التاسع والعشرون

47 5 0
                                    

هبطت الطائرة في بلدٍ بعيدٍ غريبٍ ،وأعلن الصوت أنه يمكنكم حل أحزمة الأمان، إلا أنها بقيت في مقعدها لدقائقٍ طويلةٍ متشبثةً بمقعدها ولم تحل حزامها وكأنها لازالت بحاجة للحماية الواهية التي يوفرها لها ،وكأن بقائها في المقعد سيؤجل مواجهتها للحقيقة كونها بعيدة.. بعيدةً عنه وعن كل شيء اعتادته، خارج أبواب تلك الطائرة ينتظرها المجهول ولطالما خشت ما تجهله، خشيت المؤامرات التي تحاك ضدها من رفيقتها في المدرسة وهي لا تعلمها، خشيت كلمات زوجات والدها الحاقدة اللائي بثتهن في اذني والدها،دائمًا يرعبها المجهول والآن هي على وشك ان تلقي بنفسها بين براثنه، خفقات قلبها الواجفة تؤلمها واحشائها تتمزق رعبًا وكأن معدتها تصرخ معلنة عن ذلك الرعب الذي يسكن روحها، ويسري في شرايينها مسببًا رجفة ساقيها التي آبت أن تساعدها وتتحرك مغادرة مقعدها في الطائرة، دقائق طويلة مرت وخلت المقاعد من حولها، ودفعها عقلها أن الرحيل عن الطائرة قد حان والبقاء في مقعدها لن يغير ما ينتظرها وبالرغم من ذلك لم يمنحها عقلها ما يطمئنها كعادته، لم يخبرها أنها قادرة على تخطي الصعاب، لم يؤكد لها ان قلبها يومًا سيتوقف عن عشقه ،كيف تعشقه وتخشى رؤياه في ذات الوقت؟ كيف تتمنى عناق الأمان بين ذراعيه وهي التي تعلم أنّ على يديه ينتظرها الموت؟ بين جنباتها كل التناقضات تتطاحن بغير إجابة، رجل واحد منحها كل شيءٍ وضده، ورغم هذا ما شعرت أبدًا في حياتها أنها خائفة كما تشعر الآن!!

دفعت ساقيها لتستقيم مغادرة المقعد وبخطى متمهلةُ تُرجئ المحتوم بقدر الإمكان ،لفح الهواء الحار وجهها وهي تهبط درج الطائرة وما ان خطت داخل الحافلة التي ستقلها نحو صالة الاستقبال حتى تزعزع ما تبقى من ثباتها حينما هاجمتها فكرة :إنها لا تعرف كيف تبدو والدتها! اذًا كيف ستتعرف عليها؟ هل ستتعرف هي عليها؟ التفكير في هذا الخاطر دفع مزيد من القلق إلى وهن عزيمتها وحرارة الهواء ساهمت في اختناق أنفاسها ،اجترت لعابها محاولة ترطيب حلقها وفمها الجاف كالحطب وتردد سؤال آخر في عقلها : كيف ستستقبلها والدتها؟ هل ستعانقها؟ أستبكي شوقًا لطفلتها التي تخلت عنها وتركتها لصفعات الألسنة ونبذ النساء لابنة الفاجرة؟

زفرت غالية بقوةٍ مراتٍ عديدةٍ محاولةً خنق دموعها التي هددت بأن تنهمر ،بالرغم أنها بأشد الحاجة لتلك الدموع لعلها تهدئ من خضم مشاعرها العارم القاسي، التي تتنازع داخل عقلها وقلبها ما بين خوف من المجهول وشوق لحبيب وأمان غاب، ورهبة من مقابلة والدة تخلت عنها من اجل المال، والآن ربما استيقظ ضميرها وارادت انقاذ ابنتها من الموت.

مرت على إجراءات الوصول عبر نوافذ صالة الاستقبال وهي صامتةً واجمةً فكل خطوةّ تقربها من لقاء لا تعرف كيف تكون ردة فعل مشاعرها عليه! هل يمكنها أن تستكين بين ذراعي أمها وتخبرها بما اعترى قلبها من ألمٍ وحزنٍ؟ هل ستتمكن من فضح معاصيها أمام والدتها؟ طوفان من الأسئلة والمخاوف تردد بلا توقف وكأنه طبول حرب عاتية... انهت الإجراءات واتجهت نحو ممر الخروج وخفقات قلبها تزداد اضطرابًا بينما عينيها زائغةً تبحث عن وجهّ يشبهها أو عينين تدمع شوقًا لرؤياها إلا أنها لم تجد حولها من النساء المنتظرات مَنْ تقف وحيدة تنتظر، جميعهن استقبلن احبائهن ما بين زوج او ابن او أب، سافرت عدة مرات من قبل لكنها للمرة الأولى تتلفت حولها وتراقب دموع المفارقين وابتسامات المستقبلين، غفلت عن كل ذلك لأنه استحوذ على انتباهها وعينيها، سلبها حتى وعيها وقدرتها على رؤية ما هو سواه، أغمضت عينيها للمحة خاطفة ترغب في إبعاد ذكراه عن عقلها ،إلا أن ذكرى اجتيازهما المطارات أبت سوى أن تتجلى بذهنها، ذراعها يستكين معانقًا ذراعه الأيمن بينما يده اليسرى تمسك بيدها، يحدثها ويسرد عليها وصف للفندق الذي سيقيمان فيه واسم المكان، يجعلها تردد بعض الكلمات اليونانية ومرات الإيطالية، ويضحك من محاولاتها نطقها، لا سخرية منها بل ضحكات مرحة تأثرًا بسعادتها ،امتلك عقلها وقلبها في غفلةٍ منها وكلما مر الوقت وهي بعيدة لا يزيدها سوى شوقًا ويقينًا أنها عشقته في غفلةٍ من عقلها.

توبة بلا خطيئة الجزء الثالث من سلسلة حواء بقلمي نورسين (دعاء أبو العلا)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن