الفصل الأول

289 7 0
                                    

هبطت الدرج ببطئ متعمد وإبتسامة باردة ترتسم على شفتيها وبعينيها سكنت نظرة قوية قاسية تلوح لرَائِيها أنها لا تبالي ولا تهتم،شتان بين هبوطها الآن على هذا الدرج الفخم من الخشب المصقول و بين هبوطها فيما مضى مهرولة على الدرج الطيني لدار عمها حينما كان الأمل يسكن عينيها والثقة بأن فرج الله عليهم قريب،وإيمانها بغدٍ يحمل الأمان والستر على بعد عدة خطوات.

صور متلاحقة مرت بعقلها لفتاة يبعدها عنها ربما فقط عام واحد ولكن ما شهدته خلاله ترك أثراً لم ولن يمحى،فقدت برائتها وانتهكت وشوهت روحها قبل جسدها بندوباً غائرة لازالت تنزف رغم قناع الشماتة والتحدي الذي ترتديه، وبينما تركت تلك الندوب آثارها إلا إنها جعلتها تكتشف الوجه القبيح للعالم من حولها الوجه،لا أحد قاتل من أجلها ولو بكلمة،لا أحد حاول إنقاذها من براثن الإعتداء،جميعهم كانوا شهوداً على نحرها وكالشياطين البكماء صمتوا،حتى القدر خذلها واختطف سندها!!

تراقصت أمام عينيها صورة إبتسامتها الخجلة البريئة وتورد وجنتيها حينما كان أحمد يلامس جديلتها،وكأن دهراً كاملاً مر منذ تلك اللحظة،وكأنها هرمت ولم تعد ذات تلك الصبية...

(أيامي بينكم معدودة فكيف أقضيها بالنوم؟)

كلماته ترددت بأذنها وهي تهبط درجة أخرى بتمهل وتساؤل لازالت لا تجد له أجابة عادلة،لما يموت شاب صغير نقيِّ القلب ويبقى كهل خبيث قاسي كعبد الرحيم؟أي عدل ورحمة في هذا!!

حاولت دفع ذكرياتها بعيداً فلا محل لها الآن،فمن مثل أحمد كان يجب أن تعرف أن أيامه بهذا العالم معدودة (ابن موت) كما يقولون،فالعالم ليس مكان صالح للأنقياء،ليعيشوا فيه،هذه هي الأجابة الوحيدة التي وجدتها.

تقدمت نحو غرفة استقبال الضيوف عبر البهو الكبير بخطوات متمهلة دافعة أفكارها بعيداً ففي تلك اللحظة عليها مواجهة زائريها فيكفي الوقت الذي جعلتهما ينتظراه.

"مرحباً يا دكتور..مرحباً يا شيخ،ألم يحضروا لكم واجب الضيافة إلى الآن؟يالا الخزي!!"

بنبرة باردة ساخرة تحدثت وعينيها تنتقل بين الرجلين،مرتدية عباءة سوداء مطرزة من حافتيها بتطريز عربي مع أكمام واسعة تسمح لأساورها العديدة أن تتحرك بيسر ليطربها رنينهم الشجي.

"يا امرأة القهوة للدكتور والشيخ"هتفت بنبرة عالية وهي تجلس على المقعد المواجه لهما بينما ظهرت امرأة عبر الباب حاملة صينية القهوة.

حينما غادرت المرأة الشابة إلتفت علي نحو صبا يتأملها للحظات فقد بدت له امرأة مغايرة عن تلك الفتاة التي سكنت عينيها يوماً ما إبتسامة راضية بينما تحمل ما تبقى من مبيعاتها بالسوق عائدة إلى دارها وكأنها لم تكن يوماً تلك الفتاة.

"وكأنني آراكِ للمرة الأولى يا صبا..يبدو أن هذا العام كان قاسياً عليكِ"

قالها علي بثقة أن الأيام تحت سقف هذا المنزل مع ابن عمه مرت على شابة مثلها كالدهر فماذا عن سنة..سنة حفرت على وجه الصبية آثارها بكل الطرق الممكنة،أكسبتها قسوة و حدة لم يراهما أبداً من قبل.

توبة بلا خطيئة الجزء الثالث من سلسلة حواء بقلمي نورسين (دعاء أبو العلا)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن