بارت 26

506 49 10
                                    

الحرب قادمة ، لم يعد هناك مجال للشك في هذا ، نحن نعرفها جيداً و نتنفس رائحتها في الهواء،ها هو مغناطيسها يحرك الأشياء عن أماكنها من دون أن يلامسها ، نحن نتحرك كالدبابيس الناعمة تحت تأثير شحناتها السالبة ، لقد فقدنا الحس بمعرفة الإتجاهات .
من فوق السطح بيتنا، أقف مرة أخرى فوق خزان المياه ، اتفقد سفينتنا و أشرعتها العالية في الآفاق البعيدة ، أفرك عيني و أترقب الحرب ، أحدد لها أهدافها بدقة ، لقد أصبحت خبيرة بالمكان ، خبيرة بالحروب و أهدافها ، أعرف ما الذي تبحث عنه بالضبط .
تعالي إيتها الحرب الصديقة ، هذا البرج المأمون ، و هذة الساعة البغداد ، تلك البناية العالية ، وذاك المطار ، اذهبي الى الشارع الرشيد ثمة أبراج و بنايات بإنتظارك ، أذهبي نحو الجسر الجمهورية هناك بناية جميلة اسمها و زارة التخطيط ، تعالي من هذه الإتجاه، أرمي حمولتك هنا ، استديري قليلاً للوراء ، هذه محطة الكهرباء ، ليس بعيداً عنها هناك خزان المياه الكبير ، تقربي قليلاً و أنزلي الصواريخ علينا ، أرمي أثقالك في أي مكان ترغبين ، انت هذه المرة و حيدة في الساحة ، نحن منهكون ، و متعبون ، و يائسون ، تعالي و تخلصي منا مثل نفايات بشرية لا حاجة لهذا العالم بها ، نحن أيضاً لم نعد بحاجة الى هذا العالم .
يمر سرب من الطيور في السماء ، أرفع عيني نحوها و أدير رقبتي صوب مجال طيرانها و أشتهي خفتها ، كم هي سعيدة هذه المخلوقات التي تعيش بل وطن ، أريد أن أطير معها ، أحلق بعيداً ، أريد أن أعيش في عالم جديد ، عالم بلا حروب ، أيتها السماء تلطفي بي مرة واحدة ، لقد تعبت من الوطن .
بناية مدرستنا الإبتدائية تحولت الى ثكنة عسكرية ، و تحولت المتوسطة الى مستودع للصواريخ ، فوق البنايات العالية انتصبت مضادات الطائرات و هي تدور بفوهاتها في السماء .
دخلت نادية بيتنا تبحث عني ، عثرت علي فوق السطح أراقب الحرب ، تعالي .... قالت لي و أخذتني من يدي و نزلنا نحو حديقة البيت :
-أريد ان ابات في الملجأ هذه الليلة ، اريد ان اعيش فية مرة اخرى ، لقد كنت حينها طفلة و لم افهم معنى ان يهرب أحدهم من الموت ، تعالي معي الليلة .
-هل جننتِ يا نادية ؟
-لا، لست مجنونة ، اريد ان اجرب معنى الهرب من الموت .
-لاكن الحرب لم تبدأ، و الملاجيء مغلقة .
- تعالي نجرب ، تعالي نسبق الحرب و نضحك عليها ، تعالي نجرب الهرب من الحياة إذن .
خرجت معها صوب الملجأ في جولة إسطلاعية نستكشف المكان ، كانت البناية الكونكريتية مسورة بالأسلاك الشائكة ، يعلوها غبار أثنتي عشرة سنة من الأهمال ، تنام تحت ظلمها الكلاب السائبة و القطط النافقة .
أثنتا عشرة سنة مرت على تعارفنا في هذا المكان الموحش ، منذ أن غادرنا آخر مرة لم يدخل إليه أحد ، لم تعد البلاد بحاجة الى ملاجيء محصنة ضد الحروب ، لم يعد الهروب من الموت أمراً مهماً ، المهم الأن هو الهروب من الحياة ، تجاوزت نادية الأسلاك الشائكة و تبعتها ، توجهت نحو فتحة الباب الصغيرة التي كنا ندخل منها و خطوت معها ، وصلنا السلم الضيق الذي كنا نلعب فوقة في طفولتنا ، و قفت على طولها عند الدرجة الخامسة و نطت في الهواء ، لا مست قدماها الأرض و صفقت لنفسها من الفرح ، توسلت بي أن انط أنا أيضاً ، وقفت عند الدرجة الخامسة ، مثلت عليها دور الخائفة ، نزلت و أنا اضحك من جنونها ثم عدت و قفزت عالياً في الهواء.
عادت مرة أخرى ، و فعلتها مرة ثانية ، ثم مرة ثالثة و رابعة و لم تتعب ، عندما توسلتها أن تكف عن هذه اللعبة لنغادر هذا الجحر شبه المظلم بروائحة الرطبة ، تجاهلتني و توغلت عميقاً في ظلام المكان و تبعتها بخطوات خائفة .
عند الزاوية التي كنا ننام فيها عام 1991، إكتشفنا سريراً خشبياً عريضاً ، إلى جانبه و ضعت فخارية ماء تنز من تحتها بقعة ر طبة و عصاً طويلة و نظارة شمسية و ساعة جيب و علبة دواء و كتاب قديم بغلاف ممزق ، تقدمنا نحو السرير مذهولتين ، كان أحدهم ينام فيه ، من دون أن يصدر منه صوت أنفاس أو حركة دقات قلب ، أحد ما يرقد هنا من دون شهيق أو زفير ، أقتربنا منه كثيراً ، لكنه بقى ياكناً في مكانة مثل جثة هامدة ، تلتحف شرشفاً أبيض و تغطي الرأس تحتها ، ترددت نادية في رفع الغطاء عن الوجه لكنه فاجأها ورفع الغطاء و هو يضحك بصوت عال:
-المشعوذ!!!!
تبسم إبتسامة ميتة بوجهنا ، ثم تناول مصباحاً يدوياً كان يخبئه تحت الوسادة وراح يوجه الضوء نحو عيوننا و هو يختنق من الضحك و تتحشرج في صدرة نقنقة تشبة صوت فأر محاصر بالخطر ، ركز الضوء على وجهي :
-لاتخافي ، قال لي ثم حرك الضوء نحو وجه نادية و قال لها :
-لا تخافي .
نزل نوع من الطمأنينة على أرواحنا و زالت بعض آثار الخوف،عدل المشعوذ من جلسته و خاطبني :
-أعرف انك غير معنية بمعرفة ماهو قادم لكنني سأبعثك هذه اللحظة الى مدينة مابعد المستقبل ، ثم استدرك و قال :
- سأبعثكما إنتما الأثنين الى حياة ما بعد هذه الحياة .
تقدمت منه قليلاً و قلت له :
-قبل ان ترسلنا الى اي مكان ، يجب ان تقول لنا من انت ؟ كيف دخلت الى محلتنا ؟ لماذا احترتنا نحن دون سوانا؟ من أرسلك لنا ؟ و ما هو هدفك من كل هذا ؟ هل تعلم ان منذ يوم ظهورك والى الأن و نحن لم نعرف راحة البال؟
عدل من جلسته و أسند ظهرة الى حافة السرير من جهة الرأس وراح يضحك ثم تنحنح و قال :
-هذه أسئلة كثيرة ، كيف يمكن أن أجاوب عليها دفعة واحدة ؟ ليس من عادتي ان اجيب على اسئلة من هذا النوع و لكن مع ذلك ، سأقول لك أمراً واحداً ، انتِ شخصياً سمعتيه من قبل ، هل تتذكرين قبطان السفينة الذي صادفتيه على متنها ليلاً ؟
-نعم اتذكر ذلك جيداً.
إقتربت نادية و هي مستغربة لسماعها هذا الكلام و قبل أن تنطق بكلمة واحدة قلت لها : سأشرح لك ذلك فيما بعد ... هذه مسألة معقدة ، سأوضحها لك بالتفصيل ، ثم أعدت جوابي مرة اخرى على المشعوذ :
-نعم اتذكر ذلك جيداً .
-حسناً يا صغيرتي أنا مجرد فكرة في خيال المحلة ، و المحلة مجرد فكرة في رأسي ، إن كل ما تقع عليه أعيننا هو مجرد فكرة ، لا شيء حقيقياً في الواقع ، كلنا مسجونين في خيالنا و ان تجاربنا في الواقع هي عبارة عن أفكار فقط ، الوجود كله مجموعة من الأفكار ، هذه هي الحقيقة الوحيدة ، لا تصدقي غيرها ولا تخبري أحداً بها ، لأن الناس لا يصدقون الأشياء التي لا تدخل عقلهم ، و هم لا يعرفون اين يقع عقلهم ، لم يسألوا أنفسهم يوماً هل إنهم حقاً يمتلكون شيئاً اسمه العقل ؟ كيف شكله ؟ ماهو لونه ؟ العقل يا صغيرتي هو الأخر مجرد فكرة ، فكرة معقدة تجعل من الأفكار الأخرى كأنها حقائق . تذكرت هذه الكلمات ، لقد سمعتها نفسها بالضبط من القبطان ، و هاهو المشعوذ يكررها أمامي ، هل كان هو نفسه القبطان؟ فكرت ان أسأله هذا السؤال و لكنه لم يدع لي فرصة ، وجه ضوء المصباح اليدوي نحو مركز عيني نادية و لما استقر تماماً في البؤبؤ سحبها بقوة شديدة ورماها بعيداً في عالم من الضوء ، ثم عاد و فعل الشيء نفسه معي .
دخلت مدينة واسعة اسيجتها مبنية من طابوق أشعة الشمس الخافتة ، مررت من تحت قوس من النيون الأبيض ، كأنه يصدر عن ضوء كواكب قريبة ، مشيت طريقاً ضيقة مرصوفه بحجر أحمر يتوهج من داخله مثل مكعبات من الثلج ، خطوت فوقها بهدوء تتقدمني طيور السنونو بأجنحتها الذهبية ، في نهاية الطريق انفتحت أمامي بوابة عظيمة تفضي الى صالة هائلة يكاد يلامس سقفها النجوم و تهب من أركانها عطور منعشة .
تقدمني طائر سنونو صغير خرج عن سربه و قادني نحو غرفة جانبية من النور العميق ، أمرني بالجلوس على أريكة هي تقريباً أريكتنا نفسها في البيت التي تعودت الجلوس عليها ، لكنها هذه المرة مصنوعة من زجاج شفاف ، تتوسط بهواً تهب علية نسائم باردة .
خرج الطائر مصفقاً جناحيه البرونزيتين و تركني لوحدي ، لا أعرف ما الذي ينتظرني في هذا المكان الغريب و الموحش .
مرت ساعات ، ربما أيام ، و أنا على هذه الحال ، أجلس في مكاني و عندما أجوع تتدلى ثمار غريبة من شجرة جذعها من لون الباستيل الأحمر القاني ، و أغصانها بالوان تتدرج من الأصفر ، أزرق ، الأخضر ، البرتقالي الى ما لا نهاية من التدرجات ، حاولت أن اتذكر كيف و صلت الى هنا ، لكنني لم أعد أعرف شيئاً من خارج هذا العالم المضيء سوى ذكرى هذه الأريكة ، اسمع صوت أهلي ينادون علي من البعيد و لكن صدري كان بلا هواء.
فتح باب و مر طائر السنونو و هو يقود نادية من خلفه ، ثم أومأ لها ان تجلس الى جانبي ، فجلست بعيداً عني كأنها أندهشت من وجودي ، أو انها لم تتعرف علي ، راحت تدقق في ملامحي لكي تتذكرني و لكنها فشلت ، نظرت أليها و حاولت أن أقول لها أهلا نادية ، لكن صدري كان بلا هواء .
جاء ملاك أبيض بجناحين صغيرين لا تناسبان حجمة يمشي على قدميه الرقيقتين و أمرنا بأشارة من جناحة الأيسر بأن نتبعه ، خرج بنا الى فناء واسع ترصع سماءه كواكب خافته الإضاءة ، تنتشر حولها دوائر هائلة من الظلمة السحيقة ، مررنا في شوارع شبه معتمه ، و درنا عشرات المرات حول غابات من الأشجار المصيئة تتحرك من حولنا و تغير إنجاهها في كل دورة ، من بعيد شاهدنا كوخاً صغيراً يستند الى سفح تله خضراء تحيطها أشجار السرور من ثلاث جهات و تهبط فوقها شهب من نور غريب .فتح باب الكوخ واستقبلتنا صبية في العشرين من عمرها ، ترتدي وشاحاً أصفر و أحذية من ريش ، في معصمها سواراً فضياً نقش عليه اسمي ، تتبعها قطة بيضاء ، قادتنا نتجول معها في الحجرات الصغيرة للكوخ و دلتنا على المطبخ و الطعام الذي قالت عنه إنه يكفي لبقائنا قروناً عديدة .
كان كوخ بحجراته و مطبخة و صالته يشبه بيتاً ريفياً من تلك التي تظهر في الأفلام و يتساقط عليها الثلج في كل الفصول .
و دعتنا الصبية بإيماءة من رأسها و خرجت تبتسم لنا إبتسامة بلا معنى و تركت القطة معنا ، جلست نادية على معقد من ريش  و جلست أنا على مقعد أخر قريباً منها ، ابتسمت لي فابتسمت لها ، عاد الهواء يملأ صدري ، صحت بها ... نادية !!! و قفزت نحوها أحتضنها ،أقتربت منا القطة البيضاء و قفزت في حجر نادية ، كانت نفسها قطتنا التي وجدناها ترتجف من البرد و ذهبنا بها الى البيت .
جلسنا انا و نادية و القطة بيننا ، نتحدث الى الصباح و نؤسس ذاكرة جديدة في هذا العالم الجديد ، نمنا على بساط ملون ، أغمضت عينيها ، و راحت تتحدث الى نفسها و تبتسم ، عرفت أنها تحلم ، اقتربت منها ، وضعت وجهي مقابل وجهها ورحت أراقب أحلامها لكنها هذه المرة منعتني و أغلق باب الأحلام بوجهي .
في الصباح ، اشرق كوكب صغير من النافذة قال لنا : انه ابن الشمس ، حط طائر سنونو على غصن الصغيرة و أزاح الكوكب بجناحة .
طرق أحدهم الباب ، قامت نادية تفتحة ، دخلت علينا الفتاة نفسها التي استقبلتنا ليلة البارحة و معها تسع فتيات حسناوات أحداهن تشبه ميادة عندما كانت طالبة مراهقة ، يرفلن بالبياض الناصع و يضعن وشاحات صفراً ، تقدمن نحونا و سلمن علينا ، نهضت من مكاني و دخلت الى المطبخ أعد لهن شاياً ، تبعتني الفتاة التي تشبه ميادة تتأكد من قدرتي على إستخدام أدوات الطبخ ، ولما و جدتني حفظت الدرس جيداً سألتني :
- هل تعرفين دكتور توفيق ؟
-لا ...لا أعتقد إنني سمعت باسمه .
-ان عيادته في  الشارع العام ، أرجوك أذهبي إليه و قولي له : ان ميادة تحبك و تنتظرك هنا .
-سأفعل ، قلت لها .
قبلتني من جبهتي و عادت الى الصالة ووقفت تراقب من بعيد الفتيات اللاتي رحنّ يتحدثن مع نادية و كإنهن صديقات قديمات حضرت للترحيب بها .
حملت لهن الشاي، شربن بحركات متسقة كإنهن يؤدين رقصة صامتة في فرقة بالية ، بعد دقائق جاء شيخ عجوز يتوكأ على عصاه ، دفع بها الباب و دخل علينا ، أخرج من جيبة ورقة صغيرة ، قرأ منها اسم نادية و أمرها بالوقوف:
- سوف تعودين من حيث أتيتي.
تقدم نحوها و أخذ بيدها و خرج ، بقيت وحدي مع القطة أنظر في وجوه الفتيات . خرجت ذات السوار الفضي و تبعنها واحدة بعد الآخرى بوجوه حزينة و أغلقن الباب علي .
صرخت بأعلى صوتي ..... أريد ان أرجع .
ظهر وجه رجل في منتصف الأربعين من عمره و أطل من النافذة الجانبية و هو يبتسم .
- اريد ان ارجع ... قلت له .
تواصل صراخي بوجهه و هو يبتسم من دون ان يتحرك من مكانه ، بعد قليل استدار من ناحية الباب ، دفعه بيده و دخل يو بخني.
-الى اين تريدين ان ترجعي ؟
- الى بيتنا ، الى أهلي ، الى محلتنا ، الى صديقاتي ، الى جامعة اريد ان أذهب مع نادية ، اريد بغداد....
-ماذا تفعلين وسط ذاك الخراب و الحرب على الأبواب ؟
-وماذا أفعل هنا في هذا المكان الموحش و صدري بلا هواء .
- لانك ...
- ماذا ؟! لأنني ميتة؟
- كلا ، أنت بين .. بين .
-ماذا تقصد ؟!
- انت في مكان ما بين الحياة و الموت ، نحن هنا ندقق الاسماء جيداً و نتأكد من الموتى قبل موتهم .
-وهل أنا منهم ؟
-ليس بعد .
- الى متى سأبقى على هذه الحال ؟
- حتى نعرف اسمك ، انتِ للآن لم تذكري لنا الاسم ، ولم نتمكن من العثور عليه في السجلات ، نحن لا نعرف عنك شيئاً .
تقدمت منه خطوات و همست باسمي في أذنه ، طلب مني أن أكرره عليه و كررته ، قال لي :
- ياإلهي ، لقد عرفتك ، أنا أعرف أهلك جيداً ، أنهم أهلي و أحبهم ، انا ابو احمد هل تعرفينه؟
-نعم اعرف و اعرف امة ، هل انت الذي استشهدت في الحرب العراقية _ الإيرانية؟
-نعم أنا ، قبل ان اموت كنت جيرانكم ، وكان أهلك اصدقائي ، انا احبهم ، كيف حالهم؟ كيف حال زوجتي و ابني صغير احمد ؟
- كلهم بخير ، و أحمد لم يعد صغيراً ، هو الآن يدرس الهندسة في جامعة الموصل و هو يحب نادية التي غادرت للتو .
- هل حقاً أصبح كبيراً و جرب الحب أيضاً ؟
- نعم هو شاب وسيم يحب الحياة و نادية تحبه من كل قلبها .
- يالها من سعادة ، ان تحب و تعيش قصة الحب في بغداد .
-أية سعادة يا عمي ، ان بغداد لم تعد كما تعرفها .
- اعرفها ، أعرفها جيداً ، ولكننا نحبها و لا نراها إلا كما نتخيلها ، تعالي معي إن جدك يعيش معنا في ذلك القصر الزجاجي في الجانب الآخر ، لقد تعرفت عليه هنا قبل سنوات ، إنه رجل كريم و طيب و نحن نسميه هارون الرشيد .
أصابني كلامة بالإرتباك ، كنت متلهفة لرؤية جدي و لكني خفت أن يبقيني معه ، احببت أن أسأله لماذا يسمونه هارون الرشيد و لكنه قاطع سلسلة أفكاري و قال :
- جدك يحب بغداد ، يحب أهلها ، يحب كرخها و رصافتها ، حتى هنا ، في هذا النعيم هو لايشرب المياه العذبة و يطلب ماء يؤتي به الية من نهر دجلة ، انظري الى ذلك السور حول بيته ، هل ترينه ؟ لقد بنى حول بيته سوراً طابوقة من طين بغداد و سماه سور بغداد ، عندما يأتي المساء ، و يهزه الشوق ، يذهب الى بغداد في العصر العباسي و يتجول في قصورها ثم يجلس في مكان هارون الرشيد و يستدعي الشعراء و الحكماء و يستمع إليهم ، ثم يطلب المغنين و العازفين و يسهر معهم الى الصباح ، هو يريد من بغداد ألا تنام .
- لكن بغداد بناها المنصور ؟
- هارون الرشيد فكرة بغدادية ، حلم من أحلام أهلها ( بغداد هارون الرشيد ) حكاية ترويها المدينة عن نفسها ، ليس مهماً الخطأ و الصح في هذه الحكاية .
- نعم ، فهمتك الآن ، قلت له ذلك و أنا في الحقيقة لم افهم جيداً ماذا يقول ، أخرج من جيبه ورقة صفراء قرأها و قال لي :
- انتظري قليلاً ، سأعود و أحررك من هنا .
جلست انتظر أكثر من ساعة ، أو أقل من يوم أو أكثر ، لا أدري كم من الوقت انتظرته ، لأنهم هنا بل وقت ، بلا ساعة تشبه ساعة بغداد تعد عليهم الثواني ، عاد بملابسه العسكرية التي مات و هو يلبسها ، صحبني الى كوخ من الزجاج يمتد في الافق بلا حدود يعيش فيه جدي .
تحت شمس حديقة واسعة ، يستظل بأشجارها الوارفة يجلس جدي على كرسي من الألمنيوم تلفه شرائط بلاستيكية ملونة و في حضنه قطة الصغيرة البيضاء ، كان يرتدي ملابسة نفسها و نظارته نفسها اللتين ر أيتهما في الصورة المعلقة على جدار غرفة جدتي ، الى جانبة علبه قديمة تحمل علامة حلويات الماكنتوش رتبت فيها أدوات حلاقته بعناية ، يجلس الى جانبة على تخت صغير رجل لا أعرفه يغمس فرشاه حلاقة صغيرة في وعاء مو الصوابين العطرة ثم ينشرها على بشرة جدي ، بعد أن ينتهي ، بضع الفرشاة جانباً ، ثم يتناول ماكنة حلاقة ذهبية و يمرر الشفرة لحلاقة ذقنة بحذر شديد ، بعد ان فرغ منه هذا الرجل الذي بقى صامتاً من دوو أن ينظر في وجهي، تناول جي زجاجة الكلونيا و عطر وجهه ثم مسحة بمنشفة حريرية و نهض يتقدم نحوى و أخذني بحضنة ، تشممت روحة و التصقت بها :
- كيف حالك يا حبيبتي ؟
قال ذلك بنبرة عميقة ، ثم عاد و جلس و أجلسني في حضنه بعد أن أخلت القطة مكانها ووقفت تحت قدميه و هي تموء بحنان .
- جدي انا خائفة .
- لا تخافي يا حفيدتي ، كيف حال جدتك و أولادها و بناتها ؟ كيف حال بيتنا و بستاننا ؟ كيف حال الناس هناك ؟
- جدي انا خائفة ، انا احبك ولكني لا اريد ان ابقى هنا .
- لاتخافي ، ستخرجين من هنا ، احكي لي عنكم ، و ماذا جرى لكم من بعدي ؟
جلست ساعات طويلة أروي له بالتفصيل كل ما أعرفة عن الحياة هناك ، وهو يضع يده على خده و يتأملني من دون ان يستغرب شيئاً و بعد ان شعرت بالتعب قلت له :
-ليس لدي ما أضيفه .
- حفيدتي العزيزة ، نحن عالم الموتى لم نمت جيداً ، لاننا نتألم لبلادنا ، لأننا نشعر بالخدلان ، بالخجل منكم حين تركناكم تتعذبون على ظهر سفينة اخترناها لكن من دون إرادتكم .
- جدي ، هل صحيح إننا نعيش على طهر سفينة ؟!
نهض من مكانه و أخذني من يدي و صعدنا الى تله صغيرة وراء الكوخ ، ثم مشينا في واد عميق من الورد ، بعد ذلك ، و قفنا عند حافة ، بئر العميقة مفتوحة على كوكب الأرض ، رمي وردة قطعها من غصن يتدلى على حافتها ، بعد ثوانٍ انكشفت محلتنا أمامي بوضوح، كانت من هذا المكان العالي في السماوات البعيدة تبدو سفينة حقيقية بشراعها و برجها و مرساتها ، تعرفت على مدرستي ثم رأيت الملجأ ، بعد ذلك شاهدت ساعة بغداد و برج المأمون و الجسر المعلق ثم عثرت على بيتنا و صحت بأعلى صوتي :
-أريد ماما و بابا .
-أذهبي بسلام يا حفيدتي ، قولي لجدتك إنني بخير و أعيش في النعيم ، قبلي لي كل نخله و كل شجرة في مدينتنا ، قبلي نهر و الأرض و الهواء هناك ، أذهبي حفيدتي ، لقد تأخرتي ، الحياة هناك ، الحياة في مسقط الرأس أجمل حتى من هذا النعيم .
قفزت منه دمعة كإنها كرة من البلور ، وقبل أن يغادرني نظر في عيني و قال :
- هل تتذكرين كم نخله في بيتنا ؟
- داخل السياج ، هناك اربع نخلات يا جدي
- قولي لجدتك ان تهتم بهن .
- نعم ياجدي ساقول لها ، ولكن هل يمكنني ان أخذ القطة معي ، ان صديقتي تبحث عنها منذ زمن بعيد وقد فرحت كثيراً عندما وجدتها هنا؟
- لا يا بنتي ، هذه قطتي التي تسليني ، إنها في عالمكم تعيش عمياء .
قفزت القطة نحوي تقبلني ثم قفزت نحو جدي الذي حملها على صدرة وهو عني و يردد مع نفسه:
- أربع نخلات ياإلهى ، أربع نخلات تركتها في البيت القديم و أريدها هنا .
بعد القليل ، جاء طائر السنونو و قادني نحو البوابة النينونية التي دخلت منها أول مرة ، خرجت ووجدت نادية تنتظرني في الباب الملجأ أخذت بيدها و ذهبنا الى البيت .

(الكاتبة /شهد الراوي )
--------------------
2888 كلمة كانت هواية 7 صفحات تعبت هواي
اعملوا صوت و الكومنت حتى لا يضيع تعبي

(الكاتبة /شهد الراوي )--------------------2888 كلمة  كانت هواية 7 صفحات تعبت هواي اعملوا صوت و الكومنت حتى لا يضيع تعبي

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

طائر السنونو

ساعة بغداد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن