً من شعرائها العِظام، بل والأعظم على الإطلاق، ولكن عسرة الحظ كما أصبحت وأمسيت ولم أرى أيهم.

كل ملامح بغداد أذابها الغزو إلا المقاهي، لا يزال بعضها محتفظ بالهوية التراثية البغدادية العريقة، تأرجحت الهوية بعدما أغلق الشارع عقب الغزو لشهرين بالصبات الإسمنتية عند واجهة فندق فلسطين والشيراتون وعند مدخل فندق بغداد الذي أصبح فيما بعد مقر للمخابرات المركزية الأمريكية، وقد اصطبغ الشارع بأمريكية بغيضة باردة. كرادة مريم أمست الآن بعد الغزو المنطقة الخضراء نسبة إلي وجود ضريح السيدة مريم بنت الإمام جعفر الصاقص به، أو لأنه الحي الوحيد منذ سقوط بغداد الذي يتميز بهدوء أمني أمريكي الصنع؛ لأن الأمريكان اتخذوا من قصور الرئيس صدام حسين و بيوت مواليه مقارهم الآمنة.

من معالم الشارع المميزة البيوت والقصور المترفة التي سكنها السياسيين المقربون لصدام و قصور صدام وأبنائه، والتي أصبحت تذرها رياح الغزو أو أتخذوها الأمريكان، مقر لاحتفالاتهم الماجنة. امتازت أيضا الكرادة بالمساجد القديمة والكنائس العتيقة ودور السينما المتعددة إنما لم أقرب ثلاثتهم يوماً.

هبت رياح التغيير على بغداد حتى قبل الغزو، وسكنت بعض المساجد المذاهب المختلفة، مما جعل أبي يخشى من الصلاة داخل مسجد لا يعرف ماهية مذهبه، وقد يؤخذ عليه من أهل سنة يتبعها أو يتبعه أهل المذهب الأخر ليصير من أتباعهم رغما عنه، أما الكنائس لا أعرف عنها شيء إلا دق أجراسها بمرتين أو ثلاث كل عام، و توافد أهل الذمة عليها، والذين تقلصت أعدادهم يوماً بعد يوم وحتى اختفوا تماماً. كنتُ أقرأ يومياً أفيشات الأفلام العربية على دور السينما.

لكم تمنيت أن أشاهد أي فيلم لأى نجم، وإن كان قلبي يميل للنجم الأسمر أحمد ذكي، ولما صارحت أبي بنيتي نهاني عن التفكير بهذه الأمور، وأخبرني أن دور السينما من صنع الشيطان لإبعاد عباد الله عن الخير، وعلي عدم الانسياق من وراء الشيطان واستمعت لأبي.

بأي حال لم تكن تجذبني السينما كما اجتذبتني المقاهي الثقافية، واستراق السمع على بعض الأبيات الشعرية المنظومة بحرفية الأقدمين، وإدراجها بالأبحاث التي تُطلب مني بالجامعة. أبي أخبرني بالسابق، أن هذه المقاهي لم تكن لإضاعة الوقت والتسامر التافه، أو للهرب من حياة الصيف المملة بل ساهمت بشكل فعّال في التغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها العراق منذ تأسيسها.

سوء توقيتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن