أحيل عمو شوكت على تقاعد من وظيفتة في بنك المركزي ، وأصبح بلا عمل ينهض من أجله في صباح الباكر و يدير محرك سيارتة القديمة و يذهب اليه .
لدية الأن كمية كبيرة من الوقت لا يحتاجها ، ينهض في صباح الباكر ، يتذكر ان ليس علية الدهاب للدوام يعود و يحني رأسة على الوسادة لاكن لاينام .
ينهض ثانية ، يدخل الى المطبخ و يعد إفطاره، يتناوله على أنغام موسيقى عراقية قديمة في الراديو ، كان قد تعود سماعها يومياً في سيارتة الفولكس واغن وهو في طريقه الى العمل .
يفتح الباب البيت ، يخرج نصف جسدة في الشارع و يبتسم للأطفال وهم يذهبون الى مدارسهم ، يعقف يدية خلف ظهرة و يتمشى ببيجامته حتى رأس الشارع ، وهو لا يدري هذه الساعة إذا كان يتعين عليه أن يشعر بشيء من الخجل لانه صار بلا عمل يؤديه ،نعم كان هذا الشعور يزعجه ، إنه رجل بلا فائدة ، لم يجلب له أحد ما بعد هذا اليوم أوراقاً مهمه تتعلق بحركة الأموال في بنك مركزي .
كان كل يوم تقريباً يترك توقيعة على عشرات الملفات التي توضع على مكتبه بعد تدقيقها بطريقة لا يدخلها خطأ .
في السنوات الأخيرة ، شحت الأوراق الرسمية التي عليه توقيعها و تراكمت العُمل النقدية أكداساً عالية تثير أشمئزازه ، تغيرت العمله و قيمتها ، و تبدلت أوراقها ورائحتها ، أختفت العملة المعدنية ،اختفى ربع الدينار ، إختفى الدينار نفسه ، الدينار العراقي اختفى و صار ذكرى من زمن آخر .
عاد يطأطيء رأسه خجلاً عندما تذكر إنه خرج ببيجامته في الشارع ، هذه أول مرة يفعلها في حياته ، يدخل الى البيت و يغلق الباب ،يجلس على كرسية وسط الحديقة و يتناول كتاب تقاعده من جيبه حيث وضعه ليلة البارحة ، يعيد قراءته أكثر من مرة ، وهو غير مصدق إن هذة الورقة شبه شفافة بسطورها الأربعة أنهت خدمته الطويلة ، التي جاوزت ربع قرن من الذهاب و العودة يومياً من والى العمل ،قال مخاطباً برياد التي يجلس أمامة متعجباً من عدم ذهابه بعيداً عن ه هذا الصباح كما كان يفعل كل يوم :
-هذه الورقة ياصديقي ، تشبه العملة القديمة ، ورقة واحدة تعادل الكثير ، تساوي ربع قرن من الخدمة لدي الحكومة .
هز برياد رأسه ، وأقترب من صاحبه ، الذي مرر يدة فوق ظهرة يداعبه بحنان .
نهض عمو شوكت من مكانه و دار في الحديقة دون أن يعرف ما الذي يجب أن يفعله في مثل هذا الوقت ، إلتقط بعض الطحالب التي نبت تحت شجرة الرمان ، شطف يديه من حنفيه الحديقة و ترك الماء يجري في الساقية ، أندفع سيل الماء يحفر أخدوداً نحيفاً في الأرض و يشق طريقة في تربة الساقية الرخوة، شاهد غصناً صغيراً يقاوم حركة اندفاع المجرى متشبتاً بحجارة اعترضت طريقه وسط ساقية ، إنفلت غصن منها تدفعة قوة تدفق الماء ، ظل عمو شوكت يراقبه حتى غاب عن عينيه ، عاد ينظر الى الكلب و يقول له :
-نحن أيضاً يا برياد ، مجرد عيدان صغيرة تدفعنا أمواج هذه الحياة غير المبالية ، أعواد متيبسه تخلت عنها الأشجار و تركتها ملقية على الأرض المصادفة ، ربما يجرفها سيل ساقية صغيرة ، أو يلتقطها منقار طائر يبني منها عشاً على هذه الأشجار ، لنعود أليها ليس بصفتنا اغصاناً سابقة ، أنما بصفتنا مواد بناء بيوت عصافير ، حتى يوم أمس كنت أنا غصناً أخضر في شجرة الوظيفة و سقطت على الأرض متيبساً تعبث بي مياه الفراغ القاتل .
سبع و العشرون سنه يا برياد و أنا معلق بجذع الشجرة التي تتخلى عني هذة الأيام ، كم كان ذالك يوم البعيد السعيداً ، دخلت مبنى البنك المركزي موظفاً شاباً ببدله جديدة إشتراها أبي من الشارع الرشيد ، إشترى لي معها ربطه عنق داكنه و حذاء أسود من محال باتا ، جلست على مكتبي و تمنيت لحظتها أن تراني أمي ، تراني هكذا أجلس على الكرسي ، أقلب أوراق المهمة على مكتبي و أوقع عليها.
توفيت أمي و توفى أبي و أنا أوقع أوراق على المكتبي الخشبي الصغير،أحببت نادرة و رفضني أهلها في البداية ، اكنها تزوجتني ولم تستمع لنصائحهم ، و بعد السنوات من العشرة تركتني وحيداً و ذهبت تعتذر منهم لأن حياتها معي صارت ممله ، لم أعد أصحبها الى سينما مثلما كنت أفعل في سالف الأيام ،لم نذهب منذ زمن طويل الى المسرح ، ولم نسافر الى دهوك و العمادية و سواره توكة.
يا زوجتي العزيزة ، ليست حياتي هي الممله ، الدنيا كلها صارت ممله ، الجيران الذين تحبيهم ، هاهم يغادرون بيوتهم بيتاً بعد البيت ، الوجوه التي عشنا معها تغادرنا يا نادرة ، تعالي و أنظري الى محلتنا ، الى أبواب صدئه و الحدائق المهملة التي يعلوها الغبار هذه الأيام .
الحياة يا زوجتي ليست هي كما تركتيها، كل شيء هنا يتبدل سريعاً .
ذرف دمعة ، ومشى نحو غرفة النوم ، غير ملابسة ببدلة عمل القديمة ، خرج الى الحديقة مرة اخرى ، تناول ماكنة قص العشب و صندوق العدد اليدوية ، وخرج من البيت يتبعة برياد ليتفقد بيوت الجيران المهجورة ، و يتأكد من احكام إغلاق أبوابها و يعتني بنباتاتها ، يكتب قطعاً من الكارتون السميك و يعلقها على هذا الجدار أو ذاك ، (البيت للأيجار )(البيت للبيع ).
تهدلت بذلته الرسمية في هذه الأيام ، تنازل عن ربطة عنقة و أصبح حذاؤه بحاجة ألى تبديل ، لم يعد فيه مكان لرقعة جديدة ، استبدله بحذاء قديم وجده في مخزن المهملات تحت السلم البيت ، طالت لحيته و صارت بيضاء مبقعة بالسواد الكئيب ، صار عمو شوكت كثير الشبه بمحلتنا .
أختفى منظر الحدائق الجميلة من أمام البيوت تدريجياً ، و حلت محلها المشتملات التي تبني عليها ملحقات إضافية لسكن الأولاد المتزوجين حديثاً ، أو ملحقات صغيرة بأبواب جانبية ، يعرضونها للإيجار من أجل أن تساعدهم في توفير موارد دخل إضافية ، بعد أن أصبحت الرواتب بلا قيمة حقيقية .
أختفى وجه محلتنا الأخظر ، وأختفت معة تدريجياً رائحة الورود و القداح و العشب ، إختفت رائحة الماء و هو يلامس طابوق الحيطان القديمة ، كبرت محلتنا الفتية و أصبحت عجوزاً تفقد ذاكرتها تدريجياً ، أزداد عدد السيارات عاطلة وهي تخنق الشوارع و تعرقل الحركة المرور فيها ، تراكم السكراب عند الأبواب ، خرج المراهقون الى السوق العمل يساعدون ذويهم على تحمل الأعباء و قسوة الظروف .
شيئاً فشيئاً أصبحت أبواب البيوت صدئة ، و تلونت شبابيك بالوان قاحلة ، أرتفعت الأسيجة الخارجية ، والأسيجة التي تفصل بين الجيران ، اضيفت الأقفال والكتائب الحديدية ، صارت حياة تنسحب الى داخل غرف البعيدة ، فقدت بيوتنا الثقة في الأنكشاف على ماوراء جدرانها ، بعد ان إزداد عدد الوجوه الغريبة في المكان ، و كثرت حوادث السرقة على الرغم من نباح برياد ، الذي لا ينقطع لا في الليل ولا في النهار .
♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️
أنت تقرأ
ساعة بغداد
General Fictionدخلت الي حلمها بقرة 🐄،دخلت دراجة هوائية 🚲،دخل جسر ، دخلت سيارة عسكرية 🚓، دخلت غيمة ☁️،دخل غراب 🦅، دخلت شجرة 🌳،دخل طفل 👶🏻،دخلت طائرة ✈️،دخل بيت مهجور 🏚، دخلت قطة 🐈، دخل خزان مياه 💦، دخل شارع 🛣، دخلت زرافة 🦒، دخلت صورة فو تغرافية 📸🌁،دخلت...