الحرب قادمة ، لم يعد هناك مجال للشك في هذا ، نحن نعرفها جيداً و نتنفس رائحتها في الهواء،ها هو مغناطيسها يحرك الأشياء عن أماكنها من دون أن يلامسها ، نحن نتحرك كالدبابيس الناعمة تحت تأثير شحناتها السالبة ، لقد فقدنا الحس بمعرفة الإتجاهات .
من فوق السطح بيتنا، أقف مرة أخرى فوق خزان المياه ، اتفقد سفينتنا و أشرعتها العالية في الآفاق البعيدة ، أفرك عيني و أترقب الحرب ، أحدد لها أهدافها بدقة ، لقد أصبحت خبيرة بالمكان ، خبيرة بالحروب و أهدافها ، أعرف ما الذي تبحث عنه بالضبط .
تعالي إيتها الحرب الصديقة ، هذا البرج المأمون ، و هذة الساعة البغداد ، تلك البناية العالية ، وذاك المطار ، اذهبي الى الشارع الرشيد ثمة أبراج و بنايات بإنتظارك ، أذهبي نحو الجسر الجمهورية هناك بناية جميلة اسمها و زارة التخطيط ، تعالي من هذه الإتجاه، أرمي حمولتك هنا ، استديري قليلاً للوراء ، هذه محطة الكهرباء ، ليس بعيداً عنها هناك خزان المياه الكبير ، تقربي قليلاً و أنزلي الصواريخ علينا ، أرمي أثقالك في أي مكان ترغبين ، انت هذه المرة و حيدة في الساحة ، نحن منهكون ، و متعبون ، و يائسون ، تعالي و تخلصي منا مثل نفايات بشرية لا حاجة لهذا العالم بها ، نحن أيضاً لم نعد بحاجة الى هذا العالم .
يمر سرب من الطيور في السماء ، أرفع عيني نحوها و أدير رقبتي صوب مجال طيرانها و أشتهي خفتها ، كم هي سعيدة هذه المخلوقات التي تعيش بل وطن ، أريد أن أطير معها ، أحلق بعيداً ، أريد أن أعيش في عالم جديد ، عالم بلا حروب ، أيتها السماء تلطفي بي مرة واحدة ، لقد تعبت من الوطن .
بناية مدرستنا الإبتدائية تحولت الى ثكنة عسكرية ، و تحولت المتوسطة الى مستودع للصواريخ ، فوق البنايات العالية انتصبت مضادات الطائرات و هي تدور بفوهاتها في السماء .
دخلت نادية بيتنا تبحث عني ، عثرت علي فوق السطح أراقب الحرب ، تعالي .... قالت لي و أخذتني من يدي و نزلنا نحو حديقة البيت :
-أريد ان ابات في الملجأ هذه الليلة ، اريد ان اعيش فية مرة اخرى ، لقد كنت حينها طفلة و لم افهم معنى ان يهرب أحدهم من الموت ، تعالي معي الليلة .
-هل جننتِ يا نادية ؟
-لا، لست مجنونة ، اريد ان اجرب معنى الهرب من الموت .
-لاكن الحرب لم تبدأ، و الملاجيء مغلقة .
- تعالي نجرب ، تعالي نسبق الحرب و نضحك عليها ، تعالي نجرب الهرب من الحياة إذن .
خرجت معها صوب الملجأ في جولة إسطلاعية نستكشف المكان ، كانت البناية الكونكريتية مسورة بالأسلاك الشائكة ، يعلوها غبار أثنتي عشرة سنة من الأهمال ، تنام تحت ظلمها الكلاب السائبة و القطط النافقة .
أثنتا عشرة سنة مرت على تعارفنا في هذا المكان الموحش ، منذ أن غادرنا آخر مرة لم يدخل إليه أحد ، لم تعد البلاد بحاجة الى ملاجيء محصنة ضد الحروب ، لم يعد الهروب من الموت أمراً مهماً ، المهم الأن هو الهروب من الحياة ، تجاوزت نادية الأسلاك الشائكة و تبعتها ، توجهت نحو فتحة الباب الصغيرة التي كنا ندخل منها و خطوت معها ، وصلنا السلم الضيق الذي كنا نلعب فوقة في طفولتنا ، و قفت على طولها عند الدرجة الخامسة و نطت في الهواء ، لا مست قدماها الأرض و صفقت لنفسها من الفرح ، توسلت بي أن انط أنا أيضاً ، وقفت عند الدرجة الخامسة ، مثلت عليها دور الخائفة ، نزلت و أنا اضحك من جنونها ثم عدت و قفزت عالياً في الهواء.
عادت مرة أخرى ، و فعلتها مرة ثانية ، ثم مرة ثالثة و رابعة و لم تتعب ، عندما توسلتها أن تكف عن هذه اللعبة لنغادر هذا الجحر شبه المظلم بروائحة الرطبة ، تجاهلتني و توغلت عميقاً في ظلام المكان و تبعتها بخطوات خائفة .
عند الزاوية التي كنا ننام فيها عام 1991، إكتشفنا سريراً خشبياً عريضاً ، إلى جانبه و ضعت فخارية ماء تنز من تحتها بقعة ر طبة و عصاً طويلة و نظارة شمسية و ساعة جيب و علبة دواء و كتاب قديم بغلاف ممزق ، تقدمنا نحو السرير مذهولتين ، كان أحدهم ينام فيه ، من دون أن يصدر منه صوت أنفاس أو حركة دقات قلب ، أحد ما يرقد هنا من دون شهيق أو زفير ، أقتربنا منه كثيراً ، لكنه بقى ياكناً في مكانة مثل جثة هامدة ، تلتحف شرشفاً أبيض و تغطي الرأس تحتها ، ترددت نادية في رفع الغطاء عن الوجه لكنه فاجأها ورفع الغطاء و هو يضحك بصوت عال:
-المشعوذ!!!!
تبسم إبتسامة ميتة بوجهنا ، ثم تناول مصباحاً يدوياً كان يخبئه تحت الوسادة وراح يوجه الضوء نحو عيوننا و هو يختنق من الضحك و تتحشرج في صدرة نقنقة تشبة صوت فأر محاصر بالخطر ، ركز الضوء على وجهي :
-لاتخافي ، قال لي ثم حرك الضوء نحو وجه نادية و قال لها :
-لا تخافي .
نزل نوع من الطمأنينة على أرواحنا و زالت بعض آثار الخوف،عدل المشعوذ من جلسته و خاطبني :
-أعرف انك غير معنية بمعرفة ماهو قادم لكنني سأبعثك هذه اللحظة الى مدينة مابعد المستقبل ، ثم استدرك و قال :
- سأبعثكما إنتما الأثنين الى حياة ما بعد هذه الحياة .
تقدمت منه قليلاً و قلت له :
-قبل ان ترسلنا الى اي مكان ، يجب ان تقول لنا من انت ؟ كيف دخلت الى محلتنا ؟ لماذا احترتنا نحن دون سوانا؟ من أرسلك لنا ؟ و ما هو هدفك من كل هذا ؟ هل تعلم ان منذ يوم ظهورك والى الأن و نحن لم نعرف راحة البال؟
عدل من جلسته و أسند ظهرة الى حافة السرير من جهة الرأس وراح يضحك ثم تنحنح و قال :
-هذه أسئلة كثيرة ، كيف يمكن أن أجاوب عليها دفعة واحدة ؟ ليس من عادتي ان اجيب على اسئلة من هذا النوع و لكن مع ذلك ، سأقول لك أمراً واحداً ، انتِ شخصياً سمعتيه من قبل ، هل تتذكرين قبطان السفينة الذي صادفتيه على متنها ليلاً ؟
-نعم اتذكر ذلك جيداً.
إقتربت نادية و هي مستغربة لسماعها هذا الكلام و قبل أن تنطق بكلمة واحدة قلت لها : سأشرح لك ذلك فيما بعد ... هذه مسألة معقدة ، سأوضحها لك بالتفصيل ، ثم أعدت جوابي مرة اخرى على المشعوذ :
-نعم اتذكر ذلك جيداً .
-حسناً يا صغيرتي أنا مجرد فكرة في خيال المحلة ، و المحلة مجرد فكرة في رأسي ، إن كل ما تقع عليه أعيننا هو مجرد فكرة ، لا شيء حقيقياً في الواقع ، كلنا مسجونين في خيالنا و ان تجاربنا في الواقع هي عبارة عن أفكار فقط ، الوجود كله مجموعة من الأفكار ، هذه هي الحقيقة الوحيدة ، لا تصدقي غيرها ولا تخبري أحداً بها ، لأن الناس لا يصدقون الأشياء التي لا تدخل عقلهم ، و هم لا يعرفون اين يقع عقلهم ، لم يسألوا أنفسهم يوماً هل إنهم حقاً يمتلكون شيئاً اسمه العقل ؟ كيف شكله ؟ ماهو لونه ؟ العقل يا صغيرتي هو الأخر مجرد فكرة ، فكرة معقدة تجعل من الأفكار الأخرى كأنها حقائق . تذكرت هذه الكلمات ، لقد سمعتها نفسها بالضبط من القبطان ، و هاهو المشعوذ يكررها أمامي ، هل كان هو نفسه القبطان؟ فكرت ان أسأله هذا السؤال و لكنه لم يدع لي فرصة ، وجه ضوء المصباح اليدوي نحو مركز عيني نادية و لما استقر تماماً في البؤبؤ سحبها بقوة شديدة ورماها بعيداً في عالم من الضوء ، ثم عاد و فعل الشيء نفسه معي .
دخلت مدينة واسعة اسيجتها مبنية من طابوق أشعة الشمس الخافتة ، مررت من تحت قوس من النيون الأبيض ، كأنه يصدر عن ضوء كواكب قريبة ، مشيت طريقاً ضيقة مرصوفه بحجر أحمر يتوهج من داخله مثل مكعبات من الثلج ، خطوت فوقها بهدوء تتقدمني طيور السنونو بأجنحتها الذهبية ، في نهاية الطريق انفتحت أمامي بوابة عظيمة تفضي الى صالة هائلة يكاد يلامس سقفها النجوم و تهب من أركانها عطور منعشة .
تقدمني طائر سنونو صغير خرج عن سربه و قادني نحو غرفة جانبية من النور العميق ، أمرني بالجلوس على أريكة هي تقريباً أريكتنا نفسها في البيت التي تعودت الجلوس عليها ، لكنها هذه المرة مصنوعة من زجاج شفاف ، تتوسط بهواً تهب علية نسائم باردة .
خرج الطائر مصفقاً جناحيه البرونزيتين و تركني لوحدي ، لا أعرف ما الذي ينتظرني في هذا المكان الغريب و الموحش .
مرت ساعات ، ربما أيام ، و أنا على هذه الحال ، أجلس في مكاني و عندما أجوع تتدلى ثمار غريبة من شجرة جذعها من لون الباستيل الأحمر القاني ، و أغصانها بالوان تتدرج من الأصفر ، أزرق ، الأخضر ، البرتقالي الى ما لا نهاية من التدرجات ، حاولت أن اتذكر كيف و صلت الى هنا ، لكنني لم أعد أعرف شيئاً من خارج هذا العالم المضيء سوى ذكرى هذه الأريكة ، اسمع صوت أهلي ينادون علي من البعيد و لكن صدري كان بلا هواء.
فتح باب و مر طائر السنونو و هو يقود نادية من خلفه ، ثم أومأ لها ان تجلس الى جانبي ، فجلست بعيداً عني كأنها أندهشت من وجودي ، أو انها لم تتعرف علي ، راحت تدقق في ملامحي لكي تتذكرني و لكنها فشلت ، نظرت أليها و حاولت أن أقول لها أهلا نادية ، لكن صدري كان بلا هواء .
جاء ملاك أبيض بجناحين صغيرين لا تناسبان حجمة يمشي على قدميه الرقيقتين و أمرنا بأشارة من جناحة الأيسر بأن نتبعه ، خرج بنا الى فناء واسع ترصع سماءه كواكب خافته الإضاءة ، تنتشر حولها دوائر هائلة من الظلمة السحيقة ، مررنا في شوارع شبه معتمه ، و درنا عشرات المرات حول غابات من الأشجار المصيئة تتحرك من حولنا و تغير إنجاهها في كل دورة ، من بعيد شاهدنا كوخاً صغيراً يستند الى سفح تله خضراء تحيطها أشجار السرور من ثلاث جهات و تهبط فوقها شهب من نور غريب .فتح باب الكوخ واستقبلتنا صبية في العشرين من عمرها ، ترتدي وشاحاً أصفر و أحذية من ريش ، في معصمها سواراً فضياً نقش عليه اسمي ، تتبعها قطة بيضاء ، قادتنا نتجول معها في الحجرات الصغيرة للكوخ و دلتنا على المطبخ و الطعام الذي قالت عنه إنه يكفي لبقائنا قروناً عديدة .
كان كوخ بحجراته و مطبخة و صالته يشبه بيتاً ريفياً من تلك التي تظهر في الأفلام و يتساقط عليها الثلج في كل الفصول .
و دعتنا الصبية بإيماءة من رأسها و خرجت تبتسم لنا إبتسامة بلا معنى و تركت القطة معنا ، جلست نادية على معقد من ريش و جلست أنا على مقعد أخر قريباً منها ، ابتسمت لي فابتسمت لها ، عاد الهواء يملأ صدري ، صحت بها ... نادية !!! و قفزت نحوها أحتضنها ،أقتربت منا القطة البيضاء و قفزت في حجر نادية ، كانت نفسها قطتنا التي وجدناها ترتجف من البرد و ذهبنا بها الى البيت .
جلسنا انا و نادية و القطة بيننا ، نتحدث الى الصباح و نؤسس ذاكرة جديدة في هذا العالم الجديد ، نمنا على بساط ملون ، أغمضت عينيها ، و راحت تتحدث الى نفسها و تبتسم ، عرفت أنها تحلم ، اقتربت منها ، وضعت وجهي مقابل وجهها ورحت أراقب أحلامها لكنها هذه المرة منعتني و أغلق باب الأحلام بوجهي .
في الصباح ، اشرق كوكب صغير من النافذة قال لنا : انه ابن الشمس ، حط طائر سنونو على غصن الصغيرة و أزاح الكوكب بجناحة .
طرق أحدهم الباب ، قامت نادية تفتحة ، دخلت علينا الفتاة نفسها التي استقبلتنا ليلة البارحة و معها تسع فتيات حسناوات أحداهن تشبه ميادة عندما كانت طالبة مراهقة ، يرفلن بالبياض الناصع و يضعن وشاحات صفراً ، تقدمن نحونا و سلمن علينا ، نهضت من مكاني و دخلت الى المطبخ أعد لهن شاياً ، تبعتني الفتاة التي تشبه ميادة تتأكد من قدرتي على إستخدام أدوات الطبخ ، ولما و جدتني حفظت الدرس جيداً سألتني :
- هل تعرفين دكتور توفيق ؟
-لا ...لا أعتقد إنني سمعت باسمه .
-ان عيادته في الشارع العام ، أرجوك أذهبي إليه و قولي له : ان ميادة تحبك و تنتظرك هنا .
-سأفعل ، قلت لها .
قبلتني من جبهتي و عادت الى الصالة ووقفت تراقب من بعيد الفتيات اللاتي رحنّ يتحدثن مع نادية و كإنهن صديقات قديمات حضرت للترحيب بها .
حملت لهن الشاي، شربن بحركات متسقة كإنهن يؤدين رقصة صامتة في فرقة بالية ، بعد دقائق جاء شيخ عجوز يتوكأ على عصاه ، دفع بها الباب و دخل علينا ، أخرج من جيبة ورقة صغيرة ، قرأ منها اسم نادية و أمرها بالوقوف:
- سوف تعودين من حيث أتيتي.
تقدم نحوها و أخذ بيدها و خرج ، بقيت وحدي مع القطة أنظر في وجوه الفتيات . خرجت ذات السوار الفضي و تبعنها واحدة بعد الآخرى بوجوه حزينة و أغلقن الباب علي .
صرخت بأعلى صوتي ..... أريد ان أرجع .
ظهر وجه رجل في منتصف الأربعين من عمره و أطل من النافذة الجانبية و هو يبتسم .
- اريد ان ارجع ... قلت له .
تواصل صراخي بوجهه و هو يبتسم من دون ان يتحرك من مكانه ، بعد قليل استدار من ناحية الباب ، دفعه بيده و دخل يو بخني.
-الى اين تريدين ان ترجعي ؟
- الى بيتنا ، الى أهلي ، الى محلتنا ، الى صديقاتي ، الى جامعة اريد ان أذهب مع نادية ، اريد بغداد....
-ماذا تفعلين وسط ذاك الخراب و الحرب على الأبواب ؟
-وماذا أفعل هنا في هذا المكان الموحش و صدري بلا هواء .
- لانك ...
- ماذا ؟! لأنني ميتة؟
- كلا ، أنت بين .. بين .
-ماذا تقصد ؟!
- انت في مكان ما بين الحياة و الموت ، نحن هنا ندقق الاسماء جيداً و نتأكد من الموتى قبل موتهم .
-وهل أنا منهم ؟
-ليس بعد .
- الى متى سأبقى على هذه الحال ؟
- حتى نعرف اسمك ، انتِ للآن لم تذكري لنا الاسم ، ولم نتمكن من العثور عليه في السجلات ، نحن لا نعرف عنك شيئاً .
تقدمت منه خطوات و همست باسمي في أذنه ، طلب مني أن أكرره عليه و كررته ، قال لي :
- ياإلهي ، لقد عرفتك ، أنا أعرف أهلك جيداً ، أنهم أهلي و أحبهم ، انا ابو احمد هل تعرفينه؟
-نعم اعرف و اعرف امة ، هل انت الذي استشهدت في الحرب العراقية _ الإيرانية؟
-نعم أنا ، قبل ان اموت كنت جيرانكم ، وكان أهلك اصدقائي ، انا احبهم ، كيف حالهم؟ كيف حال زوجتي و ابني صغير احمد ؟
- كلهم بخير ، و أحمد لم يعد صغيراً ، هو الآن يدرس الهندسة في جامعة الموصل و هو يحب نادية التي غادرت للتو .
- هل حقاً أصبح كبيراً و جرب الحب أيضاً ؟
- نعم هو شاب وسيم يحب الحياة و نادية تحبه من كل قلبها .
- يالها من سعادة ، ان تحب و تعيش قصة الحب في بغداد .
-أية سعادة يا عمي ، ان بغداد لم تعد كما تعرفها .
- اعرفها ، أعرفها جيداً ، ولكننا نحبها و لا نراها إلا كما نتخيلها ، تعالي معي إن جدك يعيش معنا في ذلك القصر الزجاجي في الجانب الآخر ، لقد تعرفت عليه هنا قبل سنوات ، إنه رجل كريم و طيب و نحن نسميه هارون الرشيد .
أصابني كلامة بالإرتباك ، كنت متلهفة لرؤية جدي و لكني خفت أن يبقيني معه ، احببت أن أسأله لماذا يسمونه هارون الرشيد و لكنه قاطع سلسلة أفكاري و قال :
- جدك يحب بغداد ، يحب أهلها ، يحب كرخها و رصافتها ، حتى هنا ، في هذا النعيم هو لايشرب المياه العذبة و يطلب ماء يؤتي به الية من نهر دجلة ، انظري الى ذلك السور حول بيته ، هل ترينه ؟ لقد بنى حول بيته سوراً طابوقة من طين بغداد و سماه سور بغداد ، عندما يأتي المساء ، و يهزه الشوق ، يذهب الى بغداد في العصر العباسي و يتجول في قصورها ثم يجلس في مكان هارون الرشيد و يستدعي الشعراء و الحكماء و يستمع إليهم ، ثم يطلب المغنين و العازفين و يسهر معهم الى الصباح ، هو يريد من بغداد ألا تنام .
- لكن بغداد بناها المنصور ؟
- هارون الرشيد فكرة بغدادية ، حلم من أحلام أهلها ( بغداد هارون الرشيد ) حكاية ترويها المدينة عن نفسها ، ليس مهماً الخطأ و الصح في هذه الحكاية .
- نعم ، فهمتك الآن ، قلت له ذلك و أنا في الحقيقة لم افهم جيداً ماذا يقول ، أخرج من جيبه ورقة صفراء قرأها و قال لي :
- انتظري قليلاً ، سأعود و أحررك من هنا .
جلست انتظر أكثر من ساعة ، أو أقل من يوم أو أكثر ، لا أدري كم من الوقت انتظرته ، لأنهم هنا بل وقت ، بلا ساعة تشبه ساعة بغداد تعد عليهم الثواني ، عاد بملابسه العسكرية التي مات و هو يلبسها ، صحبني الى كوخ من الزجاج يمتد في الافق بلا حدود يعيش فيه جدي .
تحت شمس حديقة واسعة ، يستظل بأشجارها الوارفة يجلس جدي على كرسي من الألمنيوم تلفه شرائط بلاستيكية ملونة و في حضنه قطة الصغيرة البيضاء ، كان يرتدي ملابسة نفسها و نظارته نفسها اللتين ر أيتهما في الصورة المعلقة على جدار غرفة جدتي ، الى جانبة علبه قديمة تحمل علامة حلويات الماكنتوش رتبت فيها أدوات حلاقته بعناية ، يجلس الى جانبة على تخت صغير رجل لا أعرفه يغمس فرشاه حلاقة صغيرة في وعاء مو الصوابين العطرة ثم ينشرها على بشرة جدي ، بعد أن ينتهي ، بضع الفرشاة جانباً ، ثم يتناول ماكنة حلاقة ذهبية و يمرر الشفرة لحلاقة ذقنة بحذر شديد ، بعد ان فرغ منه هذا الرجل الذي بقى صامتاً من دوو أن ينظر في وجهي، تناول جي زجاجة الكلونيا و عطر وجهه ثم مسحة بمنشفة حريرية و نهض يتقدم نحوى و أخذني بحضنة ، تشممت روحة و التصقت بها :
- كيف حالك يا حبيبتي ؟
قال ذلك بنبرة عميقة ، ثم عاد و جلس و أجلسني في حضنه بعد أن أخلت القطة مكانها ووقفت تحت قدميه و هي تموء بحنان .
- جدي انا خائفة .
- لا تخافي يا حفيدتي ، كيف حال جدتك و أولادها و بناتها ؟ كيف حال بيتنا و بستاننا ؟ كيف حال الناس هناك ؟
- جدي انا خائفة ، انا احبك ولكني لا اريد ان ابقى هنا .
- لاتخافي ، ستخرجين من هنا ، احكي لي عنكم ، و ماذا جرى لكم من بعدي ؟
جلست ساعات طويلة أروي له بالتفصيل كل ما أعرفة عن الحياة هناك ، وهو يضع يده على خده و يتأملني من دون ان يستغرب شيئاً و بعد ان شعرت بالتعب قلت له :
-ليس لدي ما أضيفه .
- حفيدتي العزيزة ، نحن عالم الموتى لم نمت جيداً ، لاننا نتألم لبلادنا ، لأننا نشعر بالخدلان ، بالخجل منكم حين تركناكم تتعذبون على ظهر سفينة اخترناها لكن من دون إرادتكم .
- جدي ، هل صحيح إننا نعيش على طهر سفينة ؟!
نهض من مكانه و أخذني من يدي و صعدنا الى تله صغيرة وراء الكوخ ، ثم مشينا في واد عميق من الورد ، بعد ذلك ، و قفنا عند حافة ، بئر العميقة مفتوحة على كوكب الأرض ، رمي وردة قطعها من غصن يتدلى على حافتها ، بعد ثوانٍ انكشفت محلتنا أمامي بوضوح، كانت من هذا المكان العالي في السماوات البعيدة تبدو سفينة حقيقية بشراعها و برجها و مرساتها ، تعرفت على مدرستي ثم رأيت الملجأ ، بعد ذلك شاهدت ساعة بغداد و برج المأمون و الجسر المعلق ثم عثرت على بيتنا و صحت بأعلى صوتي :
-أريد ماما و بابا .
-أذهبي بسلام يا حفيدتي ، قولي لجدتك إنني بخير و أعيش في النعيم ، قبلي لي كل نخله و كل شجرة في مدينتنا ، قبلي نهر و الأرض و الهواء هناك ، أذهبي حفيدتي ، لقد تأخرتي ، الحياة هناك ، الحياة في مسقط الرأس أجمل حتى من هذا النعيم .
قفزت منه دمعة كإنها كرة من البلور ، وقبل أن يغادرني نظر في عيني و قال :
- هل تتذكرين كم نخله في بيتنا ؟
- داخل السياج ، هناك اربع نخلات يا جدي
- قولي لجدتك ان تهتم بهن .
- نعم ياجدي ساقول لها ، ولكن هل يمكنني ان أخذ القطة معي ، ان صديقتي تبحث عنها منذ زمن بعيد وقد فرحت كثيراً عندما وجدتها هنا؟
- لا يا بنتي ، هذه قطتي التي تسليني ، إنها في عالمكم تعيش عمياء .
قفزت القطة نحوي تقبلني ثم قفزت نحو جدي الذي حملها على صدرة وهو عني و يردد مع نفسه:
- أربع نخلات ياإلهى ، أربع نخلات تركتها في البيت القديم و أريدها هنا .
بعد القليل ، جاء طائر السنونو و قادني نحو البوابة النينونية التي دخلت منها أول مرة ، خرجت ووجدت نادية تنتظرني في الباب الملجأ أخذت بيدها و ذهبنا الى البيت .(الكاتبة /شهد الراوي )
--------------------
2888 كلمة كانت هواية 7 صفحات تعبت هواي
اعملوا صوت و الكومنت حتى لا يضيع تعبيطائر السنونو
أنت تقرأ
ساعة بغداد
Художественная прозаدخلت الي حلمها بقرة 🐄،دخلت دراجة هوائية 🚲،دخل جسر ، دخلت سيارة عسكرية 🚓، دخلت غيمة ☁️،دخل غراب 🦅، دخلت شجرة 🌳،دخل طفل 👶🏻،دخلت طائرة ✈️،دخل بيت مهجور 🏚، دخلت قطة 🐈، دخل خزان مياه 💦، دخل شارع 🛣، دخلت زرافة 🦒، دخلت صورة فو تغرافية 📸🌁،دخلت...