حملت بيداء حقيبة صغيرة لملابسها و بعض أغراضها و جاءت تنام عندنا في البيت ، كانت نادية قد أقنعتها بالفكرة لنسهر نحن الثلاثة معاً هذه الليلة الحزينه التي خلفها غياب عمو شوكت ، عثرت بيداء على الطاولة في غرفتي على سجل أزرق مكتوب على غلافة ( ساعة بغداد - تاريخ المحلة ) وراحت تقلب صفحاته بإهتمام و شغف شديدين و تجاهلت وجودنا معها في الغرفة نفسها .
اندهشت لهذه الفكرة ، وضعت أصبعها في وسط السجل و نظرت في وجوهنا من دون أن تنطق كلمة واحدة ، عادت و فتحته من جديد ، تقرأ صفحاته صفحة صفحة ، و سطراً سطراً ، وكلمة كلمة .
و أخذت تكتب من دون توقف ، كما أنها تنهل الكلمات من غيمة تمطر في ذاكرتها، كتبت كل ما تعرفه و تتذكره عن البيوت، و الناس ، والحوادث ، والمناسبات ، تذكرت أنواع السيارات في المحلة و موديلاتها و أصحابها و تاريخ دخولها لأول مرة في شارعنا ، دونت ملخصاً عن القطط ، و الكلاب ، و الطيور ، و الفراشات ، التي تركت أنفاسها فيها ، صنفت النخيل ، و أشجار الحدائق ، والنباتات ، و أشرت أعمارها ، و أطوالها، و مواقعها ، سجلت أصناف الورود و الحدائق التي نبتت فيها ، وضعت مخططاً لأعمدة الكهرباء و أعمدة التلفون ، و أحصت خزانات المياه فوق السطوح و أحجامها ، صنفت أطيب المأكولات التي تعودنا على تناولها ، والنساء اللاتي اشتهرن بكل طبخة ، وضعت جدولاً للمهن و الوظائف ، التي يمارسها أعضاء كل أسرة في المحلة ، و جدولاً للمراحل الدراسة في كل عائلة ، أحصت الولادات الحديثة و القديمة و تاريخ كل ولادة و اسم المولود و بعض التفاصيل عن ملامحة ، ذكرت اسماء الجدات و الأجداد الأحياء في كل عائلة ، لم تنس الزيجات،و علاقات الحب،
والخطوبة ، والطلاق ، التي شهدتها عوائل المحلة في تاريخها ، رسمت جدولاً لأكثر الشباب وسامة،
وأكثر البنات جمالاً،كتبت ملخصاً عن المشاهير التي انجبتهم المحلة ، تطرقت الى اسماء المحال ، والدكاكين ، و أصحابها ، وصفت آثاث البيوت التي دخلتها في حياتها ، والوان الستائر و شكل البلاط و السجاد ، تناولت في التفاصيل اسماء ربات البيوت و القابهن في المحلة .
قدمت تقويماً لأكثر العوائل سعادة ، وأكثرها مرحاً و لطفاً ، وكذلك أكثرها شعوراً بالتعاسة ، كتبت ملخصاً عن مزاج كل شخص تعرفه جيداً ، عن ذوقه في اللبس ، و مظهره الخارجي ، و الأغاني التي إعتاد سماعها ، نبشت في تفاصيل منسية هنا و هناك ، رتبت جداول عن أكثر الكلمات المستخدمة في قاموس المحلة ، نظمت صفحة خاصة بالأمثال و النكات الشعبية ، التي يتم تداولها و تطرقت الى المواقف المحرجة و ظروفها و تاريخها ، صنفت ألعاب الطفولة ، ووقت ظهورها و إختفائها ، و تحدثت عن أمهر اللاعبين في كل لعبة .
سهرت بيداء حتى ساعة متأخرة من الفجر وهي تكتب و تكتب من دون ملل ، غلبنا النعاس انا و نادية و تركناها منهمكة بالكتابة ، كما لو أنها تجيب على أسئلة ورقة إمتحانية حفظت أجوبتها عن ظهر الغيب ، ولما استيقيظنا صباحاً كانت بيداء قد أستسلمت للنوم ، روت لي نادية حلمها عن رواية ماركيز ، و قبل ان تنتهي منه تبسمت لها كي أذكرها بأنني شاهدته معها .
كانت بيداء حتى وقت الضحى لم تزل نائمة و السجل مفتوح قريباً من وسادتها ، و بقى القلم الأسود راكزاً بين أصابعها كأنه لم ينه مهمته بعد .
تناولنا السجل بهدوء ، ورحنا نقلب إضافاتها ، إنبهرنا لكمية المعلومات التي دونتها من ذاكرتها العجيبة ، التي لم تترك شيئاً يخص محلتنا من دون أن تدونه بتفصيل ممل ، وهكذا أصبحت لدينا ذاكرة شبه مكتملة ، أصبح تاريخنا الوافي بين أيدينا .
في (ساعة بغداد _سجل المحلة ) ينام الزمن الجميل كله ، بين صفحاته تعيش حكاية كاملة بذاكرة حيه غير قابلة للنسيان ، انتقلت الحياة كاملة من الواقع الى الكلمات ، وعندما استيقظت بيداء من نومتها ، وقبل أن تتناول إفطارها ، التقطت من على رف مكتبتي رواية ( مائة عام من العزلة ) و طلبت مني بتوسل و إلحاح أن تأخذ السجل و الرواية معها الى البيت ، استسلمت لإلحاحها على أن تعيد السجل في اليوم التالي ، و تحتفظ بالرواية هدية منى لذكرى صداقتنا .
( صفحة 19 من السجل بخط بيداء )
تزوج اسامة بعد ان تخرج في كلية العلوم زميلة له في الجامعة ، وجاء بها يعيشان في بيت والده في المحلة ، كانت هيفاء شابه جميلة سمراء و طويلة ، إنجبت له ابنتين هما ملائكة و نيران ، بعد ولادة ابنتها الأولى ، تركت و ظيفتها الحكومية لتهتم ببيتها ، لكن أسامة تحول تحت ضغط الأيام المريرة للحصار الى شخص غريب الأطوار ، ترك و ظيفته هو الآخر وراح يتعامل في السوق ، يشترى و يبيع الآثاث المستعملة .
صار من النادر ان يعود الى بيت قبل حلول الليل ، ونادراً ما كان أحدنا يصادفه في شوارع المحلة ، لكن الجيران في الدربونة و خاصة البيوت الملاصقة لبيتهم ، يسمعون عند منتصف كل ليلة صوت عراكة المتواصل مع زوجته التي يعيش معها في الطابق الثاني المفتوح على سطح البيت .
كانت هيفاء تستسلم لنوبات جنونه اليومي ، و تتحمل نوبات الهستيريا التي تنتابه بشكل مفاجيء حال صعوده درجات السلم نحو غرفة نومه وهو يتمايل من شدة السكر ، تدخل والده المريض كثيراً لثبته عن تحطيم آثاث بيته ، و تدخلت الأم المتعبه كثيراً في إعادته الى صوابه ، لكن الأمور أخذت تزداد تدهوراً بمرور الوقت ، لم يكن لزوجته المسكينه أهل تلجأ اليهم من هذا الجحيم ، لد هاجروا خارج البلاد منذ سنوات .
في أحد الصباحات ، كانت هيفاء في طريقها الى السوق ، اقترب منها شاب وسيم و طلب منها ان تساعدة في العثور على عنوان أحد البيوت كان مكتوباً على ورقة يحملها بيده و ضعها أمام عينيها ، أعتذرت له هيفاء بعدم معرفتها بهذا العنوان ، و أدارت وجهها لكن هذا الشاب ظل يلاحقها .
في كل صباح ، صار ينتظرها في المكان نفسه ، الذي التقاها فيه لأول مرة ، و يسمعها كلمات غزل ثقيلة ، كلمات تخص إغراءات جسدها ، صدرها و خصرها و شفتيها تحديداً ، قاومت هيفاء تلك النداءات ، و غيرت طريقها أكثر من مرة لتتحاشى اللقاء به ، و لكنها صارت هذه الأيام تتلمس جسدها بباطن كفها و تكتشفه أمام المرآة ، كما لو أنه جسد امرأة لا تعرفها ، لقد طال إهمالها لهذا الجسد المكتنز بالإثارة، بعد أن أهمله زوجها من جانبه ، عاشت صراعاً عميقاً مع نفسها بين نداءات جسدها الذي أخذ يلح عليها من كل مكان ، و بين التاريخ الشخصي البريء لهذا الجسد المستفز على الدوام ، أخيراً إنتصرت الرغبة بداخلها ، و صارت هيفاء عشيقة سرية لرجل وسيم تكرر ظهورة في المحلة في الأيام الأخيرة .
في أحد الصباحات ، وجدت ملائكة أمها على غير عادتها ، تغني مع نفسها و هي تضع المساحيق على وجهها ، وترش العطور بكثافة حول رقبتها و هي ترتدي ثوباً مكشوفاً من جهة صدرها و يضغط بقوة على خصرها و مؤخرتها .
خرجت الأم وهي تحمل حقيبة حشرت فيها من دون ترتيب بعضاً من ملابسها ، تبعتها ابنتها الصغيرة من دون أن تلاحظ أمها ذلك ، شاهدت بعيون مندهشة و هي تختفي مع شاب خلف بناية السوق ، و تصعد معه سيارة أجرة كانت بإنتظارهما لتنطلق بهما بعيداً و يغيب أثرهما .
بعد هذه الحادثة إختفت هيفاء دون أن يعرف أحد مصيرها ، و تركت ابنتها المدرسة وراحت تهتم بأمر أختها و أبيها .
كتبت بيداء هذه القصة في الصفحات المخصصة لبيت أبو أسامة ، التي لا يعرفها أحد سواها ، كما لم نتأكد أنا و نادية من صحتها ، ولكننا حافظنا عليها في السجل ، لأن بيداء لا تكذب أبداً ، و أن هذا السجل هو تاريخ المحلة الشامل ، و يجب أن لا نجامل فيه أحد ، ففي نهاية الأمر لسنا محلة من الملائكة .
في هذه الصفحات ، هناك وصف ممل للبيت و غرفة و جدرانه و آثاثة التي أصبحت تتغير كثيراً بعد إن امتهن أسامة بيع الآثاث المستعملة ، وهناك و صف لحديقتهم و نباتاتها ، وصف الملائكة و إختها و جدها و جدتها و ظهورهم الأول في المحلة و طبيعة علاقتهم بالجيران ، و طريقة حديث كل منهم و ملبسه و مشيته ، كما خصصت سطوراً طويلة ، تصف فيها مداعبات هيفاء لجسدها و غرامها به ، تحتشت فيها التركيز بشكل مباشر على مناطق الإثارة فيه ، و لكنها و بطريقة ساحرة رسمت لهذا الجسد صورة حسية بالكلمات .
بيداء لا تمتلك صوتاً ساحراً في الغناء فحسب ، اكتشفنا من خلال كتابتها في سجل ، أن موهبتها الحقيقية تتجلى في الأدب ، لقد استطاعت و بليلة واحدة أن تكتب المحلة على هيئة رواية مكثفة من الأحداث ، ترسم فيها الأمكنة و الشخصيات و الوقائع بطريقة ساحرة ، لو كان لدي متسع من الوقت ، لقرأت عليكم بعضاً من صفحاتها التي تخص بها حوادث منسية من تاريخ محلتنا ، كاد يطويها النسيان و لكنها بلمسة عبقرية أعادتها الى الوجود .
(الكاتبة /شهد الراوي )
----------------------------------
أنت تقرأ
ساعة بغداد
Aktuelle Literaturدخلت الي حلمها بقرة 🐄،دخلت دراجة هوائية 🚲،دخل جسر ، دخلت سيارة عسكرية 🚓، دخلت غيمة ☁️،دخل غراب 🦅، دخلت شجرة 🌳،دخل طفل 👶🏻،دخلت طائرة ✈️،دخل بيت مهجور 🏚، دخلت قطة 🐈، دخل خزان مياه 💦، دخل شارع 🛣، دخلت زرافة 🦒، دخلت صورة فو تغرافية 📸🌁،دخلت...