السادس والثلاثون

49 3 0
                                    

انكفئ منحنيًا لبضعة ساعات على الطاولة المستطيلة يعمل على الرسم الهندسي المكلف به من رئيسه المباشر،غافلًا عن قدح قهوته الذي فتر، يستقيم ممسدًا ظهره بين الحين والآخر قبل أن يعاود انحناؤه على لوحته،مرت أخته عبر البهو الصغير الذي يمثل لشقتهم غرفة معيشة وغرفة طعام وغرفة مكتب أيضًا اذا لزم الأمر، من أجل عمل أخيها،راقبته للحظات مشفقة على ظهره المنحني لساعات ثم اقتربت منه تربت على كتفه :

"ألن ترحم عمودك الفقري المسكين وتشتري طاولة رسم! طوال سنوات دراستك وعملك في الكلية وأنت تستخدم طاولة الطعام، لكن الآن العمل يستغرق منك ساعات مضاعفة منحنيًا فوق تلك الطاولة المتهالكة، حتى في يوم الجمعة عطلتك من الجامعة تعمل منذ الصباح الباكر"

إلتفت نحوها بوجهه الأسمر الداكن الذي انشق عن إبتسامة حانية :"أعدك حينما انتهي من هذا المشروع وأتسلم أول راتب سأبتاع طاولة رسم، لكن الآن الأقساط لن ترحم، ولن يصبر علينا أصحاب الشيكات"

" ليت منا من تعمل لتساعدك، تحملت مشقة نفقات زواج شقيقتاي بمفردك، وكل منهما صار لها زوج وعائلة بينما لازلت غارق حتى أذنيك في الديون، ولا تقبل أي فرصة عمل تتاح لي لأساعدك... "

قاطعها بنبرة حازمة لا تخلو من الحنان:" هجلة (اسم نوبي قديم) رجاءً توقفي عن الإلحاح، تعرفين أنني لست الرجل الذي يمنع أخته من العمل، لكن خريجات الجامعات يعملن نادلات في مطاعم وبائعات في متاجر ملابس أو أحذية، فماذا عن الحاصلة على تعليم متوسط!"

"العمل ليس عيبة أو نقيصة،أنت تعمل سائق رغم أنك مساعد أستاذ في الجامعة... "

"أنا رجل، أنتن أخواتي ومسئوليتكن واجب وأمانة في عنقي، لكن أنتِ ليس لديكِ ما يجبرك على العمل، وتعرفين أن عملك في أماكن كهذه لن يجعلنا نسلم من الألسنة والثرثرة هناك في بلدتنا، لذا توقفي عن الإلحاح يوميًا في هذا الشأن، لقد سمعتِ رفض شقيقتيك ما أن اقترحتِ الأمر أمامهما"

هزت هلجة رأسها :" لأنهما بكل أنانية لا تشعران أنك أتممت الأربعين، ولازلت تحمل على عاتقك مسؤلية زواجي أنا أيضًا، متى إذًا ستتزوج وتكون لك عائلة؟ يونس أشفق على حالك، العمر يمر"

زم يونس شفتيه ثم ابتسم لها بحنان :" والساعات أيضًا تمر، ولديّ عمل يجب الإنتهاء منه، لأنني كلما انتهيت أسرع؛ كلما حصلت على طاولة الرسم لراحة عمودي الفقري المسكين"

ثم استطرد وهو يحيط كتفيها بذراعه ملثمًا جبينها:

" شقيقتاكِ ليستا أنانيتان يا هجلة، ولا أحب أن تتحدثي عنهما بتلك الطريقة، لو استطاعتا مساعدتي لفعلن دون تردد،إنهما لا تعملان، وأنا لا أنتظر مقابل تأدية واجبي ومسئوليتي تجاه أخواتي"

زمت شفتيها بعدم اقتناع، فعقلها يدرك أن شقيقتيها تخشيان ثرثرة عائلة زوجيهما، والهمز واللمز حول الشقيقة التي تعمل في متجر ملابس أو نادلة بمقهى، لذا رفضتا فكرة عملها مطلقًا،وتكرسان جهودهما للبحث لها عن عريس مرتقب حتى تنتقل معهما إلى مسقط رأسهم في النوبة،فبالطبع الفتاة النوبية لا تتزوج سوى رجل نوبي!!

توبة بلا خطيئة الجزء الثالث من سلسلة حواء بقلمي نورسين (دعاء أبو العلا)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن