حياة تراجيدية

202 21 15
                                    

السماء ملبدة بالغيوم الكثيفة حاجبة أشعة الشمس، رياحٌ باردةٌ عليلة حركت أغصان شجرة الصفصاف العجوز ، وحيدًا وقف في المقبرةِ الموحشة التي ملأ الضباب الزوايا الصغيرة فيها واقفًا بصمت ينظر نحو قبرٍ لم يحفر إلا حديثًا، يقرأ الإسم مرارًا مرةً فوق أخرى لا يفهم المكتوب وكأنها لغة لا يعي منها شيئًا، أطرافه وارنبة انفه محمرين لخفة ثياب السواد التي كانت تلف جسده الهزيل المرتعش، ما به يا ترى؟ فقد إدراكه بالواقع يشعر وكأن ما يمر به ليس إلا كابوس سريع سيمضي قريبًا ويستيقظ إلى الواقع حيث كان لا يزال عمه على قيد الحياة.

لِمَ ذرف الدموع صارَ غير ممكن؟ ألم يعرف بكّاء لا تجف دموعٌ من على وجنته حتى لحقتها أخرى؟ فلِمَ الآن لا تسقط إحداها؟ لماذا هذا الفراغ يكبُر داخله؟ ما هذا الشيء الثقيل فوق صدره؟ ما الطريق للتخلص منه؟ كل ما يجول في ذهنه هو ذكرياته مع المدفون في عمقٍ من اعماق الأرض يحتضن التراب جسده أبكر مما كان عليه أن يكون، لم يكن من المفترض أن يحصل ما حصل، ماذا عن الرحلة التي وعدها به نهاية الأسبوع؟ ومن سيحضر حفل تخرجه بعد أشهرٍ قليلة؟ من سيمضي معه في حياته؟ لمن سيشكي؟ من سيفهمه؟ كيف ستكون حياته؟

لقد انتهى العزاء قبل ثلاثة أيام ولم يجرؤ الزيارة إلا الآن في الوقت الذي فرغ فيه المكان، الواقع ثقيل وصعبٌ تقبله، لكن أهل من خيار؟ لا يملك سوى أن يسعى فيما وضعته فيه الحياة، شيءٌ خارج عن نطاق قدرته، الأمر الذي أصابه بالقهر، فهو يكره شعور العجز غير المقدور عليه.

كأن تجدف في بحرٍ لا تملك فيه سوى الغرق.

أخرج من شروده لسماعه حديث شخصٍ جانبه فاقشعر جسده لذلك الصوت المفاجئ الذي لم يستطع رأسه ترجمته، فنظر إلى الأعلى لتقع اعينه على ابوه الذي يدخن ينظر إلى ذات القبر الذي كان ينظر هو إليه، الأمر الذي أصابه بالفزع لوجوده غير المتوقع، فغمغم متعجبًا: «أبي؟». نظر إليه والده بطرف عينه أثناء تدخينه، ثم همهم كأجابة.

حتى وأن كانت علاقته سيئة مع والده، لكن هذا لا يعني تركه لأبوه في وقتٍ صعبٍ كالذي يمر فيه، لا يعرف كيف قد يواسي، فاكتفى بالصمت مُطرقًا رأسه بأسى، لا يحب رؤية الحزن يكسو الناس الذين يحيطون به، لذلك لم يأتي إلى الجنازة في بدايتها، لم يود في رؤيتها تبكي، يحاول جاهدًا أن يكون جانبها حتى مع عدم رغبتها في ذلك، أنه يتيم، وهو أعلم كم أن الشعور مقيت.

«أأنت تعيس هكذا على موت عمك؟». قطع والده السكون بعد دقائقٍ من الصمت الخانق، ما دفعه لرفع نظره إليه مجددًا فهو يفوقه طولًا بشكلٍ رهيب، دون أن يتحدث، بادله أبوه نظراتٍ معتمة لهنيهات، وعاد يحدق بالقبر مجددًا يستطرد حديثه: «أتعلم لِمَ أنا هنا؟». لم ينبس هيليا ببنت شفة، بل بقي نظره معلقًا نحو والده قلِقًا، خوفٌ كبير من أن ينهار أبوه لصدمة ما تعرض له من وفاة أخوه المفاجئ، فهو لا يجيد التصرف في مواقفٍ كتلك.

جمرةٌ في الصدرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن