بارت 6

1.5K 81 4
                                    

يكون الهواء في الربيع منشعاً ويصبح النهار أطول قليلاً ، نتخلص من الملابس الثقيلة ونشعر أننا صرنا خفيفين . يخرج الأولاد بدراجاتهم الهوائية التي ينطلقون بها بسرعة للسابق ، و يطلقون بمرح اصوت اجراس المنبهات الصغيرة المثبتة على مقود الدراجات .
تخرج الأمهات والآباء الى الحدائق و نخرج نحن نلعب على الرصيف .
يرش أبو بيداء حديقة البيت بالماء فينتشر عبق الروائح المنعشة في كل مكان . ترش ام ريتا عتبة بابهم لتصعد رائحة الارض و تهب عليها نسائم آخر الربيع ، أنا مثلكم احب رائحة التراب حين تنزل عليه قطرات الماء ، وأنا مثلكم ايضاً لا اعرف لماذا احبها .
من وراء الشبابيك تأتي رائحة الشواء ، او طهي البطاطا المقلية بالدهن من بيت أم السالي فنشعر بشيء من بالجوع.
فجأة ، تنطلق  الموسيقى من بيت ام مناف فنركض على ايقاعها وننسى اننا شعرنا بالجوع ، ندخل في مهرجان الالوان التي ترتديها الفتيات وهن يرقصن في حفلة عقد قران منال ، توزع أمها حلوى المهر المغلفة بمعكبات زجاجية و يرتفع صوت الاغاني وتفوح العطور في كل مكان :
عيني يا عيني عليها ، يامنولة
تبجي والحنة بديها ، يامنولة
أقف بعيداً عن البنات الصغيرت ، أدس راسي الصغير بين اجساد  النساء الكبيرات لأراقب  نادية وهي ترقص في وسط الحديقة قريباً من منال . الجميع يحب نادية حين ترقص و يصفقون لها ، تسحبها منال الى حضنها و تقبلها ، انا احسدها من كل قلبي واقول مع نفسي : كيف تعلمت ان ترقص مثل الكبيرات ؟ لماذا لا تخجل منهن كما لو انها ترقص لنفسها ؟
يتعالى تصفيق البنات لها و يرتفع صوت الاغاني كثيراً . يتسلق الاولاد سياج البيت ينظرون الى نادية من دون ان تدري بهم ، يطلق أحدهم تعليقاً وقحاً بصوت عال، تتوقف عن الرقص ويهرب الولد بعيداً تتبعة شلة الأصدقاء ، نخرج أنا وهي من الحديقة وقد أحمر خداها من الخجل .
نسمع مرة أخرى صوت أغنية جديدة تنطلق من الحديقة ، نادية ترفض ان نعود اليهم ثانية ، تخرج ام منال في باب البيت و تنادي عليها ، لكنها  تركض نحو بيتهم ولم تخرج في ذلك المساء .
كما اخبرتكم ، انني ساقول لكم الحقيقة ، انا اغار من نادية قليلاً ، وربما كثيراً ، لان الناس يحبونها و يهتمون بها ، و نحن نحب ان يهتم الناس بنا ، واذا لم يهتم لنا احد فإننا نكون غير موجودين . أحياناً عندما يتجاهلني الناس ابكي ، ادخل غرفتي و أبكي . ثم اخرج و أعمل اشياء غريبة لكي ينتبه لي الأخرون . هل تعرفون ماهي هذة الأشياء الغريبة ؟ عندما اتذكرها سأقولها لكم لانني الآن نسيتها .
في هذا الهواء المنعش ، الذي يهب على طفولتنا من الحدائق ، كنت اعيش ايامي في محلتنا الصغيرة ، في شوارعها ودرابينها ، في حدائقها و ارصفتها .
رسمت على جدار بيت عمو شوكت قارباً صغيراً و نسيت ان ارسم لة شراعاً ، لم اكن قد رأيت في حياتي بحراً  أو محيطاً ولم اصعد في حياتي قارباً ، رايت الغروب من فوق خزان مياه بيتنا كما اخبرتكم ، مثل محيط هائل يمتد بعيداً جداً حتى أبعد من بيت جدتي .
في التلفزيون  شاهدت السندباد و رايت السفينة تصارع الامواج في البحار العميقة ، يضحك السندباد و تضحك ياسمينة من كل قلبهما و هما سعيدان بوصولهما للميناء .
-لقد وصلنا الى الجزيرة العائمة .
في اليوم التالي ، اخفيت في جيبي قطعة طباشير صغيرة ، ذهبت الى نادية و قلت لها : تعالي نرسم شراعاً للقارب الصغير .
قالت نادية :
-انا ارسم الميناء و النوارس .
قلت لها :
-انا ارسم الشراع .
وصلنا الى الجدار ، و قبل ان نخط علية بالطباشير ، خرج الينا عمو شوكت و امسك بنا و نحن نحاول ان نشخبط على حائط بيتهم النظيف ، قرص نادية من اذنها قرصة خفيفة و طبع بأسنانة على معصمها ساعة عميقة تألمت منها قليلاً ، اوشكت نادية على البكاء ،
اختلط الألم مع الخجل فلمعت في عينها دمعة صغيرة ، حزن هو لهذا الموقف الذي لم يكن يتوقعة .....
اخذنا من ايدينا و ادخلنا بيتة يمسح دموعها ، تقدمت منة باجي نادرة  تلومة و تبتسم في وجهينا وهي تعتذر . في كل مرة نشاهدهما معاً ، هو يعض معا صمنا و هي تلومة و تعتذر .
انا لااتذكر ، وحتى نادية لا تتذكر ، و اهلي لا يتذكرون و اهلها لا يتذكرون متى سكن عمو شوكت مع باجي نادرة في هذا البيت . البيوت التي تولد قبلنا و الأشجار التي تنمو قبل ان نرى العالم ، ليس لها تاريخ يتذكره الناس .
لبتهم سياج واطيء تتسلق علية اشجار الياس و تعلوه اغصان الشبوي لتحجب الحديقة الامامية عن التداخل مع الشارع . ينفتح الباب الرئيس على كراج سيارتة الفولكس واغن الصفراء اللون . عند نهاية الكراج ، فسحة مبلطة  بلموازييك و مفتوحة على الممر الجانبي وعلى الحديقة في الوقت نفسة . لهذا البيت وحده رائحة ذكرى مختلفة ، فهو اول بيت يأتي في خيالي عندما احاول ان اتذكر المحلة .
يربي عمو شوكت وزوجتة في الحديقة الخلفية زوجين من طائر  القبج ، جلبتهما هي من كردستان ، وعلى احد اغصان شجرة الرمان ، يتدلى قفص صغير لطائر البلبل الذي يغرد كل صباح ، واحياناً يغرد وقت المساء ، لكنة في الليل ينام .
آثاث بيتهم يشبه تقريباً اثاث بيوت المحلة ، الا ان الفراغات بينها مريحة .
على جدار الموازي لطاولة الطعام ، صورتهما وهما شابان انيقان يقضيان شهر العسل في مصائف كردستان ، حيث يظهر في خلفية الصورة شلال ( گلي علي بيگ) . المياه تتدفق من الشلال و وحفر نهراً صغيراً بين الصخور ، النهر الصغير يجرى المسافات طويلة بين الوديان و يرمي نفسة في نهر دجلة . تحت شلال ( گلي علي بيگ ) كانا يبتسمان ابتسامة منعشة تذوب منها الثلوج في اعلى الجبال و يتدفق ص
دى اغنية تتوه في الوديان السحيقة . ص
ورتهما الفوتغرافية هي شلال من الذكرى يتدفق نحو اللانهاية بصمت .
في هذه المملكة الأليفة يعيشان ، وعلى هذة الأريكة نفسها ، التط جلسنا عليها انا ونادية بعد ان مسحت دموعها و تناولنا قطعاً من الحلوى  ، يجلسان هما في المساء و يشاهدان برامج التدفزيون .
برغم مرور مدة طويلة تلعب معنا . انا ونادية وكل اطفال المحلة اطفالهما ، جميعنا دخلنا بيتهما واكلنا  من مطبخ باجي التي نحبها وهي تفرح بنا ، تحكي لنا بلكنتها  الكردية قصصاً خيالية عن الجبال و عاشا هناك بقية حياتهما ، تحكي لنا عن السناجب والفلاحين و قصصاً اخرى
«كان هناك فلاح وابنة ، وكان سمع كليهما ثقيلاً ، ذات صباح استيقظ الابن باكراً ، ولبس ثياب العمل ، فشاهدة والدة وسألة : هل ستذهب لحراثة الأض يا ولدي ؟ فأجابة الابن : لا يا ابي ، انا ذاهب كي احرث الأرض ، فقال الاب : ليكن ياولدي ، فقد ظننتك ذاهباً لتحرث الأرض !!»
ضحكنا انا ونادية  من هذه القصة الجميلة و قلنا لها باجي نريد قصة ثانية ، رفعت رأسها تنظر الى السقف لكي تتذكر :
«كانت هناك قرية صغيرة تقع على سفح جبل كبير اسمة ( بيرة مگرون » في هذة القرية تعيش فتاة جميلة مع اهلها ، تحلم كل يوم بشاب وسيم يأتي اليها من النافذة و يتحدث معها و عندما تستيقظ في الصباح لا تراه ، في يوم من الأيام ، نزل الثلج و غطى الأرض كلها ، خرجت الفتاة التي اسمها جوانا من البيت ، و تسلقت سفح الجبل حتى تعبت ، و جلست تفكر في هذا الشاب الذي لا تراه الافي
احلامها ، وقالت لنفسها : بما انني لم اره في الواقع ، لماذا لا اصنع لة تمثالاً من الثلج ، راحت تجمع الثلج من حولها حتى  اصبح لديها كومة كافية ، فجلست تصنع منها فتى احلامها ، بعد ساعة من العمل صار لديها صديق له عينان كبيرتان و شعر اشقر ، تماما مثلما كانت تراه في احلامها ، وقفت امامة تنظر في عينية
فقال لها : انا احبك
خجلت جوانا واحمر خداها و
قالت لة : ما اسمك
فقال لها :اسمي ماندو
فقالت له : لماذا انت نحيف ؟
فقال لها : لأنني جائع
ابتسمت لة وقالت : سوف اذهب الى البيت واجلب لك شيئاً من الطعام
فأبتسم لها و شكرها . اسرعت جوانا تهرول فوق الثلج بإتجاه بيتهم ولكنها تاهت في الطريق ، لان الثلج غطى آثار اقدامها . في هذه الأثناء  أشرقت الشمس من بين الغيوم ، وعندما وصلت جوانا البيت ، حملت بعض الطعام وعادت تركض نحو صديقها و هي فرحة بالطعام الذي جلبتة لة ، لكنها لم تجد اي اثر لماندو ، لان الشمس قد اذابتة بحرارتها .
حزنت جوانا كثيراً وراحت تبكي ورمت الطعام على الأرض،
فجاءت العصافير تأكل منة ، ومنذ ذلك اليوم ، تنهض جوانا كل صباح وتحمل الطعام و ترمية للعصافير في المكان نفسة . صارت هذة الفتاة الجميلة لا تحب الشمس لانها اخذت منها ماندو ، في يوم من الأيام وبينما هي تحمل الطعام الى العصافير، شاهدت الشمس تنزل قريباً من السفح، فقالت لها: لماذا اخذت ماندو ايتها الشمس؟ فقالت لها الشمس: انا لم آخذ ماندو، لكنه كان يحبك كثيراً حتى ذاب من الحب وصار جدولاً »
حزننا انا ونادية على جوانا و ماندو و حزنت معنا باجي نادرة لكنها الفتاة وهي تلتقي فتى احلامها من جديد .
في السنوات الاخيرة ، لم يعد عمو شوكت انيقاً مثلما كان مظهرة عندما كنت صغيرة ، حين كانت بذلتة جديدة و قميصة ابيض و فوقك ربطة عنق زرقاء ، اصبح في هذه الايام لا يهتم كثيراً بملابسة ، حتى ربطة عنقة اصبحت قديمة و لونها اصبح باهتاً ، صار لا يبتسم لنا كثيراً ، وعندما نلقي عليه التحية ، يردها علينا ببرود من دون ان ينظر في وجوهنا .
تركت باجي نادرة و ظيفتها و تفرغت اللإهتمام ببيتها و زوجها ،
وهي تحرص كثيراً على نظافة باب بيتهم ، ونظافة الرصيف و الشبابيك ، وتعتني بنباتات حديقتهم و طيورها . انا احب ملابسها الكردية بألوانها الجميلة ، احب رقصاتها و اغانيها في الافراح :
نرجس نرجس نرجس .... نرجس زينار جوانا
أوي نرجس نرجس نرجس ....سرك ألوني أيفانا .
بعد ايام عدة من دخولنا بيتهم انا ونادية ، استيقظت باجي مبكراً ذات الصباح ، حملت حقيبتها وسافرت الى بيت اهلها في قريتهم الجبلية ، انقطعت اخبارها بعد تلك زيارة . عندما يسأل احد من المحلة عمو شوكت عن سبب غيابها ، احياناً يقول انها مريضة ، واحياناً يقول ان امها ماتت . مع مرور الوقت ، صار يعرف كيف يعيش لوحدة ، وتعود الناس على ان ينسوا باجي نادرة .
لكي اكون صادقة معكم ، الناس لم ينسوها ، لكنهم تعودوا على نسيانهم لغيابها ، وليس على نسيانها هي شخصياً ، هناك ناس في محلتنا وحتى في كل مكان من العالم ، نسيانهم يعني إننا نتذكر غيابهم ، الذي يحل محل وجودهم في حياتنا ، وباجي نادرة من الناس الذين لا يمكن ان ينساهم احد حتى إنني قبل ايام حلمت بها وهي تحكي لي قصة جديدة سأرويها لكم عندما يكون الوقت مناسباً .

(الكاتبة /شهد الراوي )
••••••••••••••••••••••••••••
احبكم جداجدا 💋💋💋💋
صوت +كومينت = بارت 7

ساعة بغداد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن