الجلسة الأولى

177 18 13
                                    

كما لو أنه يطفو في العدم، داخل حُلمٍ غريب، كان يجلس على أحد كراسي الحضور في المحكمة، والده ردَّ على الدعوة بسرعة لم تتجاوز الثلاثين يومًا وبشكل غير متوقع، قد حُدِدَ موعد الجلسة بعد اسبوع وهو ما يصادف اليوم من ذلك التاريخ.

كان شعره الأسود مبعثرً ومموجًا كموج بحرٍ هائج مسترسلًا على جبينه يخفي بعضًا من ملامح عينيه التي لم يلحها النوم منذ أيام، رغم عدم معرفة أحد من أفراد عائلته بأمر هذه القضية، إلا أن والده قد ضيق عليه الخناق، منعه من الخروج وشدد عليه اعينه ليزيد من قساوته في التعامل فصارت الشجارات الكلامية بينهما أعنف وأكثر، بيد أن هيليا لم يكن طرفًا فيها، فلم يحب أن يضخم الأمر أكثر مما يستحق، فترك ابوه يفعل ما يشاء، وعلى ذكر رودريغو فهو جالس في الامام جانب محاميه.

القاضي، المحلفون، المستشارون، والمحاميون، جميعهم موجودون ولم يتخلف أحد عن الحضور، يجري الأمر بسرية تامة دون تغطية اعلامية، كل شيء ينتظر صوت القاضي لتبدأ المرافعة، وهو يعلم جيدًا أن هذه الجلسة ليست سوى البداية، لا داعٍ لحضوره، لكنه أراد أن يكون هنا ليعرف إذ ما كان الذي سعى إليه يستحق ذلك العناء أم لا؟ وما سيفعله والده؟

كسر الصمت صوت القاضي العجوز الجهوري يطرق بمطرقته مستفتحًا القضية بوجهٍ عابس ينظر أمامه بأعينه الغائرة في وجهه والتي غطتها حاجبيه الاشيبان الكثيفان: «الرجاء من ممثل قلم المحكمة استفتاح القضية».

نقل هيليا نظره إلى واتسون الذي يجلس بالامام أيضًا يعطيه ظهره، لقد أخبره بأنه يجهز مفاجئة من نوعٍ ما، وفي الواقع هو لا يحب المفاجئات، لكنها أحد أسباب حضوره هذا اليوم على أي حال، ثم دخل باريس برفقة عددٍ من أفراد الشرطة، لم يتواصل هيليا شخصيًا مع باريس منذ فترة طويلة، لكن حسبما أخبره من واتسون فهو متعاون جدًا، اقسم يتلو بعض الآيات يضع يده على الإنجيل لأجل أداء اليمين، رغم أن هذه العادة قد توقف انتشارها في المحاكم لفصل الكنيسة عن الدولة، لكن يبدو أن هذه المحكمة لا زالت تتبعها.

لم يفهم ما يتحدث به القاضي، لكن الناس القليلين الذين كانوا يجلسون معه يومئون وكأنهم على علمٍ بما يقول، لم يهتم بهذا الأمر فلقد كان ينظر نحو امرأة في متوسط السن، محامي والده، تنظر نحو الجميع بأنزعاجٍ وحدة بملامحها المكفهرة، هي التي كانت وراه والده في كل قضاياه التي نجح بالفوز فيها والتهرب من التهم الموجهة له، سواء كانت تهمًا عادية، صعبة المستوى، حقيقية، ملفقة، نجحت فيها جميعًا بشكل لا يصدق.

«يمكن للشاهد أن يتقدم». تحدث القاضي بعلوٍ شديد هزَّ أرجاء المحكمة، فوقف باريس معتدلًا على تلك المنصة، ليتكلم بصوته الغليظ الهادئ: «باريس براد ارسنت، زوج أحد الضحايا».

«ما علاقتك بالمتهم؟». سأل القاضي وصوته قد بَحَّ قليلًا،  وهو قد كان عجوزًا بلغ به العمر سبيلًا، فردَّ عليه: «لا علاقة تجمعني معه». استأذنت المحامية في ذلك الوقت للحديث من القاضي، فطرحت اسئلتها: «وما الذي تعرفه عن المتهم؟». نظر باريس نحوها، ورغم كونه شخصًا هادئ، لكن حتى الأحمق يستطيع استشعار الحقد في حضوره ونظرته، فأجاب: «رودريغو ريڤ رئيس شركة الكترونيك، الدنس القذر المعتدي على النساء».

جمرةٌ في الصدرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن