بارت 30

376 24 3
                                    

غادرت أم فاروق بيتها و أحكمت إغلاق بابها ، ولم تخبرنا بالمكان الذي توجهت إليه ، لم يبق في شارعنا من سكانه القدماء سوى بيتنا ، و بيت نادية ، و بيت بيداء ، بالأضافة الى بيت عمو شوكت الذا عددناه موجوداً ، لأنه في الحقيقة كان مهجوراً ، ولم يدخله صاحبه منذ حادثة سرقة بيت أم ريتا .
تناوبت العوائل الثلاث المتبقية على الإهتمام بعمو شوكت ، وتوفير الطعام و الشاي و حاجياته الضرورية
الأخر ، أحياناً
نحصل له على بض الأدوية ،لكنه كان يرميها بعد أن ندير ظهورنا ، ان مرضه ليس من نوع الذي يحتاج الى وصفةطبية ، إنه مصاب بجرح عميق في الروح ، جرح بحجم سفينة عملاقة ترسو هنا منذ سنوات طويلة .
في هذه الأيام الموحشة ، صرنا  أنا و نادية نتبادل المبيت ، كل ليلة ننام سوية في بيت إحدانا ، صرنا نلتقي أربع و عشرين ساعة في اليوم تقريباً، أستعدنا خلالها شيئاً من سعاداتنا الصغيرة.
يا لهذه السعادات التي يمكن إبتكارها حتى في الأزمنة القاسية، هل تحدثت حقاً عن السعادة ؟ ماهو شكلها ؟ كيف كان طعمها ؟ هل هي سعدة حقيقية يمكن أن يتحدث عنها الناس من دون أن يصابوا بالغثيان ؟
في ساعات إنقطاع الكهرباء في النهار ، نجلس في الحديقة حتى المساء ، أو حتى عودة التيار الكهربائي في بعض الأحيان ، في أحد النهارات المشمسة ، ونحن نثرثر على دكة جانبية صغيرة تشرف على حديقة بيتهم ، أكتشفت أنا عن الطريق المصادفة زجاجة نظيفة ، يعكس لمعانها شيئاً من أشعة الشمس ، كانت مركونة بين شجيرات نبات الياس التي تشكل سياجاً داخلياً يحيط بالمستطيل الأخضر لعشب  الحديقة ، تقدمت نحوها و رفعتها من مكانها ، كانت قنينة كحول أفرغ أحدهم نصفها ، تبينت فيما بعد ، انها تعود لشقيقها مؤيد ، خبأها في هذا المكان خوفاً من أفتضاح أمر تناوله الخمور في هذه المرحلة المبكرة من عمرهد، وفي هذا الزمن الذي أصبح فيه الممنوع يعني الموت برصاصة واحدة .
عندما عاد مؤيد يبحث عنها ، ساومناه أنا و نادية مقابل أن نعيد له الزجاجة على شرط أن يتنازل لنا عن المسجل خاصته الذي يعمل بالبطاريات الجافة ، وافق على الصفقة وهو يضحك من طريقة ابتزازنا له ، صار عندنا منذ ذلك الحين جهاز تسجيل لسماع الأغاني .
في كل صباح ، نتناول إفطارنا على موسيقى فيروز ، و يستمر النهار مع كاظم الساهر و حاتم العراقي ، وهند محسن ، وهيثم يوسف و رائد جورج ، و شريط واحد لنجاة الصغيرة فية وشوشة تعيق سماعة بشكل جيد ، وكذلك وجدنا بعض الأشرطة الأجنبية في خزانة أم نادية ، لجين بيركن ، ومادونا ، و فرقة البيتلز .
في كل من هذه الأشرطة ، هناك أغنيات تخص نادية و قلبها مباشرة :
سلمتك بيد الله ،، يحملني أذية
ياريت ماشفتك ،،، شجابك عليه
ياخسارة تعبي وياك ..
كانت تذوب مع هذه الأغنية رقصاً و تنسى كل شيء من حولها ، هي وصوت كاظم و الهواء و أنا إراقبها و أصفق لها بحماس ، تنتهي الأغنية ، تمسح دمعتها ، تجلس ساهية تقلب الذكريات ، لقد خذلها أحمد في منتصف الطريق ، لكنها تحبه من أعماق قلبها ، كانت تختلق له الأعذار تلو الأعذار :
- ظروفة في الغربة دفعته لقلب فتاة ثانية ، فتاة شقراء من الموصل ، أغرته بلكنتها المحببة و قوة شخصيتها و إبتسامتها الساحرة لكنه سيرجع .
دائماً نقول لأنفسنا : سيرجع . لأننا لا نريد ان نستسلم ، لا نريد أن نحول قصصنا الأولى الى مجرد ذكريات فقدت صلاحيتها ، ننساها كما نسيت محلتنا ماضيها و تعلقت في الفراغ .
في رواية ماركيز ، اضطرت قرية ماكوندو الى ان تواجه النسيان بالكتابة ، سجلوا على كل شيء اسمه قبل ان يزحف عليه الفقدان ، منضدة ، كرسي ، ساعة ، باب ، حائط ، سرير ، قدر الى آخره .
ثم انتبه أهل القرية من أنه قد يأتي يوم يجرى فيه التعرف على الأشياء من الكتابة المدونة عليها ، ولكن دون التعرف على فائدتها و إستخدامها ، فراحوا يزيدون في التوضيح ، و كانت اليافطة التي علقوها حول عنق البقرة نموذجاً مثالياً للطريقة التي أستعدوا بها لمكافحة النسيان ، هذه هي البقرة ، يجب حلبها كل صباح كي تعطي حليباً ، ويجب غلي الحليب من أجل مزجه بالقهوة ، وصنع القهوة بالحليب .
الكتابة بهذا المعنى تعمل عمل حارس الذاكرة ، تذكرنا باسماء الأشياء و بعض وظائفها و استخداماتها ، لكنها تتجاهل تاريخها الروحي ، الذاكرة الحية هي وحدها من تحافظ علينا ضد لعنه الغياب .
لو انهم كتبوا كلمة : بقرة لوحدها و تركوها من دون جملة مفيدة ، لربما عادوا ثانية بعد ذهاب داء النسيان و أكتشفوها من جديد ، وتعلموا كيف يحلبونها من جديد ، ثم يأتي أحدهم و يخلط قهوته مع حليبها ، بهذا يكونوا قد صنعوا قهوة بالحليب بطعم جديد لم يتذوقة أحد قبلهم ، لقد خربوا كل شيء عندما كتبوا جملاً مفيدة .
لمكافحة النسيان في محلتنا أيضاً ، فكرنا أنا و نادية بكتابة عبارات توضيحية على الأشياء ، بدأنا هذه التجربة بانفسنا ، كتبنا في سجل أزرق عثرنا عليه في مكتبة أبي :
هذه صديقتي نادية، عيونها خضر و شعرها أصفر ، أنا أطول منها قليلاً تعرفت عليها في ملجأ كونكريتي محصن ضد الحرب،كان ذلك 1991 وذهبنا الى المدرسة الإبتدائية،والمتوسطة ، و الأعدادية سوية ، هي الآن تدرس في جامعة بغداد ، وأنا في الجامعة التكنولوجية،هي تحب أحمد و أنا أحب فاروق .
عندما امتلأت الصفحات الإلى بكتابة أشياء بديهية ، تشبة كتاب القراءة في الصف الأول الإبتدائي ، دار ، دور ، باب ، نار و هكذا .
خرجنا صباح أحد الأيام و كتبنا على البيوت ، اسماء ساكنيها القدماء ، وتاريخ مغادرتهم الدار ، والدول التي يعيشون فيها الآن ، ثم نقلنا ذلك في السجل ، على جدار بيت عمو شوكت مثلاً كتبنا :
هذا بيت عمو شوكت ، غادرت زوجته باجي نادرة الى كردستان بعد حرب الخليج الثانية ، وهو يعيش حالياً في بيت أم ريتا ، منذ أن سرق لصوص مجهولون آثاث هذا البيت .
تطورت فكرتنا ، و قررنا أن نكتب في السجل نفسه عشرين صفحة عن كل عائلة في المحلة ، تخلص حياتهم و ذكرياتهم معهم ، وهذه أول مرة يجري فيها تدوين تاريخنا الشخصي كجيران بعد أن أصبحت ذاكرتنا مهددة بالزوال .
سألتني نادية :
- لكن ماهو اسم هذا السجل ؟
- (ساعة بغداد ).
- لا ، نسميه تاريخ المحلة .
- ساعة بغداد- تاريخ المحلة .
اجبتها من دون تفكير طويل ، و من دون معرفة لماذا خطر هذا الاسم ببالي ، وافقت نادية على الفور ، كتبنا علا غلافه بخط عريض:
(ساعة بغداد - تاريخ المحلة ).
نموذج رقم 1 من السجل .
البيت ذو الباب الأسود و العريض ، هو بيت أم علي ، البيت الذي تدهله سيارة حمراء هو بيت ام مناف ، البيت الذي تتدلى كرومه على بيتنا هو بيت أم حسام ، البيت الذي يتسلقة اللبلاب و يغطي نوافذه هو بيت أم وجدان ، البيت الذي تلعب أمامه الشيطانة هو بيت أم أسامة ، البيت الذي تزوجت ابنتهم و جاءت سيارات كثيرة ملونة و أخذتها مع الموسيقى هو بيت أم سالي ، البيت الذي ندخله في رأس السنه الميلادية و نغني فيه هو بيت أم ريتا ، الى جانبهم بيت أم مروان ، و بعدهم بيت أم أحمد ، ثم بيت أم بيداء و بعدة بيت أم فاروق ثم بيت عمو شوكت و دكان أبو نبيل .
لنأخذ بيت أم سالي مثلاً ، وهم عائلة تتكون من الأم و الأب و خمس بنات ، كلهن جميلات بشكل لافت ، حيث لم تنجب أم سالي ولداً ، تقول هي عن نفسها ، إنها حلمت في ليلة زواجها إنها ستحرم من الأولاد و يعوضها الله ببنات جميلات ، جميعهن سيتزوجن من غرباء يسكنون مدناً بعيدة .
لنأخذ سهير مثلاً ، هي الأبنة الرابعة في تسلسل البنات الخمس لأم سالي ، وهي عندما غادرت مع أهلها المحلة الى الخارج ، كانت صبية فاتنة ، بعينين صفراوين و شعر أسود فاحم ، بخدين ورديين و رصعتين جميلتين أسفل كل خد ، جبهة عريضة و لثغة محببة في اللسان ، وحاجبين كإنهما رماح رشيقة ، كانت أكثر شقيقاتها غروراً و أكثرهن إدراكاً لقيمة جمالها و إستغلاله في حياتها .
كانت دائماً تقول لا اتزوج الا من طيار وسيم ، ومن أجل تحقيق هذه الأمنية ، التحق أمجد ابن ام علي بكلية القوة الجوية ، لعله يحقق رغبته بالزواج منها ، لقد أصبح بالفعل طياراً ، ولكنها في هذا الوقت صارت تعيش مع أهلها في الدنمارك بعيداً عن الوطن ، وتخلت عن كل أمنياتها القديمة ، كتب إليها كثيراً و لكنه لم يحصل على اي جواب ، أخر رساله كتبها لها كانت قبل يوم واحد من سقوط طائرته ، ولم يعثر له على أي أثر حتى ساعة الكتابة هذه .
اعرت رواية ماركيز لنادية مرة اخرى و توسلت اليها من كل قلبي ان تقرأها ، أعادتها بعد يومين :
- مزعجة و كئيبة .
لم يحتفظ والدي ، في مكتبة المنزل سرى برواية ( مئة عام من العزلة ) وهي على الأرجح الرواية الوحيدة في مكتبة العائلة ، قرأتها مرات كثيرة كوا قلت ، كنت أعتقد إنها الأولى و الأخيرة التي كتبتها روائي ساحر عاش في قرون بعيدة ، لم أكن قد سمعت بماركيز من قبل .
مئة عام من عزلة . رواية مكتوبة ضد النسيان و الذاكرة في الوقت نفسه ، لأنها تؤسس عالماً جديداً لم نعرفه ، كأنها وصفة روحية تساعد في الهروب من التعاسة ، أنقذتني فعلا من العيش في ظروف بغداد 2003 ، حولتني الى مواطنة شرف في قرية ماكوندو ، صرت أعرف ابناء القرية جميعهم ، ربطتني معهم علاقات طيبة و صداقات عابرة مع ضيوفها من الغجر و ابناء المستنفعات المجاورة ، لما أستئنف العام الدراسي ، أخترت بيني و بين نفسي اسماء جديدة لأساتذتي في الجامعة حورتها عن اسماء سكان قريتي الماركيزية .
خوسية أركاديو بوينديا
الدكتور أورليانو
الدكتورة آمارتنا
البروفيسور أورليانو خوسيه
الأستاذة أورسولا
الدكتور أورليانو الثاني
الدكتور ريبيكا
أعادت الي نادية الرواية في المرة الثانية و كانت هناك إشارة عبر ثني نهايتها العليا من جهة اليمين ، توضح إنها توقفت في قراءتها عند صفحة 62 منها ، على أحداث هذه الصفحات القليلة نسبياً من حجم الرواية الكبيرة ، الذي يتجاوز الخمسمائة صفحة ، كانت تدور قصص أحلامها حتى نهاية عام 2003.
في كل مرة يبدأ حلمها بمشهد سينمائي تتحرك فيه الكاميرا فجراً ، لتبدأ بتصوير مشهد لعشرين بيتاً من الطين و القصب مشيدة على ضفة نهر ذي مياه صافية ثم ينتهي حلمها بمشهد خوسيه أركاديو بويندينا ، وهو يشرح لزعماء الأسر في القرية ، كل ما يعرفه عن الأرق .
بقى هذا المشهد يحتل ذاكرتي طويلاً وقد أختلط علي فيها إذا كان واحداً من أحلام نادية أم انه فعلاً من نتاج مخلية ماركيز ! حتى وصل بي الأمر في بعض الأحيان ، لكي أحسبة مشهداً من إختراعات خيالي .
(الكاتبة /شهد الراوي )
--------------------------
اسفة على تأخير بس جنت مريضة منهاي ما قدرت اكتب رواية

ساعة بغداد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن