قبل ثلاثة و عشرون عامًا ...
طال مكوثها بغرفة النوم، بينما يجالس "يحيى" صغيرته البالغة من العمر خمس سموات بالصالة و قد ضجر في غيابها، ترك الصغيرة أمام التلفاز تتابع شغفٍ طفولي مسلسل كرتوني شهير، و قام متجهًا للداخل، مع كل خطوة يخطوها يتسلل صوتها أوضح إلى أذنيه
لقد كانت تغني !
مدفوعًا بفضوله أسرع من سيره حتى وصل إليها، رآها تجلس أمام منضدة الزينة، ترتدي روب الاستحمام و تمشّط شعرها، آسرة و جميلة كما هي دومًا، لكن عبوسه لسماع الكلمات التي راحت تتغنّى بها منعه من تأملها بنظرات الإعجاب :
-من حبي فيك يا جاري يا جاري من زمان.. بخبي الشوق و أداري لا يعرفوا الجيران.. بخبي الشوق و أداري أداري لا يعرفوا الجيران ...
و كفّت عن الغناء فجأةً، عندما لمحة إنعكاسه بالمرآة، طالعته بنظراتها الفاترة و هي تقول :
-يحيى.. في حاجة ؟
-إيه إللي كنتي بتقوليه دلوقتي ده !؟
رفعت حاجبيها مدهوشة من الحدة التي يخاطبها بها، لكنها جاوبته بهدوء :
-كنت بغني.. ممنوع أغني و لا إيه !!
كز على أسنانه بغضبٍ و لاحظت توتر جسده لحظيًا قبل أن يقول بغلظةٍ :
-مين جارك ده يا هانم إللي بتغنيله !؟؟
تدلّى فكها من شدة الذهول و قامت واقفة على قدميها فورًا، استدارت ناحيته ملقية بالفرشاة جانبًا، التصق شعرها الرطب بجانبيّ وجهها مضفيًا عليها إثارة و فتنة بينما تردد بلهجةٍ لا تقل حدة عنه :
-جاري إيه و بتاع إيه انت سامع نفسك ؟ هو أي واحدة تغني أغنية عاطفية جوزها يشك فيها.. يعني أنا مثلًا لو غنّيت ...
و بدأت تتمايل أمامه بسخرية مؤدية :
-آاااااه يا اسمراني اللون.. حبيبي يا اسمراني ...
و عاودت التحدث بازرداءٍ لاذع :
-أكون أنا بحب واحد اسمر !!؟
أقنعته، لم يكن لديه أيّ مبررات للشك بها أصلًا، لكنه لا يزال حانقًا عليها، لا يزال على نفس الحالة المتوترة
اقترب منها بخطى ثابتة، و توقف على بُعد قدم منها، نظر لها مليًا بعينيه الكرستالية ثم قال بخفوتٍ خطر :
-أنا فاهم إللي بتقوليه كويس. و مش معنى إني بسأل أبقى شاكك فيكي.. أنا لو شكّيت مش هقف أتكلم معاكي كده !
رمقته بنظرةٍ مستخفة كادت تطيح بصوابه لو لا أن تمالك أعصابه كي لا يؤذيها، و غمغم من بين أسنانه :
-تفتكري هفضل لحد إمتى مستحمل طريقتك دي يا رحمة ؟
أمالت رأسها قائلة ببرودٍ :
أنت تقرأ
وما أدراكِ بالعشق
عاطفية"لا يوجد مكانٌ للكراهية في عينيكِ تجاهي ؛ أنظري إلى وجهي جيدًا، أقرّي بانتمائك إلى سيدك.. أنتِ ملك يميني.. أنتِ طوع إشارةً منّي... هل تريدين إثبات !" _ عثمان البحيري