🕰🇮🇶ساعة بغداد!🇮🇶🕰

689 31 3
                                    

    كتاب ((المستقبل)):صفحة رقم (12)
توقفت الساعة عند الخامسة و ست دقائق و أربعين ثانية فجراً (05:06:40) ، بعد إن قصفها الأمريكان و دمروا المبنى الذي تقف شاخصة فوقة ، نهبت محتويات متحافها الداخلية كلها بعد شهر من تدميرها ، سالت الدقائق من عقاربها على الأرض و تعطل الزمن تماماً.
بعد سنوات ، تقرر الحكومة اصلاحها ، لتقف الساعة من جديد بوجوهها الأربعة ، و صارت كل واحدة من هذه الساعات الأربع في واجهاتها ، تشير الى وقت مختلف ، فمثلاً يمكنك أن تقولي : إنها الساعة السابعة صباحاً حسب توقيت بغداد المحلي(07:00) ، بينما يقول شخص ما يقف من الجهة الثانية  المقابلة : إنها الخامسة عصراً بتوقيت بغداد المحلي (05:00)، في جهة الثالثة بإمكان شخص مامر مصادفة في هذة المدينة ان يقول : نحن الآن في الساعة الثانية ظهراً من يوم الأربعاء الموافق 9 نيسان 2003 (02:00)، بينما شخص آخر يقف في الجهة المقابلة له و ليس بعيداً هنه يقول بدون أن يرتكب خطأ ما : إن الوقت الآن هو الساعة الرابعة من فجر يوم الأحد الموافق للعاشرة من شهر شباط عام 1258(04:00).
هكذا اضطرب التوقيت المحلي في مدينة واحدة، يتقاسم اهلها الوقت حسب أمكنتهم التي ينظرون منها الى ساعتها ، ففي هذه المدينة الغرائبية أصبحت أجيال مختلفة تتعايش فيها وليس لديها إحساس طبيعي بالزمن الذي تعيش بداخلة .
صار الناس يسبحون في فراغ زمني ، تختلط فيه قرون سحيقة مع سنوات حديثة ، صار بالإمكان رؤية نبوخذ نصر و سمير أميس يجلسان في مطعم يعمل فيه يزدجرد كسرى نادلاً .
هارون الرشيد بملابس عسكرية يهدي شارلمان ساعة رملية تسقط على الأرض و تتهشم ، يأتي منظف القمامة و يكنسها بعيداً ، بينما الخليفة العباسي المعتضد بالله ، يحمل قاذفة و يهرول من أمام زجاج هذا المطعم من أجل تدمير تمثال الجنرال مود ، و عندما مر الرحالة العربي الشهير ابن جبير في المكان كتب في (تذكرة الأخبار عن إتفاقات الأسفار ) هذه الأسطر :
وهذه المدينة العتيقة و إن لم تزل حاضرة الخلافة العباسية ، و مثابة الدعوة القرشية ، فقد ذهب رسمها ، ولم يبق الإ اسمها ، وهي بالإضافة الى ما كانت عليه قبل انحاء الحوادث عليها و التفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس ، أو تمثال الخيال الساخص ، فلا حسن فيها يستوقف البصر ، و يستدعي من المستوفز الغفلة و النظر ، إلا دجلتها التي هي بين كرخها و رصافتها كالمرآة المجلوة بين صفحتين ، أو العقد المنتظم بين لبتين ، فهي نردها ولا نظمأ و نتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ.
دون ابن جبير هذه الكلمات ، وراح يحصى الحرائق في الشارع  الرشيد ، و شارع السعدون ، و شارع أبي نؤاس ، ثم جلس عند تمثال علي بابا و الأربعين حرامي وراح يكتب :
لما كان الزمن هو الوعاء الذي تناسب فيه الحياة بمرونة ، و تتدفق بتعاقبيه تقطعها الدقائق و الساعات ، أصبح الناس في مدينة بغداد مختلفين إختلافاً شديداً في العائد و الأراء ، و الأزياء ، و التسريحات ، و الأذواق في الطعام ، و الشراب ، والمنام، والجلوس، والمسير ، والوقوف .
بعضهم عندما وجد صعوبة في التأقلم مع هذه الفوضى الزمنية ، قرر أن يذهب بإرادته ليعيش في التاريخ ، فتح (تاريخ الطبري ) ودس نفسه بين السطور ، صار فرداً تاريخياً ، يلبس الخرق البالية و يعتمر أغطية الرأس القديمة ، و يطلق لحيته لتتدلى على صدرة ، مرة يذبح البشر الذين لا يشبهونه ، أو يفجر نفسه داخل تجمعاتهم وهو ينادي (الله أكبر ) و مرة يسلحهم الى المجزرة لينحرهم مثل الدجاج .
على جانبي ساعة بغداد ، تجددت المعارك التاريخية نفسها و مات فيها بشر كثيرون ، ظهر ( خليفة الموت) على ظهر دابه حديدية في قافلة دواب تمتد من رقة الشام حتى آثار النمرود ، يرتدي ساعة عاطلة نوع روليكس تعمد إظهارها في معصمة ليعلن ان الزمن زمنه ، يقتل في طريق مسيرته كل من يصادفة من الرجال و النساء و الأطفال و يعدم الأسوار و يجفف الأنهار و يقتلع الأشجار و يطمر البساتين ، أصبح الخلفية و الجريمة شيئاً واخداً ، وصار الموت أغنية الزمن البذيء ، زمن (الله أكبر ) التي تنطقها الدماء البريئة وهي تنحر على أرض السواد .

(الكاتبة /شهد الراوي )

ساعة بغداد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن